الواردات الإنسانيَّة إلى بلادنا
أصبحت الحماية الجمركية عامة عند جميع الأمم المتمدنة، فهي الآن تمنع البضائع الأجنبية من الدخول في موانيها، أو هي لا تجيز لها منافسة المصنوعات والحاصلات الوطنية إلا بعد أن تثقلها بضرائب فادحة تبلغ أحيانًا مائة في المائة، وهي تفعل ذلك إيثارًا للصانع الوطني على الصانع الأجنبي.
وقد اختططنا هذه الخطة أيضًا فأخذنا في حماية حاصلاتنا ومصنوعاتنا، وإن كنا لم نبلغ الغلو الذي بلغه الأمريكيُّون والإنجليز والإيطاليون والفرنسيون؛ فإننا ما زلنا نستورد الفواكه والدقيق الأجنبي وكثيرًا من الأطعمة، ولا نفرض عليها إلا أقل ما يمكن من الضرائب الجمركية، مع أن هذه الأشياء كان يجب أن تثقل بأعباء الضريبة بحيث تقل كميتها أو تنعدم، ولا عبرة بأن يقال إن الدقيق المصري لا يكفي الناس، فإنه إذا مُنع الدقيق الأجنبي وغلت أسعار الدقيق المصري عمد الفلاح المصري إلى أرضه فخص جزءًا كبيرًا منها للقمح وكفى البلاد دقيقها.
ولكن هناك واردات أخرى تَرِد إلى بلادنا وهي أضر لنا وأفسد لنظامنا وثروتنا من واردات البضائع، نعني تلك الواردات الإنسانية التي تدخل بلادنا فتُفسد نظامنا الاقتصادي، وتُلقي بشبابنا في عطلة دائمة. فالأوروبيون يتبادلون الهجرة؛ لأن شبانهم على مستوى واحد من الكفاية الحرفية. فإذا هجر الألماني بلاده إلى فرنسا لم يكن له أي امتياز في الحذق والمعرفة، ولذلك لا يخشاه الفرنسيُّون، ومثل ذلك يمكن أن يقال في الأمم الأخرى الأوروبية.
أما حيث يكون هناك امتياز فإن الأمم لا تحجم عن سن قوانين تمنع الهجرة إليها. فمن المعروف مثلًا أن الأجور غالية جدًّا في الولايات المتحدة، وأن العامل الأوروبي أو الآسيوي يمكنه أن يقبل العمل في تلك الولايات بأجرٍ منخفض، والمصانع الأمريكية تفرح لهجرته إليها، وترحب به؛ لأنها تستطيع أن تستغله بأحسن مما تستغل العامل الأمريكي، ولكن حكومة الولايات المتحدة حرصًا على منفعة العامل الأمريكي تمنع الهجرة إلى بلادها إلا بشروطٍ ثقيلة جدًّا يكفي أن يعرف القارئ منها أن الذين يُؤذن لهم من المصريين بالهجرة إلى الولايات المتحدة في العام لا يزيد على عشرة أو خمس عشرة من الأنفس.
وفي بلادٍ مثل بلادنا تُؤذينا الواردات الإنسانية أكثر جدًّا مما تؤذينا واردات البضائع؛ فإننا نشتري البضاعة ونستهلكها في يومٍ أو في عام، ولكن المهاجر إلينا من الأمم الأجنبية يبقى في بلادنا قوة حية طول حياته، فيملأ مكانًا في حياته الاقتصادية كان يمكن الشاب المصري أن يملأه. فهو في مقامه في مصر يُحدث عطلًا لشاب مصري إزاءه. ثم هو يمتاز علينا بأنه جاء من وسط مثقف متمدن يحذق صناعة ما فإذا زاحمنا غلبنا في وسط بلادنا وعقر دارنا.
وفي مصر الآن نحو ربع مليون أجنبي قد أوشكوا أن يجعلوا الإسكندرية ميناءً أجنبيًّا، وقد أصبحت البورصة احتكارًا لهم، وهم الآن أصحاب البنوك والمتاجر الكبرى ليس فيهم عاطل؛ لأنهم يستخدمون أبناء أممهم دوننا، وعندنا نحن ما لا يقل عن مليون عاطل كان يمكن استخدام عدد كبير منهم أو استخدامهم جميعًا لو كانت الصناعات والتجارات والصيرفة في أيدينا.
وإذن يجب علينا أن نخشى الواردات الإنسانية إلى بلادنا أكثر مما نخشى واردات البضائع؛ لأن البضائع إلى الاستهلاك والنفاد، أما الصانع أو التاجر الأجنبي فحيٌّ يعيش ويعقب ويتكاثر نسله، ويملك ثروة البلاد، وخطره القادم أكبر من خطره الحاضر.
وكما قيدنا الواردات من البضائع بالضرائب الجمركية لكي نحمي المصنوعات والحاصلات المصرية كذلك يجب أن نحمي الشاب والعامل المصري من منافسة شبان الأجانب وعُمالهم — الذين يُهاجرون إلينا — بقوانين تُقيِّد الهجرة إلى بلادنا.
ولا بد أن كثيرين من أبناء الأمم الأجنبية يُفكرون في الهجرة إلينا هذه الأيام؛ لما يُعانونه من اشتداد الأزمة عندهم، ولما يبلغهم من السعادة التي لقيها المهاجرون إلينا؛ إذ أصبحوا سادتنا يملكون تجارتنا، بل هم كادوا يملكون عقاراتنا، فيجب أن نسنَّ قانونًا لمنعهم من القدوم إلينا ومزاحمتنا على العيش الضنين الذي نلقاه في بلادنا.