لماذا يصرخ الكون
علا الصدأُ الآن علومَ القرن السادس عشر تمامًا مثلما حدث لفِضة القرن السادس عشر. حسنًا، جميع المفاهيم التي عفَّى عليها الزمن كانت ذات يوم موضع إجلال؛ فلا بد أن يُخصَّص لها موضعٌ في متحف الأفكار! وقد يصل الأمر إلى أننا لو تسامحنا بنيَّة طيبة مع كونها في غير محلها على الإطلاق، مع فرزها وصقلها، فإن حفنة منها قد تشكِّل جوهرة في تاج ذخيرتنا المعرفية. ولكن ماذا لو كان الصدأ أصابها من البداية؟ لم تُعرَض الطبعة الأولى من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» للبيع مطلقًا؛ وهناك فلكيٌّ من الفاتيكان يسعده إبلاغنا بأنه بعد خمسين عامًا فقط على ظهوره، «جاءت عمليات الرصد المتطورة التي أجراها تيكو براهي لتبطل جداوله … عند هذه النقطة، كان بحث كوبرنيكوس يُعَدُّ في نظر معظم الفلكيين أفكارًا عفَّى عليها الزمن.»
إنه ذلك العالِم البولندي المولد الذي أوقف الشمس وحرَّك الأرض.
لكنه في الحقيقة لم يفعل ذلك؛ ليس بالضبط؛ ولا كان أول من جزم بمركزية الشمس بالنسبة لمجموعتها؛ ولا كانت رسومه التخطيطية السماوية — حسبما تكرَّم ذلك الفلكي الفاتيكاني بتذكيرنا — تامة الإتقان؛ فلقد استمرت مسيرة العلم من بعده مثلما تفعل دائمًا. وجاء كبلر ليشوِّه الأُطُر الدورانية لكون كوبرنيكوس الذي لم تعد الأرض مركزًا له؛ ليجعل منها أشكالًا ظلَّت مع ذلك أقل بهجة؛ وجاء نيوتن ليجرف أمامه الحسابات الهندسية المتحذلقة نصف الواقعية، مستعيضًا عنها ﺑ «قواعد» ذات قدرة هائلة. وعلا الغبار المبادئ الكوبرنيكية. يمكنك أن تعتبر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بمنزلة مثال مجسد على فناء الجهد الإنساني؛ فكوبرنيكوس يقول لك من خلال أشكاله البيانية وزواياه: «كم هي عظيمة الدوائر الفلكية لزحل والمشتري والمريخ.» غير أن زحل والمشتري والمريخ تأبى الحركة في أفلاك دائرية.
فلماذا إذن نقلِّب في صفحات كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» المليئة بالأحابيل الرياضية المتشابكة؟
إن «القانون الأول لنيوتن»، الذي جاء بعد مرور ردح طويل من الزمان من وفاة كوبرنيكوس نفسه، نصُّه كالتالي: «تستمر حالة القصور الذاتي للحركة أو للسكون على حالها ما لم تأتِ قوةٌ لتغيِّر الموقف.» لقد غيَّر جهد كوبرنيكوس المنفرد حالة القصور الذاتي التي اتسم بها العالم — ذلك القصور المتسم بالحركة وفق التفكير السائد في زمانه والمتسم بالسكون وفق تفكيرنا الحالي — وذلك لأن القصور الذاتي يمضي بلا هوادة. إننا لا نفوق في حكمتنا اليوم حكمة مواطن أوروبي عاش في القرن السادس عشر، ولا نحن أكثر استقامةً في سلوكياتنا منه، ولا أكثر قدرةً منه على أن نثبت لأنفسنا معمار الكون الذي يدَّعي العلم أنه يعكس وجوهه المختلفة. إننا نعلم أن المريخ يدور حول الشمس؛ لأننا شاهدنا صورًا له توضِّحه أثناء قيامه بذلك. في زمن كوبرنيكوس، كانت معلوماتنا أن المريخ يدور حول الأرض؛ لأن بطليموس وأرسطو أثبتا لنا ذلك؛ فقد كان أرسطو هو كوبرنيكوس عصره. لقد فرض أرسطو فكره على العالم، مغيرًا حالة القصور الذاتي السائد في العصور الغابرة. لماذا كان ظلُّ الأرض على سطح القمر دائريًّا على الدوام في كل خسوف قمري؟ وفي سعيه لحل تلك المسألة، صار أرسطو واحدًا من أوائل المنادين بكروية الأرض؛ فبرصده الدءوب، وتفكُّره الذي قاده إلى نظرية معقدة في الميكانيكا الفيزيائية، وجمعه الطموح بين علوم الفلك والرياضيات والفلسفة والدين، حقَّق أرسطو خلال عمره ما يفوق قدرة أي شخص على تحقيقه، ثم توفي، ليُهيمن إرثُهُ المبجل على العالم من بعده.
يقول أتباع مدرسة يونج إن «الرموز الجماعية للذات … تبلى. الديانات والقناعات والحقائق، جميعها تبلغ طور الشيخوخة … ولكن إذا كانت القيم العليا تبلى، وإذا كانت تفقد قداستها التي تجعلنا نخشع أمامها، فإن من الطبيعي أن يكون هذا هو الخطر الأعظم.» كان كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» خطيرًا للغاية في عصره؛ ومن ثم كانت الدنيا في أمسِّ الحاجة إليه.
عندما نشر كوبرنيكوس كتابه أخيرًا عام ١٥٤٣ (يقولون إن نسخةً منه وُضعت بين يديه أثناء احتضاره) كان الكون الأوروبي قد دخل منذ عهد بعيد في طور التعفُّن، وكان قصور تماسكه الذاتي مصونًا بواسطة قوتين اثنتين: علم الفلك الكلاسيكي والكتب المقدسة. إن التعرف عليهما يزيد من تقديرنا لإنجاز كوبرنيكوس، وهو ما يفسر تخصيص فصول كاملة لكلٍّ من هاتين القوتين في هذا الكتاب. وتبدو حياة الرجل ذاته عبارة عن اهتمام مزخرف أوحد بدراسة كيف أحدث كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» ثورةً، لكنني سوف أحاول منحه ما يستحقه بوصفه إنسانًا، مُقِرًّا بأننا لا نعلم سوى القليل عن طبائعه وعن الظروف المقيدة التي أحاطت به والتي تغلَّب عليها (أو لم يستطع التغلب عليها).
حسبما يؤكد عنوان كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، أزاح الكتاب الأرض عن عرش مركز الكون؛ وصوَّر مدارات كواكب المجموعة الشمسية في هيئة أكثر دقة؛ وبيَّن شدة القوة المطلوبة لإتمام كلتا المهمَّتين؛ وهي قوة كانت وحداتها مكونة من زوايا واستدلالات وسنوات من العزلة وعمليات جمع وطرح وشروح وبدايات خاطئة وثمانية وأربعين فلكًا تدويريًّا لمسارات الكواكب الخمسة المعلومة وقتها، وكانت الثمانية والأربعون كلها خطأً؛ لأنه باستثناء فلك القمر حسبما يزعم البعض، ليس هناك وجودٌ لأفلاك تدوير!
تتألَّف قوة كوبرنيكوس من عبارات تبدأ ﺑ «بما أن» وتنتهي ﺑ «إذن»، ميول زاوية وانحرافات، أُبطِل الكثير والكثير منها الآن. وتمامًا مثلما تمتد الدوائر المتحدة المركز داخل أحد الأشكال (الدائرة المركزية فيه تسمى «الشمس») لتتجاوز الهامش الأيسر لمخطوطه المكتوب بأسلوب منمق رائع، يبدو وكأن مَن خطَّه خطاطٌ محترف، يمتد نجاح كوبرنيكوس بما يتجاوز حدود عمله الشاق المتأني وأخطاءه ومعرفته ومعرفتنا. إنه يجزم بدوران كوكبنا حول محوره؛ سواءٌ أصدَّقته أم لم تصدقه، وتمتد استنتاجاته لتتجاوز حدود براهينها. وكان على العالَم أن ينتظر حتى عام ١٨٥١ — أي بعد مرور ٣٠٨ أعوام من نشر كتابه ووفاته — عندما أثبت بندول فوكو نظريات كوبرنيكوس بالتجربة العملية. وهو يصرُّ على أن الأرض تدور حول الشمس؛ وسوف يثبت إف دبليو بيسيل ذلك عام ١٨٣٨، لكن أولًا كان على القصور الذاتي أن ينال ما يستحقه: إذ حُرقَ جوردانو برونو حيًّا باسم المسيح الرحيم؛ وتنكَّر جاليليو لأرضنا الدوارة وعاش سجين كذبة. بدأ كون ما قبل كوبرنيكوس يموت، كما ترى؛ لهذا فهو يقاوم من أجل البقاء على قيد الحياة، ليسحق مهاجميه تحت أفلاكه الدوامية. أما بالنسبة لكوبرنيكوس، فقد كان منطقه أن: «مشكلتنا في إيجاد القوس «و ﺟ» الذي يمثِّل نصف مسافة التقهقر، أو البُعد «أ ب و»؛ وبهذا يمكننا أن نعرف مقدار المسافة التي تفصل الكوكب عن أبعد موضع له، عن «أ» التي يصير عندها ثابتًا …» وبهذه الطريقة ألغى فكرة محورية الأرض وبدأ يجعلها تدور، بكثير من الصبر وبالعديد من الأخطاء. إنه يديرها وكأنها رصاصة تنطلق من بندقية ويطلقها في الظلام، نحو هدف مجهول مقدس. ثم يعثر على القوس «و ﺟ»، كي يصيب الكون العتيق المثالي بجرح آخر أليم جعله يصرخ.