مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
أصح ما نُشَبِّه به السياسة قبل إعلان الحرب ببضعة عشر يومًا بحرٌ عجاج متلاطم الأمواج، يقذف بالدول تارة إلى مينا الأمان وتارة إلى لجة الخطر، وليس أدل على حالة السياسة العامة في ذاك الوقت من الوقوف على الأقوال الرسمية والشبيهة بالرسمية.
والمستفاد من تلك الأقوال التي كانت تنشرها الجرائد الكبرى أن أوروبا عرفت بتعبئة جيوش البلغار والصرب واليونان، ثم سمعت بأن المدفع أخذ يُغني نغمة الشؤم على حدود الجبل الأسود، وبقيت تؤمل تبديد الغيمة السوداء التي تكاثفت في جو البلقان.
في هذا الصباح وقف ملك البلغار في مجلس النواب وهو عاري الرأس فاتجهت إليه الأنظار كل الاتجاه، وأخذ الحضور يهتفون له هتافًا طويلًا، ثم افتتح فصل الجلسات غير العادية وطلب من النواب أن يوافقوا على مبلغ خمسين مليون فرنك لنفقات عسكرية استثنائية، ويُرجح أن تكون الموافقة النهائية على هذا المبلغ يوم الاثنين القادم؛ لأن جميع الأحزاب البلغارية متفقة كل الاتفاق.
أما الاتفاق بين الدول البلقانية فهو تام مستحكم الحلقات، والمساعي التي قامت بها تركيا لفصل المملكة الصربية عنها كان نصيبها الحبوط، أما رومانيا فقد ورد خبرٌ أكيد من بطرسبرج بأنها تلزم الحياد، وأما النمسا فلا تنوي المداخلة، والبلقانيون ينتظرون الآن نتيجة السعي الأخير الذي تقوم به الدول في الأستانة، وينوون نيَّةً راسخة أن لا يكتفوا بوعود مبهمة، والبلغاريون يريدون لتركيا أوروبا استقلالًا إداريًّا مؤسسًا على الجنسيات؛ نعني أنهم يريدون تقسيمها إلى ثلاث مناطق؛ الأولى: بلغارية، والثانية: صربية، والثالثة: يونانية. ويطلبون لكل منها مجلسًا وطنيًّا وحكامًا مسيحيين يُعَينون بعد موافقة الدول، ثم تؤلف فيها جندية محلية، وتُصدر حكومة الأستانة أوامرها إلى الجنود العثمانية بالخروج عاجلًا من تركيا أوروبا.
كفى المرء أن يطلع على ما تقدم ليعلم أن حكومات البلقان أرادت أن تطلب مطالب لا يمكن قبولها لتحرج الحكومة العثمانية فتخرجها عن سجيتها، وكان من نية البلقانيين في ذاك الحين أن لا يتسرعوا ولا يعلنوا الحرب إلا في منتصف أكتوبر بقصد أن يُبقوا للدول وقتًا كافيًا للحصول على جواب من الباب العالي في شأن الإصلاح، وليتمكنوا من إتمام التعبئة والحشد في المواقع التي عينوها في خطتهم الحربية. وبعد أن يتم لهم ما أرادوا من هذين الوجهين يرسلون مذكرة إجماعية إلى الحكومة العثمانية يبسطون فيها مطالبهم ومقترحاتهم، فإذا ورد الجواب العثماني «بنعم» بلغوا ما يتمنون من استقلال تركيا أوروبا، وتقدموا خطوات واسعة بلا حرب ولا ضرب نحو غايتهم الكبرى، وإذا ورد الجواب «بلا» عمدوا إلى إعلان الحرب من غير أن يدعوا للدولة العلية وقتًا طويلًا يضر بخطتهم الحربية.
وما كان اليوم السابع من شهر أكتوبر حتى تمت تعبئة الجيش البلغاري وأخذ يزحف إلى المواقع المعينة له. وروى مراسل التان الحربي أن تعبئته تمت في ستة أيام، ثم وردت أخبار من عاصمة الصرب وعاصمة اليونان تُنْبئ بالتعبئة أيضًا.
كان ذاك كله يجرى في البلدان البلقانية، والدول العظمى تسعى لدى الباب العالي في حمله على قبول مذكرتها، التي تطلب فيها الإصلاح عملًا بمقتضى المادة الثالثة والعشرين من مؤتمر برلين، ثم اتفقت على إبلاغ مشيئتها إلى دول البلقان لعلها تحترمها وتعدل عن الحرب، وكلفت روسيا والنمسا أن تبلغا تلك المشيئة بالأصالة عن نفسيهما والنيابة عن سائر الدول إلى حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا، فقابل معتمدا الدولتين ذوي الشأن في العواصم البلقانية، وأبلغاهم أولًا: أن الدول العظمى تُنكر أشد الإنكار كل تدبير من شأنه أن يقطع حبل السلم، ثانيًا: أن الدول تأخذ على عاتقها إجراء الإصلاح في تركيا أوروبا عملًا بالمادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، وأنها ما برحت تحتفظ بسيادة جلالة السلطان وبسلامة أملاك السلطنة، ثالثًا: أنه إذا قامت الحرب خلافًا لمشيئتها بين تركيا والدول البلقانية فإنها — نعني الدول العظمى — لا تسمح بأي تغيير في خريطة تركيا أوروبا.
هذا جوهر البلاغ الدولي إلى حكومات البلقان، وسيرى القارئ أنها داسَتْه بكعوب الأرجل حين طلع طالع النصر على الرَّايات البلقانية. ومما يجدر بالذكر هنا أن الموسيو جيشوف رئيس وزارة البلغار أجاب معتمدي روسيا والنمسا حين قابلاه وأوقفاه على بلاغ الدول بقوله: «يا للأسف، إنَّا عبَّأنا جيوشنا.» وهذا الجواب يشبه جواب روسيا للورد لوفتوس سفير إنكلترا حين أراد منع الحرب بين الدولة العلية وروسيا سنة ١٨٧٧، فكأنما المقادير أرادت أن يقوم الشبه بين مقدمات الحرب البلقانية ومقدمات الحرب الروسية العثمانية، حتى في الكلمات. والواقع أن البلغاريين وحلفاءهم كانوا عازمين عزمًا راسخًا على الحرب برغم كل مذكرة دولية، وأقوى برهان على هذا العزم أنهم أعدوا جوابهم على مذكرة الدول قبل أن تصلهم ويقفوا على معناها، كما قال الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الذي كان في صوفيا يوم وصول تلك المذكرة؛ أي ٨ أكتوبر.
وفي التاسع من أكتوبر اجتمع مجلس نظار البلغار فنظر في المذكرة الدولية وحكم بأنها لم تُعين الإصلاحات المطلوبة تعيينًا كافيًا ولم تشتمل على الضمانات الواجبة لتنفيذ تلك الإصلاحات. غير أنه لم يشأ أن يقرَّ على القرار الفاصل قبل أن يطلع على آراء حكومتي بلغراد وأثينا، وما طلعت شمس الثالث عشر من أكتوبر حتى كان الاتفاق تامًّا بين المتحالفين على صيغة جوابهم للدول العظمى، وإليك معناه.
استهلت حكومات البلغار والصرب واليونان مذكراتها المتشابهة بشكر الدول العظمى لما أظهرته من الاهتمام بالمسألة البلقانية، ثم ذكرت أنها أصبحت في حالة توجب عليها أن تطلب من الباب العالي مباشرةً تعيين مقاصده المختصة بالإصلاح المقدوني، فكان هذا الجواب رفضًا صريحًا لما تضمنته مذكرة الدول، وكان هذا الرفض منويًّا كما قدمنا.
وبعد تسليم الجواب إلى معتمدي الدول أسرعت الحكومات البلقانية إلى تسليم بلاغها الذي أعدته للدولة العلية، وطلبت فيه مطالب كان من الثابت الأكيد لديها أن الحكومة العثمانية سترفضها. ونحن نكتفي هنا بذكر ما تضمنه البلاغ البلغاري؛ لأنه يشبه في جوهره ما طلبته حكومة الصرب واليونان، فهو يتضمن تسعة مطالب؛ أولها: أن تُقسم الولايات العثمانية (في تركيا أوروبا) على أساس الجنسيَّات. ثانيًا: أن يُنتخب منها نواب للبرلمان العثماني يكون عددهم على نسبة عدد أهلها. ثالثًا: أن يُقبَل المسيحيون في وظائف الحكومة وتُراعى المساواة بينهم وبين المسلمين. رابعًا: أن تكون جميع المدارس على اختلاف أديانها متساوية. خامسًا: أن تكف الحكومة العثمانية عن إرسال المهاجرين. سادسًا: أن تُنشأ جندية محلية يُعين فيها ضباط مسيحيون. سابعًا: أن يُجدد تنظيم الجندرمة تحت إمرة ضباط من سويسرا وبلجيكا وأن يُمنحوا سلطة فعلية. ثامنًا: أن يُعين ولاة مسيحيون من سويسرا. تاسعًا: أن تُؤلف مجالس عالية نصف أعضائها من المسيحيين والنصف الآخر من المسلمين لمراقبة إجراء الإصلاح، وكان في نية ساسة البلغار كما قال مراسل التان أن يطلبوا من حلفائهم إخراج الجنود العثمانية من مقدونية وغيرها. إلا أنهم اتفقوا أخيرًا على مطلب أصعب من ذاك الطلب وأدل منه على رغبتهم في إقفال كل باب للاتفاق، وهو أن تكون الحكومات البلقانية مشرفة على الإصلاح المطلوب، وليس في وسع الدولة العلية أن تقبل مثل هذا الطلب من دول صغيرة كان بعضها حتى سنة ١٨٧٧ ولاية عثمانية، فنشأ عن مطالب البلقانيين أن الهياج اشتد في العاصمة العثمانية، وأقيمت المظاهر بطلب الحرب وقَوِيَ تيار الرأي العام حتى بات من الخطر الداخلي على الحكومة أن تصدَّه بعنف، كما بات من الخطر الخارجي الأعظم أن تبطئ الحكومة في التعبئة، ولكنها لم تُوَفق لسوء طالع الأمة العثمانية.
ولقد أضر تفاؤل تلك الحكومة ببقاء السلم أبلغ الإضرار بالسلطنة، وربما انتحل لها مريدوها من الأعذار أن الخطب الرسمية التي ألقاها أقطاب السياسة بقيت تعزز أمل المتفائلين خيرًا إلى ما قبل إعلان الحرب ببضعة أيام، وأن وزير الخارجية الإنكليزية الذي كان الأمل منوطًا بمساعدته السياسية قال في السابع من أكتوبر على مسمع من نواب الإنكليز: «إني لا أُقَدِّر الفشل للدول في مساعيهن، وأن إنكلترا ستبذل ما في وسعها لحفظ اتحاد الدول العظمى إن وقع ذاك الفشل.»
على أن ذاك العذر شديدُ الوهن؛ لأن المسائل الحيوية لا يجوز فيها التفاؤل الحسن ما دام لدى الساسة خطر أو شبه خطر خارجي، والسياسة المُثلى في مثل تلك الحال أن تشتغل الحكومة بيمناها لتجعل الأهبة تامة، وتشتغل بيسراها لترجح كفة السلم على كفة الحرب.
•••
أنا وزير خارجية جلالة السلطان أتشرف بتذكير سفراء الدول العظمى أن الحكومة السلطانية اعترفت بضرورة إجراء الإصلاح الإداري في ولايات تركيا أوروبا، واقتنعت بوجوبه إلى حد أنها تريد إجراءه بنفسها من غير أن يكون لأجنبي يدٌ فيها، وهي ترى أن القيام بالإصلاح على هذا المنوال يعود بالسعادة والنجاح الاقتصادي، ويوثق عرى الوئام بين العناصر المختلفة من الأهالي طبقًا لما تقتضيه روح الدستور.
وجديرٌ بنا أن نذكر هنا أن من الأسباب الجوهرية في حبوط المساعي الإصلاحية، إحداث الاضطرابات والجنايات التي لم يبقَ شك ولا ريب في غاية محدثيها، وأن الحكومة العثمانية تقدر قدر البلاغ الودادي الذي رأت الدول إرسالهُ في الظروف الحاضرة، وتشاركها من صميم الفؤاد في الجهد الذي تبذله لمنع الحرب وما تجرُّه من الويل والكرب؛ لأن من واجب العالم المتمدن أن يتلافى حدوثها بجميع الوسائل السلمية، ونحن مقتنعون بأنَّا سبقنا إلى تسهيل سبيل المهمة الإنسانية التي تريد الدول أداءها بحل المعضلة الهائلة التي لديها.
وليس من مراد الحكومة السلطانية أن توضح هنا أن تنفيذ معاهدة برلين لم يكن طبقًا لروحها ولا لحرفيتها، ولا أن تنظر في القيمة الباقية للمادة ٢٣ من تلك المعاهدة، بل تقتصر على التصريح بأنها قررت من تلقاء نفسها أن تعرض على البرلمان العثماني قانون ١٨٨٠ ثم ترفعه إلى جلالة السلطان للموافقة عليه عملًا بمقتضى الدستور، ويمكن للدول العظمى أن تكون واثقة منذ اليوم بأن الحكومة السلطانية تُنَفِّذ القانون المذكور بكل تدقيق.
ثم رأى الباب العالي أن يصدر أوامره في ١٥ أكتوبر إلى معتمديه في عاصمة البلغار وعاصمة الصرب بالسفر منهما؛ لأن ابتداء القتال أصبح لا مناص منه في أقرب وقت بعد البلاغ الذي أرسلته الدول البلقانية، وعزمت الحكومة العثمانية على نبذه وإغفاله، وهذا ما كانت تنتظره الحكومات البلقانية بل ما كانت تريده وتعمل له.
وإذا أراد القارئ أن يعرف الصبر الذي اعتصمت الحكومة العثمانية بحبله في البدء، فحسبه أن يطلع على ما كتبه الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في الأستانة أيام الحرب، فقد ذكر أنه قابل دولة نوردانجيان أفندي وحادَثه في موضوع الحرب، فقال له الوزير: «لم يكن في وسع أمة أوروبية عظيمة أن تصبر صبرنا وتحتمل ما حملنا من الإهانة، فإنه منذ شهرين دخلت عصابات مسلحة إلى أرضنا وقتلت عددًا من جنودنا ونهبت بلادنا وهدمت بعض معاقلنا، فكان عملها إهانةً واضحةً لنا وهتكًا لحرمة أرضنا، ولو وقع مثل هذا الحادث في أي بلد آخر لكان سببًا كافيًا للعدوان. أما نحن فقد غالينا في التسامح إلى حدِّ الضعف، فدفنا قتلانا وجددنا معاقلنا وسكنا غضب الأهالي.»
ثم ذكر الوزير الإصلاحات التي أجراها مع زملائه أو حاولوا إجراءها، وما كان من عزمهم على طلب ستة عشر مستشارًا إنكليزيًّا للولاة، ثم قال: «ولكن البلقانيين كانوا يندفعون في سبيل العداء والوقاحة بقدر ما كنا نتقدم في سبيل الإصلاح، أما اليوم فقد صرنا إلى الحرب، فلتكن الحرب … إنها تنشب رغم إرادتنا وإرادة أوروبا ولا سيما فرنسا التي بقي رئيس وزارتها يسعى حتى آخر دقيقة في سبيل تلافيها، وإنا سندير رحاها بكل ما نملك من نشاط ووطنية.»