الحرق
… حدود التنظير الصحيح هي ذاتها حدود بنيان الكون؛ غير أن الديانة المسيحية فرضت بعض الأسوار حول التنظير الخاطئ … حتى لا يندفع الخطأ دون أن يجد ما يوقفه.
الكواكب المديشية
خلال «الساعة الأولى من الليل»، في يوم من أيام الشهر الأول من العام الميمون ١٦١٠، لاحظ جاليليو (وذكر عبارة قال فيها: «حيث لم ألحظ من قبل، بسبب ضعف أدواتي في السابق») أنه بجوار كوكب المشتري «هناك ثلاث نجيمات صغيرة، صغيرة حقًّا، لكنها شديدة اللمعان. وبالرغم من اعتقادي أنها من بين مجموعة النجوم الثابتة إلا أنها أثارت فضولي قليلًا؛ إذ كانت تبدو واقعة على خط مستقيم تمامًا موازٍ للمسار الشمسي، ولكونها أكثر بهاءً وروعة من الأخريات اللواتي في مثل حجمها.» وعلى مدار الليالي القليلة التالية، تغيَّرت مواقع تلك النجيمات، وكذا أعدادها، غير أنها لم تبتعد قط عن مضيفها، «مصاحبة لذلك الكوكب في كلٍّ من حركاته القهقرية والمباشرة في وتيرة ثابتة»، وهذا ما «يجعل المرء لا يرتاب للحظة أنها تكمل دوراتها حول المشتري وفي نفس الوقت تصنع جميعها حول مركز الكون دورة تقدر باثني عشر عامًا.»
ويستغل جاليليو «الكواكب المديشية» الأربعة تلك التي اكتشفها (اكتُشِفت تسعة وخمسون أخرى من تلك الكواكب حتى وقت كتابة هذه السطور؛ ثلاثة وعشرون من بينها رُصدت عام ٢٠٠٣) لدحض منتقدي كوبرنيكوس الذين «أزعجهم كثيرًا أن القمر وحده هو الذي يدور حول الأرض … فقد اعتقد البعض أن بنيان الكون على هذا النحو لا بد أن يقابل بالرفض باعتباره أمرًا مستحيلًا.»
نحن معشر المعتقدين في مركزية الأرض قد نريح أنفسنا بفكرة أن المدارات المحلية لتلك الكواكب المكتشفة حديثًا على الأقل تؤيد اعتقاد بطليموس — وكوبرنيكوس — في أفلاك التدوير، ولكن حتى إذا كان من الممكن حفظ المواءمات الهندسية التقليدية، تبقى حقيقة تقول إن دورات الأجرام السماوية لا يُشترط أن تكون متراكزة! وهكذا فإن اكتشاف أقمار المشتري تصبح الجرح التالي الذي أصاب كوننا العتيق المثالي، الذي كانت أفلاكه يومًا ما تدور في دأب حولنا وحول مصيرنا.
حتى الآن، يبدو استنتاج بطليموس أن الأرض «الكروية إلى حد معقول» التي لا تتحرك وتقبع في المركز الهندسي للسماوات، التي هي «كروية وتتحرك على هيئة كروية» يحقق التوافق على نحو جيد بين النظرية والحس العام. أما كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، فهو ليس فقط أقل تميزًا، بل أيضًا أقل وضوحًا من كتاب «المجسطي»؛ فالحس العام لم يسانده قط. لكن كيف يمكن لبطليموس أن يدافع عن تلك الحركات غير المتفقة بلا ريب مع مركزية الأرض التي تصدر عن أقمار المشتري؟ لقد تقلصت — كما ترى — حدود المشاهدة.
ذات مرة كتب بطليموس يقول: «الآن استخدمنا الأشياء المبينة في السابق فيما يختص بالشمس كما لو كانت لا تُظهر أي تزيح محسوس، لا لأننا لم نكن مدركين أن تزيُّحها عندما يُحسب لاحقًا سوف يصنع اختلافًا ما في تلك الأمور، ولكن لأننا لم نظن أن هناك أي خطأ ذي شأن يمكن أن ينتج عن هذا فيما يتعلق بالظواهر.» دعونا نجعل فكرته الشاعرية بداية لحكاية رمزية. والآن جاء المستقبل الذي تحدَّث عنه وبدأ كل شيء يُحسب، وتبيَّن أن الزلات الطفيفة التي لا ضرر منها لها وزنها. هذه خاتمة الرواية. من ذا الذي كان يظن هذا؟ إن نفس المصير سوف يلحق بكوبرنيكوس كذلك.
كم نحن جبناء ونحن ننفي المركزية عن أنفسنا! إن كوبرنيكوس يحتفظ بإيمانه بأن الأرض تظل في غاية الأهمية للكواكب المجاورة لنا، حتى إن الحركة الأرضية «تربط بين ترتيب وحجم الدوائر المدارية لتلك الكواكب في انسجام رائع وتكافؤ لا ريب فيه» (ما حجم التقدير الذي تعتقد أنه علينا أن نمنحه لكوكبنا الضئيل لكونه السبب في الشكل الذي عليه مدار كوكب المشتري؟) تذكَّرْ تيكو، الذي لم تتمكن السنوات الطويلة التي أمضاها في الرصد من إقناعه بالتخلي عن إعادة الأرض إلى مركز كون كوبرنيكوس. ولِمَ لا؟ كوبرنيكوس ذاته لم يستطع أن يمضي لأبعد من هذا: «لنفترض أن مركز العالم» — وهو ما يعني مركز الكون — هو «النقطة ف»، و«ف» في الغالب عند الشمس. في عام ١٦٢١، لن يتمكن كبلر العظيم إلا من ترك مركزية الأرض متقهقرة إلى الوراء بالقدر الكافي بحيث يسلط الضوء على «بنية الكون بأكمله» مع «وجود الشمس في مركزه»، وهو وضع يدافع عنه بالإشارة إلى الفلك الوارد بالنصوص المقدسة: الشمس والنجوم والكواكب في الفضاء الواقع بينها تعادل الأب والابن والروح القدس! الآن يعلمنا الفلك أن شمسنا إن هي إلا بقعة مجهولة من الغازات.
إننا ننظر إلى الكون بوصفه مكانًا مظلمًا شديد الاتساع تتناثر وسطه بقعٌ من النجوم والغبار. ولا يزال «عالَم» كوبرنيكوس، مثله مثل عالم كبلر، متمركزًا حول (نقطة عند الشمس أو بالقرب منها)، يستمد الألفة والحياة من أشعة الشمس: «إذ لما كانت الأجزاء الأخرى من العالم نقية ومملوءة بأشعة النهار، فإن هذا يبرر لنا القول إن الليل إن هو إلا ظل كوكب الأرض، الذي على شكل مخروط له نهاية مدببة.»
في يوم من الأيام، كان هذا الكون مكتملًا؛ كان «كوننا». إننا نعلم من النصوص المقدسة أن الرب «يمنحنا الشمس كي تضيء لنا نهارًا، والنظام الثابت للقمر والنجوم كي يضيء لنا ليلًا.» بقوة هذه الكلمة، وبمنطق كتاب «المجسطي»، لن يتغير فلك القمر أبدًا إلى يوم القيامة، ولكن في تلك الحقبة غير السارة التي أعيشها وأكتب فيها، يعلن المتخصصون الذين نفتقر إلى الثقافة التي تمكننا من الحكم على إجراءاتهم، أن قمرنا يبتعد تدريجيًّا عنا! لا يوجد نظام ثابت لأي شيء؛ ولهذا السبب يصرخ لوثر قائلًا: «هذا الأحمق يريد أن يطيح بكل الفن الذي يحويه الفلك! ولكن مثلما بيَّن الكتاب المقدس، فلقد أمر يوشع بن نون الشمس بأن تتوقف وليست الأرض.»
مسكين كوبرنيكوس! كم يمقته البروتستانت! يقول فيليب ميلانختون: «على الحكام المتمتعين بالحصافة أن يكبحوا ذلك الفسق الذي ينتاب العقل البشري.» ويقال إن كالفن شهَّر به على النحو التالي: «من ذا الذي يخاطر بوضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطة الروح القدس؟» (غير أنني لا أستطيع أن أتثبَّت من أعمال كالفن من موطني المنعزل الذي يشبه فارميا؛ وهناك مرجعية أخرى تؤكد لي: «كالفن الذي لم يسمع قط عن كوبرنيكوس، لم يتخذ أي موقف تجاهه».)
في يوم من الأيام، قد يتباين طول أيامنا وليالينا من فصل إلى آخر، غير أن الدورة تعيد نفسها دومًا. يقول لنا هؤلاء المتخصصون أنفسهم إن هذه الدورة يعتريها قصور فيما يتعلق بحالة الكمال الثابت، وإنها بالفعل تغيرت قبل هبوط أول رجل وامرأة على سطح الأرض بزمن طويل بعد أن أكلا من الشجرة المحرَّمة: كانت فترة دوران الأرض حول نفسها إحدى وعشرين ساعة يوميًّا في العصر الكمبري. ويومًا ما ستصير ستين يومًا.
«كل شيء» الآن أرضي؛ كل شيء يتسرب من بين أيدينا ويذوي، ونحن نعتبر ذلك أمرًا طبيعيًّا. يستنتج أحد مراجع الفلك الصادرة في أواخر القرن العشرين، وقد امتلأ بروح أرضية أنه: «مع أن الفلسفة التي تعتبر الجنس البشري كائنًا ثابتًا ذا ديمومة يعيش في بيئة لا تتغير، قد تكون ملائمة من الناحية العملية لفترات قصار كأعمار البشر أو قرون من الزمان، فإن فلسفة كهذه لا يمكن الدفاع عنها بالمقياس الكوني.» ما الذي كان سيصنعه رجال الكنيسة الذين كرهوا كوبرنيكوس من قبل حيال ذلك الأمر؟
ما الذي قوَّض العقيدة الدينية؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الفيلسوف إميل إل فاكنهايم. وهو يجيب عن السؤال الذي طرحه هو نفسه بالإجابة التالية: «قد يقول معظم الناس: العلم الحديث. إن القصة تبدأ بكوبرنيكوس، الذي يبيِّن لنا أن الأرض ليست سوى واحدة من العديد من النجوم [حسب تعبيره]؛ واستكمل داروين القصة … لتبلغ ذروتها مع مجيء فرويد …»
أما جاك بارزون، فمن جانبه يرى أن كوبرنيكوس صنع بنا معروفًا؛ لأنه أزاحنا عن مركز الكون، «عندما كان الناس يعتبرون أنفسهم مخلوقات عاصية بائسة تخاف من ربٍّ غاضب.» وفي صورة أكثر تفاؤلًا من تلك، يرى أحد فيزيائيي بدايات القرن العشرين في مقصد الثورة الكوبرنيكية «النصر النهائي للميكانيكا السماوية، نصرًا سلب الكواكب هيمنتها التي طال أمدها على حياة البشر.» ولكن حتى لو كان أولئك الناس على صواب، وكانت الآراء المعنية بالكون القديم متصلبة، بغضِّ النظر عن خبثها من عدمه، فهي على الأقل كانت آراءً. الآن بدأنا نخشى أن تصير «سماء السلطة من فوقنا» التي تكلَّم عنها أوجستين خاوية. ماذا لو اختفى الإله؟ وقد كتب نيتشه يقول بعد حوالي أكثر من قرنين من اكتشاف جاليليو لأقمار المشتري: «مات الإله.»
ماذا لو كان الفضاء عبارة عن خواء في الأساس، وكانت الذرات التي صُنعنا منها عبارة عن فضاء خاوٍ؟ ليس بمقدورنا احتمال هذا الأمر (وهنا أُورِد عبارة من «موسوعة القرن العشرين للكاثوليكية» تقول: «إننا الآن نعلم أن الشمس، النجم الذي تدور في فلكه الأرض والكواكب، تُشكِّل جزءًا من منظومة هائلة من النجوم التي تُعرف باسم المجرة»). واستنادًا إلى هذا الاحتمال، يؤكد كبلر في استماتة: «الشمس هي الجرم الرئيسي للعالم بأكمله.»
كوبرنيكي في إصرار
إن الكون يصرخ، غير أنه سوف يدافع عن نفسه، خاصةً عن طريق البابا الجديد، أوربان الثامن، ونوابه الذين يعتبرهم أحد المؤرخين الأكثر مني سخاءً «أول ضحايا عصر العلم الذين انتابتهم حالة من الحيرة.» أولًا — وأخيرًا وعلى نحو يمكن التكهن به — هو ينكر الجرح ويرفضه. في لايدن، نشر بيتر دي بيرت كتابًا عام ١٦٠٤ يضع فيه الأرض الساكنة التي لا تتحرك في مركز الكون. ويخبرنا البعض بأن كراكوف وأكسفورد وسالامانكا فقط هي المدن التي لا تقف في معارضة صريحة للمنظومة الكوبرنيكية. وربما كانت تلك القائمة من المدن مبالغًا في طولها أيضًا؛ إذ إنه في عام ١٥٨٣، وبعدها من جديد في العام التالي، عندما تجرَّأ قارئ مثير للجدل مهتم بقراءة الكتب المحرمة يُدعى جوردانو برونو (الدليل على أنه خطر داهم يتهدد كوننا المتمركز أنه حُرِم من دخول الكنيسة ليس من قبل الكاثوليكيين فحسب، وإنما من قبل الكالفنيين أيضًا) على إلقاء محاضرة عن الكوبرنيكية في أكسفورد، سرعان ما شرع هو ومستمعوه في الصياح بعضهم في بعض. نعم، ظل الكون صامدًا، وظلت الأرض دون حراك في أكسفورد.
كان الشاب تيكو براهي قد اكتشف منذ زمن طويل أن التنبؤات الكوبرنيكية تطغى على دقة الجداول الألفونسية العتيقة. وكما رأينا، فإنه يفتقر إلى وسيلة لقياس التزيحات النجمية التي تحتاج إليها نظرية كوبرنيكوس؛ لهذا، وتشبثًا بهيكل الكون القديم الذي تحوَّل إلى أطلال، يطرح أن بعض الكواكب ربما كانت تدور حول الشمس، وأن الشمس وكل ما عداها تواصِل الدوران حول الأرض.
بالنسبة لنا، يبدو لنا نظام تيكو اصطناعيًّا مثل أنف تيكو نفسه، الذي كان مصنوعًا من الكهرمان عوضًا عن الأنف الطبيعي الذي قطعه سيف أحد محترفي المبارزة؛ ومع ذلك، فإنه يؤدي مهمة «تفسير الظواهر» بنفس الإتقان الذي حقَّقه كوبرنيكوس. لا ريب أن عددًا منا ممتنون لحدود المشاهدة التي جعلت نظام تيكو مقبولًا لسنوات عديدة أخرى. سوف يحتفظ قلة من الأتقياء بإيمانهم بمركزية الأرض حتى مرور قدر معتبر من القرن التاسع عشر.
إن الكون يصرخ، غير أن الهجمات عليه لا تزداد سوى حدة وشراسة. ومع أن نسخ الطبعة الأولى من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» لم تُبَع بالكامل قط، وهي تلك التي مهرها أوزياندر بخاتمه الحصيف في نورنبرج، يبدو أنه لم يكن هناك مهرب منها؛ إذ أُعيد نشرها في بازل عام ١٥٦٠، ثم مرة أخرى عام ١٦١٧ في أمستردام. ويرفع جوردانو برونو، الذي كان من المفترض عليه الآن أن يتعلم فضيلة الصمت، الغطرسة الكوبرنيكية إلى القمم الفلكية متجاوزًا كرة النجوم الثابتة عندما يعلِّق بقوله: إن مقدمة أوزياندر لا يمكن أن يكتبها إلا أحمق جاهل من أجل خاطر حمقى أغبياء آخرين. أو بمعنى آخر: إن الأرض تتحرك بالفعل!
لا تزال الحركة الدائرية المنتظمة هي المفترضة. أفلاك التدوير واللاتراكزية، وغيرها، غير مبينة بالشكل.
إن برونو يطالب بخلع صفة حرفية النص المقدس على كوبرنيكوس. فأين إذن ستوضع النصوص المقدسة؟
يكتب المؤرخ دوجا قائلًا: «لقد كان موقف برونو راديكاليًّا قدر الإمكان؛ فهو دمَّر العالم الأرسطي تمامًا وأفسح المجال لعلم جديد، لم يؤسِّسه هو بنفسه، ولكنه تنبَّأ به.» إذا لم يكن هذا التعبير واضحًا بما يكفي، فدعوني أقتبس من نفس المصدر: «كان برونو كوبرنيكيًّا في إصرار.»
الفارق الذي غالبًا ما يشار إليه هو أن كوبرنيكوس دأب على القول إن الكون متناهٍ؛ في حين كان برونو يقول إنه لامتناهٍ. لا عجب أن الكنيسة سلَّطت غضبها المكبوت على برونو.
في عام ١٥٨٩ حُكم عليه للمرة الثالثة بالحرمان الكنسي، وهذه المرة على يد اللوثريين المخلصين بمدينة هيلمشتيد، وفي عام ١٥٩٠ رُفِض طلبه الإقامة في فرانكفورت، وفي عام ١٥٩١ يغريه أحد النبلاء الرومان بالعودة إلى إيطاليا ثم ينقلب عليه، وفي عام ١٥٩٢ تبدأ محاكمته بتهمة الهرطقة في مدينة البندقية. وقام ديوان محكمة التفتيش بتسليمه إلى روما، ريثما يجري إعداد التهم التي ستوجَّه إليه بتدقيق شديد — كما ترى، نحن منقذي المركزية لا نقلُّ إجادة عن العلماء! — على مدى السنوات السبع التالية. ويدينه البابا. وفي الثامن من فبراير من عام ١٦٠٠ يقول للمحققين قولته الشهيرة: «لعل خوفكم من إصدار الحكم عليَّ أعظم من خوفي من تلقِّيه.» وبعدها بتسعة أيام أحرقوه على الخازوق، بعد أن شكموا لسانه بلجام حتى لا تؤذي صرخاته الأخيرة أسماع الكون بعد ذلك.
«كم كانت ستبلغ سعادتك!»
اندفع جاليليو، وقد غاب عن إدراكه التحذير الضمني الوارد بمقدمة أوزياندر، في نفس الاتجاه الحرفي مثلما فعل برونو: «أوه، نيكولاس كوبرنيكوس، كم كانت ستبلغ سعادتك لو رأيت ذلك الجزء من منظومتك مدعومًا بهذه التجارب الواضحة وضوح الشمس!» كان ينبغي عليه أن يقول كم كان سيبلغ «هلع» كوبرنيكوس، وكم كان سيبلغ هلعه هو شخصيًّا …
معروف عنه أن جاليليو اتصل بذلك المخرِّب الخطير الآخر — وأعني به كبلر — واعترف له أنه من مؤيدي كوبرنيكوس. لا لم يَفُتْه أي تحذير؛ ففي خطاب وجَّهه إلى كبلر أقرَّ بخوفه …
ثم يكشف تليسكوبه النقاب عن الفوهات الصدمية للقمر، أو البقع الشمسية. لقد قيل إن «كوبرنيكوس عثر على حجته الرئيسية التي دعته لإعادة تنظيم الكون في تناغمه المفترض.» لكن انظر إلامَ قادنا ذلك التناغم! لقد ساد الخوف بين الناس من عواقب الهرطقة في كل مكان. ولا عجب أن كثيرين جدًّا يرفضون النظر من خلال عدسة جاليليو. ولا أظن أن بندول فوكو كان موضع ترحيب، هو الآخر.
«لا تزال القيم الحديثة الظهور في حاجة لتبرير فكري»
كتب كبلر، عام ١٥٩٣، رسالة بحثية عن القمر والأرض الدوارة، وطلب أحد زملائه الطلاب الإذن من هيئة التدريس والإدارة في توبنجن بعقد مناظرة حول هذا الموضوع. وتأييدًا من جانب اللوثريين الأتقياء للكون على حاله، أنكروا ذلك الطلب. ولم يمضِ وقت طويل بعدها، حتى حظروا نشر الفصل الأول من أول كتاب يؤلفه كبلر بعنوان «الغموض الكوني»؛ لأنه يعارض تفسيرات الكتاب المقدس المناهضة للنظرية الكوبرنيكية.
وهكذا تمضي سيرة مهنية أخرى حسبما هو متوقع. ففي عام ١٦٠٥ يقبل كبلر أخيرًا ما تفرضه الضرورة الحتمية، ويفترض المدارات التي على هيئة قطع ناقص، ولكنه مثلما فعل كوبرنيكوس من قبله، يؤجل النشر. وفي عام ١٦١١، يجد نفسه مستبعدًا من كرسي الأستاذية بجامعة توبنجن؛ لأنه من الجائز جدًّا أن «يثير قدرًا كبيرًا من الاضطراب بالجامعة»، أو، حسبما قيل على نحو أكثر مداهنة (في موضوع عن واحد من السابقين على كوبرنيكوس، هو نيقولا أوف كيوزا): «العناصر التقليدية والمتحفظة الآتية من العصور الوسطى التي لم تنتهِ بعدُ تلتقي، وغالبًا ما تصطدم، بقيم حديثة العهد لا تزال في حاجة لتبريرٍ فكري.»
كم مرة عليَّ أن أذكر تلك النقطة، وبكم أسلوب، حتى تصبح مفهومة عاطفيًّا، ليس من أجلك وحدك، عزيزي القارئ المجهول، وإنما من أجلي أنا أيضًا؟ كيف يمكننا أن نأمل في الإحساس بذلك الكون الآخر الذي أسهم كوبرنيكوس في تدميره؟ إننا لم نَعِش فيه قط؛ ويصعب علينا تخيله. «الإنسان هو مقياس كل شيء.» أي فيزيائي وأي كيميائي أو عالم أحياء يمكنه ممارسة تخصصه اليوم بناءً على تلك الشروط؟ يحكي أحد المؤرخين المنتمين لعصر المسيحية الرمزية الأول أنه ذات يوم من الأيام، «كان الكون برمته … يتكوَّن من آيات ربانية، أو كان من الممكن أن يصير آية ربانية.» ولا تزال لدينا حرية تخيل ما تخيله القديس ديونيسيوس الأريوباغي الزائف قبل مجيء كوبرنيكوس بألف عام: وميض البرق واللهب، المجهولين، اللذين لا يوصفان. تلك الأمور موجودة بالفعل، في المستعرات العظمى والثقوب السوداء، في الفضاء الشاسع للكون الذي لم يستكشف بعد. بالنسبة لي هي كافية، أما بالنسبة للأساتذة المثقفين بجامعة توبنجن، كيف يمكن أن تكون كافية؟ وأين كان نظامهم المتوازن القائم على مركزية الأرض؟
في عام ١٦١٩، يدرج كتاب كبلر بعنوان «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» على لائحة الكتب المحظورة. هذا رجل حوكمت أمُّه بتهمة ممارسة أعمال السحر، حتى إنها أُدخلت إلى غرفة التعذيب. أوه، إنه، دون شك، غريب الأطوار؛ إنه خطير! وقد اعترف في خطاب خاص قائلًا: «جميع كتبي كوبرنيكية.»
«عودة آمنة إلى أرض صُلبة»
استهللت كتابي المتواضع هذا برواية رمزية عن مقدمة أوزياندر، والآن أختتمه بها.
يمكننا أن نتخيل «علم الفلك الوارد بالنصوص المقدسة» ومبدأ مركزية الشمس على هيئة جرمين سماويين يدوران ويدوران حول شمس المجهول المشتركة بينهما: في بعض الأحيان يبلغان نقطة اقتران سفلي، وكان كوبرنيكوس محظوظًا للغاية؛ لأنه أنجز عمله في واحد من تلك الأزمنة؛ ولكن حركاتهما المدارية المتباينة تجذبهما حتمًا بعيدًا أحدهما عن الآخر، إلى أن يلتقيا أخيرًا من جديد عند نقطة الاقتران العلوي؛ التقى كلٌّ من برونو وجاليليو بمصيره المحتوم كلٌّ على حدة بسبب ذلك التصادف في الزمان والمكان، وبنفس القدر، بسبب تعصبهما لأفكارهما.
في عام ١٥٣٦، من الجائز أن الكاردينال نيكولاس شونبيج قدَّم عرضًا كريمًا بدعم نشر مؤلفات كوبرنيكوس، في حين أنه في عام ١٦١٢، يوجِّه باولو جوالدو تحذيرًا لجاليليو يقول فيه: «أما بالنسبة لهذا الشأن المتعلق بأن الأرض تدور، فإنني لم أجد في هذا الصدد أي فيلسوف أو عالم فلك مستعدًّا للتصديق على آراء سيادتكم، ناهيك عن عالم لاهوت؛ لذا أرجو أن تفكر جيدًا قبل أن تنظر في هذا الرأي بحسم؛ إذ إن الجدل قد يؤدي إلى إطلاق كثير من الأشياء يكون من غير الحكمة تأكيدها.»
أو بعبارة أخرى: فُرِضت علينا مقدمة أوزياندر، مثلما فُرض علينا القمر والنجوم، لسبب ما!
غير أن جاليليو واصل التأكيد على ما ليس من الحكمة توكيده؛ أما كوبرنيكوس فمن جانبه رفض بأدب طلب الكاردينال شونبيج. يا لهما من قصتين متضادتين يرويهما لنا هذان البطلان!
يرى أحد الفلكيين المعاصرين — وله تبريره الواضح — أن كوبرنيكوس «كان مطمئنًّا لفكرة نشر القيم المجدولة للمواقع الكوكبية، غير أنه كان أقل حماسًا بكثير لاحتمال استفزاز زملائه بنشر نظريات جديدة.» يقول البعض إن كوبرنيكوس لم يكن يخشى شيئًا أكثر من احتقارهم له؛ ويقول البعض الآخر إنه «يجب ألا نعتبر المزاج السائد في تلك الأيام أمرًا وهميًّا … لقد كان كوبرنيكوس مدركًا تمامًا للأخطار المحدقة به.» أوه، أجل؛ لقد سار في حذر شديد خلال المنطقة المتنازع عليها! في عام ١٥٣٩، أعدَّ المتعاطف ريتيكوس موجزًا لأول ثلاثة أرباع من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، فلم يكن يدعوه إلا بكلمة «أستاذي»، أو «السيد الدكتور»؛ بناءً على طلبه حسبما يجب أن نفترض.
من جانبه، لم يكتفِ جاليليو بإبدائه عدم الشعور بتلك الرهبة، وإنما أبدى كذلك «غضبه» الوقائي وكأنه ساخط بالنيابة عن كوبرنيكوس الذي غيَّبه الموت، والذي كان يسميه «سيدنا». إن الجدل قد يؤدي إلى إطلاق كثير من الأشياء يكون من غير الحكمة تأكيدها؛ لقد أنقذ أوزياندر كوبرنيكوس من تأكيد تلك الأشياء، غير أن باولو جوالدو لا يملك أي سلطة على جاليليو، الذي — في تصوره المسبق لما سيكون عليه شاهد قبره — يعلِّق قائلًا: إن كوبرنيكوس «صنع لنفسه شهرة خالدة وسط قلة من الناس، لكنه انحطَّ في عيون قطيع كبير من الناس (تلك هي الطريقة التي يوصف بها الحمقى)، فلم يجد بينهم سوى السخرية وتلويث السمعة.»
ومن ثم، من بعد كوبرنيكوس، تأهَّب جاليليو لتسديد طعنات جديدة للكون!
فهو لم يكتفِ باكتشاف البقع الشمسية؛ وإنما ما هو أسوأ من ذلك، فقد تتبعها، بما يبرهن على دوران الشمس حول محورها. حسنًا، هذا الأمر لم يقضِ على المركزية بعد؛ فبطليموس لم يمانع في أن تدور الأجرام السماوية حول نفسها في الوقت الذي تدور فيه من حولنا …
ويتذمَّر جاليليو من أولئك «المتخمين بعناد الأفاعي» الذين يأبون النظر من خلال عدسات تليسكوبه. ألا يفهم أن مقاومتهم للرؤية من الممكن أن تحفظ حياته مثلما كانت الحال مع كوبرنيكوس؟
ويبعث الكاردينال بيلارمينو برسالة ودية إلى باولو أنطونيو فوسكاريني يقول فيها: «يبدو لي أن نيافتك والسيد جاليليو تتصرفان بحكمة عندما ترضيان نفسيكما من خلال الحديث بصورة افتراضية وليس بصورة مطلقة، مثلما كنت دائمًا أفهم كوبرنيكوس عندما يتكلم.»
أو بمعنى آخر: كان يمكننا التعايش مع مركزية الشمس لو أنها اكتفت بإخفاء عُريها بمقدار ضئيل، مثلما تبرز منارة الكنيسة البولندية من خلف الضباب والأشجار فلا يُشاهَد سوى نصفها فقط.
ومع ذلك لن يصغي جاليليو.
إن محكمة التفتيش، بعدم اكتراثها بحقوق المتهمين، وبميلها نحو التهام الضحايا وأخذهم بمجرد الشبهات، يمكن وصفها وفقًا لأحد المؤرخين الذي قال إنها: «نظام يبدو بحقٍّ من ابتكار الأبالسة.» فيما يتعلق بقضية جاليليو ينبغي الإقرار بأنه حكم على نفسه بالإدانة مرارًا وتكرارًا، مرتكبًا دون كلل أو ملل خطيئة التحدث على نحو جازم ومطلق لا افتراضًا. وبهذا هم ينقذوننا منه.
عقب تحليل مجلدين من نصوص الأحكام التي أصدرتها محاكم التفتيش الرومانية والأبرشية خلال الأعوام من ١٥٨٠–١٥٨٢، يتوصل الباحث تيديسكي إلى أن ما يقرب من نصف تلك الأحكام صدرت في جمهورية البندقية، وما يقرب من نصفها لصالح العقيدة البروتستانتية، وأكثر من الربع بقليل كان بتهمة ممارسة أعمال السحر والشعوذة، ولم يصدر أيٌّ منها تقريبًا (١٠ من بين ٢٢٥) بتهمة «المعارضة». في إيجاز، مثلما نتوقع فيما يتعلق بالشئون الدنيوية، فإن المحلية تسود، ولا ينصبُّ أقصى اهتمام للعقوبات على الفنون السوداء وما شابهها من أشكال التخريب القصوى، وإنما على نسخة منافسة من نفس العقيدة. والآن، ماذا عن تلك الفئة التي تعدُّ من الأقلية، وهي فئة المعارضين؟ ربما تبدو تلك هي خطيئة جاليليو. هل كان تحدي السلطات نادرًا إلى هذه الدرجة في تلك الأيام؟
أوه، هو دون شك شخص نادر الوجود. كان كوبرنيكوس يهمهم لغيره من العلماء قائلًا: «مشكلتنا أن نعثر على القوس «ف ﺟ» الذي يمثل نصف التراجع.» غير أن جاليليو يصرخ بأعلى صوته: «إن الأرض تتحرك!»
أُخطرت على نحو قاطع من قِبل المكتب المقدس أنني متهم بقوة بالهرطقة؛ بمعنى أنني أعتقد وأومن بأن الشمس في مركز العالم وهي ثابتة لا تتحرك، وأن الأرض ليست في مركز العالم وأنها تتحرك …
مبدأ شرير، مبدأ كوبرنيكي، يرتد عنه وهو راكع. ومستقبله: التحقير، الفزع، الإقامة الجبرية حتى الموت. لقد نجا الكون من الهلاك.
عام ١٦١٦ يكتب أنطونيو كويرينجو في رضًا، بمجرد سماعه لنبأ حظر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» «لحين تصويب أخطائه» (سوف يُحظر كتاب كبلر «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» بالمثل، بعدها بعامين): «إذن ها نحن أخيرًا، عدنا من جديد نقف على أرض صلبة، ولم نعد مضطرين للطيران معها مثل كمٍّ هائل من النمل الذي يزحف على سطح منطاد يطير …»