ما كنا نؤمن به: علم الكونيات
كتب كوبرنيكوس ذات يوم لأسقف فارميا قائلًا: «عادةً ما يمنح التنوع متعة أعظم من أي شيء آخر.» وأملًا مني في أن تشاركني هذه المشاعر، اخترت أن أقدم فصول الشروح بالتناوب مع فصول تتحدث في موضوعات أخرى.
ومن ثم دعونا نتوقف من جديد كي نفتش في الكون المتطور لأسلاف كوبرنيكوس.
المركزية باعتبارها أمرًا حتميًّا
تحدثنا سريعًا عن ظهور شبه إجماع فيما يتعلق بكروية الأرض؛ لأن الآراء المنافسة كانت اختفت في الأساس قبل تأليف كوبرنيكوس لكتابه بقرون. كذلك كان «لمكان» تلك الأرض وحركتها أو سكونها نصيب من هذا الإجماع؛ إجماع بطلمي، كانت مهمة كوبرنيكوس هي القضاء عليه.
إذ إنهم يرون الشمس والقمر والنجوم الأخرى تتحرك دومًا من المشرق إلى المغرب في دوائر متوازية، بادئة الحركة لأعلى وآتية من أسفل، كما لو كانت تخرج من الأرض ذاتها، لتصعد شيئًا فشيئًا نحو القمة، ثم تعود لتدور من جديد فتهبط بنفس الطريقة وهكذا … الفلك الدائري المرصود لتلك النجوم المرئية دائمًا، ودورانها حول نفس المركز دائمًا، يربطانها بتلك الحركة الكروية … ثم رأوا أن تلك النجوم القريبة من النجوم المرئية دائمًا، اختفت لفترة قصيرة، وأن تلك الأبعد اختفت لفترة أطول نسبيًّا.
(فوق سطح كوكب الزهرة تطلع الشمس من الغرب، نتيجة للدوران المميز لذلك الكوكب؛ وزد على ذلك أنه ليست له أقمار، لكن لا تُلقِ بالًا لذلك.)
أينما كنا، لِم «لا» نضع أنفسنا في مركز الكون؟ لعلنا نتخير تعريف المركز بأنه قطب سماوي يبدو أن جميع النجوم تدور من حوله، ولكن حتى ذلك لن يزيد عن أقرب قطب لكوكب الراصد، ناتئًا لأعلى مباشرةً على استقامته نحو قبة سماوية دوارة فيما يبدو. أيًّا كان الأسلوب الذي ننظر به إلى الأمر، فالبديهة تحثنا على جعلنا مركزًا «للعالم» من حولنا.
اثنتا عشرة هرطقة
من هنا «لا توجد مصادفة» (بالتعبير الماركسي النمطي) في أنه قبل مجيء المسيح بثلاثة قرون، ومن ثم قبل مجيء كوبرنيكوس بثمانية عشر قرنًا من الزمان، تعرَّض أرسطرخس الساموسي للتوبيخ باعتباره مهرطقًا ومخطئًا: فقد تجرَّأ على القول إننا ندور في فلك الشمس!
هل ذكرت أن اسمه حُذِف من مخطوطة كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»؟ ربما شعر كوبرنيكوس بعدم ضرورة ذكر هذا المثال الكلاسيكي تحديدًا. هكذا قرأت. ومن ناحية أخرى، ربما لم يحدث الحذف إلا في اللفافة الحاوية للصفحة الحادية عشرة؛ أما في مواضع أخرى فقد ظل اسم أرسطرخس باقيًا. فما الذي نستنتجه من ذلك؟ هل كان الإقصاء مجرد مراوغة خبيثة، مثلها مثل مقدمة أوزياندر، مقصود منها إرضاء صائدي الأخطاء الذين ما كانوا ليقرءوا أبدًا ما بعد الصفحة الثانية عشرة؟ أم أنه كان بلا معنًى؟
على أي الأحوال، كان أرسطرخس الأول، وفق ما ذكره أحد الباحثين الكوبرنيكيين. أو — إذا كنت تفضل — لم يكن أولهم؛ فقبل أن ينقضي القرن الخامس قبل الميلاد بوقت قصير، وضع أحد الفلاسفة واسمه فيلولاوس نظرية منافية للعقل والمنطق تقول إن الأرض تدور حول نار مركزية تحترق من تحتنا. وتعلن إحدى سير القديسين أنه «من هذا الرأي، تبنَّى كوبرنيكوس فكرة أن الأرض تتحرك.»
لم يكن الإجماع البطلمي عندما جاء استبداديًّا بأي حال؛ فمركزية الشمس يقال إنها «ذُكرت من قبل على لسان ما لا يقل عن اثني عشر فيلسوفًا بدءًا من أفلاطون وحتى كوبرنيكوس»، وكان بعض الأشخاص واسعي الأفق يدوِّنون ذلك أحيانًا. فمع اقتراب بدء القرن الثاني عشر على سبيل المثال، نجد عالمًا يُدعى أديلار أوف باث وقد عاد لتوه من دراساته للعلوم الطبيعية بين العرب ليشرح مختلف «التساؤلات في أمور الطبيعة»، وكان السؤال الخمسون منها هو «كيف تتحرك الأرض؟»
لكن أحد المعلقين يبدي ملاحظة حول عمل بطليموس العظيم يقول فيها إن هذا العمل كان من «الاكتمال والإتقان بمكان، حتى إنه في أغلب الأحوال يغطي مناهج الاكتشاف، ونظريته القائلة إن الأرض هي محور الكون لا يناقضها سوى أوهن الإشارات إلى معارضيها من أنصار مركزية الشمس.»
مقياس الرسم: غير معلوم. لا يزال ترتيب أفلاك الزهرة وعطارد والشمس مثار جدل. حُذفت أفلاك التدوير والموازِنات للتبسيط، لكن اتجاه الدوائر اللامتراكزة الخاصة بأفلاك التدوير مشار إليها.
المسافات النسبية بين الكواكب جرى حسابها في أيامنا هذه بالتقريب، وبالمثل جرى حساب الفترات الكوكبية. إن كون كوبرنيكوس يشبه الكون الذي نعرفه الآن، لو أننا لم نكن نملك تليسكوبات ولم نستبعد فكرة كرة النجوم الثابتة والحركة الدائرية المنتظمة.
في هذه النسخة المبسطة، أشير إلى الدوائر اللامتراكزة، وأشير بالكاد إلى أفلاك التدوير (لاحظ أن الأسهم تدور في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي نادى به بطليموس). وكالمعتاد، تركتُ الحركة المزعجة لعطارد وحدها.
تبريرات بطليموس
فماذا إذن كانت حجج بطليموس المنادية بمركزية أرضنا؟
«لا بد» أن الأرض تقع في وسط جميع ما عداها، وإلا ما كان الأفق ليشطر سماء الليل مثلما يفعل على نحو بالغ الدقة.
لو كانت الأرض خارج المحور الذي يدور الكون من حوله، لكانت الاعتدالات تقع في أوقات متفاوتة، أو لا تحدث على الإطلاق. تذكَّر أن بطليموس عرَّف الاعتدالين فعلًا بأنهما نقطتان تقعان عند منتصف المسافة في محيط الدائرة الكسوفية الظاهرة، وهو ما يضيف بالتأكيد قابلية لفهم الطرح القائل إنه لو كانت الأرض موضوعة خارج مركز تلك الدائرة، لكانت الفترتان الفاصلتان بين الاعتدالين صارتا غير متساويتين (والقول بالقول يذكر، مَن ذا الذي يعبأ بالاعتدالين إذا تهاويا؟ ليس أقلهم أهمية هؤلاء المنجمون اليهود في العصور الوسطى؛ لأنه في تلك الأزمنة، وخلال فترة الانقلابين أيضًا، كان يقال إن الماء يصبح سامًّا).
الحجة التالية دفاعًا عن مركزية الأرض: لو كانت الأرض — فرضًا — واقعة إلى الشرق من المحور الكوني، لبدت النجوم الشرقية أكبر حجمًا من النجوم الغربية. وهو زعم محبط؛ إذ إن بطليموس أقرَّ بالفعل أن الكون هائل الحجم، وأن النجوم بعيدة بعدًا سحيقًا بما يكفي لعدم تمكننا من قياس «تزيُّح» أي نجم (سوف نناقش هذا المصطلح في أوانه عند بحثنا لمدار كوكب الزهرة). لماذا إذن كان من الواجب على أي امرئ أن يتوقع ملاحظة وجود تباينات في حجم النجمة نتيجة للتباين «الموضعي»؟ ولكن — وهذه النقطة يجب التأكيد عليها دائمًا — لم يفهم بطليموس ولا كوبرنيكوس بالفعل مدى اتساع الكون.
الأفنية البولندية
كل تطور في تاريخ علم الفلك يحاكي تطورًا مثله في أروقة زمن كوبرنيكوس المقوسة. إننا نجتاز عتبة باب ضيق تفرضه علينا الضرورة؛ كي ندلف نحو فناء عالم آخر مفتوح السماوات، وهو عالم الحرية، لكنا مع ذلك نظل بالداخل في حقيقة الأمر؛ فلا يزال الخطأ يحاصرنا داخل جدرانه، إلى أن نصل إلى النهاية الحقة؛ عندما حطم كوبرنيكوس وكبلر ونيوتن أسوار الكون؛ فلما تهاوت تلك الأسوار ألفينا أنفسنا وحدنا وسط ظلام هيرشل الذي لا نهاية له.
مع أنه لتلك الجدران صفة الديمومة، فإنها تميل إلى التشكُّل على هيئة أفلاك دائرية. ويقال إن أناكسيمينيس كان أول من تخيَّل كرة شفافة مفسرًا بها السماوات الدوارة. بعدها جاءت فكرة الأفلاك الستة والعشرين لإيدوكسوس (الذي افترض وجود أفلاك من داخل أفلاك)، ثم الثلاثة والثلاثين فلكًا لكاليبوس، والاثنين والخمسين فلكًا لأرسطو … كل فناء يفضي إلى مجاز مقنطر جديد، ثم إلى فناء آخر، وهلمَّ جرًّا.
في مخطط بارمنيدس، نحن نسكن داخل نيران؛ ثم يأتي القمر والنجوم والشمس معًا، ومن ورائها مزيد من النيران، وأخيرًا الطبقة الخارجية من بشرة الكون.
ويعزى الفضل لأتباع فيثاغورس كونهم أصحاب نموذج الدورانية السماوية؛ ولكن مَن يعلم لمن ينسب فضل السبق في ذلك؟ في محاورة أفلاطون «طيمايوس» نقرأ أن خالق الكون «صنع سبع دوائر غير متساوية الحجم بينها فواصل بمعدل اثنين وثلاثة … وأمر الأفلاك بالسير في اتجاه مخالف بعضها لبعض.» الشمس وعطارد والزهرة خلقت كي تدور بسرعة متساوية، في حين أن القمر والمريخ والمشتري وزحل أُمِرت بالحركة بسرعات غير متساوية مع سرعات سابقيها الثلاثة وكذا سرعة كلٍّ منها، ولكن في تناسب مباشر.
فكيف نعلم أن كرة النجوم الثابتة لا بد أن تكون أبعد كثيرًا عن الأفلاك الكوكبية؟ يقدم لنا كوبرنيكوس الإجابة العتيقة عن ذلك التساؤل: لأن النجوم تتلألأ أما الكواكب فلا.
سيظل كوبرنيكوس في منهاجه وفيًّا لعلم الكونيات القديم، مفترضًا وجود أفلاك دائرية وكروية. ولما أعاد تتبع خطى من سبقوه إجمالًا، بحث في أفنية الماضي عن كنوز كان يعتبرها الأنفس: المشاهدات السماوية. هل يتخيل نفسه أحيانًا وقد عاد إلى ذلك الزمن القديم؟ إنه يهمهم هامسًا لنا: «في ذلك الوقت كان نجم الشعرى اليمانية في طريقه للإشراق على شعب الإغريق، وكانت الألعاب الأولمبية تقام، حسبما ذكر كاتو الكبير وغيره من الأدباء الموثوق بهم.»
تأثير سلبي
لا أفتأ أذكِّر نفسي دومًا بأن كوبرنيكوس لم يكن يملك تليسكوبًا، وعوضًا عن تلك الأداة التي لم يكن أحد تخيلها بعد، كان مرجعه كتاب بطليموس «المجسطي».
أكثر ما يمسُّ مشاعري في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» تلك المعاناة التي يعبِّر عنها من أجل تحرير العقل الإنساني من منظومة خاطئة، هي منظومة بطليموس. إنك تعلم الآن أن كوبرنيكوس حرَّر نفسه على نحو جزئي فقط من تلك المنظومة، التي أطلق عليها السير ريتشارد وولي يومًا اسم «أطول الطواغيت أمدًا». لقد تحدث وولي بصدق قائلًا: طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان ظللنا نؤمن بكون بطليموس ذي الأفلاك الدوارة الذي تعد الأرض مركزًا له! وقبل بطليموس بخمسمائة عام، افترض أرسطو نفس الفكرة تقريبًا. فمَن ذلك المعتوه الذي يمكنه الزعم بأن أرسطو ليس على صواب دائمًا؟
ومن ثم شرعتُ في قراءة هذا الكتاب ولدي عداء مبيت تجاه بطليموس، غير أنني وأنا منغمس في قراءة كتاب «المجسطي»، بدأت أفهم مقدار ما يدين به كوبرنيكوس ونحن جميعًا لذلك المُبوِّب الجامع الذي لم يكلَّ ولم يملَّ وهو يتتبع النجوم، العالم في نظريات الموسيقى والبصريات الجغرافي وعالم الهندسة. عندما يشرح بطليموس ماهية المسار الكسوفي، أفهم شرحه بقدرٍ يفوق كثيرًا ما أفهمه من تلك المراجع الفلكية الكثيرة المتاحة في أيامنا هذه. إن كوبرنيكوس من جانبه نادرًا ما يكلِّف نفسه مشقة تعريف المصطلحات؛ إنه يفترض أننا جميعًا قرأنا كتاب «المجسطي».
بالمعايير الحالية، فإن أرقام كلٍّ من بطليموس وكوبرنيكوس كثيرًا ما تكون خاطئة؛ ومثال ذلك:
وفق حساب بطليموس | وفق حساب كوبرنيكوس | وفق حسابنا الحالي | |
---|---|---|---|
القمر | ١ | ١ | ١ |
الأرض | «قريب جدًّا من ٣ و٢ / ٥» | ١٫٣٥ | ١٫٨٤ |
الشمس | ١٨ و٤ / ٥ | ٢٤٫٣ | ٤٠٠٫٠٢ |
عندما نذكِّر أنفسنا بأن حساباتهم أُجريت باستخدام البصر والبصيرة والدوائر النحاسية والمساطر المدرجة، تصبح تلك الأخطاء أقل إثارة للامتعاض؛ ومع ذلك، فإنني أجد مبررًا قويًّا لقراءة أعمال بطليموس وكوبرنيكوس من قبل مؤرخين في أغلب الأمر، فمهمة أولئك ليست حساب القطر الفعلي للشمس، وإنما الجزم بمستوًى ملائم من الانحياز بأن الاكتشاف المستقل لأحدهم لأمر ما إما يداخله شك أو لا يداخله.
في حقيقة الأمر، حتى الآن لم نجد سوى اكتشاف مستقل بالغ الضآلة في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية». مقدمة بقلم شخص آخر، فكرة أو فكرتان مأخوذتان عن الغير، ما محصلة كل هذا؟ «العالَم» لا بد أن يكون على هيئة كرة، حسبما كتب كوبرنيكوس. ومن شأن مراجعة سريعة لعمله مقارنة بالنص العظيم لمنافسه الراحل أن تؤكد أن هذا العمل، مثلما أراد هو أن يكون، عمل ثانوي يمكن الاعتماد عليه.
إن بطليموس يقدم منطقه برحابة تفوَّق فيها على كوبرنيكوس، وبمزيد من الوضوح، بل وبصورة أجمل إن جاز لي القول، ويزعم البعض أن منطقه يحوي قدرًا أقل من التعقيدات المبهمة، ويظل فكره أرقى من فكر كوبرنيكوس في كل الجوانب باستثناء أهمها التي يُعتقد أنها أكثرها صدقًا.
أفلاك التدوير
يتمثَّل تاريخ العلم في كثير من الأحيان في العبارة التالية: المشاهدة تتغلب تدريجيًّا على البديهة. صحيح أن النجوم والكواكب تدور من حولنا؛ ولكن تقريبًا في عام ١٥٠ قبل الميلاد، طرح هيبارخوس الروديسي، الذي أثنى عليه كلٌّ من بطليموس وكوبرنيكوس، مركزًا كونيًّا «بالقرب من» الأرض لا فوقها ولا بداخلها تحديدًا؛ لأنه في نصف الكرة الأرضية الشمالي، يدوم الشتاء ١٧٨ يومًا، في حين أن الصيف يستمر ١٨٧ يومًا. تسمى تلك الدوائر السماوية المتطرفة حول الأرض «اللامتراكزات». إن إحساسي المستند تمامًا على عدم مركزية الأرض يراها حلولًا وسطًا بائسة في قضية وُجهت بطريقة خاطئة؛ أو بعبارة أخرى، هي جديرة بأن تنال أوسمة؛ لأنها حافظت علينا في مركز القلب من كل شيء لفترة أطول بقرون عديدة. وتقع اللامتراكزات في جيب ملائم من جراب حيل بطليموس، وقد استخدمها كوبرنيكوس بعد ذلك أيضًا. فكيف يفسر الخصوصية الموسمية التي لفتت انتباه هيبارخوس؟ حيث افترض العكس تمامًا، وتحديدًا أن «الأرض في دورتها السنوية لا تدور مطلقًا حول مركز الشمس.» حسنًا ولِم لا؟ لا يزال للبديهة دور في الفهم؛ إن نزوة هيبارخوس الجديدة لا تقف في طريق الشموس التي تمر من أسفلنا ليلًا؛ وكوبرنيكوس لا يريد التنازل عن حقيقة الدائرية المثالية.
إننا نعلم الآن أن الأرض تدور حول الشمس على شكل قطع ناقص (وبسرعات متفاوتة)، وحتى ننقذ الكون العتيق الذي كانت الأرض مركزه حسبما كانوا يعتقدون، وكذا مبدأه القائم على الحركة الدائرية المنتظمة، يمكننا التعبير عن «الظواهر» بوضع الشمس على دائرة مركزها بالقرب من الأرض، ولكن ليس عندها تمامًا.
آه، الدائرية! حسنًا إنها ضرورية في حالة الأجرام السماوية، بلا شك، وهي تكشف عن نفسها بكل مثاليتها الأنيقة في الحالة التي يسميها بطليموس «الحركة الرئيسية»، وهي حركة الدوران اليومية لكرة النجوم الثابتة من الشرق إلى الغرب، التي تحدث حول الأقطاب السماوية.
ولكن ماذا عن الحركة الثانية، أو «الحركات»، حسبما يجب عليَّ القول؟ أعني، ماذا عن الحركات المتوترة للكواكب؟ كيف يمكن أن نرضي تفكيرنا البديهي المتعلق بالدائرية في تلك الحالة؟
يصور فلك التدوير البسيط المبين هنا القمر. كلتا الدورتين يجب أن تكونا دوائر تامة الاستدارة. وهذا الرسم يهدف لتحقيق أغراض تعليمية ليس إلا. أضاف كلٌّ من بطليموس وكوبرنيكوس تعقيدات إلى أوصافهما للمدار القمري. (مقياس الرسم غير حقيقي.)
إن بطليموس وأسلافه يجدون سبيلًا، أو من وجهة نظرنا المنافية لمركزية الأرض، يرتكبون خطأ قاتلًا. إنه خطأ طبيعي ومغوٍ؛ وأيٌّ منا كان من الممكن أن يقع فيه. في حقيقة الأمر، المؤرخ الفلكي ذو العقلية العاشقة للرياضيات أسجر آبوا (الذي اعتاد على كيل المديح لبطليموس والذم في كوبرنيكوس) يعلق قائلًا: إن «نموذجًا فلكيًّا تدويريًّا بسيطًا يعتبر أسلوبًا معقولًا جدًّا لحساب، تقريبي، لسلوك كوكب ما عند مشاهدته من كوكب الأرض.» نموذج فلكي تدويري بسيط! ما مقدار البساطة التي يعنيها بالضبط؟
إن قاعدة شفرة أوكام — وهي أن أقل الفروض الجدلية تعقيدًا التي يمكنها تفسير جميع الحقائق تكون الأقرب للصدق — لم تكن قد ظهرت بعد، ولكن بطليموس بأسلوبه الخاص، يحاول أن يتبعه في كتابه «المجسطي»: «… من الضروري بادئ ذي بدء أن نفترض عمومًا أن حركات الكواكب في الاتجاه المعاكس لحركة السماوات جميعها منتظمة ودائرية بطبيعتها، مثل حركة الكون في الاتجاه الآخر.» أو بعبارة أخرى، يجب ألا تضللنا أي انحرافات ظاهرة عن الدائرية في أفلاك الكواكب؛ لأن الكون رشيد ومنطقي وأنيق (ألا تدفعنا البساطة في حد ذاتها للتفكير على هذا النحو؟) ومن ثم فإن الحل الذي قدَّمه بطليموس لتلك الانحرافات عقلاني ومنطقي وأنيق: إذا اعتبرت أفلاك الكواكب «بالنسبة لدائرة تقع في مستوى المسار الكسوفي متوحدة المركز مع الكون بحيث تكون عيوننا واقعة في المركز» — بمعنى، إذا نُظِر إليها بمنظور متميز يستند إلى كون تقع الأرض في مركزه — «فإنه من الضروري عندئذ أن نفترض أنها تؤدي حركاتها الاعتيادية المنتظمة … مع دوائر أخرى محمولة عليها تسمى «أفلاك التدوير».» فلو أن مدار كوكب الزهرة يبدو غير منتظم، لوجب علينا بالضرورة أن نفترض وجود أي عدد ممكن من الدوائر من داخل دوائر حسبما يشترط علم الهندسة حتى نجعله منتظمًا!
إذن هذا هو الموقف: الحركة الالتفافية غير المرئية لكوكب الزهرة في نطاق مدار كروي لا يمكن بحال رؤيته يدور ربانيًّا وإلى الأبد فوق مستوًى كسوفي، هو في حد ذاته يتجه للانحراف باتجاه الشرق بمقدار حوالي درجة واحدة كل قرن (تذكر أن تلك كانت حسابات كتاب «المجسطي» للمبادرة). في حالة الزهرة، والحقيقة في حالة الكواكب الأربعة الأخرى كذلك، طبَّق بطليموس الفرض الجدلي الآتي: «الدائرة اللامتراكزة (أو المؤجل) التي يُحمل عليها دائمًا مركز أفلاك التدوير توصف بأن مركزها يقع في نقطة تشطر الخط المستقيم الواصل بين مركزَي المسار الكسوفي والدائرة المؤثرة على الدوران المتزن لأفلاك التدوير.» حيث تعد تلك الأخيرة هي ما يعرف بالموازِن.
ويقال إن أبولونيوس (٢٢٠ق.م) كان أول من وضع تصورًا يتعلق بأفلاك التدوير، غير أنني عجزت عن فهم السبب الذي جعل هذا الأمر غير ميسور لأناس غيره. قبل هيبارخوس، كان إيدوكسوس (توفي نحو عام ٣٥٥ق.م) قد اشترط أن تكون تلك الدوائر من داخل دوائر أخرى، أو أن تكون الأفلاك الكروية من داخل أفلاك كروية أخرى حسبما يجب القول، متمركزة حول الأرض، وتدور في حركة لولبية في آنٍ واحد في مستويات مختلفة كي تحقق الانبعاجات الكوكبية المطلوبة. للأسف فإن الكواكب تتباين أحيانًا في درجة لمعانها، وهو ما يعني ضمنًا أن المسافات التي تفصلها عن الأرض تتباين على نفس المنوال. ويشير بطليموس نفسه إلى أنه لو بدت النجوم وكأنها تغير أبعادها التي تفصلها عن الأرض، فإن مداراتها من حولنا لا يمكن أن تكون كروية؛ وهذه بالضبط هي الحال مع «النجوم السيارة». لا عليك. فهيبارخوس وبطليموس والباقون في نهاية المطاف يطرحون فكرة أن كل كوكب يسير في دائرة متحدة المركز مع محيط دائرة أكبر، وتلك بدورها متمركزة على محيط الأرض. يقال للدائرة الكبرى «المؤجل»؛ والصغرى، فلك التدوير. ويفترض الفلكيون من أتباع بطليموس أولًا أن كلًّا من هاتين الدائرتين تقع فوق المستوى الكسوفي، وثانيًا أنهما تشتركان في الحركة الرئيسية، وثالثًا أنهما تدوران في نفس الاتجاه.
هناك وسيلة أخرى لتفسير نفس تلك التعرجات الكوكبية؛ وهي أن نفترض أن مداراتها تتبع دوائر لامتراكزة بالنسبة للمسار الكسوفي. إن بطليموس على استعداد لتطبيق كل فرض جدلي على ما يبدو أنه السياق الأكثر ملاءمة: تعرجات حركات الكواكب فيما يتعلق بأجزاء من دائرة البروج أفضل سبيل لتفسيرها اللاتراكزية، أما شذوذ حركة الكواكب بالنسبة للشمس فيلائم أكثر أفلاك التدوير (الشذوذ حركة منتظمة تتسبب بالاشتراك مع حركة أخرى منتظمة في جعل تلك الأخيرة تبدو غير منتظمة)؛ ومن ثم، سوف يعلق كوبرنيكوس في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بقوله: «اكتشف القدماء في جميع الكواكب استطرادين في دائرة العرض يجيبان على التعرج ذي الشقين في خط الطول السماوي، أحد الاستطرادين يحدث بسبب لاتراكز أفلاك التدوير، والآخر يتفق مع أفلاك التدوير.»
هل هناك بالفعل أفلاك تدوير أم أنها لا وجود لها؟ حسنًا، من الأمثلة التقليدية على أفلاك التدوير دوران القمر حول الأرض، ويرى كلٌّ من كوبرنيكوس وبطليموس هذا الرأي (من فضلك نحِّ جانبًا حقيقة أن شرح كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» لمدار القمر يتطلب أولًا وجود فلك تدوير قهقري يتحرك في توازن حول مؤجل، ثم، يدور حول هذا، فلك تدوير مباشر أصغر بكثير وبفترة زمنية مختلفة. من قال إن البساطة كانت أمرًا بسيطًا؟) ولو كانت الكواكب بالمثل تدور من حولنا، فلا بد أن نظرية فلك التدوير كانت ستفسر تلك الحركات. من ذا الذي تحدَّث عن فردوس علم الكونيات؟! إذن من الممكن للكون بسهولة أن يتشكَّل من الأجرام السماوية الثمانية المتنوعة الألوان، التي تحدَّث عنها أفلاطون، والتي تدور حول مغزل الضرورة، وجنية تشدو تسكن كل فلك، تصدح بمقامها الموسيقي الخاص بها الآن وإلى الأبد، وبهذا تصنع مع أخواتها الجنيات «سيمفونية الأفلاك الكروية».
قيل من قبل إنه «في كون بطليموس، اندمجت الرياضيات مع الفلسفة الأدبية، مما سمح لعالم الرياضيات بأداء وظيفة الفيلسوف، في الوقت الذي يكافح فيه من أجل محاكاة الصنع الإلهي.» وفي هذه الحالة، نادرًا ما يكون أهم ما في الموضوع البرهان العملي التجريبي. إذن من أكون أنا كي أعيب في أفلاك التدوير؟ حتى كوبرنيكوس نفسه لم يتمكن من المضي قدمًا بدونها. ويأتي عالِم فلك القرن العشرين السير برنارد لافل ليعلن في حماس: «هذا الجهاز العبقري لا يضم سوى ثلاث حركات دائرية منتظمة تمامًا، وهو يوضح بسهولة الحركة القهقرية العارضة للكوكب.»
باختصار، كان لافل على حق، والدوائر القديمة تمتلك بالفعل توافقًا تجريبيًّا، إن لم يكن برهانًا تجريبيًّا. فلِمَ لا نؤمن بأن إضافة دائرة أخرى، أو مائة دائرة أخرى، سوف يفسر على نحو مثالي دورات الأجرام السماوية في النهاية؟ لا عجب أن هيبارخوس وصل به الأمر إلى اختراع فلك تدوير صغير رقيق لمسار الشمس …
رسم تخطيطي لطاحونة مائية
أمامي الآن رسم ميكانيكي لقطاع عرضي لجهاز رفع مياه (ساقية)، يعود تاريخ رسمه لحوالي عام ١٦١٥، وهو نفس التوقيت تقريبًا الذي حُظر فيه كتاب «عن دورات الأجرام السماوية». حول دائرة مركزية مسننة (وهي للمفارقة تشبه شكل قرص الشمس)، توجد حلقة ذات عقد تذكِّر خطوطها أي إنسان وفيٍّ لمبدأ نيوتن بمتجهات الحركة، وهي متصلة عن طريق أذرع كانت مرئية في الرسم الهندسي السابق، وليس في هذا الرسم. لما كانت الضرورة تحتم تقليص الأبعاد الثلاثة للمجسم إلى اثنين فقط كون الرسم لمقطع عرضي، فإن هناك حلقة أخرى مسننة موجودة بالفعل وهي موازية لابنة عمومتها ذات العقد تبدو أنها مركبة عليها مباشرةً، ومن الواضح أنها تدور حول محيطها كما لو كانت تسير حول ترس مركزي يشبه قرص الشمس.
عندما شاهدتُ هذه الصورة لأول مرة، كان ردِّي التلقائي: فلك تدوير! وفيما يبدو فإن فلك التدوير هذا يسير وفق قوانين الفيزياء التي أومن بها. أليس من الممكن للتروس المسننة أن يدفع بعضها بعضًا للدوران؟ فلو أننا افترضنا — مثلما كان على أنصار بطليموس أن يفعلوا — وجود عجلات غير مرئية يدير بعضها بعضًا داخل الأثير السماوي، فإن الكون الفلكي التدويري يصبح بذلك حقيقة مؤكدة مثله مثل رسم تخطيطي لطاحونة مائية.
الموازِنات
بعد مزيد من الحيرة بشأن جوانب شذوذ الكواكب الخمسة المعروفة حتى ذلك الحين، يتخذ بطليموس خطوة أخرى مبتعدًا بها عن البساطة، وعن أرسطو، وأخيرًا عن الحقيقة، مستنتجًا أن «مراكز أفلاك التدوير محمولة على دوائر مساوية للامتراكزات تؤثر في جوانب الشذوذ هذه، «لكنها توصف حول مراكز أخرى.» وتلك المراكز الأخرى، في حالة جميع الكواكب عدا عطارد، تشطر الخطوط المستقيمة الواصلة بين مراكز اللامتراكزات المؤثرة في هذا الشذوذ ومركز المسار الكسوفي.» بعبارة أخرى، لم يتوقف الأمر عند تحريك المركز بعيدًا عن الموضع الذي تضعه فيه البديهة — أي على الأرض، معنا — إلى أي نقطة كانت تعوض بدرجة معقولة الانحرافات المرصودة، مثلما حدث في الدائرة الشمسية اللامتراكزة لهيبارخوس؛ وإنما صارت حركة الكوكب الآن غير متغيرة ليس فقط من حيث مسألة المركز، وإنما فيما يختص بنقطة ما جديدة، محسوبة هندسيًّا، وبفضلها وحدها يمكن جعل مسار الكوكب من حولنا غير متباين. هل يبدو المريخ يسرع أحيانًا ويبطئ أحيانًا أخرى أثناء دورانه الدوامي حول الأرض؟ لا يمكننا أن نحصل على هذا! إذن دعونا نفترض وجود مركز واحد لمداره، ومركز آخر «لسرعته المنتظمة» (وهنا دعوني أذكر فارقًا واحدًا بين كوبرنيكوس وبطليموس: سوف يصرُّ كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» على أن السرعة واحدة حول مركز مادي هندسي، حتى إذا لم يكن ذلك المركز سوى محيط موازن؛ في حين أن كتاب «المجسطي» اشترط السرعة الواحدة فقط فيما يتعلق بنقطته المحسوبة رياضيًّا). في موضع ما، ومن منظور ما، يجب أن يمر كوكب الزهرة عبر نفس العدد من الدرجات القوسية في كل شهر. سوف نحدد هذا في موضع ما هندسيًّا؛ إذ إننا مصرون على أن مدار الزهرة يظل دائريًّا.
من بين سبل شرح أفلاك التدوير والموازنات القول إن الكوكب المعني «يتأرجح كالبندول حول موضع متوسط.» أليس الإطار المرجعي يكاد يشكل كل شيء؟ لو كانت أفلاك التدوير والموازنات قادرة على أن تؤدي وظيفة (مستخدمين من جديد تعبير أبوا) عمليات تقريب معقولة من إطار مرجعي قبل تليسكوبي لصيق بالأرض، فلماذا نثير اعتراضات تافهة؟
ذلك التوسيع لنطاق مبدأ الميكانيكا السماوية من أجل إفساح حيز لمركز فلك الدوران للتحرك بانتظام حول نقطة ما غير مركز مؤجلها شكَّل في رأي كوبرنيكوس فضيحة مدوية لنظام بطليموس، وهي تلك الفضيحة التي تمكن كوبرنيكوس بفضل نظامه الخاص من القضاء عليها فقط على حساب الظواهر البادية.
هذا شكل معمم للدورات التي تعتبر الأرض مركزًا للكون حسب رأي القدماء، وهو يصور جميع الكواكب باستثناء عطارد، الذي أعفيك من انحرافاته.
للتبسيط، يفترض بطليموس أن الدوائر الثلاث جميعها تقع في المستوى الكسوفي، مع أن اعتبارات دائرة العرض تشترط علينا إمالة زاوية فلك التدوير بالنسبة للدائرتين اللامتراكزتين، وهو ما سيعني أنه بدوره سيكون مائلًا خارج المستوى الكسوفي.
يقطع مركز المؤجل الخط الواصل بين الموازن (وهو مركز دائرة الأوج) والأرض (مركز الدائرة الكسوفية).
ويُحمل فلك تدوير الكوكب حول المؤجل حسبما هو معتاد، ولكن قطر فلك التدوير يشير دومًا إلى الموازن. والحركة الكوكبية لا تكون منتظمة إلا بالنسبة للموازن.
(مقياس الرسم: متباين وغير معلوم.)
ومن ثم، سوف يكون موقف كوبرنيكوس موقفًا راسخًا؛ فهو لن يسمح بوجود موازِنات في كتابه. إنه يعترض على عطارد بطليموس بقوله: «وهكذا كانت هناك ثلاثة مراكز، وهي تحديدًا مركز الدائرة اللامتراكزة التي تحمل فلك التدوير، ومركز الدائرة الصغرى، ومركز الدائرة التي يسميها المعاصرون الموازن. لقد تغاضوا عن الدائرتين الأوليين وأقروا بأن فلك التدوير لم يتحرك بانتظام إلا حول دائرة الموازن، التي كانت أكثرها بعدًا عن المركز الحقيقي، وعن نسبته، وعن كلا المركزين القائمين. غير أنهم حكموا بأن ظواهر هذا الكوكب لا يمكن إنقاذها بأي مخطط آخر …» أو بعبارة أخرى: «إن العقل يرتعد.»
من الممكن تخيل وجود سرعة متباينة للشمس حول مركز الكون، وسرعة واحدة حول مركز مختلف … و… من الممكن، أيضًا، في حالة الكواكب تخيل سرعات متباينة لمراكز أفلاك تدويرها، حول محيط مؤجلاتها اللاتراكزية، وسرعات واحدة حول مراكز موازناتها. لو كان كل هذا ممكنًا، لأمكن توجيه نقد بالغ الشدة إلى النزاهة الأخلاقية لأولئك الناس.
والمقصود ﺑ «أولئك الناس» فلكيو بطليموس.
في رأيي الخاص أن البيروني كان محقًّا؛ فالموازنات كانت أداة مهترئة، غير أنه لا يمكنك أن ترضي الجميع ولا أن تستفز الجميع، لا سيما في تاريخ العلوم؛ فجيكوبسن على سبيل المثال، يكتب لكوبرنيكوس هذه المرثية على ضريحه فيقول: «كانت النتائج التي توصَّل إليها في معظمها ليست بأكثر دقة من تلك التي توصَّل إليها بطليموس، ولكنها من زاوية ما كانت أقل، إذ إنه تخلَّى عن مبدأ الموازنات محبِّذًا الحركات المنتظمة.»
أمثولة الجداول الألفونسية
دعونا نتحدث عن الدقة. وعلى ذات المنوال، دعونا نتحدث عن البساطة.
ربما كان أتباع بطليموس يتسمون بالنزاهة، وربما لا، لكن على أي الأحوال، هم يجعلون البحارة والمنجمين سعداء دومًا لتنبُّئهم بمسارات «النجوم السيارة» بدرجة ما من الدقة. لقد كان الحس السليم متسقًا دومًا مع المشاهدة.
هذه هي نتيجة إخلاص بطليموس للبساطة، لكن الكون نفسه لم يكن قطُّ بسيطًا؛ وأي معادلة لا تكون ناجحة إلا إذا كانت عملية، وهو ما يعني أنها فعالة في إطار حدود المشاهدة، حتى إذا ظلَّت مستندة إلى نفس تلك الأخطاء التي اعتبرها البيروني شديدة الفداحة، مثل فكرة أن مركز دائرة الكسوف الشمسية يسرع ويبطئ عند نقاط مختلفة من المسار الشمسي. كما ذكرنا من قبل، فإن الحركة الشمسية الظاهرية تتباين بالفعل.
في كل الأحوال، فإن أمل بطليموس في أن يكون بالإمكان ترجمة الحركات اللولبية الظاهرة غير المنتظمة للكواكب ترجمة مقبولة إلى حركات حقيقية مثالية؛ يبدو في الغالب على وشك التحقق. في مقابل الفقرة البائسة التي اقتبسناها لتوِّنا دعونا نتدبر العبارة التالية التي لا تقل عنها نمطية من كتاب «المجسطي»: «الزاوية عند «ب» التي تحوي المسار المعتاد للنجم على فلك تدويره» (تذكر أنه وفقًا لرأي بطليموس، لم تكن الكواكب سوى فئة فرعية مزعجة من النجوم) «هي دائمًا الفارق بين الزاوية عند المركز «ف» الذي يحوي الحركة المعتادة للنجم على خط الطول والزاوية عند «ﻫ» هي التي تحوي حركته الظاهرة أمامنا …» باختصار، الفارق بين ما نراه وبين الحقيقة التامة ليس سوى زاوية أو اثنتين. هذه البساطة، أو ما يقرب من البساطة، أو الوهم الذي تنطوي عليه، يجعل الموازنات أمرًا مقبولًا لدى «أولئك الناس».
ولكن مع دوران القرون حول الأرض الساكنة بلا حراك، تخلَّى البطالمة أكثر وأكثر عن البساطة. وبحلول عام ١٢٥٢، عندما طلب ألفونسو العاشر ملك قشتالة من الفلكيين العمل في رسم الأوضاع الكوكبية في الحاضر والمستقبل، كانوا بحاجة إلى عقد كامل من السنوات، واستخدموا العديد والعديد من الدوائر من فوقها دوائر ومن حولها دوائر وبداخلها دوائر، ما دفع الملك إلى مكافأتهم بهذه العبارة الموجزة: لو أنه كان واقفًا عند كتفَي الخالق أثناء خلقه للكون، لصلَّى له من أجل أن يكون ترتيب الأجرام السماوية أبسط من هذا.