أعمدة هرقل
يضع دانتي — هذا الشاعر البارز في مجال الأمور الفلكية الواردة في النصوص المقدسة — الأرض في موضعها الصحيح، في مركز الكون، وفي داخل مدارنا الفلكي، في أفلاك كروية هابطة متحدة المركز، تتصاعد فيها درجات العذاب، بحيث يوضع الآثمون في غرف مقسمة. في «الدائرة الثامنة»، وهي الثانية من حيث شدة الهول، يرتب دانتي عشرة أصناف من الأنفس المحتالة؛ ومن بين من تضمهم المرتبة الثامنة من حيث السوء نجد عوليس ورفيقه دايوميد يعذَّبان كل الأوقات داخل بوتقة من النيران. فماذا كانت خطيئتهما؟ لقد تجاوزا أعمدة هرقل، حدود العالم! هتف عوليس في بحارته وهو يستحثهم: «تخيروا طريق التجربة ولا تجحدوه، إنكم لم تولدوا كي تعيشوا كالبهائم، وإنما لكي تتبعوا طريق الفضيلة والمعرفة.» وهكذا صار مستشار السوء. فمن الجبل المحرم الذي لمحوه أمامهم (المَطْهَر)، جاءت عاصفة، «حسب إرادة الرب الواحد» لتبتلعهم. يكتب أحد المعلقين قائلًا: إنه «في هذا الموضع تحديدًا، يحاول خيال دانتي اختراق حواجز يومه وعقيدته.»
(إخواني المتمسكين بالكون القديم الجميل، سوف تطمئن قلوبكم عندما تعلمون أن دانتي يربط بين الحركات الثلاث للكون — دورة فلك التدوير، والدورة الشمسية والسماوية، والمبادرة — والعروش الملائكية الثلاثة.)
«ليس لديَّ شك في أن ثمة علماء شعروا بإهانة بالغة»
ماذا عن كوبرنيكوس؟ هل يشعر بأن كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» جاء بنا جميعًا إلى أعمدة هرقل؟
في كتابه «تاريخ الأدب البولندي»، يرى ميلوش أن كوبرنيكوس «لم يكن متلهفًا لنشر الكتاب؛ إذ كان يخشى إثارة فضيحة.»
لما كانت حداثة الفرضيات الجدلية في هذا العمل، التي حرَّكت كوكب الأرض من سكونه، ووضعت شمسًا ساكنة في مركز الكون، قد لقيت بالفعل جماهيرية لا يستهان بها، فليس لديَّ شك في أن ثمة علماء شعروا بإهانة بالغة … ولكن إذا كان لديهم استعداد لتقييم الأمور بنوع من التدقيق، فلسوف يكتشفون أن مؤلف هذا العمل لم يفعل ما يستحق عليه اللوم.
يتمسك كوبرنيكوس باستراتيجيته المعهودة في التظاهر بأن أفكاره المبتكرة يكون لها ما يجيزها من قديم الأزل، وهذا هو تقريبًا ما كان يحدث دائمًا. هل تتذكر ما قرَّره مجمع ترنت؟ «يُحظر تفسير النص المقدس على نحو يخالف الرأي المعلن للكنيسة، وموافقة الباباوات بالإجماع …» أفلا يكون من الرائع لو أنه ثبت أن التقاليد الكاثوليكية تتفق مع الخيالات الفيثاغورية؟ حسنًا، ولِمَ لا؟ لا يزال كوبرنيكوس في أمان، ليس فقط لأنه يسكن في جاينوبوليس الهادئة، ولكن الأقرب من ذلك، هو أن الكنيسة لم تخرج بعد جهرًا لتواجه مبدأ مركزية الشمس. في حقيقة الأمر، كان هناك أساقفة متنوعون يؤيدونه! في هذا الصدد، نحاط علمًا بأنه خلال السنوات العشر السابقة على طباعة كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، لم يكتفِ البابا كليمنت السابع بعدم منعه أمينه، يوهان ألبريخت فون فيدمانشتيتر، عن إلقاء محاضرات عن النظرية الكوبرنيكية في حديقة الفاتيكان، وإنما زاد على ذلك بعدها بأن كافأه بنسخة إغريقية للكتاب.
يكتب توماس كون قائلًا: «بحلول العقد الثاني من القرن السابع عشر، كانت السلطات الدينية الكاثوليكية تمنح أهمية أكبر للبراهين المستقاة من النصوص المقدسة، وتسمح بمساحة أقل للانشقاق التنظيري مما فعلت من قبل لقرون عديدة.» لحسن الحظ، لم نكن تخطينا بعد منتصف القرن السادس عشر! وقد زاد كوبرنيكوس من قدر اتقائه للشرور بإهدائه الكتاب للبابا. أنا نفسي ما كنت لأندهش لو أن الهجمات التي طالته من البروتستانت، الذين لكي يمعنوا في معارضتهم للسلطات الكاثوليكية كان لزامًا عليهم الإصرار على اتباع حرفية النصوص المقدسة (الأرض ساكنة لأن الكتاب المقدس يقول هذا)، زادته قربًا منه من أي وقت مضى.
ويحكي سانتيلانا الحكاية قائلًا: «أما السلطات الكهنوتية الكاثوليكية، فقد عاملت كوبرنيكوس باحترام باعتباره رجل كنيسة وباحثًا، لكنهم اعتبروا منظومته واحدة من تلك الوسائل الرياضية العبقرية التي لا تدَّعي أي ارتباط بالواقع المادي. وكانت الرياضيات تصنف في ذلك العهد باعتبارها شأنًا خاصًّا بالفنيين وطائفة العلماء دون أي زعم باتصالها بالنواحي الفلسفية …»
باختصار، سار كوبرنيكوس في رحلة حياته في ظل ظروف بيئية خاصة؛ فسماء بولندا مغيمة، وحتى فلكيو الكنيسة اليقظون لا يمكنهم أن يروا لأبعد منها كي يتبينوا، وسط ليلٍ حالك وخواء ما هو مظلم وخاوٍ، ظلال أعمدة هرقل التي وصل إليها، ربما بالرغم من ميوله الخاصة؛ لقد أبحر في غموض وأمان بما يتجاوز حدود المشاهدة …
نحو الدائرة الثامنة
هل يجوز لنا القول إذن إن كوبرنيكوس توفي في فراشه وليس على الخازوق؛ لأنه كان محظوظًا بما يكفي لأن يكون من طائفة العلماء؟ لم يكن «متلهفًا لنشر الكتاب؛ إذ كان يخشى إثارة فضيحة.» ولكن ما هو الخطر الذي فرَّ منه فعلًا؟ ألم نتفق لتوِّنا أنه وقى نفسه الشرور عن طريق العمل في غموض وتخفٍّ؟
حضر البابا كليمنت شرحًا لنظرية كوبرنيكوس في حديقة الفاتيكان؛ هذا صحيح؛ لكن البابا كليمنت توفي. من جديد، أهدى كوبرنيكوس كتابه «عن دورات الأجرام السماوية» للبابا بولس الثاني، غير أن البابا بولس لم يُجِزه مطلقًا على حد علمنا. في بعض الأحيان يُذكر اسم نائب البابا الكاردينال شونبيج أو شونبيرج، في هذا الصدد؛ ولكن من الواضح أن خطابًا واحدًا منه ظل باقيًا، وهو عبارة عن رسالة خطية مهذبة يطلب منه فيها مخطوطة كتابه «عن دورات الأجرام السماوية» الذي لم يكتمل بعد. وتوفي شونبيج بعدها بعشرة أشهر، في سبتمبر من عام ١٥٣٤؛ لهذا ليس من المرجح أنه كان لديه الوقت كي يتلقى أي أجزاء مكتملة من الكتاب، وأن يقرأها ويعرضها على البابا، ثم ينقل لكوبرنيكوس الأخبار السارة بالموافقة الكاملة وغير المرجحة من الفاتيكان.
في الواقع، كان موقف كوبرنيكوس محفوفًا بالمخاطر. هل تتذكر الأب جيوفاني ماريا تولوساني؟ إنه الأب الدومينيكاني الذي اقتبسنا له عبارات هاجم فيها كوبرنيكوس في مناسبات عديدة: كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» يخالف قوانين الحركة لأرسطو، ويضع الشمس في موضع غير ملائم لها، ويغيب عنه مشهد جنة الخلد! ومع ذلك، فمن المؤكد أن تولوساني لم يتوغل كثيرًا في أعماق الكتاب. وربما ضللته المقدمة التي كتبها أوزياندر؛ إذ في هذا الموضع كان من الضروري ذكر شيء عن مركزية الشمس: «لا أحد يتقبلها الآن إلا كوبرنيكوس. وحسب رأيي، فهو لا يعتبر أن هذا الاعتقاد صحيح» (كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، الكتاب الأول، الجزء ٥: «هذه هي الحال»). وإذا كان كوبرنيكوس لا يؤمن بأن الأرض تتحرك، فلِمَ لا تدعونه يخطُّ حماقاته في سلام؟
غير أن الأب تولوساني يمضي الآن ليقول، على نحو أكثر وعيدًا، إن كوبرنيكوس «ما كان له أن يشكو من الرجال الذين تنازع معهم في روما، والذين كانوا أكثر من أدانوه.»
أدانوه! ماذا يعني هذا؟ كما نعلم، فإن كوبرنيكوس لم يذهب إلى روما منذ كان شابًّا، ووقتها لم يكن كتابا «عن دورات الأجرام السماوية» و«الشرح المختصر» أُلِّفا بعد، وكان مؤلفهما وقتها يعمل في رصد حالات الكسوف وما شابه. في رأي روزن — الذي ندين له بالفضل في معرفة هذه القصة — فإن الأب تولوساني لا بد أنه كان يقصد ألكسندر سكلتيتوس، المدافع عن كوبرنيكوس وزميله في الكهنوت في فارميا، الذي سافر إلى روما ونشر كتابًا له هناك عام ١٥٤٦، بعد وفاة كوبرنيكوس بثلاثة أعوام (توفي تولوساني نفسه عام ١٥٤٩). كان كتاب سكلتيتوس يتحدث بأسلوب يوافق فيه المبادئ الكوبرنيكية.
لقد علمنا أن تولوساني مقرب للغاية من الفاتيكان من خلال صداقته ببارتولوميو سباينا في مدينة بيزا، الذي عُين «سيد القصر المقدس والرسولي».
كان قد خطط «سيد القصر المقدس والرسولي» لإدانة هذا الكتاب، ولكن، ما منعه في البدء كان المرض، ثم الوفاة بعدها. وهذا ما حرصت على إنجازه من بعده … بهدف حماية الحقيقة؛ وذلك للصالح العام للكنيسة المقدسة.
إذن كوبرنيكوس لم يكن محظوظًا فحسب، وإنما كان «بعيد النظر»؛ حيث نُشر كتابه عندما توفي. لقد حكموا عليه، لكن بعد فوات الأوان؛ فلم يعد لهم سبيل إليه؛ فقد انتقل بالفعل إلى الجانب البعيد الآخر من أعمدة هرقل.
كون هيرشل الذي يلوح في الأفق
إذن فالكنيسة علمت. ولكن دعونا نتساءل مرة أخرى: هل علِم «هو» إلى أي مدًى أبحر بسفينته؟
إن إتش جي ويلز، الذي صورت قصص خياله العلمي بشرًا ضاعوا في فضاء الطبيعة الفسيح أو غيره، يحكي قصة كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» في أسلوب بليغ موجز: «كانت الكرة الأرضية مركز الوجود؛ وكانت الشمس، والقمر وسائر الكواكب، والنجوم الثابتة، تتحرك حولها باعتبارها مركزها جميعًا، في أفلاك كروية بلُّورية. ولم تتحرك عقول البشر لتتجاوز ذلك إلا في القرن الخامس عشر [منقول كما ورد نصًّا]، وأتى كوبرنيكوس بحدسه المذهل ليعلن أن الشمس هي المركز وليست الأرض.»
بالرغم من هذا التخمين المذهل — الذي بالرغم من كونه مذهلًا بالفعل، لكنه لم يكن مجرد تخمين — لم يكن بمقدور كوبرنيكوس — مثله مثل أرسطو وبطليموس والأب تولوساني — التوقف عن التفكير في مسألة «صغر» الكون القديم الذي أتى عليه هو.
وهنا ربما أكون بصدد إسقاط فكرتي الجوفاء، الخاصة بي والمتعلقة بعدم مركزية الأرض، على الرجل. ولنأخذ مثلًا العبارة الافتتاحية للكتاب السادس: «لقد أشرنا حسبما أتاحت لنا قدرتنا إلى القوة والتأثير اللذين حققهما دوران الأرض في حالة الحركة الظاهرية في خط طول النجوم السيارة وإلى النظام المؤكد واللازم الذي يضع في إطاره كل الظواهر.» إن كوبرنيكوس يعود من جديد في فخر — وهو محق في ذلك — إلى مسألة مركزية الأرض كنقيض من أجل عقد مقارنة؛ في حين أنني، وقد أفسدتني مبادئ كبلر وأغوتني قوانين نيوتن، أتجه مباشرة إلى الجاذبية، التي تختزل مسألة دوران الأرض إلى حدٍّ جعلها أمرًا غير ذي صلة، مثل قضية الحركة «الحقيقية» لتلك النجوم السيارة. إنه يقول «جميع الظواهر»! غير أنه في أيامي اتسع نطاق المشاهدة ليتوغل أكثر في الظلام الدامس؛ الكثير والكثير من الظواهر بين المجرَّات على النحو الذي هي عليه دون مرجعية قابلة للقياس إلى دوران الأرض. ها أنت الآن أدركت ردَّ فعلي، سوء تقدير من كوبرنيكوس المسكين، الذي نظر إلى تلك «الظواهر» وفي ذهنه التراجع الكوكبي. بالمثل تمامًا، قال بالفعل: «جميع الظواهر». ربما ظن أنه أبحر بعيدًا إلى الحد الذي مكَّنه من رؤيتها جميعًا؛ وما رآه ظلَّ في إطار «العالَم» المعروف.
مرة تلو مرة يشير كوبرنيكوس إلى «الحركات السنوية الصحيحة بالنسبة لكرة النجوم الثابتة»؛ فماذا لو لم يكن هناك كرة نجوم ثابتة؟ «إن العقل ليرتعد.»
في معرض مناقشته لأمر كوكبَي الزهرة وعطارد، يتقبَّل فكرة الضرورة التي شعر بها سابقوه لملء الفراغ بين الكواكب: «حتى لا يظل مثل هذا الفضاء الشاسع خاويًا، هم رأوا أن الفواصل بين نقاط الحضيض ونقاط الأوج — التي بناءً عليها، بحثوا مسألة سمك الأفلاك — يصل مجموعها بالتقريب إلى نفس حاصل الجمع» للمسافات الفارغة. ثم يعلق على هذا بأسلوب جافٍّ قائلًا: «إننا لا نعلم أن هذا الفضاء العظيم لا يحوي شيئًا سوى الهواء، أو إن كنت تفضِّل، ما يسمونه العنصر الناري.» ثم يهاجم الفكر البطلمي حول تلك النقطة تحديدًا: إن أفلاك التدوير والموازنات الهائلة التي نحن في حاجة إليها لتفسير الظواهر تتطلب أحجامًا لا يتخيلها عقل! ومن هنا جاء الهتاف الخطابي الذي اقتبسته من قبل: «إذن، حسب ادعائهم، ما الذي يحتويه كل هذا الفضاء؟» (نيتشه، نحو عام ١٨٨٦: «منذ زمن كوبرنيكوس والإنسان يتدحرج من المركز نحو المجهول».)
نعم، لقد ارتحل كوبرنيكوس إلى ما وراء حدود مشاهدته هو، دون أن يجرؤ على أن يرى (كيف يمكن لقلوبنا ألا تنفطر من أجله لعدم رؤيته ذلك؟) أن الكيان المحظور الواقع فيما وراء أعمدة هرقل هو «اللانهاية».