أسباب الفشل العثماني
أركان الحرب ثلاثة: حُسن التأهب، وحسن الإدارة، وحسن التنفيذ. ونقصان واحد منها يكفي على الغالب لإحداث فشل عظيم كما قرر الأساتذة الحربيون، فكيف لا يفشل إذن الجيش العثماني والأركان الثلاثة تكاد تكون مفقودة عنده؟
كان التأهب قبل الحرب عدمًا أو شبه عدمٍ، وحسبنا برهانًا دامغًا على هذا القول أن الميرة والذخيرة والطرق والمعدات الحربية والمخترعات العلمية وتدريب الرديف، وسائر ما يجب إعداده للجيش قبل الأيام العصيبة كان مختلًّا أو معدومًا، قال المستر أشمد برتليت مراسل الديلي تلغراف الحربي الذي كان مرافقًا للجيش العثماني: «إن ولاة الأمور الحربيين في الأستانة حاولوا أن يخدعوا العالم بأسره آملين أن تعوضهم شجاعة الجندي التركي من كل شيءٍ، لكني ما وصلت إلى حيث كانت الجنود العثمانية حتى سقطت غشاوة الوهم عن بصري. أجل، إن الجندي التركي ما زال باسلًا شجاعًا كما كان في سالف الزمن، ولولا صبره العجيب في معمعان الحرب ما بقيت معركة لوله بورغاز ثلاثة أيام، فلا يجب إذن أن تُلقى التبعة على هذا الجندي، بل يجب أن توضع على رءوس كبار الموظفين الذين انتفخوا بالكبرياء والخيلاء، واحتقروا أمم البلقان، وظنوا أن العدد العظيم المكتوب على الورق موجود حقيقة لديهم، وليس في وسعي أن أُبَسِّط للقارئ فكرةً تدله على متسع الخدعة الغريبة التي خُدعنا بها في مسألة الجيش العثماني، وإني لمقتنع كل الاقتناع بأنه لو كان الجندي التركي يحصل كل يوم على قطعة بقسماط لما تقهقر أمام العدو المهاجم، فإن الجوع هو الذي قهره.»
ثم تناول بجارح القول أركان حرب الجيش العثماني والقواد العثمانيين وولاة الأمور، وذكر أنهم لم ينظموا إدارة الميرة والذخيرة بل تركوا أربعة فيالق بين مخالب الجوع الذي كان ينهش في أحشائها، وقذفوا بضحاياهم إلى المجزرة قبل الأهبة، فكان الجندي جائعًا عاريًا وموقنًا أن من يُجرح في المعركة يبيت نصيبه من الحياة ضئيلًا جدًّا؛ لنقص المستشفيات الحربية وقلة الأطباء والأدوية، وكانوا يرسلون البطاريات إلى مواقع الحرب ولا يلحقون بها المقدار اللازم من القنابل لقتال بضع ساعات، ولا يعينون لها الاحتياطي اللازم على مسافة طويلة، فنشأ عن هذا الخلل أن الجيش كان يفقد مدافعه في اليوم التالي.
وقال المراسل نفسه: إنهم جاءوا بفلاحين جهلاء من الأناضول وألَّفوا منهم آلايات كاملة، ثم ساقوهم إلى الأستانة حيث ألبسوهم الملابس العسكرية وأعطوهم بنادق موزر — وكثيرون منهم لم يروها في حياتهم — وبعد استعراضهم وعدهم أرسلوهم إلى ساحات القتال، ووصفوهم بهذه العبارة المنتفخة «مشاتنا الذين لا يُغلبون».
وروى الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتن أن ضابطًا من الملحقين العسكريين ذهب إلى جهة سراي، ثم اضطر إلى الرجوع مع تيار المهاجرين، ولما التقى به بعد رجوعه قال له ذاك الضابط ما فحواه: «كانت حياتي منوطة بساقي حصاني وما ذقت في أربع وعشرين ساعة إلا قطعتين من الشكولاتة، وكنت أحفظ في جيبي كسرة من الخبز كذخيرة احتياطية لأصعب الأوقات، فلما أشرق النهار وقفت والتعب آخذ مني أشد مأخذ، وأخرجت قطعة الخبز من جيبي، وبينما كنت مستعدًّا لالتقامها وقع نظري في أحد جانبي الطريق على جريح ممتقع اللون كالجثث المطروحة في السهول. ولما رآني وقف ومدَّ إليَّ يَديْن داميتين على شكل هائل كمن يتضرع إليَّ أن أسد رمقه، فأثر هذا المنظر تأثيرًا شديدًا في نفسي، وسقطت قطعة الخبز من يدي فالتقطها الجريح والتهمها وهي ملطخة بالدم والوحل.»
وذكر الكاتب نفسه أنه زار مستشفى بيرا الفرنساوي حيث كانت جماعة من الراهبات الفرنساويات يخدمن الجرحى العثمانيين، فسأل الجرحى: «هل كنتم تتألمون؟» فكانوا يجيبون كلهم على التقريب هذا الجواب المحزن: «نعم، ولكن ألمنا لم يكن من الجروح ولا من التعب ولا من البرد، بل كان على الأخص من شدة الجوع.» وحدث مرةً أن إحدى الراهبات سمعت هذا الجواب، فقالت للكاتب: إن كلمة «اكمك» (أي الخبز) لا تفارق أفواههم، ولما كنت أضع لهم ميزان الحرارة لأعرف درجتها كانوا يقولون: «إننا نفضل أن تعطينا قطعة من الخبز.»
ونُقل عن جميل بك قائد إحدى الفرق أنه استلَّ سيفه وهجم نحو شرذمة من الجنود الهاربين، وسألهم «لماذا تهربون؟» فأجابوا قائلين: «لأنَّا لا نجد خبزًا.»
ولم يكن الجندي وحده ضحيةً للجوع المبرِّح، فإن عبد الله باشا القائد العام للجيش الشرقي كان يشكو مثل أفراد جيشه، بدليل ما رواه السير أشمد برتليث، وهو أن هذا القائد الذي كان تحت إمرته نحو ١٧٠ ألف جندي لم يجد لديه في ٢٩ أكتوبر ما يدفع به آفة الجوع، فلما رآه على تلك الحال أهدى إليه بعض علب من اللحوم المحفوظة فشكره عبد الله باشا وقال: «لولاك ما استطعت الوقوف على قدمي.»
ولم يكن عبد الله باشا بلا أكل فقط، بل كان أيضًا بلا أخبار عن المعركة العظمى الفاصلة في تراقيه، ولا عجب فكيف يمكنه أن يحصل على الأخبار في وقتها وليس عنده تلغراف سلكي، ولا تلغراف ماركوني، ولا أوتوموبيل حربي، ولا طيارات ولا شيء مما يجب كل الوجوب لاستطلاع طلع العدو وإصدار الأوامر اللازمة في حينها؟ وروى عبوق باشا (وذكر رئيس تحرير الماتن روايته): أن البلغاريين هجموا ليلًا وكانوا يملكون في تلك المعركة منيرات كهربائية، فلما صاروا على مسافة ٣٠٠ متر من الجنود العثمانية، أرسلوا عليها أنوار تلك المنيرات فبهرتها، فلم يعد في وسع الجندي العثماني أن يرى أو يرمي أو يدافع، في حين أن البلغاريين كانوا يرون كل حركة وكل ترتيب في صفوف العثمانيين.
ونشرت الجرائد الأوروبية حديثًا لمختار باشا الغازي (الذي كان صدرًا أعظم يوم إعلان الحرب كما تقدم) قال فيه: إن ولاة الأمور الذين تقدموا وزارته أحالوا بعد الدستور عددًا عظيمًا من الضباط على المعاش، وعينوا بدلًا منهم شبانًا غير محنكين، ولما أعلنت الحرب لم يكن للطابور المؤلف من ٨٠٠ رجل إلا سبعة ضباط بدل ١٦ أو ١٧ ضابطًا، كما كان قبل النظام الجديد، فماذا يفعل جنودنا الشجعان وهم لا يجدون ضباطًا يقودونهم؟
ثم قال: «إن الضابط القديم كان يعنى بأمر جنوده ويفعل كل شيء من أجلهم بعكس ضباطنا الشبان، فإنهم أرادوا أن يحذوا حذو الضباط الألمانيين في برلين، فكنت ترى الضابط منهم بعد التمرين يضع سيفه في غمده ويظن أن شغله انتهى. ولا يخفى أن الألمانيين عندهم طرق وخطوط حديدية وكل ما يلزم لنقل الميرة والذخيرة، أما نحن فلم يكن عندنا شيء.»
ثم انتقل إلى القوة التي تمكن من جمعها لمقاومة البلغار، فقال: إن مجموعها بلغ ٢٠٠ ألف جندي (منها نحو ٧٠ ألفًا كانوا في أدرنه)، ولكن عددًا عظيمًا منها بقي يومين أو ثلاثة بلا أكل …
وإذا رجع المُطالع إلى ما نقلناه في فصل سابق عن الماجور فون هوشوختر وجده مؤيدًا لمجمل ما تقدم، ونحن ذاكرون هنا عبارات أخرى من كتابه، قال بعد أن ذكر نقص المواصلات التلغرافية والتلفونية وسوء حالة الطرق: «إن القواد وأمراء الآلايات … إلخ، لم يعينوا إلا وقت إعلان الحرب، فلم يكونوا يعرفون أركان حربهم ولا جنودهم بل كان القائد منهم يعين في ٢١ أكتوبر ثم يذهب في اليوم التالي إلى ساحة القتال، وقد عرض الأساتذة الألمانيون خدمتهم على الحكومة العثمانية فرفضتها؛ لأنها أرادت — كما بدأتُ أعتقد — أن تخفي عنهم ضروب الخلل (كذا).»
وكان تحرير الأوامر بطيئًا ونقلها صعبًا، والأهالي الذين من أصل بلغاري مسلحين ومعادين للجنود العثمانية، فإذا التقوا بأفراد منها عمدوا في الغالب إلى الفتك بهم، وكانت المواصلة مختلة بين الفيالق، ومقدمات الجنود ممتدة على مسافات طويلة جدًّا، والطلائع الأمامية غير موجودة، فكانت المعارك تبتدئ بوصول الفرق بعضها تِلوَ بعض، وقد لحظت أن البلغاريين كان عندهم مثل هذا العيب؛ ولذلك حدث أن الفريقين كانا يتصادمان بغتةً فينشأ عن ذاك الصدام الفجائي قتالهما بالسلاح الأبيض.
ثم ختم بقوله: إن الذين خسروا المعارك هم الرؤساء المسئولون لا الجنود العثمانية.
وعثرنا على مقال نشره الموسيو رود مراسل التان أيد به ما ذكرناهُ في فصل سابق، وهو أن وجود الذين من أصل بلغاري أو يوناني أو صربي أثر تأثيرًا سيئًا في الجيش العثماني، ومما قاله هذا الكاتب إنه رأى في شورلو نحو ألف جندي من الذين هربوا بعد معركة قرق كليسا، وهم يأبون التقدم إلى الإمام، وأن أحدهم — وهو يوناني — قال لخادمه: «نحن نموت جوعًا، وقيادتنا سيئة جدًّا فلا نريد أن نزحف إلى الأمام، وإذا أرادوا إجبارنا على التقدم فإن عندنا بنادق وخرطوشًا …» ثم أبصر بعد معركة لوله بورغاز أن بعض أولئك الجنود وقف على طاولة في إحدى القهوات وأخذ يُحرض الهاربين على العصيان.
وأضف إلى كل ما ذكر أن عقارب السياسة كانت تسعى إلى قلوب الضباط، فتنفث سمها في عواطف الألفة وتصرف الضابط عن واجبه المقدس، فكنتَ ترى الضابط الصغير ينظر بعين الحقد إلى رئيسه إن كان من غير حزبه، وربما استخف بأوامره. وقد أكد لنا ضابط كبير من أركان الحرب أن الشقاق والتنازع كانا واقعين بين كبار القواد قبيل المعركة الكبرى في تراقيه.
•••
فأنت ترى مما بدا أن الجيش العثماني لم يقاتل الجيوش البلقانية الأربعة فقط، بل كان يقاتل جيوشًا أخرى أشد هولًا وأعظم فتكًا وأقسى عودًا؛ أولها: جيشٌ من الإهمال الفاضح الذي أدى به إلى شلل عام، والثاني: جيش من الجوع الذي بقي ينهش في أحشاء جنوده حتى هدم عزائمها وأعمى أبصارها وبصائرها، وجيش من الدسائس السياسية التي فرقت بين القواد والضباط والأقرباء والإخوان، وهي كلها من أبٍ واحدٍ — لعن الله أباها — وهو الخلل الذي تمشي في جميع فروع الإدارة.
وهنا تخطر لنا حكمة اجتماعية قررها مونتسكيو الكاتب الفرنساوي العظيم حيث قال: «إن أسبابًا عامةً، إما أدبية وإما مادية، تؤثر في كل مملكة فترفعها أو تحفظها على حالها أو تقذف بها من حالق، وكل ما يطرأ من الحوادث يرجع إلى أحد تلك الأسباب العامة، فإذا وقعت مثلًا وقعة جرَّت وراءها الخراب — أو بعبارة أخرى — إذا حدث سبب خاص، فإن هناك سببًا عامًّا أدى إليه.»
فما هو السبب العام في ذاك الفشل العثماني؟ هو بلا شك ذاك الخلل الشامل المؤدي إلى الفساد القاتل.