الهنود يغزلون وينسجون
تلقَّيتُ بالبريد تقريرًا لجمعية «جميع الغزالين الهنود» عن سنة ١٩٢٩–١٩٣٠، ومركز هذه الجمعية هو أحمد باد، وهو يصف مجهود هذه الجمعية في العام الذي ينتهي في ٣٠ سبتمبر سنة ١٩٣٠.
والقراء يعرفون أن غاندي حين رأى أن الإنجليز قد سدوا في وجه بلاده جميع منافذ الاستقلال عمد إلى محاربتهم حربًا سلميَّةً بالمنسج والمغزل. فقام هو بنفسه واقتنى مغزلًا يغزل به كل يوم مقدارًا من الخيط، وأنشأ هذه الجمعية، وجمع لها التبرعات من الأغنياء لنشر المغزل بين سكان القرى.
والقرية الهندية تشبه القرية المصرية من وجوه كثيرة، ويكاد يكون للاثنتين تاريخ واحد. فقبل الاحتلال البريطاني — سواء عندنا أو عند الهنود — كانت القرية تغزل وتنسج لنفسها حاجتها من الأقمشة، وما زلنا نرى في قُرانا عجائز من الجنسين يُمارسون الغزل على المغازل القديمة للتسلية أكثر مما هو للفائدة. كما أننا ما زلنا نرى المناسج تنسج الأقمشة الخشنة التي يشتريها الفلاح، فتعيش على جسمه نحو عشر سنوات لا تبلى، وكلنا يعرف ذلك «البشت» الذي يلبسه فلاحنا من النسيج المصري، وهو معطف يكسو الجسم دون الذراعين والساقين، فإذا سأل سائل عن عمره ألفاه يُناهز من السنوات سبعًا أو عشرًا.
كان للهنود مثل هذه الصناعات اليدوية في الغزل والنسج، ولكن الإنجليز عندما احتلوا الهند قتلوا هذه الصناعات؛ بل لقد ذكر بعض المؤرخين أنهم قطعوا أيدي النساجين حتى لا ينسجوا الأقمشة الحريرية التي تنتصر في الأسواق بما لها من متانة وجمال، وهم لم يقطعوا أيدينا كما فعلوا مع الهنود، ولكنهم فتحوا الباب للمنسوجات الأجنبية فهزمت المناسج المصرية، وصار الفلاح المصري يشتري البفتة الأجنبية دون القماش المصري، ولما أسسنا مصنعًا للنسج في بولاق، ورأوا منه بوادر النجاح، وأنه سينافس منسوجات لنكشير ضربوا عليه ضرائب فادحة، وأخذوا المدير فعينوه في منصب حكومي، وانتهى المصنع بالإفلاس مع أنه في السنة الأولى من تأسيسه بلغت أرباحه نحو ثلاثين في المائة من رأس المال.
رأى غاندي أن يُقاوم الإنجليز مقاومة اقتصادية، ورأى أن فاقة الهنود هي أصل هوانهم وانحطاطهم، فأراد أن يعيد إلى القرية الهندية سابق استقلالها الاقتصادي، فنشر الدعوة للمغزل، ودعا الهنود إلى الغزل، وأسس هذه الجمعية التي ذكرناها، والتي تعمل تحت رياسته، ثم دعا الهنود إلى ترك الأقمشة الأوروبية، واتخاذ القماش الهندي الذي غُزل ونُسج في الهند رمزًا للكرامة الاقتصادية والكرامة الوطنية.
ولقد قرأت تقرير هذه الجمعية الذي يقع في ٤٤ صفحة حافلة بالإحصاءات والبيانات، وإني هنا ألخصه للقارئ المصري الذي يجب أن يعرف أن حالنا هي حال الهنود في الشقاء والفقر أمام هؤلاء الإنجليز المحتلين، وأن السلاح الذي استعمل في الهند لمقاومتهم ونجح في ابتعاث الكرامة الاقتصادية للهنود لا شك أيضًا في أن ينجح في مصر في رد عادية المستعمرين.
بدأ التقرير بالتعبير عن سرور الجمعية لأن النسج الوطني زاد في العام الماضي عن العام الأسبق بمقدار ٧٤ في المائة، وفي بعض الأقاليم تضاعفت الزيادة بل بلغت أكثر من الضعف. ففي إقليم مهرا اشترا بلغت الزيادة ١٥٢ في المائة، وفي بنجاب ١١٥ في المائة، وفي دلهي والأقاليم المتحدة بلغت الزيادة ١٧٣ في المائة.
وتعزو الجمعية هذه الزيادة إلى أن الحماسة السياسية كانت في العام الماضي على أشدها، وقد بعثت هذه الحماسة الجمهور إلى اتخاذ الملابس الوطنية. فكثر الطلب على الأقمشة الهندية حتى بلغ المبيع منها ١١١٦٧٩٢٠ ياردة مربعة.
وليس هذا الرقم مقدار ما بيع من الأقمشة الهندية في الهند كلها، وإنما هو مقدار ما عملت به الجمعية لعلاقةٍ لها بالنساجين الذين نسجوها، وهناك مصانع آلية كبيرة يملكها الهنود وتعمل بالآلات، كما أن هناك كثيرين من النساجين ليست لهم علاقة بالجمعية. فهؤلاء وهؤلاء لم يُذكروا في هذا التقرير.
وقد رأت الجمعية أن حماسة الجمهور أضرت كما أفادت؛ لأن الغزالين حين رأوا الإلحاح عليهم في طلب الغزل يشتد أهملوا بعض الشيء في دقة الغزل، فظهرت عيوب جديدة في النسيج الوطني لم تكن واضحة في السنوات السابقة، وقد كان للجمعية ١٢٤ مخزنًا للبيع فبلغ عددها ٢٨٤ في السنة الماضية، وعدد الغزالين هو الآن ١٧٩٥٤٣ والنساجين هو ١٣٧٣٣ وعدد موظفي الجمعية هو الآن ١١٤٥.
وغاية الجمعية هي — كما قلنا — أن يكون في كل بيت مغزل يستعمله أعضاء الأسرة في فراغهم عندما يفرغون من الأعمال الزراعية، وهذا الفراغ كثير في الهند، وهو عندنا في مصر ليس قليلًا. فإن فلاحنا لا يعمل طول العام وأعضاء أسرته كذلك.
ومما قاله التقرير: أنه اتضح للجمعية أن هناك قرى استغنت استغناءً تامًّا عن الأقمشة الأجنبية بالنسيج الوطني؛ بل إنه قد جهزت العرائس من هذا النسيج، وهذا الخبر وحده يدلنا على أن النسيج ترقى، فإن العروس لا ترضى الأقمشة الخشنة الجافية.
والذي يجب أن ننتبه له هو أن الآلات تتغلب في أكثر الأحيان على الأيدي، وهذا هو السبب لتغلب الأقمشة الأوروبية، وتتغلب عليها؛ لأن الآلات تتحمل نفقات النقل والشحن والسمسرة والتعبئة بينما الصناعات القروية لا تتحمل شيئًا من ذلك.
وتأسف الجمعية لأن أمراء الهند لم يعطفوا على الحركة عطفًا عمليًّا؛ أي لم يتبرعوا لها بشيء، ولم يشجعوها ويدعوا لها، وهذا هو المنتظر.
وعرضت الجمعية نحو مبلغ ٧٠٠٠ جنيه مكافأة لمن يخترع مغزلًا يمكنه أن يغزل في اليوم ستة عشر ألف ياردة في ثماني ساعات بحيث يمكن إدارته باليد أو القدم، وبحيث يمكن صنعه في الهند، وقد وصل إليها إلى الآن عشرون مغزلًا يطلب أصحابها المكافأة، ولكنها لم تقر على واحد منها.
هذه هي خلاصة التقرير المفيد، وهو صفحة مجيدة من حياة الهنود ستكتب في تاريخ استقلالهم.