صناعتنا وحضارتنا
منذ أكثر من ست سنوات وأنا أُبدي وأعيدُ في ضرورة نقل بلادنا من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية، حتى لقد بات تكراري لهذا الموضوع وإدماني البحث فيه أشبه الأشياء بالهوس أو الوسواس.
ولكن مما يُثلِج قلبي أن أرى كثيرين غيري قد أصبحوا يروْن رأيي ويقولون به. فهم يرون الآن أن العالم قد شُطر شطرين؛ أحدهما: تلك الأمم الصناعية، وهي الأمم السَّائدة المُتمدنة، والآخر: هو الأمم الزراعية، وهي الأمم الشرقية المَسُودة التي تخلفت عن الرُّقيِّ في القرن العشرين.
ويكاد التمدن ينحصر في الصناعة، فنحن وأوروبا سواءٌ في الزراعة لا يُمكن الفلَّاح في فرنسا أو ألمانيا أو روسيا أن يستغل الأرض بأحسن مما يستغلها فلَّاحنا. فإذا كان ثَمَّ فرقٌ بيننا وبين هذه الأمم في الحضارة فهو فرقٌ في الصناعة لا في الزراعة، وإذا كان هناك رُقيٌّ وهنا انحطاطٌ فإنما يُعزَى ذلك إلى أن هناك صناعة يُمارسونها ويَثْرون منها ويتفننون فيها، بينما نحن قد حُرمنا منها، ورضينا بالاقتصار على الزراعة.
وفي الصناعة فنون ومخترعات وميدان واسع للتفكير والابتكار، وليست الحال كذلك في الزراعة، والأمم الصناعية هي الأمم الغنية القوية، بينما الأمم الزراعية كالهند والصين ومصر لا تزال في فاقة لا تبرحها، والمزارع والفلاح كلاهما محافظ جامد يكره التطور والانقلاب؛ لأن طبيعة العمل الذي يُمارسه — وهو الزراعة — يوحي الجمود بما فيه من استقرار، ولكن الصانع حر الذهن منطلق التفكير يرى من المخترعات المتوالية في الصناعة ما يجعله هو نفسه يرضى التطور والانقلاب.
ومن هنا حرية الفكر في الغرب وتقييدها في الشرق، ومن هنا الرُّقي في أوروبا والجمود — بل الركود — في آسيا، ولست تجد أمةً مُتمدِّنة اليوم على وجه الأرض تقتصر على الزراعة، بل هي عندما تُعنى بالزراعة — كإنجلترا — تُمارسها بالآلات أي بالطرق الصناعية، وتجعل من العزبة مصنعًا لكبس اللحوم والفواكه.
وتتجه عناية الأمم المُتمدِّنة — ألمانيا وفرنسا وإنجلترا — إلى الصناعة، فهي تحميها بضرائب جمركية تمنع دخول البضائع الأجنبية التي تُزاحمها، كما تحميها وتُرقِّيها بإعانات كبيرة تدفعها الحكومة لأصحاب المصانع، وهاهم المحافظون في إنجلترا قد كسبوا معركة الانتخابات، وكان موضوعها الذي حقق لهم الفوز هو حماية المصنوعات البريطانية من المُنافسة الأجنبية.
فالصناعة الآن هي كل شيء، هي التي تَشغل ساسة الأمم، وهي التي تشغل العلماء في معاملهم وتجاربهم، وهي موضوع الدرس عند الاقتصاديين. أما الزراعة فكادت تنحصر الآن بين الأمم المتأخرة والمُتوحشة.
وليس هناك شك في أن هذا الكلام يؤلمنا، ولكن ألسنا نقول الحق؟ أليس الواقع المشاهَد الآن أننا والسودانيين وسكان نيجيريا والكونغو والهند نزرع القطن لكي يصنعه الألمان والإنجليز وسائر «المتمدنين» أقمشة وملابس؟
وهذه الأمم الأوروبية الراقية الغالبة تعرف أن الصناعة هي السبب لرقيها وغلبتها وسيادتها، وهي لذلك تَدْأَبُ في مُعاونتها، ونحن نذكرُ فيما يلي جدولًا يرى منه القارئ مقدار الملايين من الجنيهات التي دفعتها حكومة بريطانيا للمصانع لكي تقرر لها الفوز في ميدان المنافسة الصناعية في العالم، وهذه الأرقام هي مجموع ما دفعته الحكومة بين سنة ١٩٢٠ وسنة ١٩٣٠؛ أي في عشر سنوات:
صناعة صفائح الفولاذ | ٢٤٠٦٠٠٠ج |
صناعة الطيران | ٢٠١٩٠٠٠ج |
صناعة الفحم | ٣٥٢٧٦٠٠٠ج |
صناعة الملاحة | ٨٣٣٠٠٠ج |
صناعة الأصباغ | ٥٧٥٠٠٠ج |
صناعة الكتان | ٣٤٣٠٠٠ج |
صناعة النقل الموطري | ١٩٧٠٠٠ج |
فهذه الأرقام تدل القارئ على مقدار العناية التي تبذلها الحكومة البريطانية لمصانعها؛ لكي تُرقِّيها وتزيدها قوةً على المنافسة مع أنها أمةٌ عريقة في الصناعات، بل هي أهملت الزراعة لإقبال الشعب على الصناعة إقبالًا عظيمًا.
فكيف بنا ونحن أمةٌ مُبتدئة في الصناعة؟
إن واجبنا — أفرادًا وأمة وحكومة — أن نعمل لترقية صناعتنا، ونحضَّ الناس على أن يشتروا المصنوعات التي يصنعها المصريون؛ لأننا بذلك ننشر التمدن بين الشعب، وذلك أن مدنية القرن العشرين ليست المدنية الزراعية، وإنما هي المدنية الصناعية مدنية العلم والاختراع والتفكير في المستقبل دون الماضي.
ولكن إذا كان واجب الأفراد أن يشتروا ما يصنعه المصريون من مصنوعات، وأن يسألوا ويدققوا في البحث عن الصانع هل هو مصري أم أجنبي، فمن واجب الحكومة أن تُعين المصانع المصرية بإعاناتٍ ماليَّة على نحو ما تفعل في المدارس الأهلية، ولكن بنسبة أكبر وبمبالغ أضخم، ويجب ألَّا يبرح أذهاننا أن المصنع يرى العامل ويفتح ذهنه ويُكسبه علمًا يُهذِّبه وحرفة يعيش منها كما تفعل المدرسة مع التلميذ؛ بل أحيانًا أحسن وأوفى ممَّا تفعل المدرسة.
كانت روميَّة في القرن الثالث قبل الميلاد تجد قبالتها في مكان تونس الآن دولة كبيرة قوية تُنافسها في البحر المتوسط هي دولة قرطجنة، وأحس أحد شيوخ رومية بالخطر من هذه الدولة فجعل ديدنه أن يختم كل خُطبة يخطبها في مجلس الشيوخ بعبارة هي: «يجب أن تُدمَّر قرطجنة.»
وكان لهذه العبارة قوة الإيحاء في النفوس. فما زال النزاع بين رومية وقرطجنة حتى دمرت هذه الأخيرة، ونجت رومية من مزاحمتها.
ونحن الآن إلى مثل هذه الصيحة نكررها كل يوم، ونجعلها هوسنا ووسواسنا وجنوننا، وهي «مصنوعاتنا المصرية» فلا نتخذ من الأقمشة سوى القماش المصري، ولا نأكل سوى الطعام المصري، وبذلك وحده لا نلغي الامتيازات الأجنبية فقط؛ بل نصير أمة متمدنة تعيش في القرن العشرين.
إن السيادة الآن ليست للأمم الحربية بل للأمم الصناعية، وليست «قرطجنة» اليوم هي المدافع والقنابل، ولكنها المصنوعات التي تقرر الغنى والثروة لهؤلاء والفاقة والبؤس لأولئك.