تثبيط الصناعة المصرية
يجد المشتغلون بالصناعات المصرية الآن عوامل مختلفة تعمل لتثبيطهم، علينا نحن أن نتيقظ وننبه الجمهور كما ننبه الحكومة إليها.
وأقوى هذه العوامل هو المزاحمة الأجنبية التي تحاول أن تقتل كل صناعة ناشئة في بلادنا. ففي مصر آلاف من التجار الذين يعيشون بالاتجار بالبضائع الأجنبية، وهم على اتصال مستمر بالمصانع الأجنبية، وهم يستفيدون منها بالبيع والسمسرة، وقد أصبح ارتباطهم بها يرجع إلى ثلاثين سنة أو أربعين، ولهم معاملات معها تعود عليهم بالربح الوفير، وهذه المعاملات تكاد تكون احتكارًا لهم؛ لأنها تجري في جو من الخفاء لا يدري التاجر المصري عنه شيئًا؛ وذلك أن معظم التجار المصريين لا يعرفون المصانع الأوروبية، وإنما يقصرون معاملتهم على السماسرة والتجار الأجانب في مصر، وكل تاجر من هؤلاء التجار يعامل المصانع المختلفة في القطر الذي ينتسب إليه؛ فالتاجر الإنجليزي في مصر يُعامل مصانع إنجلترا، والتاجر الفرنسي يُعامل مصانع فرنسا، وهلم جرًّا.
ولهذين الاعتبارين يخشى التجار الأجانب في مصر أن تنشأ في مصر صناعات تحرمهم من المعاملة مع مصانع الأمم التي ينتسبون إليها من جهة، كما تحرمهم الاستفادة من صغار التجار المصريين الذين يعاملونهم. فهم لذلك ينظرون نظرة الخوف من الصناعات المصرية الناشئة، ويعملون الآن لمقاومتها، وهم يعرفون أنه عندما تستفيض الصناعة عندنا يذهب عنهم الاحتكار الذي لهم الآن في التجارة بالبضائع الأجنبية، ويعرفون أنهم سينزلون منزلة المساواة مع التاجر المصري؛ إذ يستطيع هو أن يشتري من المصنع المصري كما يشترون هم رأسًا وبدون وساطتهم.
لقد مررتُ ببعض المخازن التجارية في القاهرة فوجدت منهم طعنًا غريبًا في مصنوعاتنا. فهذه بفتة بنك مصر يتعمد التجار الأجانب الطعن فيها، والاعتذار عن عدم بيعها لسخافة نسجها، مع أنه قد ثبت أنها أرخص وأمتن من جميع أنواع البفتة الأجنبية، وهذه هي السجاجيد والأكلمة المصرية لا تباع في مخازن السجاجيد التي يديرها ويملكها الأجانب. أما الصيدليات الأجنبية فمعظمها يُقاطع القطن الصحي الذي يُصنع في المحلة، ولا يبيع سوى القطن الأجنبي.
ولا بد من أن الجمهور سينتبه إلى هذه الأعمال كما لا بد أن تنبُّهه هذا سيضطر التاجر الأجنبي إلى أن يُراعي عواطفنا، ويُقدم لنا مصنوعاتنا، ويكف لسانه عن الطعن فيها.
ولكن التاجر الأجنبي ليس هو المثبط الوحيد والعقبة الوحيدة للرُّقِيِّ الصناعي في بلادنا. فإن هناك عقبات أخرى تقع التبعة فيها على الحكومة أهمها إغراق أسواقنا ببضائع أجنبية رخيصة تحُول دون إنتاج ما يُماثلها في بلادنا. فلا بد من إقامة أسوار عالية من الضرائب الجمركية تمنع تدفق البضائع الأجنبية على أسواقنا، وهذه بريطانيا العظمى قد ألقت علينا درسًا بالغًا في الحماية الجمركية؛ إذ جعلت الضريبة تبلغ مائة في المائة على بعض الواردات الأجنبية، وذلك لكي تجد الصناعة الإنجليزية الميدان خلوًا في المدن الإنجليزية.
على أن هناك نوعًا آخر من التثبيط لا يعرفه الجمهور نعني به هذه الشروط القاسية التي تشترطها مصلحة الصحة على المصانع الصغيرة والكبيرة على السواء. فمنذ أشهر عمد أحد شباننا الأذكياء إلى إنشاء ملبنة في أسيوط لكي يصنع فيها الجبن ويبيع منها اللبن والقشدة والزبدة والجبن لمديرية أسيوط، فبعد أن بناها وتكلف نفقات بنائها جاءت مصلحة الصحة تأمره بهدمها وإعادة بنائها على شروطٍ أخرى. فعاد وهدم وبنى. ثم عادت مصلحة الصحة إلى اقتضاء شروط أخرى.
وفي المحلة الكبرى عشرات من المصانع المختصة بالغزل والنسج تشرط عليهم مصلحة الصحة أن تُفرش بالبلاط أو الأسمنت أو الأسفلت، وأن تُدهن جميع الأخشاب بزيت الكتان، وأن تُطلى الجدران بالأسفلت إلى ارتفاع متر ونصف، وأن تُغطى المناور بنسيج من السلك الدقيق وهذا بخلاف الزجاج، وأن تُدفع رسوم للرخصة زيادة على الضريبة السنوية. إلخ. إلخ.
فهذه شروط قد يسهل على المصنع الكبير أن يقوم بها؛ بل هي قد تكون ضرورية للمصانع الكبيرة لتجَمُّع العمال فيها، ولكن المصنع الصغير الذي يجر حياته جرًّا ليس من الإنصاف أن نثقله بهذه الشروط؛ لأنها قد تقتله قبل أن يستطيع الاستقلال.
ومما يجب أن تتنبَّه له حكومتنا أن هذه الشروط التي تشترطها للمصانع عندنا قد نقلتها نقلًا عن أوروبا، والأحوال الصحية في أوروبا تبررها؛ لأن العامل الأوروبي يعيش في منزله وفي الحي الذي يقطنه في أحوال راقية. فالمصنع هناك يستوي بالمنزل في الأحوال الصحية، ولكن ليس من العدل أن يعيش عاملنا في منزله على التراب فنطلب من صاحب المصنع أن يفرشه له بالأسفلت والبلاط، وكان أولى بالحكومة أن تبني منازل حسنة للعمال قبل أن تطالب أصحاب المصانع بأن تكون مصانعهم على مستوى واحدٍ مع المصانع الأوروبية.
ولا أظن أني أُتهم بقلة العطف على العامل المصري بهذا الكلام؛ لأن الواقع أني مُتَّهَم بشدة العطف عليه، وقد نالني من ذلك أذًى ليس قليلًا، ولكني أعتقد أن مصانعنا تحتاج إلى رعاية وتساهل في طورها الحاضر وهو طور الإنشاء والبداية.