مرسح السياسة
ذكرنا ما فعله السيف بعد إعلان الحرب، فبقي أن نذكر ما فعلته السياسة.
أخذت السياسة تجول جولاتها وتصول صولاتها وترينا غرائبها ومفارقاتها منذ حل الفشل الأليم بالجيش العثماني الشرقي في لوله بورغاز، وزحف الجيش البلغاري إلى جتالجه، فإن أول طفرة طفرتها أنها انتقلت بعد تلك المعركة من رأي إلى ضده، فقررت أن لا يُحرم البلقانيون من ثمرة انتصارهم، فألغى هذا القرار إعلانها الرسمي الشهير الذي نشرناه في باب سابق، وهو أنها لا تسمح بتغير خريطة البلقان، لكن الجرائد الشبيهة بالرسمية كالتان ما لبثت أن نشرت «بالقلم العريض» أن الدول كانت تريد بذاك القول أن تُفهم الحكومة العثمانية وحدها بأن أوروبا لا تسمح لها بأخذ شيء من أراضي أعدائها، ولو رأت النصر معقودًا بهلالها.
ثم اتفقت الدول من جهة أخرى عملًا برأي الموسيو بو انكاريه على أن تعلن عفة قلبها من الطمع في أية أرض عثمانية، كما اتفقت بعد ذاك على اقتراح السير إدوارد جراي وزير خارجية إنكلترا، وهو أن يعقد سفراء الدول العظمى مجتمعًا في لندرا بجانب مؤتمر الصلح لدرس ما يهمُّ الدول في البلقان، وتوطئة السبيل لحل المشاكل، والحيلولة دون انفراد إحدى الدول بسياسة محفوفة بالخطر على السلم الأوروبي، وتمهيد طرق الاتفاق بين المندوبين العثمانيين والمندوبين البلقانيين كما سترى.
(١) الهدنة الأولى ومؤتمر الصلح الأول
طلبت وزارة كامل باشا منذ ١٥ نوفمبر إلى قواد البلغار في جتالجه أن يعقدوا هدنة، فأحال القواد هذا الطلب إلى حكوماتهم، وبعد أن تفاوض المتحالفون بضعة عشر يومًا وتوسطت الدول العظمى في الموضوع قررت حكومات صوفيا وبلغراد وستينه أن تُعقد الهدنة في ٣ ديسمبر، أما حكومة اليونان فأبت أن توافق على الهدنة لسببين؛ أولهما: أن قائد الجيش اليوناني كان يؤمل أخذ يانيه في وقت قريب، فلم تشأ حكومته الاشتراك في الهدنة قبل أن تسقط تلك المدينة التي أظهرنا مقامها التاريخي عند اليونان. والثاني: أن بقاء اليونان في حالة الحرب كان نافعًا للمتحالفين؛ لأنه مكَّن الأسطول اليوناني من حصر مواني بحر الأرخبيل والبحر الأيوني في مدة المفاوضات، وحال دون إرسال المؤن والذخائر إلى يانيه وأشقودره من جهة البحر، كما حال دون إرسال النجدات العثمانية من سوريا وغيرها، فلهذين السببين لم يعترض البلغاريون والصربيون والجبليون على إحجام الحكومة اليونانية عن الاشتراك معهم في الهدنة، بل كانوا مؤيدين لها بدليل أنهم أصروا على قبول المندوبين اليونانيين في مؤتمر الصلح.
- أولًا: تُعقد هدنة بين جيوش البلغار والصرب والجبل الأسود من جهة، والجيوش العثمانية من جهة أخرى للتمكن من الشروع في مفاوضات الصلح بين الفريقين المتحاربين.
- ثانيًا: تبقى الهدنة ما بقيت مفاوضات الصلح، وتنتهي عند البلوغ إلى نتيجة حسنة أو عند قطع المفاوضات.
- ثالثًا: تجري مفاوضات الصلح في لندرا وتبتدئ بعد التوقيع على هذا الاتفاق بعشرة أيام.
- رابعًا: إذا لم تنجح مفاوضات الصلح فإن كل فريق من المتحاربين ملزمٌ بأن يعلن انتهاء الهدنة للفريق الآخر قبل استئناف الحرب بأربعة أيام، وأن يُعيِّن له ساعة الرجوع إلى القتال، وتبتدئ الأربعة الأيام المذكورة منذ الساعة السابعة مساء بعد البلاغ الذي يرسله القائد العام لأحد الفريقين إلى قائد الفريق الآخر.
- خامسًا: تبقى جنود كل فريق من المتحاربين في مواقعها الحاضرة، وتُعين بينهما شقة حرام بمقتضى اتفاق يُعقد بين الضباط الذين ينتدبون لعقده من الفريقين.
- سادسًا: تبتدئ الهدنة فعلًا منذ التوقيع على هذا الاتفاق، وإذا تجاوزت جنود أحد الفريقين خط التحديد وجب عليها أن تعود إلى مواقعها الأولى.
- سابعًا: تتعهد الحكومة السلطانية بأن ترفع الحصار عن ثغور البحر الأسود، وتدع البواخر حرة في الذهاب إليها، ولا تعارض في إرسال الميرة والذخيرة إلى الجنود البلغارية من طريق البحر المذكور، ثم تتعهد أيضًا بالسماح للقطارات الحربية البلغارية التي تأتي من بلغاريا أو تذهب إليها بأن تمر حرةً على الخط الحديدي الواقع في منطقة أدرنه.
- ثامنًا: تبتدئ الهدنة الساعة السابعة مساءً من يوم ٢٠ نوفمبر (على الحساب الشرقي) سنة ١٩١٢.
وعليه تمَّ التوقيع على هذا الاتفاق، وكُتب منه أربع نسخ في جتالجه.
•••
ثم عينت الحكومة العثمانية وحكومات البلقان مندوبيها في مؤتمر الصلح، فانتدبت وزارة كامل باشا رشيد باشا وصالح باشا، وكلاهما من الوزراء السابقين، وعثمان نظامي باشا الذي كان سفيرًا في برلين، ونابي بك الذي كان سفيرًا في روما (وهو الذي وقَّع على معاهدة الصلح بين تركيا وإيطاليا في لوزان)، وصفوت بك وعلي رضا بك ورشيد بك.
وانتدبت الحكومة البلغارية الموسيو دانيف رئيس مجلس نوابها (وهو رئيس الوزارة البلغارية الآن)، واثنين من كبار رجالها.
وندبت الحكومة الصربية الموسيو نوفاكوفتش رئيس وزرائها سابقًا، والموسيو نيقوليتش رئيس مجلسها، ومعهما معتمدها في باريس.
وعينت مملكة الجبل الأسود رئيس مجلسها النيابي واثنين آخرين، وأنابت دولة اليونان عنها الموسيو فنزيلوس رئيس وزارتها ومعه اثنان أيضًا.
ولما كان اليوم السادس عشر من ديسمبر سنة ١٩١٢ (على الحساب الغربي) اجتمع المندوبون العثمانيون والمندوبون البلقانيون في قصر «سنت جيمس»، وافتتح السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا جلستهم الأولى، فرحب بهم بالنيابة عن الملك وحكومته، وأمل أن يجدوا ردهات القصر رحيبة أمامهم، وجو البلاد ساكنًا خاليًا من غيوم الهوى والغرض، ثم حضهم على بذل الجهد في سبيل الصلح، وأكد لهم أنهم يجدون عند إنكلترا نية حسنة لتحقيق الأمنية التي جمعتهم في العاصمة الإنكليزية. فشكر رؤساء الوفود للوزير الإنكليزي هذا الشعور، وعرضوا عليه أن يكون رئيس شرف لمؤتمر الصلح فقبل شاكرًا ثم خرج، وبعد ذهابه قرر المندوبون أن تكون الرئاسة الفعلية لرؤساء الوفود كلٌّ في دوره على ترتيب الأحرف الهجائية.
على أن المندوبين العثمانيين أبوا أن يفاوضوا المندوبين اليونانيين؛ لأن الدولة اليونانية أبت أن تشترك في الهدنة، وبعد أخذٍ وردٍ، وجزرٍ ومدٍّ رضيت الحكومة العثمانية بأن تفاوضهم.
وكل من وقف على الأحاديث التي نطق بها في ذاك الوقت الموسيو دانيف كبير مندوبي البلغار، والموسيو فنزيلوس كبير مندوبي اليونان وجماعة من ساسة العثمانيين، لم يبق عنده شك في أن مسافة الخلاف كانت متسعة جدًّا بين مطالبهم والشروط التي كانت تراها الحكومة العثمانية مقبولة عادلة. وأهم وجوه ذاك الخلاف أن البلغاريين كانوا يصرون على طلب أدرنه والحكومة العثمانية لم تكن تريد أن تسمع بمثل هذا الطمع، ولا سيما أن أدرنه مدينة قديمة ذات تاريخ محترم عند المسلمين لما فيها من المساجد الفخمة وقبور السلاطين. ومن وجوه الخلاف أيضًا أن الحكومة العثمانية كانت تطلب استقلال الولايات المعروفة باسم مقدونيا، واستبقاء يانيه وأشقودره اللتين كانتا تدافعان إلى ذاك الحين، والمتحالفون كانوا بالعكس يريدون أن تكون يانيه وأشقودره داخلتين في جملة غنائمهم كأدرنه؛ لأن الدولة اليونانية كانت تصرُّ كل الإصرار على طلب الأولى والجبل الأسود على طلب الثانية. ومن وجوه الخلاف أن الحكومة العثمانية لم تكن تنوي التنازل عن جميع الجزر، ولا سيما المجاورة للدردنيل والأملاك العثمانية في آسيا.
غير أن كل فريق كان يعتقد أن الفريق الآخر بدأ يطلب كثيرًا وهو لا يؤمل الحصول على كل مطلوبه كما يقع للمتساومين. ومما دفع الحكومة العثمانية إلى إطالة المقاومة في تلك المساومة أن جو السياسة لم يكن صافيًا؛ لتفاقم الخلاف بين النمسا والصرب من جهة، وبين بلغاريا ورومانيا من جهة أخرى، ولكون روسيا من جهة ثالثة أخذت تنهج منهج النمسا في التأهب الحربي كما سترى. فتلك الغيوم السوداء في جو السياسة الأوروبية ولَّدت في الأستانة أملًا غامضًا بوقوع مشكلة دولية قريبة، يكون من ورائها فائدة للدولة العلية، ولا سيما أن حالة الجيش العثماني في جتالجه كانت متحسنة تحسنًا ظاهرًا، فلو نشبت إذ ذاك حربٌ ثانية ووجدت الحكومة العثمانية أنصارًا، لكان في استطاعتها أن تجني فائدة كبيرة.
على أن ريح السياسة لم توافق سفينة ذاك الأمل؛ لأن الدول العظمى ضغطت على رومانيا فحملتها على قبول التحكيم الدولي بينها وبين بلغاريا، وقد عُقد مجلس التحكيم في بطرسبرج، وحكم على البلغار بأن تعطي المملكة الرومانية سلستريا لقاء حيادها في الحرب البلقانية، وأن تعدل حدودها على وجهٍ موافقٍ لمصلحتها، ثم دارت المفاوضات من جهة أخرى بين روسيا والنمسا، وانتهت بأن صرفت كل دولة جانبًا من جيشها المعبَّأ وأكدت نيتها السلمية.
فكان هذا التحسن السياسي مُضعفًا لذاك الأمل العثماني ومقويًا لآمال البلقانيين؛ فبقي هؤلاء مُصرين على معظم شروطهم، وخلاصتها أن تستقل ألبانيا كما طلب مجتمع السفراء الذي كان ينعقد بجانب مؤتمر الصلح، وأن تكون جميع الولايات العثمانية الأوروبية غنيمة للبلقانيين، فلا يبقى للدولة العثمانية إلا عاصمتها وعشرات قليلة من الأميال عند بابها.
فأرسل رشيد باشا، المندوب العثماني الأول، تلك الشروط الثقيلة إلى الحكومة العثمانية، فقررت رفضها وبعثت إلى مندوبيها بشروط أخرى وهي؛ أولًا: أن تبقى ولاية أدرنه عثمانية، ثانيًا: أن تحول مقدونيا إلى إمارة تحت السيادة السلطانية وتجعل سلانيك عاصمة لها، ويكون أميرها إنجيليًّا يختاره المتحالفون، ثم يصدر جلالة السلطان أمره بتعيينه، ثالثًا: أن تستقل ألبانيا تحت السيادة العثمانية، ويكون أميرها من الأسرة السلطانية لمدة خمس سنوات ويجوز تجديد مدته، رابعًا: أن تبقى جزر الأرخبيل للدولة العلية، خامسًا: أن لا يبحث المؤتمر في مسألة كريت، بل يكون البحث في شأنها بين الباب العالي والدول العظمى.
وكانت الجلسة التي عُرضت فيها هذه الشروط تحت رئاسة رشيد باشا، فدافع عن مطالب دولته دفاعًا قويًّا، لكن مندوبي الحكومات البلقانية أصروا على رفضها.
ولما رأى أولئك المندوبون أن الحكومة العثمانية بقيت مصرة على طلب أدرنه من وجه أخص قرروا إيقاف المفاوضات، ثم أخذت الدول من جهة أخرى تلح على الباب العالي في وجوب الإذعان، وأرسلت إليه مذكرة أفهمته بها أنها لا تضمن سلامة الأستانة والأملاك الأسيوية إن بقي على هذا الإصرار.
فوقعت وزارة كامل باشا في حيرة شديدة؛ لأنها كانت تخشى الرأي العام إذا قبلت، وتخشى سوء المغبة إذا رفضت، ثم ارتأت أخيرًا أن لا تستقل بأمر السلم والحرب بل تعقد جمعية وطنية من أقطاب السياسة وشيوخ الوزراء لتشاورهم في الأمر.
(٢) الجمعية الوطنية
فعقدت الجمعية في قصر ضلمة بغجة برئاسة كامل باشا وحضور ولي عهد الدولة وأمراء الأسرة السلطانية، ولبى الدعوة جميع الكبراء الذين دُعوا إليها ما عدا كبار الاتحاديين، وفي مقدمتهم محمود شوكت باشا.
ثم افتتح كامل باشا الجلسة، وأمر سعيد بك — مكتوبجي وزارة الخارجية — بأن يقرأ المذكرة الإجماعية التي بعثت بها الدول إلى الباب العالي. ثم تكلم ناظم باشا وزير الحربية فأظهر تشوق الجيش إلى القتال واستعداده لبذل دمه في سبيل الوطن، ولكنه ألمع إلى صعوبة استرجاع ما فقدته الدولة العلية من الأملاك. وتكلم بعده عبد الرحمن أفندي وزير المالية، فأظهر الحالة التي صارت إليها خزينة الدولة من الضيق، وتلاه وزير الداخلية فشرح للجمعية الحالة الداخلية في السلطنة.
وكان نوردنجيان أفندي وزير الخارجية منحرف الصحة فأوعز إلى سعيد بك المذكور أن يقرأ بالنيابة عنه مذكرة وافية عن الحالة العامة، أوضح فيها أسباب الحرب والأطوار التي دخلت فيها، وتطرق إلى الموقف الاستثنائي الذي وقعت فيه السلطنة.
وروت صباح أن كامل باشا قال للجمعية: إنه لا يمكن الاعتماد على مشاكل خارجية أو على تعضيد من جانب ألمانيا والنمسا؛ لأنهما لو كانتا تنويان حقيقةً مساعدة الدولة العلية لما اشتركتا في إرسال المذكرة الدولية. ثم قال: إنه يسلم بالتنازل عن أدرنه، ولكنه يطلب في الوقت ذاته شروطًا من شأنها أن تجعل الحكم الفعلي فيها مشتركًا بين العثمانيين والبلغاريين، وشرح الخطر الخارجي الذي ينجم عن إصرار الدولة على الشروط الأولى مع الأحوال الحاضرة.
عُقد مجلس كبير من رجال مجلس الأعيان وأصحاب المقامات السامية من ملكيين وعسكريين وعلماء، فقدم الصدر الأعظم ووزراء الحربية والمالية والخارجية باسم الحكومة إيضاحات متعلقة بالحالة الحاضرة، ثم دارت مناقشة طويلة في شأن تلك الإيضاحات، وكانت دلائل الإخلاص والاستقامة تبدو عليها، وبعد انتهائها وافقت الجمعية على رأي الحكومة، وأفصحت عن ثقتها بالدول العظمى وأملت أن تحقق فعلًا ما وعدت به من المساعدة، ثم طلبت الجمعية من الحكومة أن تصرف كل جهدها إلى حفظ سلامة الدولة في المستقبل، وأن تهتم بترقيتها من الوجهة الاقتصادية.
وإذا رجع القارئ معنا إلى سنة ١٨٧٧؛ أي سنة إعلان الحرب بين الدولة العلية وروسيا، وجد أن عقد جمعية وطنية من أقطاب الدولة ليس بجديد ولا وحيد في تاريخ السلطنة العثمانية، فإن كامل باشا تذكر ولا ريب ما فعله المرحوم مدحت باشا قبل إعلان الحرب الروسية العثمانية في تلك السنة فرآه من الصواب بمكان، يخفف عنه أعباء المسئولية ويكون وسيلة لبسط آراء ناضجة من رجال عرَّكهم الدهر وذاقوا منه الحلو والمرَّ.
أما خلاصة ما جرى في عهد مدحت باشا، فهي أنه لما قامت الحرب بين تركيا من جهة والجبل الأسود من جهة أخرى، عُقد مؤتمر دولي للنظر في الحالة، فعرض مندوبو الدول مقترحات إصلاحية وطلبوا تحقيقها، فأبى المندوبون العثمانيون أن يقبلوها، وقالوا لمندوبي الدول العظمى: «إن الحكومة السلطانية قررت أن تنشئ دستورًا، والدستور من شأنه أن يعود بالنتائج التي تتفق مع رغائب الدول.»
وفي أثناء اجتماع ذاك المؤتمر اقترح مدحت باشا أبو الدستور العثماني (وكان وقتئذ صدرًا أعظم) على السلطان عبد الحميد أن يعقد جمعية من صدور الدولة وعيون الأمة، ليشاورهم في الأمر ويطلعهم على مذكرة بعثت بها الدول إلى الباب العالي، وصرحت فيها بأن وعدها بالدستور لا يكفي وطلبت إصلاحات فعلية، لكن الجمعية أبت أن تقبل هذا الطلب، فأدى رفضها إلى إعلان الحرب بين روسيا والدولة العلية في أبريل سنة ١٨٧٧، وكان من نتائجها فشل الجيش العثماني؛ لأن يلدز كانت تدير حركاته ولا تدع الحرية الواجبة لقواده، ولأن الخلل كان ملازمًا للإدارة كلها لسوء الطالع، فجرى ما جرى من وصول الجيش الروسي إلى سان استفانو، وعقد روسيا للمعاهدة الشديدة التي عدلها مؤتمر برلين في السنة التالية. ومن تلك النتائج أيضًا قتل الدستور العثماني، وقتل أبي الدستور مدحت باشا.
(٣) فتنة الأستانة: قتل ناظم باشا وسقوط وزارة كامل باشا
رأى المُطالع فيما تقدم أن شوكت باشا وغيره من كبار الاتحاديين لم يحضروا الجمعية الوطنية؛ لأنهم كانوا ينوون الإيقاع بوزارة كامل باشا حين تعلم الأمة أنها قررت التنازل عن أدرنه، ولقد وقع أن تلك الوزارة قررت فعلًا أن تترك أدرنه بشرط أن تبقى لها صفتها الإسلامية وتنال شبه استقلال إداري.
فاضطر حينئذ بقية الوكلاء إلى دخول غرفة أخرى لينتظروا ما يكون، أما أنا فقد لبثت في غرفة الصدارة ومعي باشكاتب المابين الذي حمل إليَّ بعض إرادات سنية، وعلمت أن الثائرين ملئوا الباب العالي وأنهم قتلوا أيضًا ستة من الياورية والحجاب الذين كانوا يحافظون على الوكلاء، وأن اثنين من الثائرين أنفسهم قُتلا. ثم دخل عليَّ جماعة من الضباط لا أعرفهم، ومعهم أشخاص بملابس ملكية فاقترب مني ضابط جسور وقال: «إن الخواطر هائجة هياجًا عظيمًا خارج الباب العالي، وأنه يجدر بي أن أكتب استقالتي»، فخطر لي أني إذا ترددت في أمر الاستقالة تجاسر هؤلاء على الإيقاع بي ليتسنى لهم احتلال مقام الصدارة، فكتبت عريضة ورفعتها إلى جلالة السلطان ملتمسًا منه إقالتي من منصب الصدارة. ولم تمضِ ساعة حتى جاءني رئيس قرناء الحضرة السلطانية وأبلغني كدر جلالته من الحادثة، ورجا مني أن لا أترك منصبي قبل ظهور النتيجة، فامتثلت.
وكان الاتحاديون يدخلون ويخرجون في تلك الأثناء، وجاءني أنور بك فأكد لي أنه كان في تمرين العسكر وما علم بالواقعة إلا في الطريق، وبعد حين صدرت الإرادة السلطانية بتعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم فاجتمع بي وفاوضني في الحالة العامة، وما تمكنت من مغادرة الباب العالي إلا بعد نصف الليل بثلاث ساعات، وكان البرد شديدًا قارسًا، فأثر في صحتي وأصابتني حمى شديدة.
وذكر كامل باشا أن جثة ناظم باشا وجثث بقية القتلى باتت مطروحة ذاك الليل، ثم دفنت في اليوم التالي، وقد كان لمقتل ناظم باشا وقع شديد في نفوس خصوم الاتحاديين، واتهموهم بقتله عمدًا، وقالوا: إنه لو لم يكن قتله مقصودًا لأظهرت الوزارة الاتحادية قاتله وأنزلت به عقابًا أليمًا، أما الاتحاديون فينكرون ضربه عمدًا.
•••
ولما صارت مقاليد الأمور إلى أيدي الاتحاديين، وطير البرق خبر ذاك الحادث إلى أنحاء أوروبا، وأذاعت صحف العالمين أن حجتهم في إسقاط الوزارة الكاملية إنما هي رغبتها في تسليم أدرنه، أخذ المندوبون البلقانيون في مؤتمر الصلح يقولون: إن المفاوضة أصبحت ضربًا من العبث مع وزارة شوكت باشا، وأعلنوا العزم على قطع المفاوضات واستئناف الحرب، وكانت الدول العظمى من جهة أخرى تنتظر من وزارة شوكت باشا جوابًا على المذكرة التي بعثت بها في عهد وزارة كامل باشا. وبعد أيام قليلة أرسل الأمير سعيد باشا حليم الذي عين وزيرًا للخارجية جوابًا إلى الدول قال فيه: «إن الحكومة العثمانية تطلب قسمة أدرنه إلى قسمين: قسم يأخذه البلغار وهو الذي يشتمل على الحصون والمعاقل، وقسم يبقى لتركيا وهو المشتمل على المساجد والقبور السلطانية.»
على أن البلغاريين أصروا أشد الإصرار على رفض هذا الطلب، ولما رأوا وزارة شوكت باشا مُصرة عليه قطعوا المفاوضات، وعادوا إلى القتال حول أدرنه وفي جتالجه وشبه جزيرة كليبولي، وعاد الصربيون والجبليون إلى مهاجمة أشقودره، (وكان اليونان يواصلون أعمالهم الحربية عند يانيه وفي أنحاء البحر؛ لأنهم لم يشتركوا في الهدنة كما قدمنا)، فحدثت عدة معارك شديدة في شبه جزيرة كليبولي وجتالجه خسر فيها العثمانيون والبلغاريون عدة آلاف، وحاول أنور بك أن يَنزل بقوة عثمانية وراء البلغاريين فأخفق سعيًا وخسر كثيرًا، ثم تقهقر الجيش البلغاري بضعة كيلومترات لشدة ما رآه من مقاومة العثمانيين، ولرغبة قواده في انتظار نتيجة الأعمال الحربية التي كانت تجري وقتئذ حول أدرنه.
وما مضت أيام حتى استولى الجيش اليوناني على يانيه، ثم سقطت أدرنه كما وصفنا ذاك كله، فخافت عندئذ الدول أن يُرسل البلغاريون مائة ألف الجندي الذين كانوا حول أدرنه إلى جهة جتالجه، وأن يتفانوا في أخذ الأستانة فتضطر الدول إلى فتح مسألتها ومسألة تركيا آسيا، وهو ما تود اجتنابه في هذا الوقت، فألحت على البلغار في وجوب الكف عن الزحف إلى جهة العاصمة العثمانية، وأفهمتهم أن كل خسارة يكابدونها في تلك الجهة لا تجديهم نفعًا، ثم ألحوا على الحكومة العثمانية في وجوب الرضى بالصلح على شروطٍ من جملتها: أن تُعطى أدرنه للبلغار ويكون خط التحديد بين الأملاك البلغارية والأملاك العثمانية ممتدًّا من إينوس (على بحر إيجه) إلى ميديا (على البحر الأسود)، فقاومت الوزارة العثمانية ما استطاعت، ولكنها عادت فاضطرت إلى قبول هذا الخط، واجتمع مجلس الوكلاء وكلف الأمير سعيد باشا حليم وزير الخارجية أن يرسل إلى الدول مذكرة في قبول مقترحاتها.
(٤) الهدنة الثانية ومقدمات الصلح والمؤتمر المالي
فقابل البلغاريون وسائر البلقانيين هذا الاستعداد السلمي بالسرور والارتياح، وعقد قواد البلغار وقواد العثمانيين هدنة شفهية، وسافر مندوبو الحكومات العثمانية والبلقانية إلى لندن للتوقيع على مقدمات الصلح طبقًا لما اقترحته الدول، وهاك مُجمله؛ أولًا: أن يكون خط التحديد بين تركيا والبلغار ممتدًّا من إينوس إلى ميديا. كما قدمنا، ثانيًا: أن تستقل ألبانيا كما قرر مؤتمر السفراء. ثالثًا: أن يفوَّض أمر الجزر في بحر إيجه إلى الدول العظمى، وأن تتنازل الدولة عن جميع حقوقها في جزيرة كريت.
ولما اجتمعوا في لندن أظهر البلغاريون رغبتهم في التوقيع بلا مهل على المقدمات المذكورة، خلافًا للمندوبين الصربيين واليونانيين فإنهم أرادوا أن يُدخلوا عليها تعديلات قبل التوقيع، فوقف عندئذ بينهم السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا وألحَّ في وجوب التوقيع على تلك المقدمات، وقال لهم: إن من يأبى التوقيع يمكنه أن يبرح العاصمة الإنكليزية، فوقَّع البلغاريون والصربيون والجبليون بعد هذا القول الشديد، ونكص مندوبو اليونان. وستعقد الشروط التكميلية بين تركيا وكل دولة من أعدائها على حدة.
ثم قررت الدول أن يُعقد مؤتمر مالي في باريس لينظر في أمر الغرامة المالية التي طلبها المتحالفون، وفي مقدار الدين الذي يجب عليهم إيفاؤه من الديون العثمانية بعد أخذ الولايات العثمانية في أوروبا، وفي الامتيازات المعطاة في تلك الولايات وسائر ما يتعلق بالأمور المالية، وقد بدأ هذا المؤتمر بعقد جلساته في العاصمة الفرنساوية، ويُنتظر أن تبقى أشغاله عدة أشهر.
•••
ولما ذاع خبر رضا الوزارة الاتحادية بكل ما تقدم، أخذنا نسمع همسًا ما يدل على تأهب خصوم الاتحاديين لعمل كبير، وأخذوا ينشرون على صدور الصحف أن تلك الشروط التي رضيت بها وزارة شوكت باشا هي أشد وأثقل على الدولة من الشروط التي رضيت بها الوزارة الكاملية، على أن الاتحاديين يردون على هذا النقد بقولهم: إن الدولة التي تقع في خطر يجب عليها أن تدافع عن نفسها ما دامت تجد للدفاع سبيلًا، حتى إذا فازت استرجعت ما فقد مع الفخر، وإذا فشلت أنقذت شرف سيفها وشهد لها التاريخ بأنها فعلت كل ما استطاعت.
(٥) مقتل شوكت باشا الصدر الأعظم الاتحادي
وبعد أيام لا تزيد عن أصابع الكفين طيرت الشركات التلغرافية إلى أنحاء العالم نبأً خطيرًا توقع كثيرون منه شرًّا مستطيرًا، وهو أن جماعة من خصوم الاتحاديين ركبوا أوتوموبيل وباغتوا شوكت باشا الصدر الأعظم في ساحة بايزيد أمام نظارة الحربية، فقتلوه وأحد الضباط رميًا بالرصاص ليثأروا للمرحوم ناظم باشا، فاشتد الخوف وعظم الهرج في دار الملك على أثر هذا الحادث، وأخذت الوزارة تقبض على الذين تتهمهم بتلك الجناية الفظيعة، ثم حاكمتهم في مجلس عرفي رئيسه من صميم الاتحاديين، فحُكم على عشرين بالإعدام، منهم اثنا عشر كانوا تحت يد الحكومة الاتحادية فأعدمتهم شنقًا في ساحة بايزيد حيث قتل شوكت باشا، وكان بينهم صالح باشا أحد أصهار الأسرة السلطانية، أما الثمانية الباقون فقد كان بعضهم مختبئًا والبعض مقيمًا في أوروبا وبينهم الأمير صباح الدين وشريف باشا صاحب جريدة «مشروطية» التي تصدر في باريس، وما ذاع نبأ هذا الحكم الهائل حتى تضاربت الأقوال في موضوعه، فوصفه قوم بالمجزرة البشرية وتوقعوا له مغبة سيئة؛ لأن الشدة تزيد الأحقاد وتدفع الخصوم إلى الانتقام عاجلًا أو آجلًا. وقال آخرون: بل هو عبرة مفيدة لمن تحدثه نفسه بطلب الإصلاح من طريق القتل وسفك الدماء، وعندنا أن جميع العقلاء لا يسعهم أن يجادلوا في وجوب العقاب غير أنه ربما كان من المصلحة والعدل أن يُكتفى بإعدام القاتلين وبتعديل الأحكام على سائر المتهمين.
ولقد أخطأ الذين دبروا تلك المكيدة بظنهم أن مقتل شوكت باشا يسقط الوزارة الاتحادية ويرفع أعداءها إلى كراسيها، فإن الأمن العام بقي وطيدًا في عاصمة السلطنة، ثم رقي فخامة سعيد باشا حليم الذي كان وزيرًا للخارجية إلى مقام الصدارة العظمى، وهو من أكابر أمراء الأسرة الخديوية ومن الذين بذلوا المال والوقت واستهدفوا للخطر في سبيل الدستور العثماني، وهو يعتقد اعتقادًا راسخًا أن جمعية الاتحاد والترقي أقدر من سواها على الحكم.
وكان ممن استوزرهم جلالة السلطان في وزارة الأمير وسليمان أفندي البستاني معرِّب إلياذة هوميروس، وأحد مؤلفي دائرة المعارف البستانية والعضو في مجلس الأعيان، وكان يومئذ في عاصمة الفرنساويين مهتمًّا بقضاء مهمة للدولة وبعيدًا عن مرسح السياسة المحزن الذي تعددت مشاهده في عاصمة السلطنة، فرضي أن يكون وزيرًا للتجارة والزراعة على أمل الإصلاح. وكانت الحكومة العثمانية وقتئذ تفاوض لجنة المؤتمر العربي الذي عُقد في باريس بقصد أن تتفق معه على الإصلاحات المطلوبة، فكانت للبستاني يد بيضاء في تلك المفاوضة كما سترى في باب آخر.