شروح: مقدمة أوزياندر والكتاب الأول، الأجزاء ١–٤
يستهل كوبرنيكوس رسالته البحثية العظيمة بالتبرير التقليدي التالي لعلم الفلك: «ما الذي يمكن أن يكون أكثر جمالًا من السماء وهي تضم كل تلك الأشياء الجميلة؟» هذا الجمال أفلاطوني: إنه يسمو بعقولنا من قاع الرذيلة إلى ذروة الفضيلة، وسوف يجعلنا بفضل الدهشة التي يصنعها بداخلنا بتفاصيله المعقدة، نتأمل صنع الخالق. لو كنتَ تعتبر هذه الفكرة من قبيل التصوير الهزلي، فلعلك تعبد أهم معبود لنا في زماننا؛ ذلك الذي يسميه ماركس «رابطة المال». أما معبود حقبة كوبرنيكوس فكان شيئًا مختلفًا. حقيقة الأمر أنه حتى وقت متأخر مثل العصر الفيكتوري نجد عالم الفلك السير جون هيرشل ينصحنا بأن نرخي قبضتنا الممسكة بالمفاهيم الخاطئة نظريًّا ومنطقيًّا؛ «فهذا أول طريق بلوغ حالة من الصفاء الذهني الذي يمكنه وحده تأهيلنا لإدراك كامل ومستقر للجمال المعنوي، وكذلك للتأقلم المادي.» وما كان بالنسبة لهيرشل تجردًا أنجليكانيًّا بالتأكيد، كان في زمن كوبرنيكوس في قلب الحماس الكاثوليكي تجاه التفسيرات الحرفية. فعلى حدِّ علم كلِّ مَن كان ينتمي لتلك الأيام، «كانت» السماوات حقيقةً أكثر نقاءً وأكثر خلودًا وأقل فسادًا من «الواقع الدنيوي»، منطقة الحياة الزائلة العفنة. كانت السماء هي الموضع الذي يعلونا، ومنه يحكم الرب الكون. في مثل ظروف كتلك، كيف يمكن لعلم الفلك ألا يكون شكلًا من أشكال التأمل الروحاني؟
كان فيما مضى، تحت شمس لم تشوِّه البقعُ وجهها
رغم المديح الرصين الذي أسداه كوبرنيكوس لأفلاطون في مقدمته — حيث كان يسعى إلى تبرير ابتكاره الذي كان يخشى أن يثير الكثير من المشكلات عن طريق المبالغة في إثبات أصالته — تظلُّ آراء كوبرنيكوس مخالفة لآراء أفلاطون. لقد كتب يقول: «إن الفلك الكروي، بدورانه في دائرة، يعبِّر بذلك التصرف تحديدًا عن شكله.» بالنسبة لنا لا تحمل تلك العبارة الكثير من المنطق؛ ففي تلك العصور الغابرة كان الأمر ينتهي بالعلم والفلسفة والدين إلى حالة من الجدل فيما بينها، مما يجعل الإشارات الدالة على انسجامها معًا لا تستثير حتى الحزن. غير أن التحالف العتيق بين ثلاثتها، الذي بذل كوبرنيكوس قصارى جهده من أجل تفكيك عُراه، كان لا يزال ساريًا حتى بلوغ عصر نيوتن. لقد توصلت دراسة بحثية أجراها أحد الباحثين عن تطور الميكانيكا الفيزيائية إلى الاستنتاج التالي: «من غير المجدي أن ننكر وجود قوًى ميتافيزيقية لدى خالقي الدينامية؛ تلك القوى السابقة على هذا العلم ذاته، أو ببساطة التي تتصل به. لم يكن لمؤلفي القرن السابع عشر التقليديين أن ينأوا بأنفسهم عن تلك الضرورة، أو بالأحرى، تلك العبودية.» وخلال القرن الذي ظهر فيه كوبرنيكوس؛ أي القرن السادس عشر، ظلت تلك الضرورة نفسها أمرًا لا غنى عنه، مثله مثل مبدأ مركزية الأرض للكون في حد ذاته.
بإيجاز، كان أفلاطون يؤمن بالأشكال المثالية الثابتة؛ أما نحن فإننا نؤمن بنفس المقدار على الأقل بالعشوائية الاعتباطية التي تفتقر إلى التناغم. لماذا مثلًا كان أحد قمرَي كوكب المريخ أكثر امتلاءً بالأخاديد والفوهات من الآخر؟ ولماذا نجدهما على شكل إهليلجي ثلاثي المحاور لا على هيئة كروية كسائر الأجرام السماوية؟ إننا نؤمن بعدم «وجود» سبب! صارت الصور المتواترة مع المزيد والمزيد من التفاصيل لهذين القمرين — فوبوس وديموس — متاحة لنا بمرور الزمن، والفضل في هذا يعود أولًا وقبل كل شيء إلى ابتكارٍ ظهر في العالم بعد عدة عقود من رحيل كوبرنيكوس عنه: التليسكوب (١٦١٠). وفجأة وعلى حين غرة، صار من الممكن تبيُّن تفاصيل الحفر أو الفوهات القمرية والبقع الشمسية وغيرها من التداعيات الدالة على اللامثالية السماوية. وواصل فوبوس وديموس الدوران في فلكيهما حول المريخ دون أن يكتشفهما أحدٌ حتى عام ١٨٧٧؛ أي بعد طبع كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بنحو ثلث ألفية كامل. وبينما نحن نفكر في الإنجاز الذي حقَّقه هذا الكتاب، قد يكون لزامًا علينا أن نذكِّر أنفسنا، مرارًا، أنه في عصر كوبرنيكوس، كانت النجوم والكواكب مجرد نقاط مضيئة، قد تتغيَّر ألوانها ودرجة سطوعها، ومن الممكن التنبؤ بموضعها في القبة السماوية، ليس بدقة تامة — فلقد حسَّن كوبرنيكوس هذا الوضع بقدر طفيف — لكنها ظلت أشياء سماوية بما يفوق المعنى الحرفي للكلمة: فلا يمكن معرفة كنهها خلا حالات وجودها أو غيابها؛ ومن ثم فهي شبه عصية على المعرفة. من أيِّ شيءٍ صُنعت؟ شيء سماوي دون شك، ولعله إلهي. انظر كيف تتوهج! إنها تشرق منذ آلاف السنين، على حضارات اليونان وروما ومصر وبابل؛ ومن ثم فإن الحس السليم يقتضي عدم تغيُّرها، وهو ما زاد من انعزالها عن دنيا الفساد والوحشية والغرور الزائف. فكيف لا تكون عالمًا سماويًّا علويًّا؟
من السهل الآن السخرية من الحس السليم الذي كان سائدًا في القرن السادس عشر! غير أنه من منظور البراجماتية المحلية الذي خدمه الحس السليم، فإنه ظلَّ ملائمًا تمامًا. وفضلًا عن ذلك، وكما سنرى مرارًا وتكرارًا، فقد عمل التوق إلى النظام على تقوية المنطق الخاص به، وعمل ذلك المنطق بدوره على تقوية ذلك التوق. إن الرغبة في وجود أي روح مدبِّرة تتوقع مسبقًا الخير والشر السائدَيْن في تلك الأيام، وتُكثِر إن أمكن من الأول وتُنقِص من الثاني، جعلت علم التنجيم مبعث راحةٍ، حتى إنه لقرون طويلة ما كنا نتحمل الحرمان منه.
أصل المقدمة
نتساءل مجددًا إذن: «ما الذي من الممكن أن يكون أكثر جمالًا من السماء وهي تضم كل تلك الأشياء الجميلة؟» انطلاقًا من هذا السؤال جاءت أعمال أفلاطون وكوبرنيكوس وهيرشل.
بدأتُ كتابي هذا بملحوظة قلت فيها ما معناه إن أي عدد من المفاهيم التي عفَّى عليها الزمن من الممكن صقلها كي تلمع من جديد فتصير كنوزًا لحقبة تالية. ربما كانت فكرة المقدمة التي تقول إن مسارًا معينًا من الدراسة الشديدة العمق من الممكن أن يدفع بنا نحو السماء؛ واحدةً من تلك الجواهر. تخيَّل كيف كان لحياتنا أن تتغير لو أننا اعتنقنا هذه الفكرة بجدية! كم من الأشخاص الذين تعرفهم اختار مهنته كي يحقق هدفًا صريحًا؛ ألا وهو فهم مسألة الكمال؟ (التقيت بعضًا منهم: فنانين، ومسلمين متدينين، وعشَّاقًا في سن المراهقة.) أَمَا كان للكمال أن يصبح أكثر تجسدًا على الأرض لو أن عددًا أكثر منا كرَّس حياته من أجله؟ ويقول أحد الباباوات في نفس المعنى: «وفقًا للقديس ديونيسوس، فإن من شأن قانون الألوهية أن يأخذ بيد الأدنى شأنًا ليصل إلى المرتبة الوسطى ثم يرتقي إلى المعالي.»
غير أنني أبدأ الآن في التساؤل عما إذا كان ذلك المفهوم الذى عفَّى عليه الزمن قد ألقى «يومًا» ضوءًا عمَّ رقعةً واسعة من الأرض! كم عدد الفلاحين في زمن كوبرنيكوس الذين كانوا من الممكن أن يعتبروا كدَّهم في أراضيهم أي شيء آخر غير العناء؟ (فرنسا، ١٤٨٣: «على العامل الفقير أن يسدِّد أجور أولئك الذين يوسعونه ضربًا ويطردونه من الكوخ الذي يأويه …» ألمانيا، ١٤٨٠: جامعو فضلات الحصاد الذين استبدَّ بهم اليأس يبيعون أنفسهم في سوق الخدم. وُلِد كوبرنيكوس عام ١٤٧٣، في بولندا التي كانت الأحوال فيها مشابهة لما يجري في البلدين المذكورين.) أي أمل كان يمتلكه أولئك التعساء للارتقاء من حياة البؤس الدنيوي نحو حكمة السماء؟
ثمة مهنة بذلت بالفعل قصارى جهدها للارتقاء بالمستوى الإنساني: مهنة محاربي المهرطقين. وقتها، مثلما هي الحال الآن، ظلوا مؤمنين بالجمال والكمال حسبما يرونهما، وهو مبرر لترك الجمال والكمال في ركنهما المصون.
للأسف، لا يمكن حذف محاربي المهرطقين من قصة كوبرنيكوس.
في حقيقة الأمر، لا بد أن لهم ولو دورًا جزئيًّا في تبرير التحايل في مقدمة كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» على يد بروتستانتي حسن النية يُدعى أندرياس أوزياندر، الذي سعى لتلطيف حدة أسلوب الكتاب، ليس فقط بتبريرات لرفعة شأنه، بل أيضًا بتطمينات بخصوص عدم صلته بالواقع: لا داعي للقلق؛ فالشمس لا تدور حقًّا حول الأرض؛ فقط من الملائم رياضيًّا أن نتصور ذلك!
كانت المقدمة التي كتبها أوزياندر مفاجئة ومثيرة لسخط كوبرنيكوس، ولعلها بالفعل تسبَّبت في إصابته بسكتة دماغية قاتلة. يقال إن الإضافة البطلمية المطمئنة لتعبير «الأجرام السماوية» إلى عنوان كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» كانت أيضًا من صنع أوزياندر، مع أنني لا أرى أي مبرر لافتراض ذلك؛ إذ إن الأجرام السماوية مذكورة في العديد من المواضع بالكتاب. على أي الأحوال، فإن المقدمة تتعارض بتلطُّف مع آراء مؤلف الكتاب، مع أنه كان يعتبر نظريته بحقٍّ أكثر من مجرد مواءمة رياضية عملية. وقد توصل أحد مؤرخي العلوم إلى أن «مقدمة أوزياندر حافظت على الغموض، على سبيل الاحتياط دون ريب، إلا أن تلك الحيطة لم تَحُل دون إثارة لعنات علماء اللاهوت فيما بعد، غير أنها مع ذلك، لم تكن دون فائدة في عملية نشر المبدأ.» بعبارة أخرى، تسبَّبت المقدمة في أن يتوفى كوبرنيكوس على فراشه، لا حرقًا على خازوق.
سوف نقيِّم لاحقًا إلى أي مدًى، وبأي قدر من الوعي، وبأي مبررات كان بصدد تعريض نفسه للخطر لو أنه نشر الكتاب، ولكن الآن دعونا نَعُد إلى بحثه، ومن الآن وصاعدًا سوف نستمع إلى صوته هو، لا صوت أوزياندر.
الكتاب الأول، الجزء ١: ما يصح إلا الصحيح
يقول كوبرنيكوس: «العالم كروي.» ويكشف السياق أنه يقصد من وراء هذه العبارة ليس كوكب الأرض الذي نعيش عليه، بل عالمًا أكبر من ذلك يشمل الشمس والقمر والنجوم. «إنه كرويٌّ؛ لأن هذا هو أكثر الأشكال قربًا من الكمال.» لأنه يحوي أعظم حجم؛ لأن «كل شيء في العالم يتجه نحو التحدد في هذا الشكل، مثلما يتضح في حالة قطرات المياه وغيرها من الأجسام السائلة، عندما تتحدد ذاتيًّا.» ثم يمضي على نفس الوتيرة، موظفًا تبريرات عتيقة من قبيل «مثالي» و«ملائم»، ثم يؤكد على دفاعه عن كروية الكون بالتشبيه الآتي: «وما من أحد يتردد في القول بأن هذا الشكل ينتسب إلى الأجرام السماوية.»
ومن جديد، لنتأمل فوبوس: شظية عظمية بالية ومتعرِّجة منقورة ببثور أشبه ببثور الجدري تدور في الظلام. أو لنتأمل قمرنا كمثال، وهو وفق دليل «كامبريدج المصور للكواكب»: «غير متناسق الشكل إلى حد بعيد.»
نحن تجريبيون، على الأقل في مجال العلم، أما بالنسبة لمعاصري كوبرنيكوس، فإن الحدود الضيقة للمشاهدة كانت رحيمة ومتسامحة مع نظرياتهم، حتى إنه كان في استطاعتهم أن يكونوا تجريبيين ذهنيين فخورين بأنفسهم. وبعد كوبرنيكوس، جاء هؤلاء الذين أبوا النظر في تليسكوب جاليليو؛ لأنه أيًّا كان ما سيُظهره لهم يستحيل أن تكون له قيمة (مثلما بدأتَ تظن فإن التليسكوب بطل آخر من أبطالنا؛ فهو يقبع في خبثٍ خلف ستار المستقبل الأسود، وبين الحين والآخر تُلقي عدسته الضوء على قصة كوبرنيكوس؛ ليسحق في طريقه أحبولة جديدة موثوقًا فيها من أحابيل الكون العتيق). لقد أبى كوبرنيكوس نفسه السماح للعقلانية، ذلك المؤكسد الخطير، بمحو ما كان عزيزًا إلى قلبه. وفيما يتعلق بالنزعة التجريبية، تجدر الإشارة إلى أنه خلال السنوات العديدة التي عكف كوبرنيكوس خلالها على تأليف كتابه «عن دورات الأجرام السماوية»، لم يُجرِ كوبرنيكوس سوى نحو ٢٧ عملية رصد سماوي موثَّقة. هذا رقم كبير للغاية من حيث الكم (أو كما نقول بلغة اليوم، بالنسبة للتجارب التي يمكن تكرارها بنتائج مطابقة). ومن حيث الكيف، برهن كوبرنيكوس على أنه مهلهل بنفس القدر. كان مثلثه الهندسي الخشبي (الذي كان في الأساس عبارة عن عصًا مدرجة) يعطيه نتائج فشلت دقتها في تجاوز نطاق الدرجات العشر. تساءل أحد مساعديه، الشاب ريتيكوس، عن سبب تكبُّده المشقة بعدم لجوئه لاستخدام الدوائر المصنوعة من الصلب التي تأتي من نورنبرج، والتي كان من الممكن أن تحقِّق له دقة في القياسات في نطاق أربع درجات إذا حالفه الحظ، وكان متأنيًا في استخدامها. فأجابه قائلًا: «لو أنني تمكَّنت من إجراء حساباتي بحيث تتفق نتائجها مع الحقيقة في نطاق خطأ لا يزيد على عشر درجات، لوجب عليَّ أن أطير فرحًا مثلما فعل فيثاغورس بالتأكيد عقب اكتشافه لقاعدته الشهيرة.»
كان هذا هو كوبرنيكوس بالنسبة لك؛ فهو لم يطلب — مثلما يقول المثل — أن يسقط القمر في حجره؛ إذ لم يكن في حاجة لذلك؛ فهو يعلم بالفعل طبيعته: كرويُّ الشكل، ليس به فوهات، مثاليٌّ إلى الأبد. فما يصح إلا الصحيح.
تتخلَّل كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» تلك الروح، التي لن تزداد سوى غرابة في أعيننا كلما تعمَّقنا في معرفتها. في أغلب النواحي، لم يكن كوبرنيكوس كوبرنيكيًّا على الإطلاق، وإنما كان بطلميًّا وفيًّا. فيما يتعلق بحقائق معينة مسببة للضيق تتعارض مع الأفلاك الدائرية للأجرام السماوية، علَّق بقوله إنه «بما أن العقل يرتعد» من الاحتمال الذي تعبِّر عنه تلك الحقائق، فلا بد من تأييد فكرة الدورانية، وهو ما فعله ولكن بأسلوب ينطوي على تحايل.
أليس ذلك مع كلٍّ هو الطريقة التي تسير بها الأمور؟ فالعالِم يُفترض به أن يتبع مشاهداته أينما قادته، مغيِّرًا من أحكامه تبعًا لها. كثيرًا ما كان كوبرنيكوس يعيش وفقًا لهذا المبدأ، لا سيما الآن وقد صارت الأصالة (أو صورتها الزائفة) هي التي تحظى بالتوقير. ولكن هل يتصرف هو بالضرورة على هذا النحو في أمور الاعتقاد والسياسة أو حتى في ميدان عمله، لو أن قيامه بذلك كان من شأنه أن يستعدي أقرانه عليه؟ كما سنرى، لقد ناصبت النظرية الكوبرنيكية كل تلك الميادين العداء؛ ومن ثم كانت معاناته.
حول الموضوع الأكبر، موضوع «ما يصح عمله»، دعونا نذكر أنفسنا بأن الغرض من التنظير هو تحويل العشوائية الإدراكية للواقع إلى أنماط. فالدائرة التامة الاستدارة تتميز من حيث الجمال والأناقة والبساطة الرياضية.
لقد اكتشف علماء النفس أننا نميل أكثر إلى تذكُّر الأشكال الشبيهة بالدوائر باعتبارها مغلقة ومكتملة؛ سواء أكانت كذلك بالفعل أو لم تكن. وبمجرد تقبُّلنا لدائرةٍ ما باعتبارها النمط الخاص بنا، فإن «العقل يرتعد» من فكرة التخلي عنها، حتى لو كان ذلك على أسس ضرورية مؤسفة قائمة على أنها أخفقت في نمذجة الواقع.
يعلق توماس كُون على كبلر، الذي شيَّد صرحًا رياضيًّا غامضًا على أساس من الهندسة الكوبرنيكية، بقوله: «اليوم يبدو هذا الاعتقاد القوي في التناغمات الرقمية غريبًا، غير أن هذا الأمر ربما كان من بين أسبابه أن العلماء اليوم متأهِّبون لاعتبار تلك التناغمات أكثر غموضًا.» ربما كان في استطاعة أي مرحلة من مراحل العلم إبداء تلك الملحوظة تعليقًا على ماضيها.
في إيجاز، يبدأ كوبرنيكوس بحثه العلمي بما يمكن أن نعتبره اليوم فرضًا جدليًّا خاطئًا. الكون تام الاستدارة؛ لأن هذا ما ينبغي أن يكون. (ما الشكل الفعلي للكون؟ لا تسألني. سوف أحيلك إلى جيه دي نورث، الذي قال عام ١٩٦٥: «من السهل أن نتحدث عن اللامحدود … ولكن … من الصعب أن نتكلم عنه كلامًا ذا معنًى».)
المحدودية الكروية
برغم ما ذكره جيه دي نورث، فإن كون كوبرنيكوس ليس كونًا لا محدودًا على الإطلاق. وفي هذا الصدد يظل هو كون بطليموس؛ لأنه يمتلك شكلًا محددًا (هو الشكل الكروي)، فهو موجود في إطار حد معين؛ وهو يصل إلى نهاية ما.
وحتى الآن، يرى البحارة والملاحون أنه من الملائم لهم التحدث عن «الكرة السماوية» التي تدور من فوق رءوسنا كل أربع وعشرين ساعة. ويتقدم أحد علماء حساب المثلثات في أواسط القرن العشرين بتلك النصيحة: «تلك الكرة، التي لها نصف قطر غير محدود ولكن مركزها يقع عند مركز الأرض، مفيدةٌ في حل مشكلات معينة في الفلك والملاحة.» أما حسب رأي كوبرنيكوس ومن سبقوه، فإن تلك الكرة، التي نصف قطرها لم يكن غير محدود على الإطلاق، وإنما ببساطة لم يتحدد بعد إلى يومنا هذا، تتكوَّن من كرات فرعية مستقلة بذاتها، واحدة للقمر، أما الأخريات فللكواكب المختلفة. ثمة فارق جوهري بين المنظومتين الكوبرنيكية والبطلمية؛ وهو أنه في الأولى يوجد للأرض أيضًا كرة، وهي تساهم في تلك الدورات المركزية حول نقطة قريبة جدًّا من الشمس، بينما في الأخرى توجد الشمس داخل نطاق كرة تسهم في الدوران الكوني حول أرض لا تتحرك. وفي كلٍّ من الحالتين، تقع «كرة النجوم الثابتة» من وراء الكرات الكوكبية، حيث تقبع جميع الأبراج الفلكية. في كون بطليموس تدور جميعها في تناغم معًا، لتصنع دائرة واحدة تتجه غربًا كل أربع وعشرين ساعة في الوقت الذي تتأرجح فيه في آنٍ واحد باتجاه الشرق بمعدل أكثر تمهلًا مقداره درجة واحدة كل قرن من الزمان. أما بالنسبة لكوبرنيكوس، فقد قال: «من بين مبادئنا وفروضنا الجدلية افترضنا من قبل أن «كرة النجوم الثابتة»، التي تنتسب إليها جميع الكواكب السيارة على قدم المساواة، ثابتةٌ تمامًا.» في كلتا الحالين، تُعَدُّ كرة النجوم الثابتة حدًّا نهائيًّا يضم داخله جميع المخلوقات.
لماذا لا يمكن أن يكون هناك فضاءٌ خاوٍ واقعٌ فيما وراء الكون؟ يصرُّ أرسطو على أنه لما كانت الطبيعة «تمقت الفراغ مقتًا شديدًا» فإنها لا يمكن أبدًا أن «تكون» فراغًا؛ وقد خلا عصره من جهاز ميكانيكي يمكنه صنع فراغ. ولما كانت الفراغات أمورًا مستحيلة، فإن من وراء كرة النجوم الثابتة ليس هناك فضاءٌ خاوٍ، وإنما ببساطة «العدم». من الممكن بطبيعة الحال أن نكتشف فيما بعد حركات سماوية أخرى تتطلب منا افتراض وجود المزيد من الكرات — ومثالًا لذلك، يطرح العديد من المؤيدين المخلصين للفكر البطلمي إضافة كرة بطيئة الدوران تبرر الحركة المسماة فلكيًّا «المبادرة»، التي سوف نذكرها في موضع لاحق، ولكن أيًّا كانت الطريقة التي سننظم بها كوننا، فإن واحدةً من تلك الكرات يجب أن تشكل الإطار الخارجي المحيط بالكون، أما الآن فدعونا نغادر هذا الطرح متجهين نحو «كرة النجوم الثابتة».
على أي حال آمن كثيرون أن باستطاعتهم أن يبينوا عن طريق المنطق الهندسي أن الأرض تقع في مركز الكون؛ وأن لديها تناسبًا يشبه تناسب النقطة وسط السماوات الهائلة، وأنها تحتل موقعًا مركزيًّا، ولهذا السبب هي ثابتة؛ لأنه عندما يتحرك الكون، يظل المركز دون حراك، والأشياء الأقرب للمركز تكون الأبطأ في الحركة.
في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» لن يؤمن كوبرنيكوس إلا بعقيدة واحدة فقط من هاتين، لكنها عقيدة شديد الأهمية؛ وهي بالتحديد: أن الأرض تمتلك بالنسبة والتناسب خصائص النقطة.
في القرن التاسع عشر، كتب السير جون هيرشل عن ضرورة «توسيع آفاق» أفكار المرء «حتى تستوعب عظمة» واتساع الكون الشاسع، وبعدها عندما يصبح من الضروري على المرء أن «ينكمش عائدًا من جديد إلى كرته الأصلية، فإنه يجدها بالمقارنة، مجرد نقطة؛ ضائعة — حتى بالمقارنة بالمنظومة الدقيقة الحجم التي تنتمي إليها — بحيث تكاد تكون غير مرئية ولا يرتاب فيها بعضٌ من أفرادها الأساسيين أو الأنأى.» كثيرًا ما ألقي اللوم على دورات كوبرنيكوس باعتبارها المسئولة عن هذا التغيير المحقِّر للشأن في إدراكنا لذواتنا، لكن من الواضح أنه علينا أن نلقي ببعض من اللوم على بطليموس ورفاقه أيضًا. عندما جاء زمن كوبرنيكوس كان هذا الإدراك قد رسَّخ في الأذهان منذ ردح طويل من الزمان، واستوعبه علم اللاهوت المسيحي؛ إذ يكتب القديس أوجستين قائلًا بعد ظهور كتاب «المجسطي» لبطليموس بقرنين من الزمان: «وهكذا أنت خلقت السماوات والأرض من العدم؛ أمرٌ جلل وأمرٌ وضيع الشأن.»
ما الفارق الذي قد يكون موجودًا بين حجم كون أوجستين وكون هيرشل؟ ببساطة شديدة، مهما كانت أبعاد الأول موحية بالجمال، فإنه يصبح في حد ذاته مجرد نقطة بالنسبة للآخر، الذي لا حدود له على الإطلاق، أو يكاد يكون كذلك، حتى إن فكرة اعتبارنا محورًا له تعد مثارًا للسخرية.
في أي ساعة بالتحديد يجب أن يوضع حجر أساس بناء كنيسة جديدة؟ سَلْ المنجِّم جيدو بوناتي ولسوف ينبئك بما تقوله النجوم، حتى وإن كان دانتي قد أورده منزلته في «الجحيم». طيلة قرون العصور الوسطى، ظل كثير من اليهود يؤمنون بأن كل إنسان منا ولد خاضعًا لسيطرة نجم معين، هو — دائمًا حسب الصلاة والصدقات وغير ذلك — ما يحدد مصائرنا. في كون هيرشل، يدفعنا صغرنا المتناهي وعدم تشككنا نحو التفكير في أن معظم النجوم، تلك التي لم نَرَها مطلقًا، ليست لها أي علاقة بنا.
وفي هذا الصدد، يقف كوبرنيكوس في موضع أقرب إلى أوجستين عنه إلى هيرشل، حسبما تدل على ذلك العبارة الآتية الواردة في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»: «لا أعلم شخصًا واحدًا يرتاب في أن سماوات النجوم الثابتة هي أعلى وأرقى جميع الموجودات المرئية.» أو مرة أخرى: «نفترض أن «أ ب» هي أعظم دائرة في الكون على المستوى الكسوفي.» إن التنبؤ بأن العظمة متواصلة في جميع الاتجاهات، إلى ما وراء أعظم دائرة وأعلى من أعلى شيء يمكننا تخيله، ومن الممكن جدًّا أن تستمر للأبد، أمرٌ خارج نطاق تفكير الكوبرنيكية فعلًا.
ومع ذلك، يعتنق كوبرنيكوس مبدأ اللاأهمية الكونية لنا قبل ظهورنا. وإليك تذكيرًا نمطيًّا من كتابه «عن دورات الأجرام السماوية»: «يبدو أكثر دقةً أن نقول إن خط استواء» كوكبنا «يميل منحرفًا على دائرة مسير الشمس، من أن نقول إن دائرة مسير الشمس، وهي دائرة أوسع، تميل على دائرة خط الاستواء، وهي الأصغر.»
الكتاب الأول، الجزء ٢: الأرض الكروية
يواصل كوبرنيكوس كلامه قائلًا: ليس «العالَم» فقط هو الكروي، ولكن الأرض أيضًا كذلك.
(لقد سبقه بطليموس وأرسطو في القول بذلك، ثم عاد العلامة المسلم البيروني وأعاد ذكرها عام ١٠٢٥ ميلاديًّا، مستشهدًا بآيات القرآن كدليل عليها. فمن قالها أولًا؟ في رأي أناكسيماندر كان الكون كرويًّا والأرض أسطوانة بداخله؛ لأنه على هذا النحو كان في استطاعتها أن تلعب دور محور الكون. وجاء أناكسيمينيس من بعده ليستنتج أن الشمس والقمر والنجوم كانت كتلًا نارية متحجرة مصدرها أنفاس كوكبنا الأرضي؛ لا ريب أنها تجمَّدت بالتأكيد على هيئة بلُّورية. وأطاع زينوفان الحس السليم وزعم أن الأرض مسطحة تمامًا. وقرر بارمنيدس وأتباع فيثاغورس أن الأرض كروية، غير أنهم لم يقنعوا بقيتنا؛ أما ديموقريطس فأصرَّ على أنها قرص. غير أنه بحلول القرن الرابع قبل الميلاد أكد معظم الفلاسفة الإغريق — مثلما فعل كوبرنيكوس — على أن الأرض كروية داخل «عالَم» كروي.)
ونحن الآن نعلم أن الأرض في واقع الأمر أشبه بثمرة كمثرى (هكذا علموني وأنا طفل)، أو على هيئة برتقالة (هكذا وصفها هيرشل)، غير أن هذا ليس سوى خلاف تافه في المصطلحات، أو حسبما اعتبره كوبرنيكوس، تشوُّه مظهري (يقول كتاب حساب المثلثات الذي كنت أدرسه في المرحلة الثانوية، المنشور عام ١٩٥٤: «لإيجاد البعد بين نقطتين واتجاه إحدى النقطتين بالنسبة للأخرى، نفترض أن الأرض كروية ونصف قطرها ٣٩٦٠ ميلًا»). وعودة إلى ما نعلمه جميعًا: الكمال لله وحده. إن أشكال الأجرام السماوية تامة، والكرة «تفوقها جميعًا من حيث الكمال.» لا بأس. فمن العالَم المسطَّح الذي نادى به الحس السليم إلى عالَم بطليموس وكوبرنيكوس الكروي هذا تقدم هائل. وكوكبنا على أي حال، كرويٌّ، بهامش خطأ مقداره عشر درجات! «لو أنني تمكنت من إجراء حساباتي بحيث تتفق نتائجها مع الحقيقة في نطاق خطأ لا يزيد على عشر درجات، لوجب عليَّ أن أطير فرحًا مثلما فعل فيثاغورس بالتأكيد عقب اكتشافه لقاعدته الشهيرة.»
كيف يبرِّر كوبرنيكوس استدارة الأرض؟ كان من بين براهينه التي استمعتُ إليها وأنا تلميذ في المرحلة الابتدائية: بينما نحن نشاهد سفينة وهي تقلع نحو عرض البحر، نجد أن العَلَم المثلث الشكل الذي يعلو صاريها يظل مرئيًّا لنا بعد أن تكون السفينة ذاتها قد اختفت عن الأنظار وراء الأفق، وبعدها يغرب عن أنظارنا مثلما تغرب الشمس. كيف أمكن حصول ذلك لو لم تكن الأرض تنحني لأسفل بالنسبة لنا من جميع الاتجاهات؟
إن النزعة التجريبية التي من هذا النوع تظل مقبولة لنا أكثر من كونها أمرًا لا سبيل إلى إنكاره. على سبيل المثال (بصرف النظر عن الظواهر الفيزيائية والفلكية المختلفة) ربما اعتبر المرء غروب السفن عن الأنظار دليلًا على «تقعُّر» الأرض، وفي هذه الحالة فإن الزاوية المتغيرة للسفينة قد تزيد من البروز الظاهري للصاري، وهو احتمال، مع أنه يبدو واهنًا لنا، فقد تكبد بطليموس مشقة كبيرة ليثبت عكسه.
هناك مشاهدات أخرى تؤيد استدارة الأرض. قبل زمن هيرشل — بل ولعله قبل زمن بطليموس — كان القطر الزاوي للأفق المرئي يقاس بواسطة آلة بسيطة تسمى «القطاع الغاطس»، وكانت القيمة الناتجة عن القياس من أعلى قمة جبل أقل من القيمة الناتجة عند الوقوف عند مستوى سطح البحر. أو بعبارة أخرى، كلما ارتفعنا لأعلى، كان انحناء الأفق لأسفل من حولنا أكثر وضوحًا.
غير أن تلك البيانات لم تؤدِّ إلا إلى استدلالات منطقية، لا إلى يقين إدراكي. وأيَّدت المشاهدات في نهاية المطاف ما ورد في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»؛ بعدها إما ﺑ ٣٩١ أو ٣٩٢ عامًا، إن شئنا الدقة؛ إذ إننا اضطررنا للانتظار حتى عام ١٩٣٤ أو ١٩٣٥ إلى أن سُجِّلت صورة (على فيلم يلتقط الأشعة تحت الحمراء) من بالون ما وصل إلى طبقة الستراتوسفير وحلَّق على ارتفاع بلغ ٢٢٠٦٦ كيلومترًا؛ كي يبين لنا أن الأرض بالفعل مستديرة على هيئة كرة! كل هذا عزَّز من تقدير السابقين على كوبرنيكوس الذين توصلوا إلى هذا الاستنتاج على نحو منطقي.
البراهين النجمية
ونعود إلى كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» من جديد. إن الأرض مستديرة؛ لأنه ينبغي لها أن تكون كذلك. وهنا يأتي البرهان الثاني القائم على الرصد، وهو أيضًا مما ذكره بطليموس بأسلوبه الأكثر أناقة: إذا سافرنا باتجاه الشمال، نجد النجوم الواقعة في أقصى الشمال لم تعد تأفل، في حين أن النجوم الواقعة إلى أقصى الجنوب لم تعد تشرق. وبالمصطلحات الفنية التي كان كوبرنيكوس يجد متعة في استخدامها «القبة الشمالية لمحور الدوران اليومي» للحركة الظاهرة لتلك النجوم «تتحرك تدريجيًّا لتصبح فوق رءوسنا، بينما تتحرك النجوم الأخرى لأسفل»؛ ومن ثم تغيب عن الأنظار «بنفس المقدار». وإذا اتجهنا جنوبًا يحدث العكس. ولو كانت الأرض مسطحة، لكانت الزاوية التي نشاهد بها تلك النجوم تغيَّرت تبعًا لموقعنا، لكن الكوكب ذاته ما كان ليحجبها عنا. لكن من الواضح أنها تُحجب عن أنظارنا. وهذه حجة بالغة القوة تؤيد تحدُّب الأرض على أقل تقدير، ويمكن أن يفهم منها بشدة أنها كروية؛ حيث إنه لم يكتشف أي مسافر عن طريق البحر بعدُ أي حافة لها؛ الواقع أنه قبل واحد وعشرين عامًا من نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، لم تحُل وفاة ماجلان دون إتمامنا لأول دورة حول محيط الأرض بالكامل.
(حول موضوع الاتجاه شمالًا، تجدر الإشارة إلى ملحوظة: من وجهة نظرنا التي تستند إلى عدم مركزية الأرض بالنسبة للكون، يعتبر القطب الشمالي واحدًا من نقطتَي نهاية لمحور دوران الأرض. ولكن ما تلك المصادفة التي حدَّد بها السابقون على كوبرنيكوس موضع الشمال في نفس الاتجاه الذي حددناه نحن؟ الإجابة تجريبية، وهي بابلية كذلك. إن ظِلَّ عقرب المزولة، أو العصا الشمسية، يظل في حالة تغيُّر مستمر وفق الحركة الظاهرية للشمس؛ لكنه وقت الظهيرة من كل يوم؛ أي تلك اللحظة التي يكون فيها الظل أقصر ما يمكن، يظل اتجاه الظل هو نفسه على الدوام. وذلك الاتجاه — في نصف الكرة الشمالي على الأقل — هو الشمال.)
وبالمثل، على كوبرنيكوس أن يعترف بالفضل لبطليموس بسبب ما يلي: «أضف إلى ذلك مسألة أن قاطني المشرق لا يرون حالات كسوف الشمس وخسوف القمر التي تحدث مساءً، كما أن قاطني الغرب لا يشاهدون حالات الكسوف والخسوف الصباحية … ولو كانت الأرض مسطحة لأمكن للجميع مشاهدة تلك الحالات من الكسوف والخسوف، وفي نفس التوقيت.»
فضلًا عن ذلك — ومثل كثير مما ورد في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، من بطليموس وحتى أرسطو — يحدث الكسوف الأرضي بسبب ظل الأرض الواقع على القمر، وهو ظل بالمصادفة دائري الشكل (دائري «تمامًا»، هكذا يواصل كوبرنيكوس حديثه بالطبع)؛ ومن ثم، كيف يمكن ألا تكون الأرض كروية؟
يعبر هذا الجزء من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بحق عن كل الكتاب في خليطه من عبارات تنم عن التقوى، ومن الاستدلالات والمشاهدات غير القابلة للتفنيد؛ مثل: «إيطاليا إذن لا تشاهد النجم سهيل، بينما هو مرئي من أرض مصر.» لعل من الملائم أن نتذكر أن كوبرنيكوس نفسه لم يذهب إلى مصر مطلقًا. وما الداعي وقد أجرى بطليموس وأسلافه جميع القياسات اللازمة هناك؟
الكتاب الأول، الجزء ٣: تحديد نسبة الماء على كوكب الأرض
بعدها يبحث كوبرنيكوس في كيفية وجوب انقسام كوكبنا بين ماء ويابسة. وهو يقول إنه لا بد أن يكون حجم اليابسة أكبر، ولولا ذلك لسكنَّا قاع المحيط. فضلًا عن ذلك — وهنا تأتي عينة دقيقة من غموض كوبرنيكوس — «الكرات بعضها بالنسبة إلى بعض كمكعبات أقطارها بعضها بالنسبة إلى بعض. ومن ثم إذا كان سطح الأرض منقسمًا إلى سبعة أجزاء ماء وجزء واحد يابسة، فإنه ليس من الممكن أن يزيد قطر اليابسة على نصف قطر مساحة المياه.» ما معنى ذلك؟ إن الجذر التكعيبي للرقم ٧ يبلغ نحو ١٫٩٢، ونصف قطره الافتراضي هو نصف قطر مساحة المياه ومقداره ٠٫٩٦ من الوحدة. وبنفس المنطق، فإن شطر الجذر التكعيبي للواحد يعطينا «نصف قطر مساحة اليابسة»؛ أي ٠٫٥؛ ومن ثم إذا كانت كلٌّ من اليابسة والماء كرات تامة الاستدارة، فإن تلك القيم — نعم نعلم ذلك — تجعلنا نعيش تحت المحيط. صراحةً، لا أشعر بالانبهار تجاه منطق كوبرنيكوس. لِمَ لمْ يكن من الممكن أن ترتفع القارات عاليًا وتنحدر مثل أشواك قنفذ البحر من لب صخري دقيق يقع في أقصى أعماق البحر؟ بالمناسبة، كان كوبرنيكوس محقًّا في افتراضه؛ إذ بالرغم من أن الماء يغطي نسبة تقترب من ٧٥ في المائة من مساحة سطح كوكب الأرض، فإن محيطاتنا وبحارنا لا يتجاوز عمقها حوالي خمسة أميال، وهو ما يتبين أنه بالضبط ١ / ٧٩٢ من نصف قطر الكوكب.
وهنا نشاهد واحدة من السمات المذهلة لكتاب «عن دورات الأجرام السماوية»؛ إذ كثيرًا ما يتبين أن كوبرنيكوس «على حق» تمامًا، حتى دون وجود بيانات كافية، أو حتى لأسباب خاطئة تمامًا.
إنه يشير إلى أنه كلما كانت هناك مياه أكثر من اليابسة على كوكب الأرض، وكلما زادت رقعة البحار التي نبحر خلالها، انخفض مستوى قاع البحر وصار أكثر عمقًا. غير أننا نجد أن كل قارة وجزيرة تلي القارة والجزيرة التالية لها وهكذا؛ لهذا فهو يعتقد أن القاع لا يمكن أن يكون بالغ العمق على هذا النحو (مرة أخرى أعرض عليكم فكرتي عن قنفذ البحر الحجري). الحقيقة أنه يقول (وهنا يتجلى حدسه الفطري البارع المتميز) إننا نواصل العثور على أراضٍ جديدة مثل أمريكا، التي اكتُشفت قبل نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بواحد وخمسين عامًا. مع كل ما كان كوبرنيكوس يعلمه، كان من الممكن لتلك الأراضي الجديدة أن تنتهي إلى مناطق مجهولة، وفي هذه الحالة قد تكون المياه مع ذلك أكثر من اليابسة؛ غير أنه يجرؤ على كتابة العبارة الآتية: «لن ندهش كثيرًا لو كان هناك قطبان متضادان»، مثل قارة أنتاركتيكا، التي لم تُشاهَد إلا عام ١٨٢٠.
الكتاب الأول، الجزء ٤: دوائر أبدية، دوائر من حول دوائر
الآن وبعد أن أكَّد كوبرنيكوس، حسب قناعته هو على الأقل، ممَّ تتكون الأرض وكيف تشكَّلت، يبدأ في بحث لبِّ المسألة.
فيكتب قائلًا: «سوف نتذكر أن حركة الأجرام السماوية دائرية.»
من وجهة نظرنا المميزة والقائمة على المركزية، نحن نشاهد الشمس وهي تعبر من الشرق إلى الغرب كل يوم. أنا نفسي في أيام الصيف القطبي المتنوعة التي قضيتها استمتعت بمشهد الشمس التي لا تغرب أبدًا وهي تدور في أرجاء السماء مرات ومرات؛ لو أنني علمت موعد وجودها في مكان ما بالأمس، لأمكنني أن أسجِّل موقعها اليوم في نفس هذا التوقيت؛ ومن ثم أستخدمها كبوصلة (كوبرنيكوس: «حيثما يكون محور الأرض عموديًّا على الأفق لا يوجد شروق ولا غروب، غير أن جميع النجوم تتحرك في حركة دائرية … ويتطابق الأفق مع خط الاستواء»). ويصر الحس السليم على أننا في حالة سكون، وأن السماء هي التي تدور من حولنا. لِمَ لمْ يكن هذا هو ما يحدث فعلًا، لا سيما وأن الكتاب المقدس يمركز أحداثنا الدرامية المستمرة على هيئة خطايا ثم توبة ممكنة؟ إن بارمنيدس في مواجهة ديموقريطس ليسا سوى عقلين أحدهما في مواجهة الآخر، أما الهرطقة في مواجهة الحقيقة فأمرٌ مختلف تمامًا!
في أمر يقوض الحس السليم، يسير القمر عكس اتجاه الشمس؛ لهذا فإن الأوفياء لمبدأ بطليموس في حاجة لافتراض أنهما يدوران من حولنا وكلٌّ يجري في مداره المستقل. أو بالتعبير الدقيق لزميلي في فكرة عدم مركزية الأرض، الفلكي إريك ينسن: «الاتجاهان متطابقان؛ فكلاهما يبدي حركة يومية من الشرق إلى الغرب، مع انحراف أكثر تدريجية تجاه الشرق مقارنةً بالنجوم، ولكن «معدلات» الحركة متفاوتة (فالقمر يطلع متأخرًا ساعة كل ليلة مقارنةً بنجم معين، أما الشمس فلا تشرق متأخرة إلا بمقدار نحو أربع دقائق)، وهو السبب المفترض لاحتياج كلٍّ منهما لمدار خاص به.»
للأسف، القليل من الأفلاك المتوازية تخفق في تصوير «العالم» تصويرًا كافيًا؛ فأفلاك الكواكب الخمسة المعروفة تسكن مستواها المائل الخاص بها، أو بمصطلحات كوبرنيكوس (وهي هنا من جديد نفس مصطلحات بطليموس) تتبع «مسارًا مائلًا».
المسار الكسوفي ودائرة البروج
ما المسار الكسوفي؟ ولماذا قد يكون هذا المسار مائلًا؟
ذات مرة، تحت شمس ساطعة تدور، في فلك ما، قدَّم بطليموس لنا كونًا بديهيًّا ومعقولًا يمارس حركتين؛ إحداهما «تلك التي بواسطتها يتحرك كل شيء من الشرق إلى الغرب، دائمًا بنفس الطريقة وبنفس السرعة في دورات دائرية الشكل موازية بعضها لبعض، وتوصف بوضوح حول أقطاب فلك كروي دوار بانتظام.» تلك «الأقطاب السماوية» مساقط متفرعة من قطبي الأرض، ويقع في منتصف الطريق بينهما، أعظم الدوائر النجمية الموازية للدوران، «خط الاستواء السماوي»، وهو بالمثل مسقط من سَميه الأرضي.
بالرغم من مقولة بطليموس التي ذكر فيها عبارة «كل شيء»، فإنه لا تزال هناك فئة مثيرة للقلق من الأجرام السماوية — أي الشمس والقمر والكواكب — «تجعل بعض الحركات المعقدة بعينها غير مكافئة بعضها لبعض، وإنما هي في تضاد كامل مع الحركة العامة»، وهي ظاهرة يبدو أن أناكسيمينيس كان أول من رصدها وسجَّلها. عبر العصور المختلفة، كانت تلك الأفلاك موضع اهتمام بالغ من جانبنا فاق اهتمامنا بالأفلاك الأخرى؛ إذ إنها، حسبما تشرح إحدى قصص السحر التاريخية، «تظهر مبادرة من خلال مسارها المنفرد، وتعمل حسب قوانينها الخاصة، وتتحرك في اتجاه معاكس لاتجاه النجوم الثابتة، التي تسير في حركة جماعية.» ولهذا خصَّص لها بطليموس قسطًا كبيرًا من كتابه «المجسطي». إنها تتطلب منه «أن يفترض وجود حركة ثانية مختلفة عن الحركة العامة، وهي حركة حول قطبي تلك الدائرة المائلة أو الكسوفية.» التي تقابل خط مسير الشمس، وتعني حرفيًّا «المسار الذي من الجائز أن تحدث حالات الكسوف فوقه.» وهذه الحركة، التي تشكل فعليًّا فئة كاملة من الدورات المعقدة في اتجاه مضاد للاتجاه النجمي، ربما يُعبر عنها على نحو مفرط في التبسيط على النحو التالي: فيما يبدو تتبع الشمس مسارًا دائريًّا حولنا على مدار العام، في حين أن الزهرة والمريخ يدوران حولنا في سلسلة من المسارات اللولبية، مجتازَيْن المرة تلو المرة مسار الشمس، مسرعَيْن تارة ثم متباطئَيْن تارة أخرى، بل وأحيانًا يعودان للخلف متتبعَيْن الاتجاه العكسي (أي «متقهقرَيْن»). إن مدار المريخ، بالرغم من كونه أكثر انتظامًا بقدر طفيف، يظهر نفس أنماط المسارات اللولبية التي يُظهرها كوكب الزهرة؛ وكذلك تفعل مسارات الكوكبين الأكثر بُعدًا بكثير المشتري وزحل. وهكذا تهيم الكواكب ملتزمة بالمسار الكسوفي وخارجة عنه، في نطاق شريط يمتد حزام بروجه نحو ثماني درجات أو تسعٍ على الجانبين.
في منتصف القرن العشرين، قدَّم علماء الفلك نظريتين لتفسير التطابق التقريبي بين المستويات المدارية: إما أن الجاذبية الهائلة للمشتري تعمل على تناغم مسارات جيرانه، أو أن جميع الكواكب تشكَّلت دفعة واحدة. وقد فازت النظرية الثانية الآن بالمباراة. وفي كلتا الحالين، فإن اختلافها عن المستوى الكسوفي أمر يمكن تجاهله من وجهة النظر الكوبرنيكية فيما يتعلق بالدقة («لو أنني تمكنت من إجراء حساباتي بحيث تتفق نتائجها مع الحقيقة في نطاق خطأ لا يزيد على عشر درجات، لوجب عليَّ أن أطير فرحًا مثلما فعل فيثاغورس بالتأكيد»). ربما يكون كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» قدَّمها لهم باعتبارها حبات في مسبحة واحدة؛ لحسن طالع كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» أن طالب كوبرنيكوس نفسه بقدر من الدقة يزيد على عشر درجات عند حسابه لذلك النطاق، وهو بالطبع دائرة البروج. كان علماء الفلك في تلك الأيام — الذين كانوا يمارسون التنجيم إلى جانب اشتغالهم بالعلم — قد قسموها إلى اثنتي عشرة منطقة، كل منها تحتل ثلاثين درجة في دقة متناهية، جاعلين إياها أشبه بوجه ساعة هائلة الحجم تمثل عامًا كاملًا لتُناظر وجه الساعة النجمية الليلية. وتقديرًا منه لشخصية تلك الدائرة المقسمة إلى اثني عشر قسمًا، يطلق كوبرنيكوس عليها أحيانًا اسمها القديم وهو «دوديكاتيموريا» (وتعني المضلَّع الاثني عشري). كل منطقة سُميت باسم مجموعة نجمية هي الأبرز في نطاقها؛ ومن ثم عندما نقول إن الشمس في برج الحوت، أو إن المريخ دخل برج العقرب (اعتبرت شعوب منطقة «ما بين النهرين» أنه في تلك الحالة الأخيرة، كان مليكهم مهددًا بتعرضه للموت بلدغة عقرب)، فإننا نقصد أن الجرم السماوي المعني قد تجوَّل حتى دخل في محطة معينة داخل دائرة البروج. وعندما نذكر ذلك، فإنه يمكننا القول بطريقة أو بأخرى في أي شهر من السنة نكون، لكن ليس بدقة تامة؛ لأنه مثلما أن للسماوات دوائر من حول دوائر، يتباهى علم الفلك بالتعقيدات التي تتفاقم من فوق تعقيدات، ومن بين تلك الأمور المعقدة ما يعرف بالمبادرة، وهي دورة كل قطب سماوي بمعدل ثابت بحيث يكمل دورة واحدة كل ستة وعشرين قرنًا (وفي أيامنا هذه نعرِّف هذه الظاهرة بأنها دوران خط الاستواء السماوي نتيجة للجاذبية الشمسية والقمرية).
وقد كان حساب كوبرنيكوس لفترة المبادرة صحيحًا في حدود دقة قدرها ٩٫٩٩ في المائة من حساباتنا نحن.
الاعتدالان
وهكذا، تحوَّل ما كنا نظنهما نقطتين زمنيتين فيما يشبه السحر إلى زوجٍ من النقاط في الفضاء. وتصبح الأيام والليالي أجزاءً من دائرة. هذه هي عبقرية علم الفلك السابق على ظهور التليسكوب. سوف يتيح ذلك لكوبرنيكوس الترحال عبر فضاء فكري بين النجوم على المنوال التالي: «فترات النهار والليل متساوية في تناسب عكسي؛ لأنه على كل جانب من جانبَي الاعتدال تصف تلك الفترات أقواسًا متساوية من المتوازيات …»
الانبعاجات الكسوفية
كل شهر يمر سوف يكون معادلًا تقريبًا لساعة بحساب الدورة الشمسية الكسوفية، غير أنه معادل تقريبي ليس إلا. مثال ذلك، تكون شمس الصيف أعلى في السماء من شمس الشتاء.
لماذا كان من الضروري أن تكون هذه الحركة بالغة التعقيد على هذا النحو؟ لأن الشمس والكواكب يشتركون في كلٍّ من حركتَي بطليموس. وحسبما شرح توماس إس كون ذلك الأمر «في كل يوم تتحرك الشمس مسرعة باتجاه الغرب مع النجوم … وفي نفس الوقت تتحرك الشمس ببطء في اتجاه الشرق على امتداد المسار الكسوفي عبر النجوم.»
«أ» و«ب» يصير كلٌّ منهما «النجم الشمالي» ومحور دوران أرضنا يمر أقرب ما يكون إليه. يتعرج مسار خط الاستواء السماوي في تعامد مناظر لتعرج محور الدوران، ولكن الزاوية بين خط الاستواء والمسار الكسوفي تظل ثابتة.
خلال حقبتنا التي تؤمن بعدم مركزية الأرض بالنسبة للكون، نعرِّف المسار الكسوفي بأسلوب مناقض تمامًا للأسلوب الذي كنا نعرِّفه به قبل مجيء كوبرنيكوس؛ فلم يعد هو الدائرة العظمى التي تقطعها الشمس في سيرها من حولنا خلال عام، وإنما «الدائرة العظمى التي يتقاطع فيها مستوى مدار الأرض حول الشمس مع الكرة السماوية التي يجب اعتبارها هي الأعظم.» مع علمنا بذلك، ومعرفتنا أيضًا بأن الأرض تدور باستمرار حول محورها، نكتشف بعضًا من الرحلات المرصودة للمسار الكسوفي التي في حاجة إلى قدر أقل من الشروح المعقدة التي قدمها بطليموس. زِدْ على ذلك أننا نمتلك — وهو ما لم يكن كوبرنيكوس يمتلكه — الميزة شبه السحرية لقوانين الميكانيكا لنيوتن. إننا على علم تام بمفهوم يُدعى الجاذبية؛ ومن ثم فإننا نتقبل بسهولة ما قطع به فلكيونا من أن المستوى المداري للأرض يمر عبر خط واصل بين مركز الجاذبية في المنظومة الأرضية القمرية (ومن البديهي أنها نقطة مختلفة عن مركز الأرض وحدها) ومركز الشمس. وهذا الأمر يزيد من تشوُّه شكل مسارات الكسوف أكثر وأكثر؛ ويمكننا توسيع نطاق المشاهدة أكثر، لنكتشف المزيد من التشوهات لأسباب خفية لا نعلم عددها.
شكوى ضد حركات معاكسة
هذا كافٍ؛ فلقد تعرَّفنا الآن على العديد من النقاط المرجعية، التي ذكرها بطليموس، في سماء الليل؛ وسوف تكون تلك هي نقاطنا المرجعية نحن وكوبرنيكوس أيضًا.
فقط لو لم تكن الحركتان السماويتان متعارضتين، لكنا ساعتها صِرنا أحرارًا في تخيل جميع النجوم والكواكب والقمر، بل وحتى شمسنا، باعتبارها أجرامًا ثابتة على نفس الفلك الدوار القابل للحركة. كم كان الوجود سيصير مباشرًا وبسيطًا عندئذ في مركز كوننا المثالي، في أيدي ربٍّ لا يغفل ولا ينام!
الكتاب الأول، الجزء ٤ (تابع): «علينا مع كلٍّ أن نقر بأن الحركات دائرية»
لا عليك من الحركتين والتشوهات غير السارة للمسار الكسوفي. نحِّ جانبًا ما تسبِّبه المبادرة من إغاظة، التي تغير الأوضاع الاعتدالية بمقدار خمسين ثانية قوسية كل عام. لهذا السبب فإنه خلال السنوات السابقة على ظهور كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، تعذَّب كوبرنيكوس بسبب «حركة الكرة الثامنة، التي لم يتمكن الفلكيون القدماء من إمرارها لنا بأكملها مبررين ذلك ببطئها المتناهي.» تخيَّل أن الفلك الكروي للنجوم الثابتة يدور من حولنا خلال مدة تبلغ أربعًا وعشرين ساعة بالضبط؛ وتجاهل حقيقةً من الممكن أن تصيبك بالجنون؛ وهي أن كل نجم سوف يشرق مبكرًا الليلة عن موعده الذي أشرق فيه في الليلة الماضية بأربع دقائق.
حتى مع كل هذا، يتبين لنا أن «عالمنا» المسكين أكثر تعقيدًا مما كنا نأمل؛ «إذ إن الشمس والقمر يُرصدان وهما يتحركان أحيانًا أبطأ من المعهود وفي أحيان أخرى أسرع.» هذا ما يشكو منه كوبرنيكوس، «والشيء نفسه ينطبق على النجوم السيارة الخمسة. ونحن نرى النجوم السيارة تتقهقر أحيانًا إلى الوراء، وتصل إلى حد التوقف أحيانًا بين حركتين.»
حلُّ هذا المظهر المزعج للخلل السماوي — ولا بد أنه لا يزيد عن كونه كذلك، حيث «تبقى تلك الاختلالات بما يتوافق مع قانون ثابت وتعاود ما تفعله على فترات زمنية ثابتة» — يتمثل في أنه لا بد أن تدور الأجرام السماوية في دوائر من حول دوائر، أو — حسب الضرورة — دوائر من حول دوائر من حول دوائر. «من المتفق عليه أن حركاتها المنتظمة تبدو لنا غير منتظمة؛ سواء بسبب اختلاف أقطاب دوائرها بعضها عن بعض أو حتى بسبب أن الأرض ليست في مركز الدوائر التي تدور تلك الأجرام في فلكها.»
دوائر من حول دوائر! إنه أمر معقول؛ إنها الحقيقة المتلقاة، إنها تفسر الظواهر البادية لنا؛ وبطليموس يقول ذلك.
تنبيه
غير أن كوبرنيكوس ينهي هذا الجزء الملهم تمامًا من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بالتحدي التالي لبطليموس، ولنا ولنفسه: «علينا أن نظل متنبهين، وإلا عزَوْنا ما ينتمي إلى الأرض إلى أجرام سماوية.» وبالرغم من ولائه الأعمى لمبدأ الدورانية، سوف يكون أول من يفسر الحركات القهقرية للكواكب، وينوع الدوامات والحلزونيات الأخرى للأفلاك السماوية، من زاوية متفقة مع رؤية خارقة للطبيعة يوفرها التليسكوب الذي لم يكن قد ظهر بعد.