حدود المشاهدة عام ١٥٤٣
كم كان من السهل تفسير الظواهر!
فقط لو أننا نظرنا إلى الأمر بكلتا عينينا! غير أن معظم العيون لا يمكنها تمييز النجوم التي يتصادف أن تكون المسافة بينها أقل من أربع دقائق قوسية.
وكلما قلَّ مقدار ما نعلمه، ظللنا أكثر حرية في وضع تصورات (أورويل: «الجهل قوة»). إبان خمسينيات القرن العشرين، كان لدى كاتب الخيال العلمي العاشق للدقة حرية تخيل كوكب الزهرة في صورة عالم من المستنقعات والأدغال؛ لم نكن نعلم مدى حرارته، ولما كنا نجهل وجود كوكب نبتون، ناهيك عن سرعة الرياح الاستوائية على سطح ذلك الكوكب، ظل بطليموس حرًّا في التوصل إلى استنتاج غير صحيح عن الدوران الجوي لكوكب الأرض بناءً على دليل رصدي غير ذي صلة، وكان أي عالم يعيش في خمسينيات القرن السادس عشر غير مكبل بنفس الصورة في إمكانية المفاضلة بين اتِّباع مبدأ كوبرنيكوس القائل بمركزية الشمس أو مبدأ بطليموس القائل بمركزية الأرض؛ فكلا النظامين ذهب إلى أبعد مدًى في سبيل «تفسير الظواهر». حقيقة الأمر، إخفاقات كوبرنيكوس وعدم اكتمال الأفكار المتنوعة، ناهيك عن أن المقدمة المتواضعة المطمئِنة التي فُرضت عليه من قبل أوزياندر (التي ورد فيها: «دعونا نسمح لهذين الفرضين الجديدين بالظهور علانية وسط الفروض القديمة التي كانت في حد ذاتها لا تفوقها في الأرجحية»)، حجبت جانبًا كبيرًا من الخطر الذي كان من الممكن للكوبرنيكية أن تشكِّله يومًا ما لكونٍ مرسوم وفق التفسير الحرفي للنصوص المقدسة. لماذا لا نؤمن بمركزية الشمس وبعرش الرب في آن واحد؟
بندول فوكو
ما الواقع؟ إن تاريخ العلم — ناهيك عن تاريخ الحياة ذاتها — يعلِّمنا أن نتوقع أنه سوف تظهر دائمًا أشياء أكثر مما فهمناه حتى الآن. لعل قصة المبدأ البطلمي لا تختلف عن إدراكنا لكينونتنا: فهي تلائمنا، وهي تفسر كل شيء تقريبًا. دعونا نتجاهل كل ما عدا ذلك، وسوف نتوصل إلى تفسيرات «لجميع» الظواهر يومًا ما! ثم يأتي كوبرنيكوس، ومن بعده كبلر ونيوتن وأينشتاين، مصحوبين بالقائمين على صنع وإطلاق الصواريخ الذين يوجِّهون عدساتهم نحو كوكبنا الأرضي المتحرك! («تبيِّن لنا الصور الملتقطة من الصواريخ أن أكثر الانطباعات إبهارًا التي تصيب الراصد الخارجي بالذهول يتمثل في مدى انبساط سطح كوكب الأرض … فأعلى قمم الجبال وكذا أعمق الأخاديد لا تمثل سوى تعرجات طفيفة في سطح كوكب الأرض الأملس نسبيًّا.» ومن على ارتفاع كافٍ، يصبح العالم الأرضي سماويًّا؛ ومن ثم يشكل هذا حدود المشاهدة.)
يصر بطليموس على أنه لو كانت أرضنا (حاشا لله!) تدور بالفعل، لكانت الأجسام المتساقطة ارتطمت بالأرض في موضع يقع خلف مسقطها العمودي الفعلي. وبطليموس على صواب، في إطار حدود المشاهدة. إنه ليذهلني أن العالم اضطر للانتظار حتى يوم الثالث من فبراير عام ١٨٥١ عندما جاء بندول فوكو ليوسع مدى تلك الحدود، وهو ما حدث على النحو التالي:
علِّقْ ثقلًا بواسطة سلك مربوط في معلاق ثابت ثلاثي القوائم. لفَّ خيطًا على هيئة أنشوطة حول السلك، ثم اجذب الخيط ببطء وإحكام نحو اتجاه الجنوب — أي على امتداد محور دوران الأرض حول نفسها — إلى أن ينجذب نحوك، انتظر للحظة أو اثنتين ريثما تختفي أي اهتزازات في السلك، ثم المس الخيط بشعلة من عود ثقاب إلى أن ينقطع. عندها يبدأ البندول سلسلة من التأرجحات التي لا تشوبها أي حركة جانبية. ما يحدث بعدها إعادة لتصوير ظاهرة كوريوليس: إذا كنت موجودًا شمال خط الاستواء، فإن كل تطرف شمالي للأرجحة يتجه شرقًا مقارنة بسابقه، وكل تطرف جنوبي بالتالي يتجه للغرب (في نصف الكرة الجنوبي يكون اتجاه الأرجحة عكس اتجاه عقارب الساعة). إن بندول فوكو يسقط سقوطًا حرًّا في الفضاء، في حين تدور الأرض من حوله! والآن لنعكس ظاهرة كوريوليس: ستصبح تلك الظاهرة في أكثر صورها وضوحًا عند القطبين وتتلاشى تمامًا عند خط الاستواء. إن التعبير الرياضي عنها في أي موقع مقداره خمس عشرة درجة في الساعة (وهو معدل دوران الأرض) مضروبًا في جيب زاوية دائرة العرض.
«الواقع هو ما ندركه الآن.» يا له من تعريف ضيق الأفق يُرثى له! غير أنه مع ذلك يصيب كبد الحقيقة. بفضل ما نقلته تليسكوباتنا الفلكية ومسابرنا التي تجول بين الكواكب، بدأت الكواكب، على الأقل، تكشف عن لمحات من مجدها: الفوهات التي يميل لونها إلى الاحمرار فوق كوكب عطارد تحتشد وسط ظلام الفضاء (قرأت أن كوبرنيكوس لم يرصد عطارد مطلقًا ولا حتى على هيئة نقطة لامعة؛ وهو يعزو ذلك إلى وجود أبخرة متصاعدة من نهر فيستولا تخفي المشهد؛ لكن حقيقة الأمر، أن طبعتي الحالية من أطلس نورتون للنجوم تؤكد لي أن «الخبرة العامة» المتعلقة بالبحث عن عطارد حتى باستخدام تليسكوب الهواة «تصيب الراصد بالإحباط وخيبة الأمل»)؛ وكوكب المريخ ذي اللونين الأزرق والضارب للصفرة، الذي هو في حقيقة الأمر، بفضل عنصر الحديد، أكثر احمرارًا مما يبدو في كثير من الصور الفوتوغرافية، «يرجع ذلك في جزء منه إلى ظروف الإضاءة، وفي جزء آخر منه إلى صعوبات المعايرة في نظام الرصد» — من جديد الواقع هو ما ندركه! — والقرص الرائع اللامع المتوهج مثل قنديل البحر، لكوكب المشتري، الذي كانت أقماره، المجهولة تمامًا لكوبرنيكوس، تدور حوله وكأنها كرات من حجر شبه كريم؛ والفوهة السوداء، التي سميت باسمه، التي تحدق مثل عين تطل علينا من وسط بحر من الركام فوق الأفق الرمادي لقمرنا.
«ينتقل جيلًا بعد جيل وكأنه إرث»
هل تعلم الاسم الذي أطلقه بطليموس على تلك المشاهدات القديمة المشوبة بالخطأ؟ «العمل من أجل عشقٍ آخر للحكمة والحقيقة.» وكان محقًّا. ولمعرفة كوبرنيكوس بذلك وتوقيره له، ينصحنا بأن «نتمسك بمشاهداتهم، التي انتقلت إلينا جيلًا بعد جيل وكأنها إرث.» إن الحقيقة — العلمية على الأقل — لا يُتوصل إليها (بالتقريب، حسبما يجب القول) إلا بتراكم عدة مجهودات شاقة.
سوف يقضي تيكو براهي (وهو بالمصادفة لا يمكنه تحمُّل الفرض الجدلي لكوبرنيكوس بمركزية الشمس، وفي أيامه كان الفرض الجدلي هو كل ما يتبقى، بفضل حدود المشاهدة) ست سنوات ويستهلك تسعة آلاف صفحة مكتوبة بخط لا يكاد يُقرأ كي يعلم أن الموضع الفعلي للمريخ يتغير في بعض الأحيان بمقدار ثماني دقائق قوسية كاملة عن الموضع المفترض أن يكون فيه وفق نظرياته هو، وسوف يأتي كبلر بعد ذلك ليقرر في شجاعة أنه «لما كان من غير المسموح به تجاهل تلك الدقائق الثماني، فإنها لا بد أن تشير لنا نحو الطريق المؤدية لعملية إعادة إصلاح شاملة لعلم الفلك.» ينتقل جيلًا بعد جيل وكأنه إرث! ذكر كوبرنيكوس — حسبما ستتذكر — أن دقة في حدود عشر «درجات» قوسية (الدرجة الواحدة تساوي ستين دقيقة) تجعله منتشيًا مثل فيثاغورس عندما اكتشف قاعدته الشهيرة (كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، الكتاب السادس: «ولكن لا الدقائق الثلاث ولا الأربع بالضخامة التي تجعلنا نقيسها بواسطة أسطرلاب؛ ومن ثم فإن هذا الذي اعتُبِر أعظم حجم لانحراف كوكب الزهرة «صحيح»») بمعيار الدرجات العشر، ما كانت الدقائق الثماني لتعذِّب براهي أو كبلر، وما كانت عملية إعادة الإصلاح لتحدث.
آه، حدود المشاهدة! إليكم كيف وصف كبلر فوهة كوبرنيكوس وغيرها من الفوهات: «من ثم، فإن البقع المظلمة التي تُشاهد على القمر هي نوع من السوائل التي، بسبب لونها وليونتها، تسبِّب إعتامًا لضوء الشمس.» ولم تتمكن أي عملية رصد حتى وقتها من دحض الفرض الجدلي القائل بأن فوهات القمر مملوءة بسائل.
والشيء بالشيء يذكر؛ لماذا يرفض تيكو الاتجاه الكوبرنيكي؟ لأن هذا الراصد الماهر الذي كرَّس حياته لذلك العلم لم يكتشف الحركة التغيرية السنوية للنجوم، التي ذكرت نظرية كوبرنيكوس أنه من الضروري أن تكون مرئية لو كانت الأرض تتحرك (سوف نعود لتلك الحركات بعد فصلين من الكتاب). من هنا خرج تيكو بمنطقه القائل إن الأرض ثابتة لا تتحرك وإن الشمس هي التي تدور بينما تدور الكواكب حولها. لقد وجد تفسيرًا للظواهر تمامًا مثلما فعل كوبرنيكوس، ولم يقرَّ علميًّا بصحة مسألة تزيُّح الأجرام إلا عام ١٨٣٨.
«في العادة يحتاج الأمر لنظارة ميدان»
إذن ما الذي في استطاعة كوبرنيكوس أن يأمل في تحقيقه من وراء ذلك البنيان المتواضع المشيد من الطوب، الذي يتخذ مقطعه العرضي شكل المستطيل، ويرتفع لأعلى نحو رأس سهم مكسوٍّ بالبلاط وصار الآن معروفًا باسم «برج كوبرنيكوس»؟ ما الذي يمكنه رؤيته حقًّا من أعلى تلك الإبر المدببة في ضوء مساء مدينة فرومبورك؟ حسنًا، بالإضافة إلى النجوم، هناك نقاط ضوئية ذات أهمية معينة يخبرنا عنها بأنها «تتجول بأساليب متنوعة، فتهيم على وجهها في بعض الأحيان جهة الجنوب، وأحيانًا أخرى جهة الشمال، من أجل ذلك سُمِّيت «كواكب».» إن الراصد الهاوي للسماء والمنتمي لعصري ينصحنا بالبحث عنها عن طريق «مراقبة حركتها ليلة بعد أخرى على خلفية من النجوم التي تبدو ثابتة، مع ملاحظة كيف تعمل على تشويش أشكال البروج النجمية.» من ليلة إلى أخرى! لا يبدو هذا الأمر ميسورًا بالضرورة. سوف يكون من الممكن بهذه الطريقة تمييز كوكب الزهرة؛ لأنه أكثر لمعانًا من باقي الأجرام السماوية الأخرى؛ أما المشتري فهو يقترب منه في درجة اللمعان، لكن المريخ في بعض الأحيان، وهو يشبه نجمة برتقالية اللون، أكثر منه لمعانًا؛ ويبدو زحل مثل نجمة برتقالية اللون؛ وبالنسبة لعطارد فإن الأمر «في العادة يحتاج لنظارة ميدان لتحديد موقعه.» ومن المؤكد أنه لهذا السبب لم يتمكن كوبرنيكوس مطلقًا من تسجيل أي مشاهدات لعطارد.
لقد كانت حدود المشاهدة تعرقله حتى جعلته شبه معاق. أنت أو أنا يمكننا النظر إلى صخور القمر، أما كوبرنيكوس فكان عليه الاعتماد على أبحاث مليئة بالأحابيل والعقد المتشابكة التي تعشش بداخلها هندسة فراغية كروية نصف نامية، البعض من حقائقها المقررة كان هو في حاجة لاستنباطها بنفسه، حتى يحسب بُعد القمر عنا؛ وفي هذه الأثناء، لم يكن طول ذلك الضلع أو قيمة تلك الزاوية من المثلث الذي رسم عقله العبقري منظوره مرتفعًا لأعلى نحو الأفلاك الكروية الكوكبية قابلًا للتحديد إلا من خلال عمليات رصد أجراها فلكيون ومنجمون غيَّبهم الموت لا يمكنه الوثوق في نظرياتهم (هل تتذكر الجداول الألفونسية؟ كانت مكتبة كوبرنيكوس موبوءة بذلك العبء). من المفارقة أن إيمانه الذي وضعه في غير موضعه بتلك المشاهدات التي كثيرًا ما كانت خاطئة أدخل العديد والعديد من التناقضات التي حضَّته أكثر على رفض منظومة بطليموس، التي عجزت عن تفسير المواضع الخاطئة للكواكب على نحو أفضل مما فعلت مع المواضع الصحيحة.
«إننا نقترب من الحدود القصوى لقدرتنا على سبر غور السماوات.» تظهر تلك العبارة في مرجع فلكي نُشِر عام ١٩٨٢، فيجيبه فلكي آخر في أسلوب لاذع بقوله: «إن السنوات الثلاث والعشرين التالية من الاكتشافات الفلكية برهنت على عدم دقة هذه المقولة إلى حدٍّ بشع؛ فالقدرات الرصدية اتسعت على نحو هائل منذ ذلك الحين.» غير أنه في عام ٥٣٨٢، لو قدِّر ساعتئذ أن يكون الجنس البشري على قيد الحياة، فسوف نظل بقدراتنا المحدودة نقاوم القيود التي تعوق مشاهداتنا. فماذا في وسعنا أن نفعل حينئذ أكثر من الاستنباط والاستنتاج؟
عام ١٥٤٣، اقترب كوبرنيكوس على نحو مماثل من حدود المشاهدة: فالكواكب الخمسة ليست سوى نقاط من الضوء، وهو لم يَرَ سوى أربعة منها! لكنه في صبر ومثابرة يستنبط ويستدل. ويضحك أوزياندر ضحكة مكتومة في تلك المقدمة التي تفضَّل بها عليه: «وكلما مضت الافتراضات النظرية قدمًا، وجب على كل شخص ألا يتوقع أي شيء من علم الفلك على سبيل اليقين … وإلا، إذا اعتبر أي امرئ ما بني لهدف آخر أمرًا صحيحًا، فإنه يغادر هذا الميدان وقد صار أكثر حماقة عن ساعة دخوله إليه. وداعًا.»
في هذه الأثناء، دونما يقين، بل ولا حتى مشاهدة (لم يَرَ في حياته قرص كوكب)، وبدون بندول فوكو، وباعتبار ما بُني من أجل استخدام آخر صحيحًا، مع وجود بعض الحقائق دون برهان قاطع، يدحض كوبرنيكوس نظرية مركزية الأرض! ومن هنا ظهرت المنظومة التي تعد الشمس مركزًا لها مبكرًا جدًّا، تقريبًا قبل موعدها بقرنين، بحيث يتعذَّر فهمها وتقديرها على النحو الصحيح؛ ومع ذلك، وبالرغم من حدود المشاهدة، ظهرت. ولهذا السبب أعتبر كوبرنيكوس، بحق، رجلًا عظيمًا.