دمياط والمحلة الكبرى
يمر أحدنا في الريف الآن فلا يلقى سوى الفاقة الضاربة والضيق العام، ولا يسمع من الفلاح الأجير والمزارع المالك غير قصة واحدة تتكرر هي قصة الآلام والحرمان والإفلاس والجوع، وكيف أن الأرض التي كان يملكها المصريون قد بيعت بأثمان بخسةٍ، وقد أصبحت ملكًا حلالًا للأجنبي يؤجرها لمن يشاء، وكيف تُباع المحاصيل بأثمان هي دون تكاليفها؛ لكي تسدد ضرائب الحكومة أو أقساط البنوك.
ويسير أحدنا في المدن فيلقى التجارة كاسدة، ووجوه التجار كاسفة؛ لقة الاستهلاك، وتراكم البضائع، وإلحاح الدائنين في اقتضاء ديونهم، والأمة الآن عاجزةٌ عن الاستهلاك؛ لأنها لا تجد المال لشراء حاجتها من البضائع، ومن هنا وفرة قضايا الإفلاس، فقد بلغ عدد هذه القضايا في شهر أكتوبر الماضي وحده في المنصورة والقاهرة والإسكندرية ٤٢ قضية كان المفلسون فيها ٣٤ من المصريين و٨ من الأجانب.
وسيزداد الإفلاس في شهر نوفمبر، وسيطرد الازدياد إلى أن يخف ضغط الأزمة عن التجار.
وهذه الحال عامة في أنحاء القطر ريفه ومدنه، باستثناء مدينتين هما دمياط والمحلة الكبرى.
فإذا جلت في إحدى هاتين المدينتين ألفيت الناس في رغدٍ، ليس فيهما تاجر مفلس، وليس في شوارعهما تلك المناظر المحزنة مناظر الفاقة كالأهدام البالية والحوانيت المقفلة والأجسام الهزيلة التي تنبئ بقلة الطعام وسوء السكنى، وإنما ترى عكس ذلك حركة واضحة في الأعمال الحرة، ورواجًا في البيع والشراء، وإقبالًا من الجمهور يتضح في وجوه مستبشرة، ونشاط في السعي إلى الحوانيت والمصانع.
وهذه «المصانع» هي التي أنقذت دمياط والمحلة الكبرى من الأزمة الحاضرة، وهي التي أكسبَتْهما الثراء والرغد، بينما غيرهما من المدن المصرية يعاني الفاقة والضيق. ففي دمياط حركة نشيطة لصنع الأحذية التي تباع الآن في أنحاء القطر بل بعضها يصدر إلى الخارج، وفيها حركة أخرى نشيطة لصنع الأثاث الفاخر الرخيص، وهو يُحمل على السفن إلى المنصورة والقاهرة وغيرهما من مدننا، وكذلك بها مناسج يدوية صغيرة، وهذا بالطبع غير اختصاصها في صنع الجبن والزبدة؛ إذ هي تُموِّن الآن أسواقنا بهما، وقد زادت ثروتها زيادةً محسوسة بمصيف رأس البر الذي يستهلك مقدارًا كبيرًا من الحاصلات الزراعية التي تستنتج في الإقليم المحيط بها، وهذا الاستهلاك قد أغنى الفلاح حول دمياط، وزاد قدرته على الاستهلاك، فهو الآن إذا قدِم إلى دمياط حمل معه كيسًا حافلًا بالنقود، وعاد إلى قريته وقد تحمل بالبضائع …
وكذلك الحال في المحلة الكبرى، فإن هذه المدينة الصناعية التي تمتاز بغزل القطن والحرير ونسجهما لا تكاد تشعر بالأزمة؛ لأن هذه الصناعة قد زادت ثروتها، وزادت لذلك قدرتها على الاستهلاك، فهي تبيع مدن القطر أقمشة الحرير والقطن، وتنقد عمالها أجورًا حسنة، ويتبادل الإنتاج والاستهلاك، فتنشط حركة البيع والشراء. فلست ترى هناك حانوتًا مقفلًا، ولا عاملًا عاطلًا، ولا رجلًا يسير في أسمال بالية مرقعة، ولا أسرة تضيق بعيشها، ولا تاجرًا مفلسًا.
هاتان المدينتان — دمياط والمحلة الكبرى — تعيشان في رغد في هذه الأزمة التي تُعانيها سائر المدن المصرية؛ لأنهما تعملان في الصناعة، وتنتجان المصنوعات إنتاجًا، أما سائر المدن فلا تنتج شيئًا. فالتبادل بين المحلة وأقاليم الريف التي حولها هو تبادل طبيعي كلاهما ينتج وكلاهما يتبادل البيع والشراء، وكذلك الحال في دمياط والأقاليم الريفية المحيطة بها.
ولكن الحال ليست كذلك في القاهرة أو طنطا أو الإسكندرية؛ لأن هذه المدن لا تنتج شيئًا إذ هي تقتصر على بيع البضائع الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية، فهي تقف من الريف المصري موقف السمسار فقط، والمبادلة الحقيقية هي بين هذا الريف المصري وبين إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، ومن هنا فَقْرُ هذه المدن، واشتداد الأزمة فيها، وضعف سكانها عن الاستهلاك.
في دمياط والمحلة الكبرى عمال مصريون يصنعون المصنوعات، ويستطيعون الاستهلاك، ولكن العمال الذين يصنعون المصنوعات للقاهرة وطنطا والإسكندرية ليسوا مصريين، وإنما هم إنجليز وفرنسيون وإيطاليون يعيشون في أقطارهم المختلفة، ويبعثون بمصنوعاتهم إلينا.
وعلى ذلك يمكننا أن نقول: إننا عاجزون الآن عن الاستهلاك في مصر، وإننا نعاني الكساد والأزمة أكثر من الأمم الأخرى؛ لأننا لا ننتج مصنوعاتنا، بل نجلبها من الخارج، ففائدتها تعود على العامل الأجنبي دون العامل المصري، والبلدتان الرائجتان عندنا هما المحلة الكبرى ودمياط؛ لأنهما تنتجان وإنتاجهما يجعلهما قادرتين على الاستهلاك.
أَمُرُّ في طريقي كل يوم على شارع كلوت بك، وهو يمتاز بأن ٩٠ في المائة من تجاره مصريين، ومع ذلك عددت فيه ٧٦ حانوتًا مقفلًا، قد أقفلها أصحابها إما للإفلاس وإما للكساد، وهذه الحال ناشئة من أن جمهور القاهرة لا يستطيع استهلاك البضائع؛ لأنه جمهور غير منتج لا يمارس الصناعات، ولو كان يمارس الصناعات مثل دمياط والمحلة الكبرى لما أقفل فيه حانوت واحد.
هلموا إلى الصناعات. هلموا إلى الحضارة. هلموا إلى الغنى والثروة والقوة، فإنه ليس شيء في العالم يزيد الثروة مثل الصناعة، ولتكن لنا كرامة مصرية تحدونا إلى إيثار المصنوعات المصرية على مصنوعات العالم كله، ولتكن كل مدينة عندنا هي المحلة أو دمياط.