باتا: صانعُ أحذية
باتا رجل تشكوسلوفاكي يحترف صنع الأحذية والاتجار بها، ولكنه جرى في هذه الصناعة على نسق القرن العشرين؛ إذ هو يصنع في اليوم الواحد — أجل في اليوم الواحد — ١٣٥٠٠٠حذاء؛ أي إنه يكاد يتم في الأسبوع الواحد نحو مليون زوج من الأحذية.
ومصانع باتا هي نفحة من المستقبل، إذا تأملنا مغزاها عرفنا إلى أين تسير هذه الحضارة. فإن المصانع تتضخم الآن تضخُّمًا عظيمًا، وأصحابها يحكمون بل يتحكمون في العالم، وينقلون لعنة العمل التي لعن بها آدم وكُلِّف فيها بعرق الجبين من الإنسان إلى الآلات، بحيث يقعد الصانع للمراقبة والإشراف بينما الدواليب تدور أمامه وكأن الحياة قد انبعثت فيها فهي تؤدي العمل وهي صامتة.
وإنما تم لهذه المصانع الضخمة هذا النجاح؛ لأنها سارت على مبدأ التخصص، والعامل في هذه المصانع لا يعمل سوى شيء واحد هو جزء صغير جدًّا من الأتومبيل أو من الحذاء أو من غيرهما من المصنوعات، أو هو لا يصنعه بنفسه ويُباشره بيديه وإنما تصنعه الآلة وله عليها الإشراف فقط، وما دامت الآلة لا تصنع سوى شيء واحد فهي تصنعه على غرار واحد لا يختلف المصنوع عندها؛ إذ هي تُخرج أمثلة متحاكية متساوية لأبعادٍ متجانسة المواد. ثم تُجَمِّع هذه الأجزاء بعد ذلك فتُرَكِّب الواحد مع الآخر، وتستوي لنا من ذلك السلعة المطلوبة للسوق.
ولكي ندرس هذه النزعة الجديدة يجب أن ندرس ثلاثة مصانع في ثلاثة مدن هي شيكاغو ثم ديترويت ثم زلين.
فأول من ابتدع هذه الطريقة في الصناعة هو شركة اللحوم في شيكاغو. فهناك نجد مصنعًا يحتوي على غرفٍ كثيرة في كل غرفة عامل لا يعمل سوى عمل واحد. فعندما يصل الخنزير إلى المصنع يعلق في الغرفة الأولى من قدميه فيمر على العامل الأول فيقتله ويستصفي دمه، وليس لهذا العامل سوى هذا العمل. ثم يسير الخنزير وهو معلق إلى غرفة أخرى فيُسلخ. ثم ينتقل إلى غرفة ثالثة فتُؤخذ أحشاؤه، ثم ينتقل إلى غرفة رابعة فخامسة فسادسة. فلا تمضي عليه نحو عشر دقائق منذ دخوله في المصنع حتى يكون قد تفرقت أجزاؤه؛ فبعضها قد مُلِّح، وبعضُها قد دُخِّن، وبعضها قد حُشي في المصارين، وبعضها قد كُبس في العلب. بل روثه قد استحال إلى سماد وجلده قد أُحيل إلى غرفة الدباغة.
وقد استضاء فورد بما تفعله شركة اللحوم في شيكاغو فأسس مصانعه في ديترويت، وهي المصانع التي تصنع في اليوم ١٠٠٠٠ أتومبيل. فإن الحديد الخام يدخل من ناحية في المصنع فيخرج من ناحية أخرى أدوات مجهزة يركب بعضها ببعض، فإذا هي أتومبيل سوي لا يحتاج لكي يسير إلا إلى البنزين، وقد بالغ فورد في التخصيص وعنده آلات قد لا تعمل شيئًا سوى مسمار معين لا تعمل غيره. فالمصنع عنده نهر مستطيل له روافد يمده كل منها بجزء من الآلات. فإذا انتهى إلى المصب كان الأتومبيل مجهزًا كاملًا.
وقد زاد فورد على ما تعلمه من شركة اللحم في شيكاغو بأن جعل يُعنَى بالعمال، ويبني لهم البيوت، ويؤسس لهم المطاعم حتى الملاهي قد عُنِيَ بها، وهذا إلى زيادة الأجور زيادة فاحشة تجعل سائر المصانع في العالم تخشى مثاله.
ثم جاء هذا الثالث باتا؛ فإنه أنشأ في مدينة زلين في تشكوسلوفاكيا مصنعًا للأحذية جرى فيه على مبدأ شيكاغو وديترويت. فإنه يأخذ الجلد خامًا فيدبغه ويُحيله أدمًا، ثم يسير الأدم في المصنع غرفة بعد غرفة أمام العمال الذين يشرفون على عمل الآلات فقط. فهذه الآلة تقص وهذه تخيط وهذه تكوي، فلا يمضي على رحلة الجلد بضع دقائق حتى يكون الحذاء قد تم وخرج من الناحية الأخرى كما يخرج الرغيف من الطابون.
واتَّبع باتا مثال فورد في العناية بالعمال، وهي عناية لها فائدة مزدوجة لباتا وللعامل. فإنه يبني لعماله بيوتهم، ويصنع أثاثهم، ويبيع لهم مأكولاتهم، ويؤسس لهم ولأولادهم الملاهي والمدارس، وهو لذلك لو باع الزوج من الأحذية بعشرة قروش لربح فيه.
فهذه إذن أمثلة ثلاثة للصناعة الجديدة كما ستكون في القرن العشرين. فإن الحديد والنار يأخذان مكان اليد الإنسانية، وينقلان عبء الكد من الإنسان إلى الآلة، ثم هذه الآلة تغزو الزراعة كما تغزو الصناعة، ولن يمضي على العالم المتمدن سنوات حتى تصير الصناعة كلها على هذا الغرار، ومهما شجعنا نحن صناعتنا الصغيرة اليدوية فيجب أن نحسب لها عمرًا قصيرًا؛ لأن المستقبل للآلة وليس للعامل باليد.
ولن يبعد الزمن حين ترى في القرى المصرية مصنعًا كبيرًا يدخل فيه القطن من ناحية منه خامًا يحتوي على بذوره، ثم يمر من الغرفة الأولى إلى الثانية فالثالثة فالرابعة، فيحلج ويغزل وينسج، ويخرج من الطرف الآخر وهو أقمشة ساذجة ومصبوغة ثخينة ورقيقة.
وهذا بالطبع خيال، ولكن ليس لنا بقاء في العالم إذا لم نستطع في المستقبل أن نحقق هذا الخيال، وحسبُك من الخطر الذي ينتظرنا إذا أهملنا هذا الخيال فرضًا واحدًا، وهو أن نأذن لأحذية باتا أن تدخل بلادنا بلا قيود جمركية، فإنها لأول أسبوع تُلقِي في الشوارع عندنا نحو ٢٠٠٠٠ صانع مصري يصنعون الأحذية بأيديهم الآن.