شروح: الكتاب الأول، الجزء ٥ (تابع) – الكتاب الأول، الجزء ٩
كان كوبرنيكوس يعي تمامًا الإطار المرجعي، وهو يبدأ الآن جدله الشهير بملحوظة يقول فيها: إن «كل تغير ظاهر في المكان يحدث إما بسبب حركة الشيء المرئي أو الشخص الرائي، أو بسبب حركة غير مكافئة بالضرورة لكليهما.» أو بعبارة أخرى، ليس من الضروري أن يكون المكان أوغل حدٍّ ساكن. إننا نرى الشمس تشرق وتغرب؛ ونشاهد الأجرام السماوية وهي تبدو كما لو كانت تدور؛ ومن ثم يمكننا النظر في الافتراض القائل إن السماوات هي التي تتحرك، أو يمكن للمرء أن يفترض (معاذ الله!) أن أرضنا هي التي تتحرك في الاتجاه المعاكس للدوران السماوي المدرك.
الكتاب الأول، الجزء ٥: «هل للأرض حركة دائرية؟»
إذ إن الدورة اليومية فيما يبدو تحمل معها الكون بأكمله، باستثناء الأرض والأشياء التي من حولها. وإذا أنت أقررت بأن السماوات لا تمتلك أيًّا من تلك الحركات ولكن آمنت بأن الأرض تتحرك من الغرب إلى الشرق، فلسوف تكتشف — إذا أجريت فحصًا جادًّا — أنه فيما يتعلق بالشروق والغروب الظاهري للشمس والقمر والنجوم أن «هذه هي الحال».
(أوزياندر: «ليس من الضروري أن تكون تلك الافتراضات صادقة، ولا حتى مرجَّحة؛ لكن يكفي منها أن تقدِّم حسابًا يتفق مع المشاهدات …»)
فضلًا عن ذلك، يواصل كوبرنيكوس حديثه قائلًا: «مسألة أن النجوم — ويعني بها الكواكب — السيارة تشاهَد في بعض الأحيان أقرب إلى الأرض، وفي أحيان أخرى أكثر ابتعادًا عنها، تدفع بالضرورة للقول إن مركز الأرض ليس هو مركز دوائر تلك الأجرام.» (تحديدًا، لم يقل بطليموس ذلك مطلقًا. لقد قال إنها مركز أي مؤجلات وأفلاك تدوير وموازنات قد تكون هناك حاجة لوجودها.) «الحال على هذا النحو» لأن الأرض لا تدور وحسب حول محورها، وهو ما يفسر تعاقب الليل والنهار، وإنما تبدي حركة ثانية فيما يتعلق بتلك الكواكب الغادية والرائحة — تحديدًا، الدورة السنوية على امتداد المسار الكسوفي — بالرغم من أنه عند هذه المرحلة من الجدال، لم يستبعد كوبرنيكوس احتمال أن تكون تلك الحركة الثانوية خاصة بتلك الكواكب وليس بالأرض.
الآن وقع الفأس في الرأس؛ لقد تلقَّى الكون القديم طعنة دامية أصابته بجرح غائر.
الكتاب الأول، الجزء ٦: هندسة الفضاء السماوي الشاسع
نقرأ في سفر التكوين: «فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا.» أما بالنسبة لكوبرنيكوس، فإنه الآن يحاكي بناء الرب العظيم على النحو التالي: «والآن فليصنع الأفق الدائرة «أ ب ﺟ د»، ولتكن الأرض … هي «ﻫ»، مركز الأفق» التي تفصل النجوم المرئية عن غير المرئية.
حسب موقفنا من كون كوبرنيكوس الذي يقع في منطقة وسطى بين كون أوجستين وكون هيرشل، جرت الإشارة من قبل للشرح التالي. ربما كان من الملائم أن نعيد تكرار منطقه الكامل ها هنا، حتى يمكن للمرء أن يتفهَّم منطق كتاب «عن دورات الأجرام السماوية». إن الكتاب في معظمه مكتوب بأسلوب ضبابي، ومصطلحاته يغيب عنها التعريف كثيرًا، وتعميماته نصف الصحيحة مليئة بالألغاز في حالات معينة (كمثال على ذلك، انظر شرحي لآخر فصل من فصول الكتاب)، حتى إنه يستحيل عمليًّا كتابة أي موجز مختصر للعملية التي تمت بدءًا من المشاهدة وحتى استخلاص الاستنتاجات. وهذا الدفع، الذي يظهر له نظير في كتاب «المجسطي»، يعد استثناءً موفقًا.
تخيل أن «ﻫ» جرم كروي صغير الحجم، نقف أنا وأنت فوقه، نشكو من بطليموس ونرصد البروج من خلال آلة تسمى «ديوبترا» لقياس مواقع النجوم. ولنفترض أن «ﺟ» نقطة موجودة على الأفق يشرق عليها أول نجم من نجوم برج السرطان. ولنفترض أن «أ» نقطة يغرب عندها أول نجم في برج الجدي في نفس الوقت. «إذن، لمَّا كان «أ ﻫ ﺟ» على استقامة واحدة مع أنبوب آلة الديوبترا، فمن البديهي أن هذا الخط هو قطر المسار الكسوفي؛ لأن الأبراج الستة الواقعة في دائرة البروج بين السرطان والجدي تصنع نصف دائرة، مركزها «ﻫ» هو نفسه الأفق تمامًا.» وعندما تكتمل دورة واحدة — لا يهم إن كانت للفلك السماوي أو ﻟ «ﻫ» ذاتها، لكن كوبرنيكوس في تضارب أقواله المعهود لا بد أنه يقصد «نصف» دورة، أو عبورًا كاملًا واحدًا عبر الأفق المرئي — ثم يبدأ الجدي في الإشراق عند ٥، ثم يغرب السرطان عند «د»، في هذه الحالة تصبح «ب ﻫ د» خطًّا مستقيمًا وقطر المسار الكسوفي.» بما أن «أ ﻫ ﺟ» هو أيضًا قطر المسار الكسوفي، ولما كانت «ﻫ» هي مركز كلٍّ من «أ ﻫ ﺟ»، و«ب ﻫ د»، فإن «الأفق يشطر دائمًا المسار الكسوفي نصفين.» (الحقيقة أن كوبرنيكوس لم يبرهن على «دائمًا» هذه بذكره لحالتين وحسب، ومع ذلك فإن زعمه قابل للتصديق جدًّا.) إذن، بما أن مبادئ الهندسة تقول إن الدائرة التي تشطر دائرة كبرى يجب أن تكون هي أيضًا دائرة كبرى، فإن كلًّا من الأفق والمسار الكسوفي دائرتان عظيمتان في الفلك السماوي. «إذن الأفق دائرة كبرى ومركزها الذي يمر عبر مركز الأرض هو ذاته مركز المسار الكسوفي» الذي يقع بالقرب من مركز الشمس.
يوجز كوبرنيكوس ما سبق بقوله: «من هذه الحجة يتضح على نحو مؤكد أن السماوات شديدة الاتساع مقارنةً بالأرض.» وحتى في زماننا هذا زمن بلوغ الكمال، نادرًا ما نعبأ إن كنا نقيس المسافات بين النجوم من مركز الأرض أم من قبة المرصد. أما الأشياء التي في نطاق المجموعة الشمسية فهي أمر آخر، ولكن للفلكيين وحدهم: فالبحارة ليسوا بحاجة لتطبيق تصويبات تزيُّح النجوم عند مشاهدتها، بصرف النظر عن أن بُعدها عنا يتغير بمسافات لا يستهان بها؛ فالفضاء الإجمالي للسماوات كونه «شديد الاتساع» حتى إنه لا يوجد ضرر عملي يمكن أن يلحق بنا من تخيل كلٍّ من عطارد (إذا كنا محظوظين ونمتلك المهارة الكافية لرؤيته) وزحل واقعَيْن فوق «سقف» نفس الفلك السماوي.
ويواصل كوبرنيكوس كلامه قائلًا: «لكننا نرى أنه لم يتبين لنا أكثر من هذا، ولا يستتبع ذلك أن الأرض يجب عليها أن تستقر في مركز العالم.»
إذن «أين» المركز؟ بما أن «النجوم السيارة» لا تحتفظ دومًا بنفس البعد عن كوكب الأرض، «إذن من الضروري أن يُنظر إلى الحركة حول المركز على نحو أكثر تعميمًا، ويكفي تمامًا أن تكون كل حركة متفقة مع مركزها.»
الكتاب الأول، الأجزاء ٧–٩: كاد كوبرنيكوس يقدِّم تعريفًا للجاذبية
لما كانت المادة الخام الرئيسية لكوكب الأرض هي التراب، وهو واحد من عنصرين ثقيلين من العناصر الأربعة، فإن جميع العناصر التي تحوي وزنًا تميل إلى التهاوي لأسفل نحو مركز كوكب الأرض وتبقى هناك. «إذن الأمور كلها تسير نحو أن تكون الأرض قابعة في المركز.» هذه هي الحجَّة التي عرض بها بطليموس وسائر أتباع أرسطو الآخرين قضيتهم.
ويجيب الأفلاطوني المخلص كوبرنيكوس بقوله: «أنا شخصيًّا أظن أن الجاذبية أو الثقل ليس سوى ميل طبيعي غرسته العناية الإلهية لرب العالمين في الأجزاء؛ وذلك كي يتحد بعضها مع بعض في توحدها واكتمالها، ولكي تلتئم معًا على هيئة كرة.» في هذه الحالة، ما الذي يمنع الكواكب الأخرى، بل وحتى الشمس، من الاشتراك هي الأخرى في تلك الخاصية؟
استطراد عن جو نبتون
تجدر إعادة التأكيد على أن هذه ليست بالضبط الجاذبية كما نفهمها.
نحن المؤمنين بعدم مركزية الأرض نعلم أننا لا نتطاير من فوق كوكبنا الدوار بسبب الجاذبية والقصور الذاتي، مع تعقيدات قوة الطرد المركزية التي تبقينا على سطح الأرض، كما أننا نعلم كذلك أن غلافنا الجوي عبارة عن مادة؛ ومن ثم فإن له كتلة، ومن ثم يتعرض للقصور الذاتي والجاذبية مثلما نتعرض نحن، وفق قوانين نيوتن. غير أن بطليموس وقَّر قوانين أرسطو. فبالنسبة له، لم تكن لحركة الهواء أي علاقة بحركة الأرض؛ إذ عليك أن تتذكر القاعدة التي تقول إن كل عنصر يحوي «هو ذاته بداخله قاعدة حركة وسكون.» علاوة على ذلك، الجو (الذي يبدو) ساكنًا شكَّل حجة أخرى في قضيته «التبعثر في الفضاء»: عندما يندفع سهم مارق في الهواء، فإن الهواء يمتنع عن الحركة معه. إذن، لو أن الأرض فعلت مثل فعل السهم، لامتنع الجو بالمثل عن الحركة، ولرأينا السحب والشهب (التي كانت تعد وقتها ظاهرة جوية) تبتعد عنا باستمرار في الاتجاه المعاكس لاتجاه دوراننا.
ماذا كان سيظن بشأن حالة كوكب نبتون؟ يدور ذلك الكوكب من الغرب إلى الشرق، مثلما تفعل الأرض، ولكن — عند خط الاستواء، على الأقل — تهب الرياح النبتونية من الشرق إلى الغرب بسرعة ألفَي كيلومتر في الساعة، وهي أكبر سرعة لأي غلاف جوي بين كواكب المجموعة الشمسية. ولو كان بطليموس وُجد عند خط الاستواء النبتوني، لكان الاستدلال والملاحظة أقنعاه — لأسباب غير منطقية على الإطلاق — أن الكوكب الذي يسكنه يدور بالفعل مثلما زعم كوبرنيكوس.
استطراد فرعي بسبب ظاهرة كوريوليس
بالمناسبة، كان اعتراض بطليموس أقرب إلى المنطق مما كان هو وكوبرنيكوس يعلمان؛ فتمامًا مثلما أن فلك النجوم — إن كان له وجود بالفعل — يدور في اتجاه الغرب من حولنا بسرعة أكبر من أي فلك أقرب، فكذلك خط الاستواء الأرضي، لكونه تحديدًا أوسع جزء في الكوكب، يدور في اتجاه الشرق أسرع من باقي كوكبنا الأرضي؛ في حين يظل القطبان (نظريًّا) ساكنَيْن؛ ومن ثم تحمل تيارات الرياح المارة نحو الشمال المباشر قادمة من خط الاستواء معها زخمًا دورانيًّا باتجاه الشرق أعظم مما تحمله تلك الموجودة على اليابسة أو البحر من أسفلها؛ ومن ثم، فإن رياحنا المتجهة للشمال تصبح شمالية شرقية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الرياح التي تهب باتجاه الجنوب المباشر نحو خط الاستواء تجد نفسها تسير بسرعة أقل مقارنةً بسطح الأرض من أسفلها؛ ومن ثم تتخذ اتجاهًا جنوبيًّا غربيًّا بالنسبة إلى ذلك السطح.
في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، تنعكس هذه الظاهرة (التي سميت على اسم شخص ربما تكون خمَّنتَهُ، يدعى كوريوليس): فالرياح التي تهب في اتجاه الجنوب تتجه نحو الجنوب الشرقي، والشمالية في اتجاه الشمال الغربي.
وتعلن ظاهرة كوريوليس عن نفسها بسبل لا حصر لها؛ فعلى سبيل المثال، تدور دوامات الأعاصير الحلزونية عكس اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الأرضية الشمالي، ومع اتجاه عقارب الساعة في النصف الجنوبي. وتنطبق الظاهرة على الماء أيضًا مثلما تسري على الهواء؛ ومن ثم تؤثر على مسارات تيارات المحيطات الرئيسية.
لماذا لم يدرك بطليموس وكوبرنيكوس ذلك؟ بادئ ذي بدء، كان ينقصهما ما نشير إليه الآن بتعبير سجلات بيانات تيارات الهواء والماء لنصفَي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي. وثانيًا أن ظاهرة كوريوليس تكبح جماحها، بل وفي بعض الأحيان تلغيها كليًّا، قوى ضغط جوي محلية وتغيرات احتكاكية.
باختصار، كوكبنا الأرضي الدوار يترك بالفعل غلافه الجوي وراء ظهره، لكن ليس تمامًا ولا بالعنف الذي تخيله بطليموس.
«ماذا علينا أن نقول إذن عن السحب؟»
ماذا نقول إذن عن السحب التي لا تسرع في حركة متواصلة باتجاه الغرب في مقابل دوران أرضي باتجاه الشرق … فيما عدا أن الأمر لا يقتصر على الأرض والعنصر المائي الذي ترتبط به وحسب في حركتهما على هذا النحو، وإنما أيضًا لا يوجد أي جزء ولو صغير من الهواء، ولا أيٍّ من الأشياء الأخرى يتصل بقرابة مماثلة مع كوكب الأرض؛ سواء لأن الهواء المجاور، الذي يختلط بمادة ترابية ومائية، يذعن لنفس قوانين الطبيعة التي تذعن الأرض إليها، أو لأن حركة الهواء حركة مكتسبة، يشارك فيها الهواء دون مقاومة منه على حساب التماس والدوران الأبدي للأرض؟
بعبارة أخرى، يتراجع كوبرنيكوس مؤقتًا إلى تفسيرين؛ أولهما: التفسير القديم القائم على العناصر القائل بأن خفة الوزن الأساسية للهواء الأرضي أصيبت بعدوي ثقل الوزن بدرجة ما نتيجة احتكاكه بالتراب والماء. وثانيهما: التعبير البديهي عن القصور الذاتي. بالنسبة لي هناك أمر مؤثر للغاية بشأن هذا الفكر الذي لم يعثر قط على الأدوات التي عثر عليها نيوتن، ومع ذلك فقد تلمَّس طريقه وقدَّم منطقه على نفس النهج نحو فهم دقيق للواقع.
الكتاب الأول، الجزء ٩: جعل الشمس مركزًا
أروع مثال على ذلك في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» يباغتنا الآن؛ حيث إنه بعدما اكتفت بعض المقدمات بطرح أنه من المقبول افتراض أن الأرض تتحرك بطريقة ما، واجه كوبرنيكوس الأمر بقوة وقالها صريحة مدوية: «أخيرًا، سوف يُنظر إلى الشمس باعتبارها مركز العالم. ونسبة الترتيب الذي تلي به تلك الأجرام بعضها بعضًا وانسجام العالم برمته يعلِّمنا حقيقتها، لو أننا فقط — كما يقولون — نظرنا إلى الأمر بكلتا عينينا.»