المعارك البحرية
ذكرنا أهم ما كتبه المؤلفون والمراسلون الحربيون حتى صدور هذا الكتاب عن المعارك البرية، فبقي أن نعقد فصلًا وجيزًا عن الأعمال البحرية، وقبل الكلام عليها نذكر قوة كل عدو يوم إعلان الحرب.
(١) الأسطول العثماني
شرعت الحكومة العثمانية بعد إعلان الدستور في تنظيم أسطولها، وكلفت جماعة من الضباط الإنكليز أن يساعدوها في هذا العمل الخطير، فتقدم الأسطول العثماني بعض خطوات في سبيل النجاح، وبينما كان في إبَّان حركة التنظيم هجمت إيطاليا على طرابلس الغرب، فكان إعلان الحرب الطرابلسية من الأسباب الجوهرية في إيقاف تنظيمه.
ولما قامت الحرب البلقانية كان الأسطول العثماني مؤلفًا من ثلاث مدرعات متوسط طنات الواحدة منها ١٠٠٠٠، وكان بينها اثنتان اشترتهما الحكومة العثمانية من ألمانيا وهما: «خير الدين بارباروسا»، و«طورغود»، وتاريخ إنشاء هاتين المدرعتين يرجع إلى سنة ١٨٩٠، وعدد مدافع كل منهما ستة من طراز ٢٨٠، وثمانية من طراز ١٠٥، وسرعتها ٢٠ عقدة، وكثافة درعها ٢٠ سنتيمترًا، أما تاريخ المدرعة الثالثة المدعوة مسعودية فيرجع إلى سنة ١٨٧٤، على أنها أصلحت وجُددت سنة ١٩٠٤، وعدد مدافعها الضخمة اثنان فقط ومعها ١٢ مدفعًا من طراز ١٥٠، والمدرعات المذكورة هي أفضل ما كان عند الدولة العثمانية من البوارج.
وكان عندها أيضًا أربع طرادات مدرعة أنشئت سنة ١٨٧٠ ثم أصلحت سنة ١٩٠٧ وهي عصر توفيق وحميدية ومجيدية، واثنتا عشرة سفينة للتوربيد، وتسع سفن مقاومة للتوربيد وعدد من المدفعيات، وسفن أخرى لا تعد ذات شأن في الهجوم.
أما البحارة فكان بينهم أكثر من ألف ضابط و٢٣٠٠ صف ضابط وجندي.
(٢) الأسطول اليوناني
وكان عند اليونان طرادة مدرعة من أقوى الطرادات الحديثة اسمها جورج أفيروف (وهو اسم اليوناني الذي تبرع بمعظم ثمنها)، وعدد طناتها ١٠٠٠٠، وتاريخ إنشائها ١٩١٠، وعدد مدافعها الضخمة أربعة من طراز ٢٣٤، وثمانية من طراز ١٩٠، وكثافة درعها ٢٠ سنتيمترًا، وسرعتها ٢٣ عقدة. ثم ثلاث مدرعات مصنوعة في فرنسا عدد طنات الواحدة ٥٠٠٠، وتاريخ إنشائها ما بين ١٨٨٩-١٨٩٠ وعدد المدافع الضخمة في كل منها ثلاثة، والمدافع الأخرى خمسة، وسرعتها ١٧ عقدة فقط وهي: بسارا وهيدرا وسبتساي. ثم طرادة صغيرة، و٨ نسافات سرعتها ٣١ عقدة، وأربع مصنوعة في إنكلترا سرعتها ٣٢ عقدة، وغواصة مصنوعة في فرنسا، وعدة سفن أخرى لا تُعد ذات قيمة كبيرة.
أما رجال هذا الأسطول فكانوا ٤٠٠ ضابط، و٣٦٠٠ صف ضابط وجندي.
(٣) الأعمال البحرية في البحر الأسود ومرمرا وفي بحر الأرخبيل والبحر الأيوني
يمكننا أن نقسم الأعمال البحرية التي جرت إلى قسمين؛ أولهما: كان في البحر الأسود وبحر مرمرا، والثاني: في بحر الأرخبيل والبحر الأيوني، وقد حصر الأسطول العثماني أعماله حتى يوم الهدنة الأول في البحر الأسود، وكان غرضه أن يضرب بعض الثغور البلغارية، ويحمي الجنود العثمانية التي تبحر هناك أو تنتقل عند الشواطئ، وأن يمنع إرسال المئونة والذخيرة إلى البلغار من تلك الجهة، وكان في البحر الأسود أسطول صغير ضعيف للبلغار مؤلف من طرادة صغيرة لا يزيد عدد طناتها عن ٧٠٠، ومن سبع سفن للتوربيد، فنحن نذكر أولًا ما فعله الأسطول العثماني في البحر الأسود، ثم ننتقل إلى بحر الأرخبيل فالبحر الأيوني.
أبحر قسم من الأسطول العثماني في اليوم الثاني لإعلان الحرب إلى جهة وارنه (أحد ثغور بلغار)، وأخذ يطارد سفينتين من سفن التوربيد البلغارية فاضطرهما إلى اللياذ بذاك الثغر، ثم ظهر في ٢١ منه أمام ثغر قوارنه فضرب حامية بلغارية كانت هناك، وأحدث أضرارًا في الثكنة والمينا ومحل التلغراف ومخزن المئونة وبعض المباني.
وبعد هذا العمل الحربي صرف الأسطول العثماني همه في البحر الأسود إلى حصر المواني البلغارية ومنع إرسال المئونة والذخيرة إليها، ولما وصل البلغاريون إلى جتالجه بعد معركة لوله بورغاز ذهبت البارجتان مسعودية وبارباروسا إلى خليج جكمجه حيث ضربتا ميمنة البلغاريين، وكان الأسطول يتفاهم مع القوة العثمانية البرية بإشارات مصطلح عليها، فأفلح في عمله وألحق ضررًا كبيرًا بالبلغاريين.
وبعد أيام حدثت معركة بين الطرادة حميدية وسفن التوربيد البلغارية فأصيبت حميدية بضرر قليل لم يتطلب إصلاحه زمنًا طويلًا، وقد أدت حميدية خدمة حميدة للجيش العثماني؛ لأنها حرست مؤخرة جناحه من الجهة الشمالية.
ولما عقدت الهدنة الأولى في ٣ ديسمبر ترك معظم الأسطول العثماني البحر الأسود، وصرف همه إلى بحر الأرخبيل حيث كان الأسطول اليوناني؛ لأن اليونان أبوا الاشتراك في الهدنة.
(٣-١) ماذا جرى في بحر الأرخبيل؟
بينما كان الأسطول العثماني يفعل ما ذكرنا في البحر الأسود وحاصلًا على السيادة البحرية فيه، كان الأسطول اليوناني حاصلًا على السيادة نفسها في بحري الأرخبيل (إيجه) والبحر الأيوني، وقد جعل همه أولًا مساعدة الجيش اليوناني من جهة خليج أرطه (أونارده بالتركية) ومن جهة بريفيزا، وتضييق الحصار على الثغور العثمانية لمنع إرسال الميرة والذخيرة والنجدات من سوريا وغيرها.
وكان في مياه بريفيزا ثلاث مدفعيات عثمانية ضعيفة، فخاف اليونانيون أن تحول دون إرسال المئونة والذخيرة إلى جيشهم في أبيروس فأصدر قائدهم أمرًا بضرب تلك المدفعيات، وفي أوائل نوفمبر تمكنت بعض المدفعيات اليونانية من إغراق اثنتين من المدفعيات العثمانية، وأغرق العثمانيون الثالثة بأيديهم، وما كان التاسع عشر من شهر نوفمبر حتى أعلن اليونان حصار جميع السواحل اليونانية هناك ومنعوا إرسال كل مدد إلى يانيه، وتمكنوا من تعضيد الصربيين بعد وصولهم إلى شواطئ الأدرياتيك.
ثم ذهب الأسطول اليوناني فحصر الدردنيل واحتل عدة جزر هناك، وقبل وصول الجيش اليوناني إلى سلانيك ذهبت إحدى سفنه فأغرقت بارجة عثمانية قديمة كانت تهدد قسمًا من الجيش اليوناني. وفي أواخر شهر نوفمبر احتل اليونان جزر عثمانية أخرى.
وفي ١٧ ديسمبر خرج الأسطول العثماني من الدردنيل وكان مؤلفًا من طورغود وبارباروسا ومسعودية وعصر توفيق وطراد وعدة سفن للتوربيد، فلحظه الأسطول اليوناني وتقدم نحوه، ولما صار على ١٢ كيلومترًا أخذ العثمانيون يطلقون النار فقابلهم اليونانيون بالمثل، وظل القتال حامي الوطيس حتى رأى قائد الأسطول العثماني أن الطرادة أفيروف تقدمت من أحد جانبيه، وأنه كاد يصبح بين نارين، فأمر أسطوله بالرجوع إلى الدردنيل، فأبى الأسطول اليوناني أن يلحقه مخافة أن يُستهدف لنيران حصون المضيق.
أما الخسارة فأهم ما يذكر منها ضررٌ بالغ أصاب مرجل المدرعة العثمانية بارباروسا، وضرر خفيف لحق بالطرادة اليونانية أفيروف، وبضعة قتلى وعدد من الجرحى.
ثم جرت بعض أعمال حربية أهمها خروج الطرادة حميدية وتدميرها بعض السفن اليونانية، وإغراقها بعض البواخر التي كانت تقل جنودًا صربية في المياه الألبانية، وكان ربانها البارع ينتقل بها من جهة إلى أخرى في البحر المتوسط ويُشغل أفكار الأسطول اليوناني، فحينًا يأتي بورسعيد وآخر الإسكندرية، وتارة ينتقل إلى حيفا، أو يجتاز قناة السويس إلى البحر الأحمر، وكان أركان حرب الأسطول العثماني يؤملون فيما يظهر أحد غرضين من طواف حميدية، إما أن يحملوا معظم الأسطول اليوناني على مطاردتها، فيخرج حينئذ الأسطول العثماني من الدردنيل ويفتك بالقسم الباقي وبالثغور اليونانية، وإما أن يُلحقوا بأعدائهم ما أمكن من الأضرار إذا أحجم معظم الأسطول اليوناني عن مطاردة حميدية وتركها تطوف في أنحاء البحار، ولكن اليونان اختاروا أن تبقى القوة الكبرى من أسطولهم على مقربة من الدردنيل، وهذا ما أمكن حميدية أن تفتك بعدد من الصربيين وتفعل ما فعلت.
على أن السيادة البحرية في جهات الأرخبيل والبحر المتوسط بقيت حتى النهاية لأسطول اليونان، فنشأ عنها لنكد الدنيا على الأمة العثمانية ضررٌ كثيرٌ وشرٌ كبيرٌ؛ لأن طريق البحر لبث مقفلًا أمام ألوف عديدة من الجنود العثمانية التي كانت مستعدة للسفر في دمشق وبيروت وغيرهما. كما لبثت الأستانة محرومة من إرسال أي شيء يسمى مئونة أو ذخيرة عن طريق الدردنيل.
وبقيت سلانيك وسائر الثغور العثمانية من جهة أخرى متروكة بلا مدد، وأخذ اليونان يرسلون ما أرادوا من المؤن والذخائر والسلاح من طريق البحر إلى جهات يانيا، وغيرها من بلاد أبيروس وإلى الجزائر التي احتلوها.
وربما عجب المطالع من قدرة الأسطول اليوناني على حفظ السيادة البحرية هناك؛ لأن البوارج العثمانية الكبيرة أكثر من البوارج اليونانية، ولكن الاختصاصيين لم ينلهم العجب؛ لأنهم عرفوا الأسطول العثماني أقل من الأسطول اليوناني سرعةً وتجانسًا وتمرنًا.