الصحافيُّون بين النار والحديد
مُنشئُ هذا الكتاب صحافي يحب الصحافة وآلها واليراعة ورجالها، فليسمح له المطالع أن يقول هنا كلمة عن أعمال الصحافيين وهم في ساحات القتال بين الحديد والنار: يروون أن هوميروس صاحب الإلياذة الشهيرة كان أعظم مراسل حربي في قديم الزمان، ثم يتطرقون إلى ذكر أشهر المراسلين وأعلاهم كعبًا، فيذكرون عدة أسماء حديثة منها الرحالة ستانلي الذي راسل نيويورك هيرالد، وجورج فيلون الذي عُين مديرًا لشركة هافاس في فرنسا، وستندال، وفرنسوا دلونكل، وجورج غولي، وجان بارير وغيرهم من الذين لا يسع المقام أسماءهم.
ولا يذهبنَّ عن المطالع أن الكلام في هذا الباب ينحصر بحكم الضرورة في الصحافات الأجنبية؛ لأن صحفنا العربية لم تبلغ حتى الآن من الثروة والرُّقِي ما يمكنها من إرسال مندوبين اختصاصيين على نفقتها إلى ساحات القتال، وأسعدها حظًّا هي التي تعرف صديقًا يحضر حربًا فتكلفه أن ينفحها برسائل مأجورة أو غير مأجورة، ولا يهمها أن يكون اختصاصيًّا أو غير اختصاصي، ولا يسع المنصف إلا أن يلتمس لها عذرًا ما دامت الجريدة التي تتفوق على جميع رصيفاتها في البيع والنشر لا تبلغ درجة إحدى جرائد المديريات في أوروبا، فهل يمكن واحدة منها أن تفعل كالبتي باريزيين التي كانت تنفق كل يوم على رسائلها الحربية ٣٠٠٠ إلى ٤٠٠٠ فرنك؟ فكيف بالتيمس وغيرها من سيدات الجرائد في العالمين؟
وهناك عذر آخر لجرائدنا وهو أنه لو أرادت إحداها أن ترسل اختصاصيًّا كفئًا إلى الحروب لما وجدت، فإن المراسل الحربي لا يحتاج إلى مال كثير فقط بل هو يحتاج إلى معرفة فنية وصحة قوية وشجاعة كبيرة. قال جان بارير في رحلته إلى حرب الترنسفال: «أعترف لكم بأن يدي أخذت ترتجف حين وصلت إلى الخنادق الأولى وأخذت أسمع صفير الرصاص لأول مرة، فقد كنت لا أستطيع أن أضع نظارتي على عيني لما أصابني من الارتجاف، وإني لعلى تلك الحال إذا برفاقي هبُّوا للهجوم فاضطررت إلى التقدم معهم نحو العدو، وكان الرصاص يمر من فوق رأسي كالعصفور الصافر، ثم نظرت يمينًا فإذا الجندي القريب مني طريح فظننت أن رجله عثرت بحجر، ولكني تحققت بعدئذ أنه قُتل، ثم واصلت العدْوَ نحو العدِو فوجدت في طريقي جثة أخرى، ثم وقف جندي آخر وما لبث أن وقع. وكسرت إحدى الرصاصات حجرًا كان على بعد سنتيمتر واحد من رجلي، ومع ذاك كله فقد بقينا نتقدم وكأننا نتحامل.»
وقال الموسيو ريمون ريكولي الذي كان مراسلًا للتان في حرب الصين: «أول ما يحتاج إليه المراسل الحربي هو بنية كالحديد ليتمكن من مقاومة الأتعاب والأمراض والانفعالات النفسية، ثم يلزمه كثير من الحزم في سلوكه، فقد كدت أقع أسيرًا لأني قضيت ليلة في أحد البيوت المنفردة، ولو وقعت في قبضة الأعداء لأعدموني بحجة أني جاسوس روسي، أما المشاهد التي يراها المراسل الحربي فهي من أشد الأهوال على النفوس، فقد رأيت بعيني أن قنبلة أصابت راهبة كانت تداوي الجرحى فقطعتها قطعتين، ورأيت أن خادمي أصبح مجنونًا ورأيت ورأيت … تالله إن حرفة المراسل الحربي لهي مهنة قاسية كمهنة العسكري وكبيرة عظيمة مثلها.»
ويظهر أن المراسلين الحقيقيين يخافون المراقبة بقدر ما يخافون الرصاص، قال الموسيو ريمون المذكور: «لا يخفى أن كل جيش يجعل للصحافة إدارة مخصوصة، وأهم رجالها المراقبون وهم الجلادون الذين يخافهم المراسلون الحربيون أشد الخوف ولا يرتعدون من صفير الرصاص ودوي المدافع بقدر ما يرتعدون منهم.»
ويُؤخذ من أقوال مراسلي الجرائد الذين حضروا حرب البلقان أن المناظر الهائلة التي رأوها لم يسبق لها نظير، فقد كانت المدافع تحصد فرقًا بأسرها في بضع ساعات فتتراكم الجثث هنا وهناك وتسيل الدماء جداول بل أنهرًا، وكأنما أولئك المراسلون لا يكفيهم أن يقاسوا تلك المصاعب العاتية ويروا تلك المناظر التي تقذي العيون وتفطر القلوب حتى يروا في بعض الأحيان مصاعب أخرى من إخوانهم وزملائهم. فقد حدث في حرب الصين أن المراسلين الأميركيين بعد أن أرسلوا تلغرافاتهم قطعوا الأسلاك التلغرافية، فتأخرت تلغرافات المراسلين الأوروبيين ريثما أصلحت تلك الأسلاك، ولكن الجرائد الحرة قبَّحت عملهم؛ لأنه لا يدل على براعة معجبة، فقد كان يكفيهم أنهم سبقوا غيرهم في إرسال التلغرافات.
أما البراعة الصحافية التي حيرت السياسيين ورمت العلة في قلب بسمرك، فهي التي أبداها المستر بلويتز مراسل التيمس أيام مؤتمر برلين. فإن هذا الصحافي الطائر الصيت كان يرسل إلى جريدته كل ما جرى في ذاك المؤتمر العظيم يومًا فيومًا، حتى تميز البرنس بسمرك غيظًا وملأ جهات القصر الذي كان يُعقد فيه المؤتمر عيونًا وجواسيس، وكان يذهب بنفسه فيرفع كل ستار ليرى هل اختبأ أحد وراءه، وكان عند جلوس المندوبين يضرب بكعب رجله تحت الطاولة؛ لأن بعضهم أذاع في ذاك الوقت أن أحد لصوص الأخبار كان يختبئ تحتها. أما ما قيل من أن المستر بلويتز نفسه كان يختبئ هناك فهو قول لا يعول عليه؛ لأن الرجل كان عظيم البنية كثير السمن.
وعلى الرغم من تلك الاحتياطات بقي ذاك المراسل الكبير يرسل إلى جريدته نتيجة المباحث اليومية في المؤتمر، حتى ختمها بعمله الشهير وهو إرسال معاهدة برلين إلى التيمس قبل أن تصل إلى الحكومات نفسها، فكيف كان يفعل؟
قال الموسيو جورج ميشيل: «إن صديقًا قديمًا لذاك المراسل خبرني مع التحفظ أنه «اشترى» عضوًا من أعضاء المؤتمر، وهذا الخبر لا يقبل التصديق لأول وهلة، ولكن من يتذكر ثروة التيمس الطائلة وبراعة مراسلها الهائلة ثم يتذكر من جهة أخرى أن بعض أعضاء الحكومات البلقانية كان فقيرًا، يجد الأمر ممكنًا.»
وقيل: إن البرنس بسمرك بقي بعد المؤتمر مهتمًّا اهتمامًا شديدًا بمعرفة الوسيلة التي توسل بها مراسل التيمس، وكان يعرف أنه يحب الحِسان فأرسل إليه جاسوسة أجنبية جميلة لتتعشى معه، ولما ظنت أن الفرصة موافقة لسؤاله عن السر حاولت استطلاعه، ولكن الموسيو بلويتز لَحَظ من جهة أن في المحل مرآة مكسورة وظن أن وراءها أحدًا، وكان من جهة أخرى يعرف استخدام النساء في التجسس، فالتفت إلى الجاسوسة الحسناء وقال لها: «أيتها العزيزة لا يمكنِّي أن أخفي عنك شيئًا فاعلمي أني حصلت على أخباري من البرنس بسمرك نفسه …»
وروى أن البرنس دي بسمرك صار يبغض الصحافيين بغضًا شديدًا من أجله، ولكن هذا البغض لم يكن ليمنعه من اللياذ بهم في ترويج الأفكار السياسية والمشروعات الاقتصادية التي كان يراها مفيدةً لألمانيا.
•••
وليس بمنتقد على كبار السياسيين ولا سيما قواد الجيوش أن يكون خوفهم كبيرًا من الصحافيين في بعض المواقف الحرجة، فإن الصحافة على كونها قوة كبيرة محترمة في أوروبا لا يستطيع أقطاب السياسة وأمراء الجيوش أن يدخلوا أصحابها في جميع مجالسهم، أو يوقفوهم على سرائرهم حين تكون المسألة لدى وطنهم مسألة موت أو حياة؛ لأن من يفكر في الحالة النفسية التي طُبع عليها الصحافي الحقيقي، ويعلم أن له من نفسه دافعًا قويًّا إلى التنقيب عن الأخبار، ووصف المشاهد، وانتقاد الأمور أو استحسانها، وأن هذا الدافع كثيرًا ما يشتد إلى حدٍّ لا يمكن معه كتمان ما حُرم نشره، يعلم أيضًا أن السياسي الذي يمهد السبيل لاتفاق أو محالفة دولية، والقائد الذي يضع خطةً حربيةً ربما كان علمُ العدو بها مجلبةً لفشل جيشه، لا يمكن لومه إذا بالغ في التكتم كما فعل اليابانيون وأخذ عنهم البلغاريون.
تصور مثلًا أن القواد البلغاريين الذين كان لديهم أربعة وثمانون مراسلًا حربيًّا على رواية الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي، والذين كانت مصلحتهم الحيوية تقضي — كما اشتهر — بأن يضربوا ضربة سريعة قبل أن يتم حشد الجيش العثماني — تصور أن هؤلاء القواد سمحوا للمراسلين أن يفعلوا ما فعلوه في حرب السبعين بين الفرنساويين والألمانيين، فهل كان في وسعهم أن يبقوا خطتهم سرية، ويسيروا عليها بتلك السرعة التي بدت منهم أمام الجيش العثماني الشرقي؟ إن الجواب لا يحتمل التردد.
إلى المراسلين الحربيين
- أولًا: نظام الجيوش، أو تفريقها، أو عددها، أو مقاصد قوادها ومشروعاتهم الحربية.
- ثانيًا: ترتيب الجنود، والمحلات التي تقيم فيها، وأشخاص قوادها وأركان حربها، ومؤخرة الجيش، والجنود الاحتياطية التي عنده.
- ثالثًا: تسليح الجيوش والقلاع، وأحوال المواقع، وإدارة الميرة والذخيرة، والحالة الصحية.
- رابعًا: تأثير المقذوفات، وصحة رماية الأعداء.
- خامسًا: الاستعداد، وإرسال الجنود إلى إحدى الجهات، والطرق التي تتبعها، أو وصولها، أو تعزيزها، وما يتعلق بالقوة البحرية التي تشترك في عمل حربي.
- سادسًا: حالة الخطوط الحربية التي تنقل عليها الجنود والأثقال، وحالة الجسور والطرق القديمة والحديثة في منطقة الأعمال الحربية.
- سابعًا: الأخبار التي حصلت عليها «إدارة المخابرات» البلغارية أو بلغتها من الأهالي عن جيش العدو، حينما يكون نشرها مُضرًّا بعمل تلك الإدارة.
- ثامنًا: أسماء القتلى والجرحى قبل نشرها في البيان الرسمي.
- تاسعًا: وصف الأعمال الحربية التي لا تكون في مصلحة جيشنا، وأيضًا انتقاد الأوامر والتدابير التي يتخذها القواد.
وهناك نظام شديد مشتمل على ثلاث وعشرين مادة، وفحواه أن المراسل الحربي يلزمه أن يكون كتماثيل متحركة، لكن حركتها منوطةً بإرادة غيرها؛ ولذاك رأينا أبرع المراسلين وأصدقهم نظرًا وأوفرهم اطلاعًا في الحرب البلقانية وغيرها، لم يفيدوا التاريخ إلا بالرسائل التي وضعوها بمعزلٍ عن كل رقيب حربي، ثم أعادوا النظر فيها بعد رجوعهم من ساحة القتال؛ ولذاك أيضًا تجد بعد التحقيق أن بين الرسائل التي نشرتها الجرائد الأوروبية ما كان اختلاقًا محضًا، والباعث عليه أحد أمرين: إما أن يكون المراسل نفسه عريض الدعوى يشقُّ عليه أن يكون غير سبَّاق بين المراسلين، فيكبُّ على الخريطة الحربية ساعة حدوث إحدى المعارك فيضع البطاريات ويزحف بالسرايا، ويدعي الوقوف على مقاصد القواد ويرتب المعركة من أولها إلى آخرها، وربما اكتشف وهادًا وهضابًا وحزونًا ليتمكن من تدبير معركته الخيالية، حتى إذا انتهت المعركة الحقيقية أصلح بعض الأقوال العامة، وقرَّب بين المعركتين على قدر المستطاع … وإما تكون بعض إدارات الجرائد لا يهمها أن تخدم الحقيقة، بقدر ما يهمها الرواج الوقتي الذي تلقاه عند حصولها على تفصيل مخترع قبل أن تصل رسائل الجرائد الأخرى، فتصدر أمرها مشددًا إلى مراسليها بالعمل على هذا النحو. قال الموسيو رينيه بيو: إن أحد المراسلين وصف معركة قرق كليسا ودفع ثلاثة أضعاف الرسم التلغرافي؛ أي ٩٠ سنتيم عن كل كلمة، مع أن تفصيل المعركة لم يصل في ذاك اليوم إلى أحد؛ لأن البلاغ البلغاري كان محصورًا في كلمات قليلة وهي: «دخلت الجنود البلغارية قرق كليسا، وغنمت مقدارًا كبيرًا من الذخائر والمدافع.»
فأخذ صاحبنا المراسل هذه الكلمات، ثم أخذ خريطته ووضع علامات على القرى المحيطة بقرق كليسا وسير الطلائع ونصب بطاريات هنا وبطاريات هناك، ثم شرع يصف رماية القنابل من الجانبين، وختم بوصف معركة شديدة بالسلاح الأبيض في شوارع قرق كليسا، غير أنه لسوء طالع هذا المراسل ثبت بعد ذلك أن الجنود العثمانية تركت قرق كليسا قبل وصول البلغاريين إليها بعدة ساعات، لما وصفناه من حدوث الرعب بين صفوفها …
ولما شكا المراسلون إلى المراقب البلغاري من السماح لبعض زملائهم بإرسال تلك الملفقات أجابهم قائلًا: «ليس من وظيفتنا أن نراقب هنا صحة أخباركم، فنحن ندعكم تختلقون ما تريدون من الحكايات، ولكنَّا لا نسمح بإرسال أخبار صحيحة تفيد أعداءنا.»
على أن أمثال أولئك الملفقين لا يمكنهم أن «يُطيلوا حبل الكذب»؛ لأن أهل الجدِّ وطلاب الحقائق لم يلبثوا أن فضحوا أمرهم وهتكوا سترهم، وربما كان اختلاقهم مرةً مضرًّا بالقول الحق الذي نشروه مرارًا؛ كما وقع لمراسل الريشبوخت النمساوية.