الوطنية العاملة
لمَّا أُعلنت الحرب الكبرى سنة ١٩١٤ شعر جميع المفكرين في العالم أنها انفجار وطني، وأن الوطنية بلغت بهذه الحرب أَوْجَها، وتجاوزت منفعتها، وأنه يَحسن بالأمم أن يضعفوا الروح الوطنية، ويجعلوا للعالمية مكانًا في نفوسهم إلى جنب الوطنيَّات المتعددة، وكانت هذه الغاية هي التي قصد إليها الرئيس ولسون حين اقترح تأليف عصبة الأمم.
ولكن على الرغم من انتهاء الحرب ومن وجود عصبة الأمم نرى الآن أن الوطنيات على أشدها، وأن الحرب — بدلًا من أن تُخمد الروح الوطنية، وتوجه نظر الناس إلى عصبة الأمم، وتبعث فيهم الروح العالمية — قد بعثت فيهم وطنية حادَّة هي الآن أحدُّ مما كانت سنة ١٩١٤.
ولكن إذا نحن تعمقنا في البحث لم نجد في هذه الظاهرة غرابة. فليس شك في أن الروح العالمية قد سرت في العالم عقب الحرب، وأن جميع القادة والمفكرين يرغبون في بقاء عصبة الأمم، ويتشوفون إلى اليوم الذي تستطيع فيه هذه العصبة أن تكون الحكومة الرئيسية للعالم تتوجه إليها كل أمة مظلومة بمظلمتها، فتكف عنها اعتداء الأمم الظالمة. على أننا — ونحن نرغب في هذا السلام العالمي، ونتشوف إليه، ونُفكر في قمع روح الاعتداء — نضطر إلى التفكير في أنفسنا، وإصلاح أحوالنا القريبة منَّا، ولذلك نجد أن أعظم رجل ينزع إلى السلام والعالمية — وهو غاندي — هو أيضًا أعظم الوطنيين حدةً في وطنيتهم.
والوطنية الحديثة التي ابتعثتها الحرب تختلف عن الوطنية التي سبقت الحرب. فقد كانت تلك تصلصل بالسيوف، وتنافس بالبوارج والمدافع، وهي ما تزال باقية إلى حدٍّ ما في فرنسا وبولونيا، ولكن الوطنية الحديثة تتجه نحو ترقية الصناعة الوطنية وزيادة الثروة، ونحو الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وهي من هذه الناحية تأتلف وروح السلام العالمي وعصبة الأمم، ولكنها تختلف عن تلك الروح التي بعثت على الحرب؛ تلك كانت تهدم وهذه تبني.
وأينما تأملت العالم الآن ألفيتَ فيه وطنيات حادة تشمل الشرق والغرب، وتعمل للإصلاح العام، وغاندي هو مَثَل من الأمثلة العليا لهذه الوطنية الجديدة. فهو يدعو إلى الصناعة الوطنية والإصلاح الاجتماعي العام، ولا يُفكر في تأليف جيش. ثم هو من دعاة السلام العالمي، ولولا اشتغاله بمكافحة الاستعمار الإنجليزي لكان الآن خليفة ولسون يدعو إلى مبادئه، ويدفع عنها لإيجاد حكومة قوية للعالم.
ثم هذه الوطنية الصينية التي حررت المرأة، وهدمت الأصنام، وألَّفت أبجدية جديدة للعامة، ومثال تركيا الجديدة في وطنيتها الجديدة واضح أمامنا. فإنها وطنية إصلاحية تُحارب السياسة الاستعمارية كما تحارب الماضي الذي كان يستعمر العقول.
أما في أوروبا فقد أخذت الوطنية الجديدة أشكالًا مختلفةً؛ ففي ألمانيا حركة وطنية ولكنها في الوقت نفسه حركة اشتراكية يقودها الزعيم هتلر، وفي إيطاليا وطنية فاشية يقودها الاشتراكي السابق موسوليني، وهي تقوم أو تنحصر في الإنهاض الصناعي للأمة. بل هذه هي بريطانيا قد ظهرت في هذا الشهر بمظهر غريب من الوطنية هو حماية المصنوعات الوطنية.
وإذن يمكن أن يقال إن النزعة الوطنية في كلٍّ من بريطانيا والهند تتجه نحو غاية واحدة هي إنهاض الصناعة الوطنية وحمايتها، وهذه هي الحال في إيطاليا أيضًا بل في تركيا. ثم يجب ألا يبرح أذهاننا أن القتال الناشب الآن بين منشوريا واليابان يرجع إلى مثل هذه النزعة؛ إذ إن الصينيين يُقاطعون البضائع اليابانية إيثارًا للبضائع الصينية الوطنية.
والآن لنا أن نتساءل: إذا كانت الوطنيات القديمة العسكرية قد انتهت بالحرب الكبرى فما هي نهاية هذه الوطنيات الحديثة الاقتصادية؟
فالجواب على ذلك: هو أن هذه الوطنيات ستنتهي بالسلام العام؛ لأن الاستعمار سيفشل أمام النزعة الحاضرة نحو تنشيط الصناعات الوطنية، وذلك لأن الاستعمار يسير وراء الأسواق، فإذا كفت كل أمة نفسها زراعة وصناعة لم يعد للاستعمار سبب للبقاء، ولسنا نعني بالكفاية استغناءً تامًّا، وإنما نعني أن يكون أكثر اعتمادها في حركتها التجارية والصناعية على نفسها مع الاستعانة بعض الشيء بالتجارة الخارجية.
وقد يبدو هذا الكلام غريبًا للقارئ؛ إذ يستبعد هذا الزعم وهو أن تكفي كل أمة نفسها، وأن تنزل التجارة الخارجية منها منزلة حقيرة، ولكن ماذا نقصد نحن، وماذا تقصد الأمم جميعها بالحماية الجمركية إذا لم تكن هذه هي غايتها؟
صحيح أنها غاية بعيدة، ولكنها هي الغاية المقصودة، وهي ليست مما يستحيل تحقيقه … فقد كانت الأمم جميعًا تكفي نفسها صناعاتٍ ومصنوعاتٍ قبل نحو مائة سنة. فلما ظهرت الآلات في أوروبا شاع الاستعمار لكي يفتح لمصنوعاتها الأسواق البعيدة في آسيا وأفريقيا بل في أوروبا نفسها، وكانت لذلك أعظم دولة استعمارية في العالم — وهي بريطانيا — أعظمَ دولة صناعية أيضًا.
فإذا كانت الوطنية العاملة الحديثة قد اتجهت نحو الصناعة الوطنية، سواء في الهند أو إيطاليا أو بريطانيا أو الصين أو تركيا فإنها يجب أن تتجه في بلادنا نحو هذه الغاية. فإنه ليس شيء يكف يد الاستعمار مثل الصناعة الوطنية، وليس شيءٌ يعمل للسلام العام مثل الصناعة الوطنية.
وذلك لأن زوال الأسواق الكبيرة سيمنع التنافس، وما إليه من سيادة البحار وفتح الطرق والحصول على الامتيازات.
ولن يكون اليوم بعيدًا حين تقتصر التجارة الخارجية على الحاصلات الزراعية ومُستخرجاتها مما يُلازم الأقاليم الجغرافية ولا يتعدَّاها.
فنحن مثلًا سنستورد البن من برازيل أو الحبشة، ولكننا سنُصنِّع الأتومبيل وننسج الأقمشة في بلادنا.
وفي هذه النزعة صلاح للعالم، وقمع للروح الإبليسية الاستعمارية.