استهلال
هذه رحلة أو تغريبة تبدو في ظاهرها رحلة إلى أعماق النَّفس والتَّاريخ؛ إلَّا أنَّها تتَّجه معنًى ودلالةً إلى الحاضر والمستقبل بحثًا عن أسباب حالنا الرَّاهن، وعن العقل الموروث الفاعل. وكذا هي تساؤل عن كيف نَبني عقلًا جديدًا يدعم المسيرة الحضارية، ويحفز إلى النهوض تأسيسًا على منطق الواقع دون تهويم أو تخييل نُحلِّق معه في الفراغ … رحلة إلى أعماق محتوى الوعي/المخ طالَما تمنَّيت أن يتولاها عنِّي عالِم خبير بحثًا عن طبقات اللاشعور العربي الحاكم للسلوك ونهج التعامل مع الواقع والفكر … رحلة هدفها سبر أغوار العقل بحثًا عن كوامن خافية ثاوية في الباطن تُمثل بداية الحدث ولكن تجلياتها واضحة في الظَّاهر؛ تُنكر الجذور بل وتُصادر عليها وإن ظلت فاعلة مؤثرة وحاكمة تُشكِّل ما يُمكن أن نُسميه بِنية المعنى أو الإطار الثقافي الفعَّال والمؤثر الذي نرى من خلاله صورة الوجود، ويصوغ لنا طبيعة السُّلوك، ويُضفي في النَّفس شعورًا بالرِّضا والاكتفاء والانكفاء، وأن لا حاجة إلى مزيد.
رحلة غايتها إجابة على سؤال: كيف نُفكِّر ونعمل في حياتنا أفرادًا وجماعات قانعين بثقتنا المطلقة في رصيدنا الثَّقافي الموروث بدلًا من بحث ودراسة ما يَجري من تغيير؟ كيف تتوالى الكوارث والصدمات في حياتنا فلا نتَّجه إلى تغيير أنفسنا وواقعنا وفِكرنا؛ بل تأخذ جهودنا مسارًا آخر، ونُفسِّر الكارثة تفسيرًا يدفعنا أكثر وأكثر إلى الهرب من الواقع؟ كيف نرى الخير الأسمى والمثل الأعلى: المعنى والصورة والرمز والحقيقة المفترضة في حياتنا ونرصد لها مخاضَ جُهودنا ووجودنا؟ كيف نرى صورتنا … صورة الذات فردًا أو جماعة … الإنسان من حيث هو وجود ونشأة ودَور ومصير … مصير هو قبلة الفعالية إن كانت هناك فعالية بالحقيقة أو بالمجاز؟
وحافزنا إلى الرحلة التي نَنأى بأنفسنا، على مدى أجيال مُمتدة، عن خوض غمارها والبحث عن مجهولها هو المفارقة الواضحة بين ثقافات/رؤى/سلوك/أُطُر فكر المجتمعات، وتجليات هذا كله فيما يُسمى صناعة حضارة، أو إعمار الأرض، أو في المنافسة والصراع والتحدِّي من أجل بقاء متميز وغلبة وانتصار على الآخر وربما دحره وإفساح طريق التطور لمَن هو أكثر فعالية حسب قانون الوجود، وأقدر على التكيف وأكثر ثراءً بما يتحلَّى به من عوامل المُرونة والحركية، ومحصلة هذا كله في التطبيق في صورة احتلال موقع المركز أو التهميش. وأين نرى، بحكم ثقافتنا، مجال المنافسة والتميز والتحدِّي؛ بل التضحية والشهادة؟ أو في إيجاز: ما الذي خلَق منا فريسة للآخر؟
وسبق أن قلنا في كتابنا «التراث والتاريخ» إنَّ ثقافات شعوب العالم تنقسم إلى فئات ثلاثة مُتمايزة من حيث محورية علاقة الإنسان/المجتمع بالسماء دون إنكارٍ لأيٍّ منهما. ذلك أن الإنسان الأول الذي انتصبَت قامته ومشى على قدمَين مُتحرِّر اليدَين رأى العالم في صورة جديدة تمامًا … رأى العالم في أبعاد المكان الثلاثة مع بُعد الزمان، وقد دمج المكان والزمان معًا الآن. وكانت السماء هي الحدث الأهم والأكبر في حياته.
ومع تطور فعالية ومهارة اليدَين، وتطوُّر المخ والذاكرة، وقدرة الحفظ وطاقة الاستيعاب، ترسَّبَت ذكرياته في تمييز بين النجاح والفشل. وصاغ من واقع فعاليته ما نُسميه الثقافة التي تتطوَّر مع تطور هذه الفعالية الجمعية. ولهذا تكشف الثقافات دائمًا عن طبيعة التمايز المكاني أو البيئي والإيكولوجي للإنسان/المجتمع؛ لأنَّها وليدة الإنسان وفعاليته في موقع ذي طبيعة وإمكانات وخصائص مُميزة وفي زمن مميز.
وتتطوَّر الثقافة بفضل وبفعل تطوُّر هذه الفعالية التي يتطوَّر معها الإنسان أيضًا. ولهذا تكشف الثقافة أيضًا عما يتَّصف به المجتمع من فعالية أو جمود/حركية أو سكون. ويُنتج الإنسان/المجتمع فكرًا وليد هذه الفعالية مع واقع حياته. ويتطوَّر الفكر ويتجدَّد مع تطور وتجدد موضوع الفعالية. وتترسَّب الخبرات مختزلة كاشفة عناصر الدعم والتعزيز والنجاح وعوامل الفشل. ويصوغ الإنسان/المجتمع من هذه الترسبات — الذكريات — حصاد الخبرات والتجارب، إطاره الثقافي الذي يَصوغ صورة العالم وطبيعة وحدود ومُقتضيات السلوك معه. وتظلُّ العلاقة الجدلية التطورية، أو هكذا المفترض نظريًّا، بين الفعل الاجتماعي وبين الفكر/الثقافة. ونلحظ في هذا كله أن صورة «السماء» فاعلة مُؤثِّرة على مدى التاريخ. ولكن تبايَنت الصورة من ثقافةٍ إلى أخرى، وتبايَنت معها حدود وأُفُق ومُقتضى فعالية الإنسان/المجتمع مثلما تبايَنَت بالتبعية صورة الذات وواجباتها وغاياتها على الأرض.
وإذا تأمَّلنا ثقافات الشعوب من خلال هذا المنظور نجد فوارقَ ذات دلالة وتأثُّر تاريخي واضح. وتتمثَّل هذه الفوارق في مساحة الفاعلية والمسئولية التي تخص كلًّا من السماء والإنسان على الأرض؛ إذ تكاد المساحة الخاصة بالإنسان تنتفي تمامًا في المجتمعات البدائية أو الراكدة والمتخلفة، وتستوعب السماء إرادة الإنسان إلى حدِّ النفي والإلغاء. وتتسع مساحة مسئولية وإرادة الإنسان في مراحل النهوض وانبثاق الأمل في تطوير الحياة؛ إذ تكون للإرادة والمسئولية وللعقل المدبر الدور الأكبر. وليس في هذا إنكار للسماء، ولكن تعزيز لمسئولية ودور الإنسان/المجتمع، وتأكيد لدور العقل المبدع المتجدِّد في توجيه شئون الدنيا، وهو ما اصطلحنا على تسميتِه العلمانية.
ولهذا فإنَّ المجتمعات في مراحل النهوض؛ أي مراحل التحوُّل والانتقال وأمل الارتقاء، تعود إلى ذاتها تتأمَّل ثقافتها الموروثة بعقل ناقد في ضوء احتياجاتها. تُعيد فحص وفرز متاعها ورصيدها الثقافي كاشفة عن عوامل القصور والعجز عن تفسير وإنجاز الجديد المُستحدَث أو عوامل الإعاقة عن الحركة والمُضيِّ قدمًا والمنافسة والتحدي في سباق تعزيز الوجود الحضاري.
هكذا حال كل المجتمعات في مراحل النهوض … بدأت بالشك وإعادة التقييم دون إنكار لواقع الامتداد الحضاري، ودون إنكار لفعالية إرث الماضي في الزمن الماضي وعجزه الآن. وهنا، ومع اطراد الفعالية الإنتاجية الاجتماعية يُفرز المجتمع فكرًا جديدًا هو مُنتَج وحصاد هذه الفعالية المتلاحمة الجامعة للإنسان/المجتمع/البيئة/العلم والتكنولوجيا في وحدة جدلية. هكذا كانت أوروبا في عصر التنوير، وهكذا كانت اليابان، وهكذا كانت الصين، وهكذا كان المجتمع الإسلامي في نهضتِه الحضارية حين اعتبر السابق أي الموروث جاهلية؛ أي فقد صلاحيته؛ ومن ثم كان دعوة إلى الجديد.
ولكنَّنا الآن وعلى مدى أجيال طويلة لم نَعرف معنى الشك، وانصرفنا عن التجديد، ولم نعرف معنى إعمال العقل، ولم نعرف معنى إنتاج الوجود في تحدٍّ مع الآخر، فتعطَّل الفكر مع تعطل الفعل الاجتماعي الإنتاجي. ولهذا أصابنا الجمود، نعيش الموروث في صورته الأسطورية دون فهمٍ أو نقدٍ عقلانيٍّ، ونُولِّيه زمام أمورنا دون إدراك لمفارقة الزمان والمكان، وذلك لأن أقدامنا لا تقف على أرض الواقع.
ولكن سهم الزمان لا يَرتدُّ إلى وراء، ولا يَثبت في مكان، وإنما يمضي ويَنطلق إلى أمام مخلفًا وراءه مَن تقاعسوا عن الشك الحافز إلى التجديد، وأقالوا العقل الناقد الإبداعي.
القاهرة، ٢٠٠٨م