المغزل الهندي
يعرف القراء أن غاندي يتبع خطتين لتحقيق الاستقلال الهندي؛ أولاهما: سلبية، وهي تتوقف على مكافحة الاستعمار البريطاني بالعصيان المدني، أي الكف عن دفع الضرائب أو معاونة الموظفين في إدارة البلاد، ثم مقاطعة البضائع الإنجليزية، والثانية: إيجابية، وهي تعميم الغزل بين سكان القرى حتى تزيد ثروة البلاد، ويكتسي أبناؤها بالنسيج الهندي دون النسيج الأجنبي.
يقول غاندي: «ولكي نفهم تمام الفهم حركة الغزل الوطني وما تعنيه يجب أن نفهم أولًا ما لا تعنيه هذه الحركة؛ فهذه الحركة لا تعني منافسة الصناعات الأخرى، ولا تحاول أن تأخذ مكانها؛ إذ هي في الواقع لا تريد أن تستلب من الصناعات الأخرى عاملًا واحدًا يعمل في صناعة ما، ويربح منها أكثر مما يربح من الغزل. فمن التضليل أن نقابل بين الأرباح التي تجنى من الغزل وبين الأرباح التي تُجنى من الصناعات الأخرى، وأقول في كلمة مختصرة: إن الغزل باليد ليس الوسيلة للثروة العظيمة، وإنما الغاية الوحيدة التي نقصد إليها من الغزل هي أننا نجد فيه حلًّا دائمًا لمسألة المسائل في الهند، وهي البطالة القهرية التي يقع فيها معظم سكان الهند نحو ستة أشهر من كل عام؛ لعدم وجود عمل متمم للزراعة يقي الفلاحين القحط الذي يصيبهم من وقت لآخر، ولولا هذان العاملان لما كانت هناك حاجة إلى المغزل؛ إذ يجب أن نقدر الفاقة الهائلة التي يُعانيها سواد الأمة الهندية.»
ثم يأخذ غاندي بعد ذلك في اقتباس أقوال الموظفين الذين عاينوا حالة الفلاحين، والذين يثبتون أن الفلاح الهندي يتعطل نحو ١٥٠ يومًا على الأقل في العام. ثم يقول: «ومن الواضح إذن أن هؤلاء الموظفين متفقون على أن جميع المشتغلين بالزراعة يتعطلون نحو نصف العام، وقد أشار بعضهم إلى أن هذا التعطل هو العلة الأساسية لفاقة الفلاحين، وإذا كان الإنجليز أنفسهم يقولون عن مقاطعة لنكشير (بإنجلترا) حيث بلغ متوسط ما يفلحه الفلاح ٢١ فدانًا: «إنه يكون من النعم العظيمة على الفلاح الإنجليزي لو أنه عرف صناعة يُمارسها داخل بيته في مدة الشتاء وحين يسوء الجو كما كانت الحال في الأزمنة السابقة.» وإذا كان الإيطاليون مع ما عندهم من صناعات متقدمة في النسج لا تزال نساؤهم في البقاع التي ينبت فيها التوت يشتغلن بالغزل، فهل نحتاج نحن إلى أن نجادل في الهند عن ضرورة إيجاد صناعة قروية تتصل بالزراعة؟
«لقد كثر الجدال بشأن هذه الصناعة التي يجب أن تقوم إلى جانب الزراعة، وهذا الجدال لم يبدأ إلا بعد أن أخذنا في نشر المغزل، وهذا المغزل نفسه هو الذي بعث على التفكير والجدل، واني أتقدم لهؤلاء المفكرين في تواضع لكي أقول إن المغزل ليس اكتشافًا جديدًا مثل أتومبيل فورد، وإنما هو اهتداء الأم إلى طفلها الذي ضل عنها، وعلى الناقد أن يذكر أن الطفل هنا هو الشعب الهندي، وهو أكثر شعوب العالم جمودًا، والأم هنا هي هذه الصناعة اليدوية التي تغذوه وتدفئه.»
«وإذا نحن عرفنا هذه الحقيقة فإننا لن نجد من يقترح صناعة أخرى غير الغزل، وقد يقترح بعضهم بيع اللبن والجبن والزبدة، ولكن الهند ليست دنمركا التي تزود بريطانيا بأربعين في المائة من زبدتها. ففي سنة ١٩٠٠ حصلت دنمركا على ثمانية ملايين جنيه ثمنًا للزبدة وثلاثة ملايين جنيه ثمنًا للحم الخنزير من بريطانيا، وتربية الخنازير هي صناعة إضافية تقوم إلى جنب صناعة اللبن؛ لأن الخنزير يقتات بمخيض اللبن، ولكن الهند لا تجد إلى جوارها «هندًا» أكبر منها لتشتري منها الجبن والزبدة، ولا يمكن أن نطلب من المسلم أو الهندوكي أن يُربي الخنازير في الهند، وكذلك يجب أن لا نفكر في تربية الدجاج أو النحل لهذا السبب، وهذا إذا لم يكن لصعوبة تعلمها. ثم لا يمكن الهند أن تزيد أرضها الزراعية كما فعلت إرلندا حتى يمكن الفلاح الهندي أن يزرع أكثر من فدان كما هي حاله الآن … وليس هناك من يقترح في جد أن يأخذ الفلاحون في صناعة الكراسي والسلال وحياكة الجوارب. فإن كل هذه الصناعات لن تجد السوق المستعدة لشرائها كما يجد الغزل …»
ثم يقول غاندي: «فإذا اعترض أحد بأن الغزل لا يعود على الغازلين إلا بربح ضئيل، وأنه بذلك تضييع للجهد والوقت، أجبناه بأن الغزل لا يقصد منه أن يكون صناعة قائمة برأسها يعيش منها محترفها، وإنما نحن نقدمه لأولئك الذين يجدون فراغًا من وقتهم يتعطلون فيه. فإذا قيل لنا إن ما يربحه الغازل من الغزل هو نحو ١٦٠ قرشًا في العام، وإن هذا ربح ضئيل جدًّا، أجبناه بأن صاحب الكلمة العليا في هذا الموضوع هو ذلك الذي يعرف الفاقة الهائلة التي يعيش فيها سواد الأمة.»
ثم يشرح غاندي بعد ذلك كيف أن المغزل لا يحتاج إلى رأس مال، وأن المواد الخامة — وهي القطن — حاضرة أمام جميع سكان القرى، وكيف أنه لا يحتاج إلى تعليم ولا إلى جهد، فيمكن الشيخ الفاني والصبي الصغير أن يمارساه، وأن الحاجة إليه عامة ودائمة؛ إذ هو يلي الطعام من هاتين الناحيتين، ثم هو لا يعارض الشعائر الدينية، وهو أقوى وسيلة لمكافحة القحط بزيادة ثروة الفلاح، وهو لا يحتاج من الغازل إلى أن يترك قريته، فهو بذلك رباط عائلي، كما أنه لا يحتاج منه إلى أن يُهمل الزراعة؛ إذ هو سيغزل فقط في أوقات فراغه وتعطله من الزراعة.