الخصوصية … والفعالية الحضارية
الحديث عن الخصوصية يأتي على مُستويَين؛ خصوصية الإنسان/المجتمع من حيث هو نوعٌ، أي خصوصية النوع البشري على مستوى التطور الارتقائي الحي. ثم خصوصية الإنسان/المجتمع على المستوى الحضاري المحلي أو العالَمي؛ أي خصوصية الفعل والاستجابات وما اكتسبته المجتمعات على مدى تاريخها في تطويرها للغاتها وعناصر ثقافتها واستجاباتها وأساليبها المميزة في العمل، وأساليبها في تنظيم هياكل وبنى حياتها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وملاءمة هذا كله للمسرَح الجغرافي الذي تجري عليه تلك الأحداث، والتفاعُلات المحلية والإقليمية والعالَمية المؤثرة على هذا سلبًا وإيجابًا.
ويُشكِّل المستوى التطوري لخصوصية النوع القاعدة والمرتكز لخصوصية الإنسان/المجتمع على المستوى الحضاري المحلي؛ حيث يكون الإطار المحلي، إيكولوجيًّا وحضاريًّا، هو مسرح النشاط والعامل المباشر المحدِّد لخصوصية الإنسان/المجتمع. والخصوصيتان: التطورية البيولوجية والحضارية الاجتماعية كلتاهما في وحدتهما الجدلية صيرورتان تاريخيتان متفاعلتان وإن تبايَن الإيقاع الزمني لكلٍّ منهما.
والخصوصية التطورية للنوع؛ أي خصوصية الإنسان/المجتمع المميزة له عن سائر الكائنات هي الفعل والتفاعل الاجتماعيَّان في علاقة متبادلة فيما بين الأفراد وفيما بين المجتمعات. وهذه هي العلاقة المنتجة للفكر وللثقافة وللتاريخ. وتُمثل علاقة العمل الاجتماعي والذاتية المشتركة الإطار العام المحدد للعلاقات التي يجري فيها وباسمها ويعبر عنها النشاط الثقافي الاجتماعي. ويتميَّز النوع البشَري كذلك بخصوصية مميزة هي القابلية الهائلة للتحوُّر والتنوع؛ ذلك لأن البشر لا يقنعون بمجرد الحياة لتكون الحياة اطرادًا عشوائيًّا؛ ولا بمجرد الحياة في علاقات سكونية نمطية ثابتة أو استاتيكية مطردة؛ بل البشر يُنتجون العلاقات الاجتماعية في اتِّساق مع الفعل الاجتماعي، مثلما يُنتجون حياتهم ويطورونها لكي يعيشوا. ويكون للذاكرة والوعي المتطور، وهما وليدا فعل الإنتاج الاجتماعي، دورهما المميز في بناء الحياة الاجتماعية وإبداع الجديد في صورتَيه؛ المعنوية (الفكر والثقافة) والمادية. ذلك أن حياة الفعل الاجتماعي النشط تُحفز تلقائيًّا إلى خلق المزيد من الحاجات، ومن ثَم إلى المزيد من التطوير والتنوع. وينتج البشر هذه العلاقات من خلال الابتكار المستمر لسُبُلٍ جديدة للفعل والتكيف؛ ومن ثم يُنتجون الثقافة والتاريخ. ومع تعدد المكان وامتداد الزمان تتنوع الاستجابات، أعني تتنوع سبل الفعل والفكر والثقافات والتاريخ، أو لنَقُل في كلمة واحدة: تتنوع التجليات الحضارية للمجتمعات.
ولهذا نقول إن الهوية الاجتماعية هي فعل أو نشاط النَّحنُ الاجتماعية في التاريخ. وهذا النشاط استجابة حياتية لإرادةٍ ووعي اجتماعيَّين. وإذا ما فقدَ المجتمع هذه الخصوصية فكأنَّما فقدَ خصوصية النوع، لتغدو حياته — شأن حياة الحيوان — تكاثُرًا أميبيًّا، واطِّرادًا قدريًّا عفويًّا سقطت عنه إرادة الفعل، وتعطل إنتاج الفكر الذي يتولَّد استجابة لتحديات الواقع المُتغيِّر المتجدِّد أبدًا … لهذا فإن الإنسان/المجتمع ينتج ثقافته على النحو الخاص به زمانًا ومكانًا، ويَكتسب خصوصيته من طبيعة استجاباته الإرادية الحرة في إطاره الإيكولوجي المميز، ومحيطه العقلي، ونهجه في الحوار وفي التعامل مع النفس والطبيعة … ولهذا يُمكن القول إن التنوع والابتكار والفعل الإرادي الحر والفِكر المتجدِّد وقابلية التطور والتحور اجتماعيًّا هي جميعها خصوصيات تميز النوع البشري وتمايز بينه وبين غيره من الكائنات. ونقول، استطرادًا واتِّساقًا، إن المجتمع الذي لا يعمل أي لا ينتج مقومات وجوده في إطار قومي هادف، ولا يُحدِّد ولا يَبتكر استجابة لتحديات الواقع هو مجتمع عاطل من الفكر أيضًا. ومثل هذا المجتمع لا يملك إلا أن ينكص ويرتد إلى رصيده الموروث المغترب عن الزمان وعن الواقع المعيش، وتكون حياته ووعيه كهفًا مصطنعًا أسطوريًّا يغلبه الحنين إلى ماضٍ ولَّى أهله وزمانه. والعمل الاجتماعي الهادف النابع من إرادة حرة في ضوء وعي حرٍّ بتحديات الواقع هو جوهر وأساس روح المعاشرة المُتجدِّدة التي تُوثِّق عُرى الترابط المتزايد بين أبناء المجتمع، وهو منبت أو مصدر توليد الصورة العقلانية المشتركة للمُجتمع في بُعدَيها الزماني والمكاني … وبذا يترسَّخ شعور الانتماء على نحو نشط إيجابي، وتتماثل الأهداف، وتتكافَل الجهود وتتعزَّز الروابط.
والثقافة حسب هذا المعنى مُنتج اجتماعي لتكييف وملاءمة فرص ومناخ ونهج الفعل والتفاعُل الاجتماعيَّين … إنَّها إطار الفعل والتفاعل … إطار العمل والعلاقات والتأثُّر والتأثير وليست علَّة ذلك. ومُقتضى هذا القول إن دراسة ثقافة مجتمع ما في ازدهارها أو انحطاطها تستلزم دراسة حالة الفعل أو النشاط الاجتماعي، وعلاقة التفاعل فيما بين أبناء المجتمع، وكذا فيما بين المجتمعات على المستوى الإقليمي أو العالَمي وما تولَّد عن هذا التفاعل من إيجابيات أو سلبيات عزَّزت فعالية المجتمع وتلاحمه أو العكس. وليسَت الثقافة، تأسيسًا على هذا، إطارًا جامدًا أبديًّا وإنما هي إطار دينامي مُتطوِّر في امتداد زماني-مكاني من خلال الفعالية والتفاعُلية. وتتجلَّى ديناميتها في قابليتها للتأويل والتجدُّد والتكيف مع مقتضيات الفعل الاجتماعي وصراع الوجود.
وخصوصية النوع، والتي يُمكن أن نسميها الخصوصية القاعدية تُمثِّل قاعدة وركيزةَ نشوء وتجلِّي الخصوصية الثقافية للإنسان/المجتمع على المستوى المحلي أو القومي، والتي يُمكن أن نُسميها الخصوصية المشتقة. وتتنوع وتتعدَّد الخصوصيات الحضارية بوجهَيها المادي (التكنولوجي) والمعنوي (الثقافي والفكري) في إطار بُعدَي الزمان والمكان. فالحضارة هي إبداع الأدوات المادية (التكنولوجيا) والمعنوية (الإطار الفكري/القيمي)؛ أي الثقافة استجابة لتحدياتٍ وجودية يَفرضها الواقع المتجدِّد بتفاعله مع الإنسان/المجتمع. ويتَّسم هذا التعريف بالدينامية؛ إذ يدمج الإنسان/المجتمع كأحد مُكوِّنات البنية الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، وباعتباره طرفًا في حوار نشط مع الطبيعة، وخصوصيته مستمدة من واقع حاله. وهنا لا يكون الإنسان/المجتمع كينونة ذاتية مُستقلَّة مُطلَقة منفصلة عن الطبيعة، ولا يكون عنصرًا مؤثرًا فيها فحسب؛ بل هو طرف حوار واستجابة وتفاعُل في بنية وجودية حية مشتركة متنوعة ومتحورة أبدًا. ويتَّسق هذا التعريف مع مفهوم التعدُّدية والتنوع والتطور في الزمان والمكان. وإن كان لا يَمنع هذا، علاوة على ما سبق، مِن النظر إلى آلية التحول الثقافي في ضوء تطور ونشاط الجهاز العصبي للإنسان من حيث الاختزان والرصيد (الذاكرة الفردية والجمعية) والتغذِّي على الجديد، وممانعة القديم لهذا الجديد على نحو ما يحدث في الصراع أو التناقض بين الجديد والتقليد.
وفي ضوء ما سبق نقول إنَّ الخصوصية الحضارية المُتحوِّرة بوجهَيها المادي والمعنوي هي ما يتفرَّد به الإنسان/المجتمع من صفات مميزة من خلال الصيرورة التاريخية التي هي تفاعُلٌ حي إرادي عقلاني في بيئة طبيعية جغرافية من خلال الوجود الإنساني المتمثِّل في المجتمع لا الفرد بإيجابياته وسلبياته. وإذا كانت الاستجابة، التي هي فعل وتفاعل إرادي اجتماعي، شرطًا أساسيًّا، فإنَّ الإنسان/المجتمع في أيِّ حضارة انهارت سواء بفعل تحلُّل داخلي أو غزو وقهر أجنبي أو كليهما؛ ومن ثمَّ تيبَّست وجمدت وكفت عن الأخذ والعطاء، ولم تَعُد تُسهم في اطِّراد العملية التاريخية ببناء حضارة بديلة هي إبداع المجتمع ذاته وتعبيرًا عنه؛ مثل هذا المجتمع يفقد هويته، ويَفقِد تفرُّده الإيجابي، بل إنه يغدو مسخًا؛ ذلك لأنَّ لا شيء في مجال الثقافة الاجتماعية يبقى على حاله، وإنما الثقافة أو الهوية الثقافية هي الإنسان/المجتمع إمَّا إلى تقدُّم وازدهار بفضل العقل الاجتماعي الإبداعي النشط، وإمَّا إلى تدهور وانحسار نتيجة الجمود. ويعيش مثل هذا المجتمع في غربتَين؛ غربة في الزمان، وغربة في المكان.
والوعي والعقل الاجتماعيان هما نتاج هذا التفاعل، وهما أيضًا وفي الوقت ذاته أداة هذا الصراع. إنهما وليدا الصراع من حيث كونهما أداة ومُحتوى. ومِن ثَمَّ يتعيَّن، لمعرفة طبيعة الخصوصية الثقافية، أن نسأل عن طبيعة هذا الصراع الوجودي وعن أطرافه، وعن الوسط الإيكولوجي الذي يدور فيه، والعوامل المُحدِّدة لنهج الصراع، ودور الوعي والإرادة أو مساحة كلٍّ منهما حضورًا أو غيابًا. وطبيعي أن يتطوَّر هذا كله مع التطور الحضاري في إطار الصراع بين الموروث والجديد.
فالإنسان الذي يَعيش على قطف الثمار يرى الطبيعة هي الواهب العاطي؛ إذ يجد الثمار دانية القطوف من حوله. والإنسان في بيئة الرعي لا ينشد غير فَيء يَستظلُّ به وعيناه إلى السماء تتأمَّل العاطي الوهاب، بينما أغنامه سارحة ترعى وتتوالَد وتتكاثر، ولا يكلف نفسه سوى عناء التعبير عن الحمد والشكر والامتنان. والإنسان في البيئة الزراعية التقليدية قديمًا يبذل قدرًا أكبر من الجهد والمتابعة، ولكن الأمر في رحم الغيب متروك لرضاء القدر. ولهذا أرى أنه في مُجتمع الشرق القديم نشأت ثقافة هي وليدة خصوصية العمل الاجتماعي وعلاقاته في مجال الرعي والزراعة، ناهيك عن الصراع، صراع المصالح بين المُجتمَعات وأثر ذلك. وتميَّز فكر الصحراء والزراعة التقليدية بأنه فِكرٌ سكوني، استاتيكي، على عكس فكر مُجتمعات حياتها وتفاعُلها مع البحار والطبيعة المتغيِّرة القُلَّب دومًا؛ فإنه فكر دينامي مُتغير … ولذلك نجد أبناء الرعي والزراعة أنزع إلى الفكر المحافظ المتجانس. وطبيعي أن ثقافة الشرق التقليدية لها تبايناتها حسب طبيعة العمل ومُقتضياته من ارتحال أو استقرار. إنها أشبه بثقافة أو حضارة عنقودية لها خيط أو عصب أساسي جامع، ولكن لكل وحدة تمايزها الفرعي. وتميزت هذه الثقافة في عموميتها بخصوصية نهج الصراع بين الإنسان وبين الخطيئة اشتياقًا إلى الغيب المُطلَق المُتعالي والمفارق الفعَّال. وهذه رؤية تنطوي على تصور رمزي لعلاقة الإنسان بالوجود وطبيعة العمل. وسوف يتجلَّى هذا واضحًا عند حديثنا فيما بعد عن الثقافة في عصور الانحلال الاجتماعي وهيمنة الغزاة الأجانب وسيادة عقيدة الغنوصية أو الهرمسية.
وتختلف هذه الثقافة عن ثقافة الصين وجنوب شرق آسيا كمثال آخر لحضارة/ثقافة عنقودية؛ إذ تتميَّز بخصوصية صراع الإنسان/المجتمع ضد اللاتناغم اشتياقًا إلى التناغم الكوني. وهذه ثقافة تؤكد تلاحم البيئة الاجتماعية، وأن الخطيئة تعني كل ما يفسد هذا التناغم والتلاحم في الوجود وفي المجتمع وفي النفس وفي الفكر. ونجد، كمِثالٍ ثالثٍ عند الإغريق والرومان، خُصوصية صراع الإنسان ضد الطبيعة؛ البحار والجبال، من أجل فهم انتظامها، ومن أجل انتزاع الوجود أو البقاء؛ أي صراع ضد القدر وإن تخفَّى وراء قناع. وهذه أيضًا ثقافة المخاطرة والإرادة والتحدي والفعْل في بيئة الجبال والبحار والإبحار والتي فرضتها طبيعة العمل والحياة.
ونلحظ في هذا كله أن الإنسان/المجتمع لا يَعيش علاقاته مع النفْس والبيئة الطبيعية وما وراء الطبيعة بشكلٍ مُباشر، وإنَّما يعيشها من خلال رموز وتصورات أو بِنى ذهنية تُشكِّل الإطار المعرفي القيمي. وتكون الثقافة الاجتماعية — بقدر ما هي الإطار المُحدِّد لنهج السلوك — حجابًا بين الإنسان/المجتمع وبين واقع الوجود الطبيعي وما يراه وراء الطبيعة. إنه يتعامل مع الوجود من خلال هذا الإطار المعرفي/القيمي الذي له نشوء اجتماعي تاريخي. ووجه الخطر أن يلتمس الإنسان الاتساق مع ثقافته؛ ومن ثم يُعيد وجود ذاته على الصورة ذاتها ولا يتطلع إلى التغيير.
ويُعبر الإنسان عن هذا كله من خلال المنتجات الاجتماعية: الفن والأدب والمأثورات، ومن خلال الطقوس والشعائر … وتتميَّز هذه الأُطر بقابلية التنوع الشديد، وبقابليتِها للتأثُّر والتطور بفعل أو حسب قوة العلاقات والتفاعُلات والنشاط الاجتماعي … وتتوقَّف سيادة وعي مُعيَّن دون غيره على الموقف والوضع التاريخي الحضاري، وعلى نوع العمل الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات والنُّظُم الحاكمة لهذه العلاقات. وتتباين صور التعبير داخل المنظومة الحضارية الواحدة وإن جمَعها جذر مُشترك. مثال ذلك التعبير الديني عند المجتمع البدوي نراه مغايرًا للتعبير الديني في المجتمع الزراعي المُستقِر، وهو ما يعني أن الوعي الاجتماعي الديني في المجتمعات الإسلامية أو الشرقية عمومًا مُتباين بتبايُن طبيعة المجتمعات، وليس كما يظن البعض أنه خصوصية واحدة. إذ تسود المُجتمعات الزراعية، كمثال، خصوصية التعبير عن العلاقة بالأولياء والتقاليد المؤسسية الدينية في صور ورموز مُستقرة متباينة، على عكس المجتمع البدوي، فإنه بحكم الارتحال لا يعرف مزارات الأولياء ولا نظام المؤسَّسات الدينية المستقرة، ولا الوطن الأرض، وإنما يوحِّد المجتمع بين العقيدة والشيخ. فالشيخ الرئيس هو الجامع أو التجسيد لهذه الخصوصيات ومن حوله أتباع. والانتماء انتماء إلى فكرة أو عقيدة وليس إلى وطن، وليس غريبًا أن نجد الدعوات المنبثقة عن هذه البيئة تُناهض دائمًا الانتماء للوطن، وتُؤكد الانتماء للعقيدة مُتجاوزة المكان والتاريخ. وجدير بالذكر أن هذا التصور قد يتغيَّر من حيث الشكل إذا ما طرأ تغيرٌ حيوي. مثال ذلك أن ظهور النفط وما حقَّقه من ثروات اقترن بالاستقرار الاجتماعي والانتماء إلى القاعدة الاقتصادية الجديدة.
ونجد الأمر على العكس من ذلك تمامًا في حضارة التصنيع التي هي شيء جديد غير مسبوق. هنا الإنسان ولأول مرة في تاريخه الحضاري يتدخل يإرادته ليُغيِّر من طبيعة أشياء إلى أشياء أخرى؛ بل إنه إزاء ظواهر طبيعية جديدة وهو الفاعل الصانع والمسئول إراديًّا عن حاضره ومستقبله على الأرض … والجديد هو العمل الاجتماعي الذي تتطوَّر أدواته، والذي تولد عنه إطار معرفي/قيمي جديد ورؤية جديدة لصورة الوجود والإنسان وحدودهما، وإيقاع الزمان والتحول المتسارع على أيدي الإنسان/المجتمع. إنَّها خصوصية مغايرة ولكن في متصل تاريخي مُتعدِّد ومترابط المراحل، تأسيسًا على الخصوصية القاعدية للنوع البشري.
تأسيسًا على ما سبق نرى خطأ القول إنَّ الخصوصية أو الهوية القومية مُطلَقة لا تاريخية، وواحدة في كلِّ زمان ومكان. كأن يقول قائل مثلًا إن هوية «الأمة الإسلامية» هوية واحدة مُطلَقة، وإنها «الحقيقة المطلقة للأمة الإسلامية، وإنَّ الانفتاح على الحضارات أو التطور الحضاري لا يُغيِّر من هذه الحقيقة المُطلقة، وأن سِمَتَها المميزة هي التديُّن.» هكذا، وكأن مصر قبل الإسلام أو قبل المسيحية لم تكن مُتديِّنة، أو أنَّ المجتمعات غير المُسلمة غير مُتدينة ولا تَعرف ثقافتها الاجتماعية شيئًا عن الأرواح والغيب أو عن القيم المؤسَّسة على عقيدة دينية. أو أن يُقال إن العقيدة الإسلامية خصوصية مُطلَقة في الزمان والمكان أيًّا كان موقع مَن اتخذ لنفسه الإسلام دينًا الآن أو في العصور الغابرة أو في أفريقيا أو أمريكا أو أوروبا … إلخ. ويبدو هنا وكأنَّ الدين خصوصية في المُطلَق بمعزل عن الإنسان/المجتمع والتاريخ. ومثل هذا القول يَعزل الدين نشأة وتكوينًا وحياةً مُتطوِّرة عن واقع الفعل الاجتماعي التاريخي، ولا يرى أنَّ الدين هو الإنسان/المجتمع الذي هو فعالية نشطة في الزمان وفي المكان، ويتأثر بهذه الفعالية سلبًا وإيجابًا، ويُواجه قضايا ومشكلات مُتغيِّرة ومُتجدِّدة … ودون ذلك تهويم في فراغ. ونلحظ هنا إغراقًا في المُطلَقات والمُعميات؛ إذ كلمة «أمة» مُطلقة دون اعتبار للزمان والمكان والتاريخ الاجتماعي … وكذا صفة التديُّن. ويَكشف هذا عن وجه أيديولوجي سياسي غير عِلمي في طرح القضية. والحديث المطلق المُرسَل، فضلًا عن أنه غير عِلمي منهجًا ومبحثًا، فإنه أيضًا دعوة ضمنية إلى رِدَّة سلفية، وكأن الخصوصية أو الهوية ظاهرة غير أرضية أو غير اجتماعية شهدت ميلادها وبلغت أوجها وقت ازدهارها طفرة واحدة على أيدي «السلف الصالح»، ونفَت أو محَت كل ما سبق، وصادرت المستقبل لحسابها؛ ومن ثم فهي وإلى الأبد النموذج الأَوْلَى بأن تقتدي به جموع «الأمة» أو المجتمعات الإسلامية.
ونحن إذ نُقرر أن الخصوصية صيرورة تاريخية نشأةً وتكوينًا وتطورًا بناءً على خصوصية النوع، فإن هذا يعني ضرورة بحث الخصوصية في تطوُّرها التاريخي الاجتماعي وبيان عوامل الازدهار والانحسار والقوة والوهن. وحريٌّ بنا أن نلتمس هذا لا في الانتماء اللفظي إلى فكر أو عقيدة؛ بل في حالة المجتمع من حيث الفعل أو النشاط الإنتاجي الإبداعي والمُنْتَج الفكري الثقافي، أعني الواقع الحضاري بوجهَيه، والوحدة الجدلية التفاعلية بين الإنسان/المجتمع وبين الواقع المُتغير، وأيضًا التفاعل في المحيط الإقليمي والعالَمي، سواء كان في صورة حوار وتبادُلِ تأثير سلمي أو في صورة صراع وحروب.
ونحن إذ نُقرِّر أيضًا أن مصر والشرقَين الأدنى والأوسط تسودهما خصوصية ثقافية محورها الصراع بين الإنسان والخطيئة اشتياقًا إلى الغيب المطلق الفعَّال والمهيمن الجبار، فإننا في ضوء التزامنا بأنَّ الخصوصية صيرورة تاريخية، وأنها حدث تاريخي يَجري في إطار الفعل والتفاعل الاجتماعيَّين؛ أي العمل الاجتماعي والإبداع الفكري، نرى أن هذه الخصوصية — وهي ساحة ومحتوى ونهج العلاقة بالغيب — تتغيَّر بتغيُّر واقع الفعل والتفاعل الاجتماعيين. ففي عصور الازدهار الحضاري ومع أوج النشاط الإبداعي المادي والفكري للمجتمع نجد مساحة لإرادة الإنسان/المجتمع في شئون الدنيا وَفق تأويل جديد دون إخلال بمبدأ الإيمان بالغيب المُتعالي المفارق. هذا على عكس الحال في عصور الانحلال والانحطاط الحضاري، وما أطولها! إذ تَتلاشى مساحة إرادة الإنسان/المجتمع، ويتوحَّد الإيمان بالغيب مع منهج غيبي في التفكير ونهج شكلي في السلوك، وينصرف مخاض الإنسان/المجتمع كله إلى الغيب اسمًا وشكلًا؛ أي يستغرقه الغيب ثقافيًّا بالكامل، ويَستغرقه الوجدان المأزوم بالتناقض بين الفكر الراكد النكوصي وبين واقع الحياة.
وحريٌّ أن نلاحظ الفارق بين الإيمان بالغيب ومنهج التفكير الغيبي؛ ذلك أن الإيمان بالغيب لا يَحُول دون اختصاص إرادة الإنسان/المجتمع بشئون حياته في الدنيا ومسئوليته عنها. أما منهج التفكير الغيبي الذي يسود في عهود الانحلال والانحطاط فإنه يُلغي الإرادة، ويُذيب فكر الإنسان/المجتمع في محيط الغيب غير المفهوم عقلانيًّا؛ أي يُفضي إلى تغييب الفكر والعقل، ويتخلَّى الإنسان/المجتمع عن إرادته ومسئوليته، ويجفل عن قبول التحدِّي، ويَعتمد التواكل، وتَسقُط أو تُهدَر فعالية العقل. وهذا هو المنهج السائد تاريخيًّا في مصر منذ انحسارها حضاريًّا وسقوطها فريسة لغزوات متتالية. وأدَّت هذه الغزوات إلى سقوط الإرادة السياسية المصرية وسقوط القضية القومية مع حلِّ الجيش، وتعطُّل الفعل الإبداعي الإنتاجي الاجتماعي للمجتمع المصري في تكامله ووحدتِه.
إن مصر منذ الغزو الفارسي ٥٢٥ق.م. وإصدار قرار الفُرس بحلِّ الجيش المصري، ونَهبِ مُؤسَّسات الإنتاج الثقافي للعقل المصري — أي المعابد — وأَسر العلماء، وهي تعيش بغير قضية قومية تُمثل المجتمع في إرادته الموحَّدة وفي تكامُله وتفاعُله مع الخارج وتماسك بنيتِه في الداخل. وجدير بالإشارة هنا أن هذا الغزو كان حلقة مِن بين حلقات الصراع بين الشرق والغرب، أطرافه فارس ومصر واليونان؛ وذلك قبل ظهور عقيدة الإسلام بقُرون. هذا على عكس ما يتوهَّمه البعض، المسلمون بخاصة، مِن أن الصراع مُستحدَث ومحوره صراع ديني بين الغرب والإسلام. إنه صراع مصالح قديم، ولكنه اليوم يجري على صعيد عالَمي لا إقليمي.
وتحوَّل الشعب المصري منذ ذلك التاريخ وعلى أيدي الغزاة المُتعاقبين وحتى ظهور أول داعية للتنوير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إلى تجمُّع بشري لا مجتمع … العمل جهد فردي للخلاص الفردي من أعباء وعذاب وقهر الغازي. وتعطُّل إنتاج المعرفة كنشاط مُجتمعي وليد الفعل والإنتاج الجمعي … وحريٌّ بنا أن ندرس ظاهرة الإنسان المصري على مدى هذا التاريخ لنَعرف الحصاد النفسي للشخصية المصرية الفرد والمجتمع من أثر تعطُّل العمل الإنتاجي والإبداع الفكري، وأثر الاستبداد والقهر على أيدي حكام أجانب ثم محليِّين.
لهذا كله أرى أنَّ ثقافتنا الاجتماعية السائدة والمعيشة تتَّصف بخصوصية هي وليدة الانحلال الحضاري والقهر الأجنبي على مدى أكثر مِن ألفَي سنة، والاستبداد السياسي على أيدي الحكام المحليِّين، وكذا تحلُّل الروابط الاجتماعية وتَعطُّل التفاعل الاجتماعي … هي ثقافة الهزيمة والإذلال. وتجلَّت هذه الثقافة فيما أبدعه المصري من أمثلة عامية تُعبِّر عن سلوكه للتحايل والتكيف مع واقع قاهر لا يَملك إزاءه من حيلة. وليس غربيًا أن تسود في هذا المناخ ثقافة الغنوصية ومحورها الهرب إلى الغيب التماسًا للصبر على البلاء من عذاب الدنيا وتعبيرًا عن العجز عن التغيير. وترسخت هذه الثقافة مع توالي القرون في ظلِّ قهر الغزاة واستنزافهم لطاقة وجهد المصري. وهكذا عاش المصري فردًا مهيضًا عاجزًا مقهورًا يَلتمِس الخلاص في الآخرة. وهنا يَبرز السؤال: وماذا فعل حكام مصر المصريين حين آل حكم مصر إليهم أخيرًا من أجل بناء أو إعادة بناء المنظومة الثقافية الحاكمة لسلوك ورؤية الإنسان المصري؟ إذ هنا جوهر النشاط الثقافي وليس الاحتفالات المظهرية التي تشبع غرورًا أجوف.
•••
والسمة الثانية التي تؤثر سلبًا على جهدنا وقرينة بالأولى هي أن مجتمعاتنا العربية، وبسبب الانحطاط الحضاري والقهر والاستبداد وتعطل الفعل والفكر الاجتماعيَّين، تسودهما حتى الآن الثقافة الشفاهية، ثقافة الكلمة والصوت واللفظ. وهذه ثقافة عصور التخلُّف قياسًا إلى الثقافة الكتابية ودورها في الإصلاح الديني ونهضة العلوم والديمقراطية. وخصوصية الثقافة الشفاهية أنها ثقافة الكلمة والذاكرة والنص واللاعقلانية. ويَحكمها منهج غيبي في التفكير يقتطع الفكر الاجتماعي من سياقه التاريخي، فهو فكر اللحظة، وقد تكون هذه اللحظة وقعت في زمان مضى وتغدو النهاية والمبتدأ. والكلمة هنا هي الوجود، والنص هو المرجع القُدسي، واستظهار النص سبيلنا إلى المعرفة عن الحياة والوجود في كل زمان ومكان. ولهذا فإنَّ الشيوخ الفقهاء هم حفظة وسدَنة النص، وهم عقل الأمة ومرجعها في كل شئون الدنيا والآخرة وليس في شئون الدين فقط، ومَن سواهم أتباع عليهم الطاعة … ولذا فإنَّ ثقافة النص هي ثقافة النخبة والتسلط والذاكرة، وهي أيضًا ثقافة الخضوع والتبعية عند العامة، وتسود هذه الثقافة في مناخ الأمية الأبجدية والأمية الثقافية، وهو المناخ السائد على مدى قرون من القهر والاستبداد. وهنا تكون المعرفة وحُرية الحصول على المعلومات خطرًا يتهدَّد النخبة.
وهكذا عاشت مصر وشعوب المنطقة قرونًا رعايا لرب السيف وسلطان العقيدة … العقيدة، حسب فهم السلطة السياسية ومعها السلطة الدينية، هي الهوية والخصوصية وليس الفعل الإبداعي والتلاحم الاجتماعي تعبيرًا عن الانتماء الوطني؛ حيث الإنسان مواطن مسئول حُر، وليس فردًا من رعية. وطبيعي أن نقول إن الأساس الموضوعي هو تخلُّف وانحطاط العمل الاجتماعي على المستوى الحضاري وعلاقات الفِعل والتفاعل. ويُمثل هذا الوضع علة الخصوصية الثقافية السائدة بيننا، خصوصية ثقافة القهر والاستبداد. وهذه ليست قدرًا وإنما مُنتج واقع حالنا الحضاري والاجتماعي والسياسي وما اقترن به من ظروف التحلل والانحطاط والقهر والاستبداد … هذا بدلًا من إصدار الأحكام المطلقة، وهي منافية للعلم، والتي تعني أن واقعنا البائس قدر لا فكاك منه وهو ما يَتنافى مع منطق الواقع والحياة. ولكن لنا أن نسأل: مَن هم أصحاب المصلحة في التأكيد دائمًا على ما يُسمونه «ثوابت الخصوصية الثقافية والهوية» ويَرفضون الدعوة إلى التغيير؟
•••
وأعود لأسأل، تأسيسًا على كل ما سبق، لماذا عناء البحث النظري عن الخصوصية وإرجاء التحرك نحو النهضة إلى حين الوصول إلى إجابة حاسمة؟ هل لأننا بصدد استراتيجية نهضة قومية لا سبيل إليها دون الإجابة مقدمًا على السؤال؟ ماذا عسانا أن نَصنع بتعريف الخصوصية أو مُترادفاتها عند مواجهتنا لتحديات الحضارة على الصعيد العالمي؟ إن سؤال ما هي خصوصية مجتمع ما سؤال نظري فلسفي واجتماعي، ولكنه يجد مُبرِّره في حالة واحدة فقط حين نناقش حالنا، وواقع حياتنا وفعاليتها في التاريخ وعلاقتها بهذه الخصوصية التي هي حدث مرحلي أو صيرورة زمانية مكانية؛ أن نسأل في معرض دراسة عن الإنسان/المجتمع كظاهرة تاريخية تهيئةً لانطلاقة حضارية مؤسسة على نظرة نقدية: ماذا جرى لنا في تاريخنا بحيث أصبحنا على ما نحن عليه من مظاهر سُلوكية وبِنية ثقافية تُشكل خصوصية، ولكنها خصوصية ليست أبدًا أمرًا مطلقًا؟ كيف نُراجع تاريخنا، ونتأمل واقع حياتنا على أساسٍ نقدي لنعرف مظاهر الضعف والخطأ، ونهج الاستجابة السلبية في حياتنا، أو العزوف عن سلوك المُخاطرة وقبول التحدِّي بالفعل لا بالقول؛ التماسًا لأسباب القوة التي تَدعم جهدًا نهضويًّا، وتُسلحنا برؤية عِلمية عن «النحن» في التاريخ بينما عيوننا على المستقبل، وليس عن «النحن» في المطلق كتعريف مجرَّد نظنُّ أنه ثابت مع الزمان، ونشعر بالحنين إليه، وأن صلاحنا في استعادته ونكون تكرارًا ممسوخًا للسلف.
نحن الآن بواقعنا وحالنا مُحصلة تاريخ، ويُضنينا ويُثقلنا شعور التخلف والعجز عن المنافسة ومشاعر الخوف والدونية … مثلما يُضنينا الانصراف عن المغامرة، وعن الفضول المعرفي، وعن بذل الجهد للإسهام الإيجابي في حضارة العصر … لماذا؟ هذا هو السؤال، وليس أبدًا ما هي هويتنا أو خصوصيتنا الثقافية في المطلق؟ أعني أن نَبذل السؤال بسؤال دينامي مُستقبلي، لماذا نحن كذلك تاريخًا وواقعًا؟ … من منطلق محاولة الفهم العقلاني النقدي والطموح المُستقبلي المخاطر … إنَّ السؤال عن من نحن، إغراق في النظر المجرَّد، وتيه في حلقة مُفرغة قضينا معها قرنَين دون جدوى … إن الذات أو النحن هي فعل اجتماعي في التاريخ. الخصوصية فعل تتجلَّى فيه صفات الذات، وتَزدهِر معه … إن ما نفعله هو الذي يُحدد من نكون، وليس الرجوع إلى كتب السلف الأقدمين لتوصيفنا.
ليكن سؤالنا سؤالًا يَستحثُّنا على الفعل لا التأمُّل النظري … يحثُّنا على تغيير الواقع، لا الاستغراق في تهويمات.
إن تأكيد وحدة الانتماء وتعبئة الجهود على الصعيد الاجتماعي القطري والقومي لا يكون بالبحث المجرَّد عن «الخصوصية أو الهوية» القابعة كمزار شريف في ركن بعيد من أركان التاريخ، ولا يكون من وراء قناع أيديولوجي يُزيِّف التاريخ، وإنما يكون من خلال فعل، فعل إنتاج الوجود، وتأسيسًا على التفكير من خلال الحقيقة العِلمية لفهم تاريخنا، ذواتنا، كظاهرة ممتدة ومُتغيِّرة، والكشف عن العوامل الاجتماعية المؤثِّرة سلبًا وإيجابًا في سلوكياتنا ورؤانا الثقافية من أجل إعادة بناء الإنسان الذي هو الهدف والأداة، ويكون كذلك بالفعل النشط اجتماعيًّا بُغية الانتماء الحضاري إلى العصر، وبُغية التغيير الإرادي تأسيسًا على هذا الفعل الاجتماعي … إذ لو قُلنا الإسلام أو التدين أو الروحانية أو الشهامة أو العفة والطهر … سيظل الانتماء شعارًا لفظيًّا أجوف. وواقع الأمر أن الناس يتعمَّق لديهم شعور الانتماء بفضل الانتماء المشترك إلى جهد وعمل، هو مشروع وجودي، يَكفُل ويُعزِّز الوجود والبقاء ويدعم قدرات التحدي.
والنهضة ليست بحاجة إلى فكر أو هدف مُستنبط من الماضي، ولا العودة إلى خصوصية انتقائية، ولكنها، وبعد فهم عقلاني نقدي للتاريخ، بحاجة إلى عمل وفكر إبداعيَّين على مستوى حضارة العصر، إلى فكر يراجع الواقع كمحصلة تاريخ، لا التراث كمُعايشة للماضي … وهو تُراثات متنوعة متضاربة … حريٌّ أن يكون سؤالنا عن الخصوصية دعوة إلى موقف وعمل، علاوة على التفكير عبر الحقيقة العِلمية، وتأويل الموروث لصالح الدعوة الجديدة … إنسان العصر، وليس العكس؛ أي لا نَعتمِد الموقف وبرنامج العمل في ضوء الموروث.
لماذا لا نقول إنَّ أحد التحديات التي نُواجهها وتتعارَض مع طموحنا أننا مهمشون عالميًّا … لا يأتي لنا ذكرٌ في كتاب أو صحيفة أو وكالات أنباء … ولا يَعرف عنا العالم إلا أننا بلاد خام النفط وآثار للسياحة وتاريخ قديم. ليس لدينا ما نُقدمه وإنَّما نحن نَستهلِك منتجات العالم الأول فكرًا وسلعًا مادية؛ ومن ثم نحن زبائن أو تابعون، وإن زيَّف أحد الشيوخ هذا الواقع المُتدنِّي وقال «لقد سخَّر الله لنا الغرب». وهكذا أضحت التبعية باسم الدين أمرًا مُستساغًا؛ بل تعبيرًا عن رضا الغيب … لماذا لا نتأمل حال مجتمعات جنوب وشرق آسيا وقد أضحَت بقوة الفعل الجَمعي قوة كبرى ثانية صاعدة، لم يُهدِروا إمكاناتهم في صراع يَستنزِف قواهم وإمكاناتهم باسم الدين أو البحث عن الهوية؟
نحن لن نكتب تاريخًا جديدًا لنا أسوة بالسلف، ولن يَذكرنا العالم إلا بعطائنا وإسهامنا الحضاري الذهني الذي هو حصاد أفعالنا وإنجازاتنا العصرية في البحث العِلمي والتكنولوجيا ونظامنا في إدارة حياتنا الاجتماعية … لن يَذكرنا إلا إذا كانت لنا ضرورة حيوية، ونسدُّ فراغًا في هذا العالم … وليس غريبًا أن يُردَّد على ألسنة بعض مُفكري الغرب قولهم: «هناك شعوب لو اندثرَت لن يشعر العالم بخسارة لفقدها.»