آلات الحضارة ومُنتجاتها
الفرق بين آلات الحضارة ومنتجاتها هو كالفرق بين الشجرة والثمرة. فإذا تحدثنا عن الحضارة الغربية، وقلنا بضرورة أخذها واصطناعها، فيجب ألا يتطرق إلى ذهن القارئ أننا نعني بذلك أن نشتري المصنوعات الأوروبية، ونُزيِّن بها بيوتنا، فنقتني الأتومبيل والفنوغراف، ونكسو أنفسنا بالقماش الأجنبي، ونؤثِّث منازلنا بالأثاث الأوروبي؛ لأننا إذا فعلنا ذلك فإننا لا نعدو استعمال الثمرة لا الشجرة، ونشتري المنتجات دون الآلات.
وإنما عنينا — وما زلنا نعني — باصطناع الحضارة الأوروبية أن نأخذ آلاتها دون منتجاتها، فنحن نريد إنشاء المصانع؛ لكي نصنع فيها الأقمشة والزجاج والأصباغ والأطعمة ونحو ذلك. فإذا تكلَّمنا عن فائدة الأتومبيل وضرورة الإكثار منه في بلادنا فليس معنى ذلك أننا نريد أن نستورد آلاف الأتومبيلات كل عام؛ لأن هذا العمل لا ينتهي إلا بخرابنا وهو خراب قد يُرافقه تأنق وبذخ، ولكنه خرابٌ مع ذلك عند موازنة الدخل والخرج، والخطة الحكيمة في هذه الحال أننا نسعى قبل كل شيء لإنشاء صناعة الأتومبيلات في مصر، وقد نضطر إلى التدرج فيها. فنصنع صندوق الأتومبيل من الخشب أو الحديد، وننجده بالقطن والقماش، ونطليه بالأصباغ التي نريدها. فنقصر استيرادنا على العجل والكوتشوك والموطر، ونتدرج في كل ذلك إلى أن يأتي يومٌ نستطيع فيه أن نصنع الأتومبيل كله في بلادنا.
هذا هو معنى اصطناع الحضارة الأوروبية. فالأمة المصرية لن تكون أمة متمدنة لأن أغنياءها يقتنون الأتومبيلات، ويستعملون التلفون، ويفترشون البسط والسجاجيد الأجنبية، وينامون على الأسِرَّة الباريسية، ويلبسون الأقمشة الإنجليزية. كلا، لن تُحسب الأمة متمدنة بهذه الظواهر. بل هي إذا تمادت فيها فإنها تنساق بها نحو الخراب؛ لأنها في كل ما تعمله تشتري الثمرة وتستهلكها دون أن تغرس الشجرة وترعاها بالعناية والحيطة لكي تنمو وتبسق.
وعلى ذلك لن نكون أمة متمدنة إلا إذا أخذنا الشجرة؛ أي لن ندخل في عداد المتمدِّنين إلا إذا أقمنا الآلات في بلادنا لنسج الأقمشة، وصنع المصنوعات الأخرى.
ولكي أزيد القارئ إيضاحًا لهذا الموضوع أضع أمامه مقابلةً بين القاهرة وباريس.
فباريس تأخذ طعامها من قرى الريف الذي يحيط بها، وتستهلك هذا الطعام. ثم تدفع ثمنه لسكان هذه القرى مصنوعاتٍ تصنعها مصانعها وتبعث بها إلى الريف. فبين باريس وبين قرى الريف الفرنسي حركة تبادل ومقايضة؛ الأولى تُقدِّم المصنوعات، والثانية تُقدم المأكولات، وعلى ذلك نجد باريس ترتبط بالريف الفرنسي ارتباطًا اقتصاديًّا؛ هذه تكسو، وهذه تغذو.
فلننظر الآن في المقابلة الثانية بين القاهرة والريف الذي يُحيط بها. فمن الجهة الواحدة نجد الدقيق الأسترالي يَعُمُّ مخابز القاهرة فلا ينتفع بثمنه الريف المصري، ولكن يمكن أن يقال بوجه الإجمال إن الريف المصري يغزو القاهرة، ولكن هل القاهرة تُعطي كما تأخذ؟
في باريس مصانع تصنع الأحذية والأقمشة والخمر والنبيذ والأثاث والزجاج، وهي تُخرج ما تُنتجه هذه المصانع، وتقدمه لسكان القرى في الريف بدلًا مما يُقدمه لها هؤلاء السكان من الأطعمة. فتخرج نقود الباريسيين إلى جيوب هؤلاء السكان كما تعود نقود هؤلاء فتدخل في جيوب الباريسيين.
ولكن علاقة القاهرة بالريف المصري ليست كذلك. فإن القاهرة خلو من المصانع، وإنما هي تقف بين سكان الريف في مصر وبين المصانع في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وغيرها موقف السمسار أو التاجر؛ إذ هي لا تنتج شيئًا.
فالقروي المصري لا يأخذ بدلًا من طعامه الذي يُقدمه لسكان القاهرة مصنوعاتٍ مصرية كما يأخذ القروي الفرنسي من سكان باريس مصنوعات فرنسية، وإنما يأخذ مصنوعات أجنبية ليس لسكان القاهرة فيها سوى مهمة السمسار؛ أي التاجر. فليس هناك إذن ارتباط بين القاهرة وبين القرى المصرية؛ لأن الحقيقة أن القاهرة مستقلة استقلالًا اقتصاديًّا من الريف المصري، وهذا عكس ما نرى بين باريس والريف الفرنسي، أو بين لندن والريف الإنجليزي.
والنتيجة المعقولة لهذا التقاطع الاقتصادي بين الحواضر المصرية والقرى المصرية هو ازدياد الفقر أو على الأقل هو الركود الاقتصادي، ويرجع هذا إلى أن ريفنا منتج وحواضرنا غير منتجة، والعلة الأساسية لذلك ترجع إلى أن حواضرنا تقتصر على التجارة دون الصناعة. ففي العواصم والحواضر الأوروبية والأمريكية مصانع تصنع المصنوعات، وتبعث بها للريف، وتأخذ بثمنها طعامًا. وليس عندنا مصانع تؤدي هذه المهمة، وتجعل التبادل الاقتصادي بين المدينة والقرية مفيدًا للأمة يزيد ثروتها.