الحريرُ الصناعي
رفع أحد تجارنا المعروفين تقريرًا إلى الحكومة يطلب فيه منع دخول الريون — أي الحرير الصناعي — إلى بلادنا؛ لأنه يُزاحم القطن، وقد قال فيه إنه إذا راجت تجارته انحطَّ شأن القطن.
وليس هناك شكٌّ في أن الريون أغار على القطن وزحزحه قليلًا عن مكانه السابق، كما أغار على الصوف والقز والكتان من المنسوجات الأخرى.
ولكن مكافحة هذا الريون لن تكون بمنعه من الدخول في بلادنا؛ لأننا إن منعناه فإن الأمم الأخرى لن تمنعه. بل لو فرضنا أن الأمم التي تزرع القطن مثل الهند ومصر ستمنعه أو ستُقيم حواجز جمركية لا يمكنه أن يتجاوزها، فهل هذا المنع لن يحول دون هذه الصناعة الجديدة ودون رواجها بين القارات الخمس التي تتألف منها الكرة الأرضية؟
وبديهي أن الولايات المتحدة التي تزرع القطن مثلنا لن تمنع صناعته؛ لأنها هي نفسها قد نبغت فيها، وأصبحت تصدر الريون إلى الأقطار الأخرى.
فأولى من الكلام في منع الريون أن نبدأ — ونبدأ سريعًا — في إقامة مصنع أو مصانع للريون في مصر، ويجب ألا يبرح من أذهاننا أن همم المخترعين تتجه الآن نحو استعمال حطب القطن في طبخه، ومعنى هذا أننا إذا أقمنا مصانع للريون فإننا نستطيع أن نقدم المواد الخامة له بأيسر سبيل؛ بل نُقدم الوقود لطبخه من حطب القطن نفسه كما نصنع عجينته منه.
وأريد أن أقف هنا لكي أُبين للقارئ كيف أن الأمم الصناعية توشك أن تستغني عن الأمم الزراعية بما تخترعه في الصناعة. فقد لا تمضي علينا عشرون سنة حتى يكسو الأوروبيون أنفسهم بالريون، ويستغنوا عن أقطاننا وأصوافنا وكتاننا، وهم قد استغنوا إلى حدٍّ ما عن الجلود باستعمال الكوتشوك والمشمعات، وقد نجحوا في صنع الكوتشوك بالمواد الكيماوية دون حاجة إلى استيراده من الأقطار الزراعية، ولولا أن أثمانه انخفضت هذه الأيام انخفاضًا عظيمًا لظهرت هذه الصناعة الجديدة، وتغلبت في الأسواق على الكوتشوك الطبيعي.
ثم هم قد نجحوا في استخراج البترول والبنزين من الفحم، ومن قبل ذلك نجحوا في استخراج الصبغة النيلية بالطبخ كما يستخرجون الآن الريون من الخشب.
وقد كانت الهند تربح أرباحًا عظيمة من النيل الطبيعي، وتزرع ملايين الأفدنة بهذا النبات، ولكن هذا الاختراع نشر الإفلاس بين المزارعين الهنود الذين يختصون بالنيل، ولو أن الهند منعت استيراد النيل الصناعي لما استطاعت أن تعرقل سير هذه الصناعة الناهضة، وكذلك نحن لا يمكننا أن نقتل صناعة الريون بمنعه من الدخول في بلادنا.
وقد نجحوا في استخراج العطور والطيوب كيماويًّا، وأنت عندما يُرهقك الحر فتشرب كوبًا من شراب الموزثق إن هذا العطر الذي يُنعشك قد استخرج من الفحم.
ثم ماذا؟
ثم لن يكون اليوم بعيدًا حين يمكن المخترع الأوروبي أن يستغني عن استيراد القمح باستخراج غذاءٍ من الخشب.
ولست أغلو أو أستسلم للوهم في هذا الزعم. فإننا كلنا نذكر السكرين الذي شاع من مدة قريبة، وأخذ إلى حدٍّ ما مكان السكر، وكان هذا السكرين يُستخرج من المواد الكيماوية دون النبات. ثم رأى مخترعه أنه ليس خاليًا كل الخلو من الضرر فامتنع عن صنعه، ولكن فشل التجربة الأولى سيفتح الباب لتجارب آتية يحقق فيها النجاح، وقد ذكرت إحدى الصحف أن مصنعًا أسس في سويسرا لصنع السكر من الخشب، ولا نعرف نتيجة عمله للآن.
فالصناعة تُغِير الآن على الزراعة وتأخذ مكانها، وهذا هو التقدم على الرغم مما فيه من خسارة وقتية تقع بنا. فإن الزراعة من أشق الأعمال، واستنتاج حاصلاتها يحتاج إلى وقت طويل، ومن الخير للإنسان أن تنتصر الصناعة عليها، وعلينا أن نوطن النفس على انتصارها القريب.
إن من يتأمل العالم الآن يجد تيارين؛ أحدهما على السطح وهو تيار السياسة والأحزاب وهو الذي يملأ أعمدة الصحف وحديث الناس، ولكن هناك في الخفاء تيارًا آخر يجري مطمئنًّا صامتًا هو تيار العلم والصناعة، وهذا التيار الثاني هو الذي يبدل الآن من معايش الناس وأفكارهم، وسيبدل قريبًا من نظام اجتماعهم وحكوماتهم، وهذا التيار الثاني إذا نحن تأملناه ألفينا خطورته كبيرة جدًّا بحيث لا يبقى للتيار السياسي أي معنى أو دلالة، ومن وقتٍ لآخر تطفو على السطح أشياء صغيرة من هذا التيار الثاني كما يحدث لنا الآن من الريون، وهي تدلنا على أننا على فوهة بركان من الانقلابات المنتظرة من الصناعة.