بريطانيا تحمي مصنوعاتها
أجد هذه الأيام لذة أنيقة في تصفح الجرائد الإنجليزية، وأحسن ما يعجبني فيها إعلاناتها التي يعلن فيها التجار والصناع عن بضائعهم بأنها إنجليزية، وأن واجب كل إنجليزي أن يشجعها دون البضائع الأجنبية. فهذا مثلًا إعلان قرأْتُه في الصنداي إكسبرس هذا الأسبوع عن شركة بناء تبني المنازل وتبيعها بالتقسيط. فهي تقول إن الطوب قد صنع في قمينة إنجليزية، والخشب والأسمنت والزجاج والمفاتيح والأُكر والقيشاني بل المسامير نفسها قد صُنعت في مصانع إنجليزية. فهذه الشركة تفتخر بأنها لم تستورد شيئًا من الخارج لبناء منازلها، ولذلك يجب على الإنجليزي أن يُشجعها ويشتري منازلها.
وفي فصلي الشتاء والصيف يهرع الإنجليز إلى المشاتي والمصايف الأجنبية، سواء أكانت في مصر أم في جنوبي فرنسا أم في جزر أزور أم في غيرها، والآن تكتب المقالات في مدح المشاتي الإنجليزية، وأن الشمس فيها أصحى مما هي في مونت كارلو الفرنسية التي لا يكف عنها المطر، وتكتب المقالات أيضًا في حث أصحاب الفنادق والمطاعم على العناية بالنازلين عندهم حتى لا يفكروا في الهجرة إلى فرنسا أو مصر لقضاء الشتاء فيهما.
وقد اقترب عيد الميلاد الذي يقع في ٢٥ ديسمبر، والمأثور عند الإنجليز أن يحتفلوا بهذا العيد بدندي سمين يزين المائدة، والدنادي الإنجليزية لا تكفي السكان، ولذلك سيضطر الجزارون إلى أن يجلبوا مقدارًا كبيرًا منها من الأقطار الأجنبية. فماذا يفعل الإنجليز لكي يحققوا الامتياز والسيادة للدندي الإنجليزي على الدندي الأجنبي حتى يغلو ثمن الأول ويرخص الثاني؟
تقترح الصحف الآن أن كل دندي يرد إلى إنجلترا من الخارج تكسر إحدى رجليه، فإذا علقه الجزار عرف المشتري أنه أجنبي سافل فلا يدفع فيه سوى أبخس الأثمان، أما الدندي الإنجليزي الذي سيذهب ثمنه إلى جيوب الإنجليز فيجب أن يسمو إلى أعلى قيمة وهو يعلق سليمًا لا تُكسر له ساق.
ويذكر القراء كيف أن تجار البيض الإنجليز كانوا قد نشروا دعاية ضد البيض المصري، وقد توبلوا حكاياتهم عنه بقصة مرعبة، وهي أن إحدى السيدات كسرت بيضة مصرية فإذا بتمساح صغير يخرج منها، والآن يقترحون أن يختم البيض الإنجليزي بطابع خاص يُعرف به فيشتريه الإنجليز ولا يشترون البيض المصري.
وقد أقام الإنجليز سورًا عاليًا من الضرائب الجمركية؛ إذ فرضوا ضريبة قدرها ٥٠ في المائة على ٢٣ صنفًا من المصنوعات، وأجاز البرلمان لوزير التجارة أن يفرض من الضرائب ما يبلغ ١٠٠ في المائة على كل مصنوع يزاحم المصنوعات البريطانية بحيث يخشى عليها من مزاحمته.
وفي هذا القدر كفاية لتنبيه القارئ المصري الذي لا يزال يتسامح في شراء المنسوجات بل الأطعمة الأجنبية. فإن بريطانيا أغنى منا بمائة ضعف، بل أكثر من ذلك، ولكنها تدعو الآن دعاية قوية لتفضيل مصنوعاتها على المصنوعات الأجنبية، ونحن أمة فقيرة تُباع أرضنا الآن في سوق الدلالة بأبخس الأثمان، وتنتزع عقاراتنا فيستولى عليها المالك الأجنبي، ويعود سيدًا في عقر دارنا نخدمه. ثم نلبس لباسنا كله رجالنا ونساءنا وأولادنا من صنع الأجنبي، ثم تبلغ بنا المجانة أن نشتري حتي طعامنا من الأجانب وندفع الملايين من الجنيهات ثمنًا للدقيق الأسترالي.
فأي شيء أغرب من هذا في الفرق بين أخلاق الإنجليز الذين يكسرون رجل الدندي الأجنبي وبيننا الذين نشتري خبزنا من القمح النابت في قارة أستراليا بينما فلاحنا تُباع أرضه بأبخس الأثمان؟
إننا في حاجة إلى أخلاق مصرية جديدة تكون لها قوة الإيمان الديني في النفوس فلا نذوق كسرة خبز نعرف أنها خلطت بدقيق أجنبي، ولا نأذن بدخول شيء من الطعام الأجنبي في منازلنا، فلا لحم ولا جبن ولا فواكه أجنبية تمسها اليد المصرية. بل علينا أن نقنع بذلك؛ إذ يجب أن نصنع ملبوساتنا من الأقمشة المصرية، ولا نشتري القماش الأجنبي إلا ونحن مضطرون آسفون. ثم مع ذلك ومع هذا الاضطرار وهذا الأسف يجب أن نشتريها من تاجر مصري وليس من تاجر أجنبي. بهذا وحده تحقق لبلادنا كرامة اقتصادية تزيدنا ثروة وقوة.