صناعاتٌ بلا وقودٍ نستطيعُ أن نُمارسَها بسهولةٍ
من الاعتراضات التي يعترض بها على نشر الصناعات في بلادنا أن القطر المصري خلوٌ من الوقود الذي تحتاج إليه المصانع، ولهذا الاعتراض طلاءٌ من الحقيقة، ولكنه أبعد ما يكون من لبابها وصميمها.
وليس يشكُّ أحد في أن صناعات كثيرة تحتاج إلى وقودٍ؛ بل إلى كمية كبيرة منه، كما هي الحال مثلًا في صناعات الأتومبيلات والقاطرات والزجاج والآنية المعدنية ونحوها، ولكن الأتومبيل الذي نشتريه بمائتي جنيه لا يستهلك من الوقود في صنعه ما يزيد على عشرة جنيهات، والساعة التي نشتريها بجنيه لا تستهلك من الوقود ما تزيد قيمته على قرش أو قرشين، ويمكن الأمة التي ترغب في الحضارة الصناعية أن تستورد الوقود كما تستورد إنجلترا القطن. فهذا القطن مثلًا لا يُزرع في إنجلترا ومع ذلك أثرى الإنجليز من صناعته، وليس في إيطاليا وقود من فحمٍ أو بترول وهي تستوردهما، وقد أصبحت على الرغم من ذلك أُمة صناعية مُتقدمة.
ثم هناك عشرات بل مئات من الصناعات التي لا تحتاج إلى وقود، أو أن الكمية التي تحتاج إليها قليلة جدًّا. فنحن نشتري كل عام عقاقير طبية بمئات الألوف من الجنيهات، ومعظمها أو كلها تقريبًا يمكننا أن نصنعه في بلادنا، فإن العلبة الصغيرة التي نُؤدِّي في ثمنها ريالًا كاملًا قد لا نحتاج في تهيئتها إلى أكثر من مليم من الوقود، وهناك عقاقير طبية كثيرة الآن تُستخرج من الحيوان، وقد اتجه الطب إلى هذه الناحية حديثًا اتجاهًا قويًّا سريعًا، والقول بأن هذه الصناعة تحتاج إلى وقود هو قولٌ مضحكٌ؛ لأن مقدار الوقود هنا صغيرٌ جدًّا.
وأمامي الآن جدول ببعض المصنوعات التي تَردُ إلينا من الخارج فنُؤدِّي ثمنها للأجنبي، وكان يُمكننا أن نصنعها في بلادنا دون أن يعترض علينا أحد بأننا نحتاج في صُنعها إلى وقودٍ. فمنذ أول مارس إلى آخر أغسطس من سنة ١٩٣٠؛ أي في مدة ستة أشهرٍ، استوردنا من الأثاث ما بلغت قيمته ٦٣٧٧٥ جنيهًا مع أن النجار المصري الآن يستطيع أن يصنع أجمل الأثاث بأرخص قيمة، وهو يصنعه بيديه، ولذلك يمكنه أن يتأنَّق ويتجوَّد، ويجعل من الصَّنعة فنًّا جميلًا يطبعه بشخصيَّتِه.
واستوردنا من أزرار الملابس ما بلغت قيمته ١٠٥٣٦ جنيهًا، مع أن هذه الأزرار تُصنع من الخشب والمحار، وكلاهما وفيرٌ في بلادنا، وقد استطاعت إحدى شركات بنك مصر أن تصنع الأزرار من المحار، وتسد حاجة أسواقنا.
وهناك صناعة أخرى لا تحتاج إلى وقود، وكان يجب أن نبرع فيها ونُصدِّر منها هي اللحم المملح أو المقدد أو المدخن، سواء أكان من السمك أو من غيره من الحيوان. فقد استوردنا من هذه الأشياء في الأشهر الستة التي ذكرناها ما بلغت قيمته ٧٩١١٣ج، وأغربُ من ذلك أننا استوردنا من مستخرجات اللبن ومن البيض والشهد في المدة نفسها ما بلغت قيمته ٩٦١١٣ جنيهًا، وهذا الرقم يجب أن يخجلنا؛ لأن بلادنا زراعية، وكان يجب على الأقل أن تكفي نفسها من مستخرجات اللبن.
ثم هناك صناعة الدباغة، وهي لا تحتاج إلى نارٍ، ومع ذلك استوردنا من الخارج في المدة المذكورة من الجلود المدبوغة ومصنوعاتها ما بلغت قيمته ١٢٢٤١٤ج.
ونحن نستورد من الخمور كميَّات هائلة كل عام يكون لنا منها خراب جيوبنا وفساد عقولنا، ولكن الخمور كما يعرف القرَّاء تنقسم إلى قسميْن؛ أحدهما: تلك الخمور المستقطرة التي تستقطر على النار بالأنبيق مثل العرقي والكنياك والوسكي وهي سمومٌ مُلَطَّفةٌ، وتلك الأخرى المخمرة مثل: البيرة والنبيذ وهي لا تحتاج إلى نار، وقد استوردنا من النبيذ في سنة ١٩٢٩ ما بلغت قيمته ٣٧٩٥١٦ جنيهًا، وكان يمكننا أن نحتفظ بهذا المبلغ الضخم بصنع النبيذ في بلادنا كما نصنع الآن البيرة؛ بل كان يمكننا أن نصدر منهما إلى الخارج.
ثم هناك الصابون الذي يُصنع «على البارد»؛ أي بالتفاعل الكيماوي بلا حاجة إلى نار، ومواده الخامة كلها في بلادنا، وصناعته لا تحتاج لتعلمها إلى أكثر من ساعة أو ساعتيْن.
وإلى جانب هذا يجب ألا ننسى الفواكه الكبيسة والمربيات، وأشباه ذلك من الصناعات القروية التي لا تحتاج إلى وقود، أو أن الوقود الذي تحتاج إليه ليس من القيمة بحيث يستعصي علينا أداء ثمنه.
فالاعتراض بأن الصناعة لا يمكنها أن تنجح في مصر لقلة الوقود هو اعتراض يدل على خبث أو سخف. فإننا يمكننا أن نستورد الوقود، ونزاول أي صناعة كما تفعل إيطاليا. كما يُمكننا أيضًا أن نمارس الصناعات التي لا تحتاج إلى وقودٍ ما.