الحرير الصناعي
منذ عشر سنوات لم يكن أحد يسمع عن الريون؛ أي الحرير الصناعي. أما الآن فليس واحد في مصر ممن يحملون منديلًا أو يلبسون جوربًا لا يستعمل هذا النسيج الجديد، وليست امرأة في مصر سواء أكانت فقيرة أم غنية لا تستعمله، وهي تشتريه باعتباره حريرًا، ولا تعرف له اسمًا آخر، مع أن الفرق شاسع بينه وبين الحرير، وهو من حيث الصنعة والتأليف الكيماوي أقرب إلى الورق منه إلى القماش.
وهذا الريون يكتسح الحرير أمامه ويأخذ مكانه، وقد بدا جافيًا له نعومة مفرطة كأنها ملاسة الزجاج، وله ألوانٌ زاهيةٌ تُخرجه عن الذوق، وتضعه في مصاف البهارج، حتى لقد كان يُعرض منه المتر بقرشين فلا يُباع؛ وذلك لأن بهرجته لم تكن صارخة فقط بل كانت فاضحة لا ترضاها سيدةٌ راقيةٌ.
وشرع صانعوه يعالجون نقائصه وعيوبه، ونجحوا في ذلك حتى أصبح بعض الأقمشة المصنوعة منه يباع بأغلى مما يباع به حرير القز. فيمكن ربة الدار الآن أن تشتري من الريون أقمشة يتراوح ثمنها بين ثلاثة قروش وثلاثين قرشًا للمتر، ويمكنها أن تتخذ منه الملابس الغالية والرخيصة.
وهذا الحرير الصناعي — أي الريون — هو من عجائب الصناعة الحديثة. فقد اعتاد الإنسان منذ أن عرف اللباس أن يكسو عريه بأقمشة مصنوعة من فراء الحيوان أو من ألياف النبات، ولكن الريون يُطبخ على النار كما يُطبخ الورق، وهو يُؤخذ من الخليوز الذي تُصنع منه أدوات الباغة والورق، فإذا صار عجينة عولج بالصودا الكاوية وبغيرها من المركبات الكيماوية، ثم صُبَّ بعد ذلك من ثقوب يخرج منها فتائل دقيقة تجمد فتستعمل بعد ذلك غزلًا يباع للنسيج.
وقد انتشرت هذه الصناعة انتشارًا عظيمًا في الولايات المتحدة وألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وأخذت تنشأ في إيطاليا واليابان، وقد أنزلت حرير القز إلى مكانة ثانوية في عالم النسيج، وقبل نحو عشر سنوات لم يكن رأس المال المؤثل في هذه الصناعة يزيد على المليون من الجنيهات في العالم كله، أما الآن فإن عشرات الملايين من الجنيهات تُستخدم في إنشاء مصانعه في جميع الأمم المتمدنة الصناعية، وذلك للثقة العظيمة بنجاحه في المستقبل.
وقد قلنا إن هذا الريون يُصنع من الخليوز الذي يُصنع منه الورق، والخليوز هو مادة الخشب، ولكن الذين يصنعونه قد رأوا أنهم كلما اقتربوا من بعض الأشجار دون البعض كان نجاحهم أضمن، ولذلك صاروا يطبخون غصون التوت وأوراقه التي يُقتات بها دون القز، ويستخرجون منها غزلًا حريريًّا يُحاكي غزل الدود، وكذلك فكروا حديثًا في طبخ سيقان القطن حتى يحصلوا من عناصر هذه الشجرة على مادة مطبوخة تُحاكي فتائل القطن نفسه، وهم في ذلك يجرون على مبادئ الكيمياء الحديثة، فيصنعون في المصنع ما يصنعه الحيوان أو النبات في جسمه الحي.
وهم إذن قد فتحوا بابًا جديدًا لهذه الزراعة التي لا بد أن تنهزم أمام الريون، ولكنه مع ذلك بابٌ ضيقٌ؛ لأن الكمية التي ستُؤخذ من أشجار القطن ستكون قليلة والربح الأكبر للصانع دون الزارع؛ لأن أشجار القطن ستكون بالنسبة إلى صانع الريون مادة خامة كمادة الخشب بالنسبة إلى صانع الورق.
ومن آن لآخر نسمع في مصر همسات التذمر؛ بل صيحات الاحتجاج التي تعلن خشية التجار والزراع من انتشار الريون، ومنهم من يطلب منع دخوله إلى بلادنا حتى لا يكون مزاحمًا للقطن، وليس ثمة شك في أنه أكبر مزاحم الآن للقطن والحرير، وهو مزاحم تدل الدلائل على أنه قد استقر له النصر القريب؛ لأن قدرة الصانع ستزداد بزيادة الخبرة، وعما قريب سنرى عشرات الأنواع من الأقمشة الرقيقة والثخينة والزاهية والكابية والمتينة والسخيفة والرخيصة والغالية من هذا الريون؛ وذلك لأن الطابخ سيبدأ في التجارب، وسيكرر التنقيحات، ومداهما واسع أمامه؛ إذ هو غير مُقيد بطبيعة النبات كما هي حال الغازلين للقطن أو الكتان أو الحرير أو الصوف.
فما هي حيلتنا إذن أمام هذا الاختراع الجديد؟
ليس حيلتنا أن نمنع هذا القماش من الدخول إلى بلادنا لكي تبقى للقطن مكانته كما يقول التجار والزراع، ومثل هذا الاقتراح يشبه اقتراح الحلاقين المصريين في منع شفرات الحلاقة؛ لأنها تُغني الناس عن الذهاب إلى حوانيتهم، فإن الاختراع متى كان سهلًا واضح الربح يصير من الخسارة على الناس أن يُمنعوا من استعماله، وأن يضطروا إلى اتخاذ ما هو أغلى منه.
وإنما السبيل الواضح أمامنا هو أن نؤسس المصانع للريون في بلادنا، وقد يمكن اللجنة التي تُشرف على مشروع الفرش أن تُفكر في هذا الموضوع. أو يمكن تأليف شركة تبعث أولًا وقبل كل شيء ببضعة شبان إلى مصانع الريون في الأمم الصناعية، وخمسة أو عشرة من هؤلاء الشبان ينفعون البلاد أكثر من ألف شاب حاصل على شهادة الحقوق من باريس أو غيرها من الجامعات.