شروح: الكتاب السادس
يبدأ كوبرنيكوس كتابه الأخير هذا بقوله: «يبقى علينا أن ننشغل بحركات الكواكب التي تسبِّب انحراف الكواكب عن دوائر عرضها.» هكذا يبدأ كوبرنيكوس كتابه الأخير هذا، مكملًا: «وأن نبين كيف أنه في هذه الحالة أيضًا تمارس نفس حركة الأرض سيطرتها وتسنُّ القوانين هنا أيضًا.»
إن علم الفلك في أيامنا هذه يسعى جاهدًا كي يصف لنا التركيبات الكيميائية ودرجات الحرارة السطحية والظواهر، بل وحتى طوبوغرافية الأجرام السماوية المجاورة لنا؛ إذ تم حساب مداراتها. لقد علمنا أن هذا الكوكب أو ذاك يدور على بُعدٍ متوسطه كذا وكذا عن الشمس، بمقدار كذا من اللاتراكزية. وتبدو المعلومة على شكل خط في جدول، أو عبارة هامشية في فقرة تقديمية. هذا لا يحمل أي جديد. بينما أؤلف كتابي هذا على كمبيوتري المحمول، استمتعت برفاهية التنقل جيئة وذهابًا بين النص الذي أكتبه وبرنامج فلكي على الكمبيوتر سمح لي بمشاهدة الكواكب أثناء دورانها من أي نقطة مراقبة أحبها، مصحوبة أو غير مصحوبة بأسماء الأبراج ومسار كسوفي. فدارت الأرض مرات ومرات، ودار المريخ وهو يهتز ويترنح حسبما يشاهد من الأرض. لقد حققت الكوبرنيكية مجدها عندما جعلتنا أقرب إلى تلك النقطة. وبتعبير مترجم بطليموس: «بمجرد أن افتُرِضت منظومة كوبرنيكوس، صار من الممكن على الفور من واقع أرقام بطليموس» — دوائر التزيح، ودورات خطوط الطول، ونصف قطر فلك التدوير، إلخ — «و«بدون المزيد من عمليات الرصد»؛ الاستدلال على أمرين شكَّلَا أهمية قصوى لكبلر ونيوتن: (١) الأزمنة الدورية لدوران الكواكب حول الشمس، و(٢) المسافات النسبية لبُعد الكواكب المختلفة عن الشمس.»
هذا ما أنجزه كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» في الكتاب الخامس منه.
تبقى مهمة للكتاب السادس، الذي هو في حقيقة الأمر ملحق موجز للكتاب الخامس، وهذه المهمة، تتعلق، كما يوضح هو، بمسألة أنه «يقال إن المواقع الحقيقية للكواكب لا تُعرَف إلا عندما تتحدد خطوط طولها بجانب دوائر عرضها بالنسبة للمسار الكسوفي.»
أعظم إخفاق واجهني عند تقديمي لكتاب «عن دورات الأجرام السماوية» تَمثَّل في تناول المواضع السماوية. الشيء الذي كان يجب عليَّ فعله هو أن أخصِّص مساحة كافية لشرح بناء الأسطرلابات وجهاز قياس التزيح، موضِّحًا حركات كل آلة، والمنظر الذي يشاهد من خلال العدسات، ثم أقدِّم تفصيلات عن استخدام جداول كوبرنيكوس بحيث يمكن للقارئ أن يفهم فهمًا دقيقًا عملية تحويل بيانات الرصد إلى معرفة بالمواضع. وللأسف، في كل مرة حاولت فعل ذلك، كنت أضطر لاستخدام عدد من الكلمات يوازي ضعفَي ما استخدمه كوبرنيكوس ذاته. وعلى الرغم من آمالي البسيطة، يعد هذا الكتاب لذلك مناقشة للقضايا التي تثيرها قراءته أكثر من كونه شرحًا تفسيريًّا لكتاب عن دورات الأجرام السماوية. والكتاب المثالي الذي ينبغي أن يرافق كتابي هذا لا بد أن يكتبه فلكيٌّ متخصص، وأن يكون عنوانه «كيف تبني وتستخدم جهاز قياس التزيح من فناء منزلك الخلفي، مشتملًا على كل الجداول، ومحدثًا بتقويم فلكي للكواكب العابرة لزحل». وعندها يصير في استطاعتك أن تحكم على نحو أفضل على مفاخر كوبرنيكوس؛ «ومن ثم عن طريق افتراض حركة الأرض سوف نحقق» — والكلمات القليلة التالية فقط هي التي تثير شكوكي — «ربما بدرجة أكبر من التماسك وبصورة أكثر جاذبية، ما اعتقد الرياضيون القدماء أنهم أوضحوه استنادًا إلى فرضية سكون الأرض.»
الكتاب السادس، الأجزاء ١–٨: الميل الزاوي، الحيود، الانحراف
بيَّن لنا كوبرنيكوس في الكتاب الخامس كيف نحسب «المواضع حسب خطوط الطول للنجوم السيارة الخمسة» والمقصود بها المسافات الفاصلة بين تلك الكواكب في اتجاه الغرب ومتوسط موضع الشمس؛ وقد جنبتُك مشقة الحسابات المضنية للتوصل إلى التزيح الصحيح لأحد الكواكب، الذي يجب أن يضاف إلى الشذوذ المصوِّب للتزيح لو كان «أكبر من نصف دائرة»، ويُطرح منه لو كان بخلاف ذلك. والمواضع الكوكبية الناتجة، عند طرحها من متوسط الموضع الشمسي، سوف تعطينا «الموضع الذي نبحث عنه للكوكب داخل كرة النجوم الثابتة.» وفي الكتاب الخامس، أجرى كوبرنيكوس من أجلنا حسابًا لذلك.
ينتقل كوبرنيكوس الآن إلى تلك التعرجات الظاهرية التي ليست نتاج تلك الاختلافات في الموضع والسرعة التي تحدث على المستوى الكسوفي بين الكوكب المعني والراصد الأرضي، بل الناتجة عن انحراف الكوكب عن المسار الكسوفي.
في معرض مناقشته للحركات القمرية في الكتاب الرابع، قدَّم كوبرنيكوس مفهوم «العقد»؛ غير أنني أخفيته في حاشية سفلية؛ حيث إن إيجازي في هذه النقطة كان سطحيًّا. وبإعراب كوبرنيكوس عن تقدير مستحق لبطليموس، يعيده إلى المشهد من جديد هنا؛ لهذا سوف أحذو حذوه: العقد عبارة عن نقطتين للتقاطع بين المستوى المداري للكوكب والمستوى الكسوفي. «كل استطراد في دائرة العرض يقاس من العقد.» ومن هنا فإن العقدة الصاعدة هي النقطة التي عندها «يدخل الكوكب في دوائر العرض الشمالية»، والعقدة الهابطة هي العكس. باختصار: يقصد كوبرنيكوس ﺑ «الاستطرادات»، «حالات الابتعاد عن المسار الكسوفي.» ولتصوير ذلك، خُذْ مثلًا استطرادَي كوكب المريخ اللذين رصدهما بطليموس: في المواجهة الشمسية «عند أقصى حدود دوائر العرض الجنوبية»، كان الرقم ٧ درجات؛ وفي الاقتران الشمسي صار ٥ دقائق فقط، «حتى إنه كاد يلامس المسار الكسوفي» (القول بالقول يذكر، يُظهر هذا الكوكب، من بين سائر الكواكب، أعلى درجة من درجات الاستطراد).
أطلق بطليموس على دائرة العرض «التي تقع عند متوسطات خطوط الطول» اسم «الميل المداري» (نحن نعرفها الآن بأنها زاوية الميل السماوية للجرم مع المسار الكسوفي)، وأطلق على دائرة العرض عند أعلى وأدنى «نقاط قبوية» — وهي نقاط على المدار يكون عندها جرمان سماويان أقرب ما يكون أحدهما إلى الآخر — اسم «الحيود»، الذي يشرحه لنا جيكوبسن بصورة تساعدنا أكثر على فهمه بقوله إنه: «تأرجح دوري طفيف في ميول المؤجِّلات الكوكبية»؛ كما أطلق بطليموس على «الثالث الذي يحدث مقترنًا مع الثاني» اسم «الانحراف». ومن جديد يقول جيكوبسن: «تأرجحٌ في مستويات فلك تدوير.» في الفصل الخاص بمدارات كوكب الزهرة، هاجم ذلك الفلكي بالفعل نيابة عنا مفهوم الانحراف. في حقيقة الأمر، لم يعد مصطلحَا الانحراف والحيود يستخدمان كثيرًا في أيامنا هذه (لهذا السبب وغيره، فإن الكتاب السادس بحقٍّ كتاب مبهم). ودون أن يتكهن كوبرنيكوس بالمستقبل، يقرُّ هذين المصطلحين كي يشرح الحركات المنتظمة للدوائر الفلكية للكواكب حول المسار الكسوفي. أما في حالة الكواكب الثلاثة الأخرى الخارجية، فإن التأرجح يدخل المشهد، وهو ميزة دائمة لأي مدافع عن الحركة الدائرية المنتظمة؛ إذ عندئذٍ يمكنه القول: «في حالة الأشياء التي تتعرض للتأرجح، علينا أن نأخذ متوسطًا معينًا بين طرفَي النقيض.» أما الزهرة وعطارد فمن جانبهما يُظهران نوعًا آخر من التأرجح. ومن نافلة القول أن المناقشة تصبح الآن فنية ونوعية في آنٍ واحد بحيث تتجاوز مستوى تفكيري الأرضي المتواضع؛ فكل كوكب ينفرد بمصطلحاته الخاصة؛ فمثلًا «عطارد يختلف أيضًا عن الزهرة في أن تأرجحه لا يحدث في دائرة متحدة المركز مع دائرة أخرى لامتراكزة، وإنما في دائرة لامتراكزة مع دائرة أخرى لامتراكزة.» لكن في جميع الأحوال، من الممكن تعريف التأرجح تعريفًا شديد المنطقية بأنه الفارق بين أقصى ميل وأقل ميل؛ ويعادل نصف هذا الرقم متوسط الميل.
يشرع كوبرنيكوس الآن في استخدام عمليات الرصد التي أجراها بطليموس بخصوص الاستطراد بهدف حساب ميول الدوائر الفلكية لزحل والمشتري والمريخ، والتي منها يحسب زوايا دائرة العرض الظاهرة:
الكوكب | أقصى ميل | أقل ميل | القيمة الحديثة |
---|---|---|---|
زحل | ٤٤ ٢ | ١٦ ٢ | ٢٩ ٢ |
المشتري | ٤٢ ١ | ١٨ ١ | ٢٩ ١ |
المريخ | ٥١ ١ | ٩ | ٢٦ ١ |
الزهرة | ٢٩ ٣ | ٤٦ | ١٢ ٣ |
عطارد | ١٥ ٦ | ٧ | ٧ |
من الواضح أن قيم الميل المعاصرة تقابل إلى حدٍّ لا بأس به من التماثل قيم الميل القصوى التي توصل إليها كوبرنيكوس.
أما بالنسبة للحيود، فمع علمنا بأنه ليس إلا جثة متحللة لمفهوم خاطئ، فسوف أكتفي بإمتاعك بالقاعدة الخالدة الآتية: «يظل حيود الزهرة دائمًا شماليًّا وحيود عطارد جنوبيًّا.» ومع أن المشاهدات التي جاءت منها هذه القاعدة لا تزال صحيحة، فإن المفهوم ذاته كان لا يختلف عن موازنات بطليموس.
الكتاب السادس، الجزء ٩: «إلا أنه في حالة عطارد …»
ثم تأتي في أعقاب ذلك صفحتان من التعليمات العامة «عن حساب دوائر عرض النجوم السيارة الخمسة». فكما نعلم، عندما يذكر كوبرنيكوس كلمة «دائرة عرض» فلربما كان يعني خط عرض الميل أو الانحراف أو الحيود، لكنه هنا يقصد «دائرة العرض السائدة». احسب الثلاث الأخرى واجمعها معًا إن كانت جميعًا موجبة القيمة أو سالبة القيمة؛ فإن لم تكن الحال هكذا، اطرح القيمة مختلفة العلامة الجبرية من الاثنتين متشابهتَي العلامة الجبرية، «وسوف يكون الفارق هو دائرة العرض السائدة التي نبحث عنها.» هكذا ينتهي كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بالطريقة الكوبرنيكية المعتادة إلى حدٍّ يثير السخط! تشترك جداول دوائر عرض زحل والمشتري والمريخ في بعض عناوين الأعمدة المشتركة مع الجداول المقابلة للزهرة وعطارد، غير أن ذلك الأخير لديه حيود وانحرافات، في حين أن الأول لديه تقسيمات فرعية شمالية وجنوبية. ولدى الكواكب الخارجية «دقائق كسرية»؛ وتتفاخر الداخلية منها ﺑ «دقائق كسرية للانحراف». والتعليمات ذاتها تزخر بمثل تلك العبارات المحيرة مثل «… إلا أنه في حالة عطارد يُطرح عُشر الانحراف، إذا وُجِد شذوذ الدائرة اللامتراكزة ورقمها في العمود الأول من الجدول، أو نكتفي بإضافة هذا العُشر، إذا وُجِد حيود الدائرة اللامتراكزة ورقمها في العمود الثاني من الجدول؛ ويحتفظ بالفارق أو حاصل الجمع.» باختصار: «إن العقل ليرتعد.»