تجديد القرية المصرية
ولقد تعجَّبتُ لما دخلتُ الديار المصرية من أوضاع قراها التي تُكدِّر العين بسوادها، ويَضيقُ الصدر بضيق أوضاعها.
وهذا الوصف يدل على الأثر الذي ينطبع في ذهن الغريب القادم إلينا من أوروبا، فإن ابن سعيد كان على الرغم من عربيَّته قد نشأ في الأندلس حيث بناء القُرى يقوم على الحجر اتقاءً للأمطار، والقرى الأوروبية جميعها لها رونق ورواء لهذا السبب، والأمطار كما تضطر القروي في أوروبا أن يبني منزله ويفرش شوارع القرية بالحجر، كذلك هي بتواترها تكسب القرية ثوبًا من النظافة — بل النَّصاعة — لا يمكن أن نراه في بلادنا حيث جفاف الهواء يجعلنا نرضى البناء بالطوب النيئ الذي يكسو قُرانا بالكدر والقتامة.
وقُرانا ما تزال كما عاينها ابن سعيد، لم نُفكر إلى الآن في بنائها بالحجر بدلًا من الطوب النيئ، ولكن حالها الآن تختلف من حالها في القرن السابع من حيث إن الصناعات القروية التي كانت شائعةً قد ماتت، فالفلاحون الآن لا يعرفون المغزل أو المنسج، وهم يكسون أنفسهم بأقمشة لنكشير، ويتناولون طعامهم في أطباقٍ من ألمانيا، وقد يتوهم القارئ أن زراعة القطن قد زادت القرى ثروة، وهذا خطأٌ فإن القطن لم يُفد الفلاح الأجير وإنما أفاد المزارع المالك، وهذا المزارع قد اعتاد أن يهجر قريته إلى المدن إذا أثرى. فالقرية المصرية ما تزال في الفاقة القديمة لم تنتفع بالقطن، ولم تعوض من خسارتها القديمة بإماتة الغزل والنسج شيئًا جديدًا.
بل الأرجح أن القرية المصرية قد ازدادت سوءًا في السنوات العشرين الماضية؛ لأن الفلاحين خسروا صناعة النقل بظهور الأتومبيل، فقبل عشرين سنة كانت القرى حافلة بالخيول والجمال، وكان النقل في المدن يجري على الخيول. فكانت تربية هذين الحيوانيْن تعود على الفلاح بربحٍ غير قليل، كما أن تجارة العلف كانت من التجارات الرابحة. أما الآن فالقرى خالية من الفرس والجمل، والمدن تشتري البنزين الأجنبي بدلًا من أن تشتري التبن والفول والشعير من الحاصلات المصرية.
فأرجح الظن أن فلاحنا الآن يُعاني من الفاقة على الرغم من زراعة القطن أكثر مما كان يعاني قبل عشرين سنة، والقرية المصرية الآن أحط مما كانت في القرون الماضية؛ لأنها عدمت صناعتها القديمة. فإذا أردنا أن نجددها ونرُد إليها حياتها فلن يكون ذلك إلا بأن نعيد إليها صناعتها القديمة بعد أن ننقحها، بحيث تستطيع أن تصمد للمزاحمة الأجنبية.
وأول ذلك أن نعيد إليها صناعة النسج؛ لأنها أسهل الصناعات، لا يحتاج النول الواحد من نفقات التأسيس إلى أكثر من ثلاثة جنيهات، والنول اليدوي يستطيع مزاحمة النول الآلي. ففي بعض مدن الصعيد إلى الآن أنوال قد تبلغ المائتين للمدينة الواحدة وكلها تعمل وكلها تربح. أما الغزل فما زلنا نحتاج إلى مغزلٍ سريع، وعندنا الآن كثيرون قد شغلوا بالهم بهذا الموضوع، ومنهم الشيخ أحمد الشَّامي الذي يوشك أن ينجح، ويُخرج لنا مغزلًا يُنتج نحو عشرة أضعاف ما يُنتجه المغزل العادي.
وليس من الممكن الآن أن نهزم الأتومبيل، ونعود إلى الفرس والجمل. بل الأرجح أن فتوحات الأتومبيل لم تبلغ إلى الآن غايتها، فقد يغير على الأرض الزراعية، ويطرد محراثنا من الحقل كما طرد دوابنا من المدن، ولكن يمكننا أن نجعل القرية ميدانًا نشطًا لصناعاتٍ أخرى مثل المربيات والعطور والأشربة الحلوة. فإن الفلَّاح الفرنسي يستعين على المعاش بصنع الخمور، ولكن فلَّاحنا لا يُمكنه أن يصنعها وإنما يمكنه أن يصنع المربيات.
أما مستخرجات اللبن فمن الصناعات التي يجب أن يحتكرها فلاحنا، ويجب ألا نُكفِّي أنفسنا فقط منها بل نُصدِّر منها إلى البلاد الأجنبية، وفي إنجلترا وفي الولايات المتحدة من البقر سلالة تُدعى «بقر جرزي» وهي غزيرة اللبن تدرُّ البقرة في اليوم ٣٥ رطلًا، ومثل هذه السلالة كان يجب أن تقتنيها الحكومة، وتعرق بها البقر المصري.
إن القرية المصرية في حاجة إلى التجديد الاجتماعي والثقافي والهندسي والإداري، وأساس ذلك كله هو التجديد الاقتصادي. فإذا نحن أغنيْنا القرية بالصناعات التي تدرُّ عليها المال أغنت هي نفسها بالتعليم وضروب الحضارة والرفاهية.