قصةُ مَصْنَعيْنِ مِصْرِيَّيْنِ
الصيحة العالية الآن في مصر هي الصناعة والتجارة؛ فإننا نرى الزراعة في إفلاسٍ، والمزارع والفلاح في فاقةٍ وذلةٍ، وننظر لشوارع القاهرة أو الإسكندرية فنجد الأتومبيلات الفاخرة تحمل النزلاء من الأجانب الأغنياء الذين يشتغلون بالتجارة والصيرفة. ثم ننظر لشباننا المصريين نظرة الأسف؛ لأنهم عاطلون، ونبحث عن السبب الذي يُبقيهم في عطلةٍ دائمةٍ تأكل أعمارهم وأذهانهم وصحتهم فنجده في أن الأعمال الحرة — أي التجارة والصناعة والصيرفة — قد احتكرها الأجانب دوننا، وهم يستخدمون أبناءهم بدلًا من أبنائنا.
ونحن الآن متنبهون إلى هذه الحال نلح إلحاحًا عظيمًا على الأمة والحكومة والأفراد والهيئات بإيثار المصنوعات المصرية وتشجيعها والإقبال على التاجر المصري واختصاصه بعنايتنا بل بتعصبنا لبضائعه، ولنا الآن شبان يفكرون ويتحمسون يشتري أحدهم المنديل المحلاوي رمزًا للوطنية الاقتصادية، فإذا ضحك منه آخر كان من هذا الضحك مناقشة مفيدة يخرج منها الدَّاعي إلى الصناعة والتجارة الوطنية ظافرًا قد كسب جنديًّا جديدًا إلى صفِّه.
وأنا أذكر لهؤلاء الشبان قصة مصنعين مصريين وعبرتها واضحة لا تحتاج إلى إيضاح أو تعليق.
ففي سنة ١٨٩٨ أنشئت في القاهرة شركة لغزل القطن ونسجه، وكان رأس المال المطلوب لإنشائها ١٦٠٠٠٠ جنيه، فأقبل عليها الناس واشتروا أسهمها، واشتد الإقبال حتى غطى رأس المال خمس مرات، واختارت الشركة بقعة حسنة في بولاق في وسط مساكن العمال، وأسست مصنعًا حديثًا، وجاءت له بمدير إنجليزي فنِّي.
ومضى المصنع عامًا يعمل في الغزل والنسج، وكان ينسج البفتة السمراء من نفاية القطن المصري، ولكن الحكومة التي كان يسيطر عليها الإنجليز رأت أن هذا المصنع يجب ألا يشجع، وهنا نصح اللورد كرومر لحكومتنا بأن تفرض عليه ضريبة قدرها ٨ في المائة حتى لا يمتاز بشيء على المصنوعات الإنجليزية والأجنبية الواردة من الخارج.
وهنا قد نتساءل: ولماذا لا تمتاز مصنوعاتنا على المصنوعات الأجنبية؟ ولماذا «يجب» علينا أن نفرض عليها ضريبة أسوة بالمصنوعات الأجنبية؟
فالجواب على ذلك هو الاستعمار؛ فإن المستعمرين أرادوا من احتلالهم بلادنا أن يستغلوها، وكيف يمكن الاستغلال إذا كنا سنزرع القطن، ثم نغزله وننسجه؟
ولكن هؤلاء المستعمرين وجدوا هذه الضريبة لا تكفي لخراب هذا المصنع. فانظر الآن ماذا فعلوا: مضى عام والمصنع يعمل، فانتدبت وزارة المالية أحد مستخدميها لكي يقصد إليه ويحاسبه، ويعرف دخله وخرجه؛ لكي يأخذ حصة المالية وهي ٨ في المائة، وقصد المندوب وحاسب المصنع على هذه القيمة باعتبار ثمن القطن الوارد للمصنع، ولكنه عندما عاد وقرأ المستشار الإنجليزي قائمة الحساب دُهش لوفرة الأرباح التي تحققت لهذه الشركة، ورأى أن ضريبة ٨ في المائة لن تؤثر أي أثر في نجاحها. فرد المندوب إلى المصنع لكي يُحاسبه ثانيًا على أساس البضائع القطنية الخارجة منه، وليس على أساس القطن الخام الوارد إليه، وعاد المندوب فزاد الضريبة بذلك من ٨ في المائة إلى ٣٥ في المائة.
وحتى مع هذه الضريبة الباهظة لم يُفلس المصنع. فماذا يفعل الإنجليز؟
عمدوا إلى المدير الفنِّي فأخذوه من المصنع، وعينوه في منصب في الحكومة بضعفي المرتب الذي كان يتقاضاه سابقًا، ثم جاءوا بمدير آخر. ثم لم تمض سنتان حتى أُقفل المصنع، وبيعت آلاته وأدواته.
وقد تتساءل هنا: وما شأن الموظفين الإنجليز في تعيين المدير لهذا المصنع؟ ألم تكن الشركة مستقلة من الحكومة المصرية؟
وهنا أجيبك بأغرب ما في هذه القصة، وهو أن هذه الشركة كانت إنجليزية، ولكن الإنجليز المستعمرين لم يطيقوا نجاح شركة إنجليزية للغزل والنسج في مصر خشية أن تكون في المستقبل أسوة وقدوة لشركات أخرى تنشأ إلى جانبها، ولذلك ضحوا بمصلحة الشركة خدمةً لشركات الغزل والنسج في إنجلترا.
وقصة أخرى لا تحتاج إلى شرحٍ طويل، وهي قصة مصنع آخر هُدم أيضًا وبيعت آلاته، هو مصنع الطرابيش في قها.
فقد كان يملك هذا المصنع رجل مصري اشترى أدواته واستكمل آلاته، وما زال يواليه بالتحسين والترقية حتى أخرج لنا طرابيش حسنة تماثل الطربوش النمسوي، وتمتاز عليه بالثمن المنخفض، وساعده على النجاح أن الحرب الكبرى قطعت عنا الواردات النمسوية، فأصبح له ما يُشبه الاحتكار لهذه الصناعة وكثرت أرباحه، ولكن انتهت الحرب وعادت التجارة بيننا وبين النمسا، فتركنا الطربوش النمسوي يدخل بلادنا ويزاحم الطربوش المصري دون أن نفكر في حماية هذه الصناعة المصرية بفرض ضرائب جمركية على الطربوش النمسوي، ومع ذلك، ومع هذه المنافسة، استطاع مصنع قها أن يعيش ويربح.
فماذا يفعل النمسويون؟
عمدوا كما عمد الإنجليز مع قبلهم إلى التضحية. فأرسلوا بعض مموليهم إلى مصر فاشتروا المصنع.
ثم ماذا؟ … هدموه هدمًا.
والآن نحن نشتري الطربوش النمسوي صاغرين، وندفع كل سنة مئات الأُلوف من الجنيهات للنمسا، والطربوش الذي لا تزيد تكالفيه على عشرة قروش نشتريه الآن بنحو خمسين قرشًا تربحها النمسا وتخسرها مصر.
والمَغْزَى واضح، وهو أننا يجب أن نعامل الصانع والتاجر المصري، ونفضل المصنوعات المصرية على كل شيء أجنبي، ونؤسس المصانع والمتاجر.