إعلان الحرب
أرسلت حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا إعلان الحرب إلى معتمديها بالأستانة في السابع عشر من شهر أكتوبر؛ لأنها لم تشأ أن تضيِّع الوقت الثمين بعد أن تم حشد جيوشها. ولما كان الضحى من اليوم التالي؛ أي ١٨ أكتوبر ذهب المعتمدون البلقانيون إلى وزارة الخارجية العثمانية ورفعوا إليها بلاغ دولهم، وهو يتضمن أن العثمانيين هم الذين أتوا عدة أسباب للعدوان منها الاستيلاء على كثير من البواخر اليونانية، وعلى الذخائر والمعدات الحربية التي كانت مرسلة إلى الصرب، ثم الاعتداء على الحدود البلغارية والحدود الصربية، وخُتم البلاغ بالعبارة الآتية: «نرانا مع الأسف مضطرين إلى تجريد سيوفنا.»
ثم غادر المعتمدون البلقانيون عاصمة السلطنة العثمانية، وظهر في اليوم نفسه منشورات رسمية من ملوك البلغار والصرب واليونان وصفوا فيها حالة «إخوانهم» في مقدونيا وصفًا يُهيِّج العواطف على تركيا، ولقبوا الحرب البلقانية «بالصليبية»، ثم ظهر منشور من جلالة السلطان يُذَكِّر الجنود العثمانية بمجد آبائها وأجدادها وبشجاعتهم التاريخية، ويحضها على احترام النساء والأطفال وسائر الذين لا يدخلون معمعان الحرب، فكان البون كبيرًا بينه وبين منشورات ملوك البلقان؛ لأن «الخليفة» اجتنب وصف الحرب بالدينية، وإذا كان بعض العصابات الألبانية وغيرها لم يعملوا بوصيته فإنما الجرم يلقى على رءوسهم لا على جلالته.
وقبل إعلان الحرب البلقانية بقليل رأت الحكومة العثمانية أن تفرغ من أمر الحرب الطرابلسية، فقبلت الشروط الأساسية التي طلبتها إيطاليا لتكون مطلقة اليدين حيث يتهددها الخطر الأكبر.
•••
كان إعلان الحرب البلقانية قبل أن يتم حشد الجيش العثماني كما روى الضابط الألماني هوشوختر الذي رافق دولة محمود مختار باشا، ولكن الآمال كانت كبيرة في الأستانة، والمراجع العالية كانت تلتهب شوقًا إلى إظهار قوة الجيش العثماني كما قال أيضًا ذاك الضابط الألماني، ثم إن الجيش نفسه كان يتوق إلى القتال بعد أن وقف أشهرًا عديدة أمام الحرب الطرابلسية وهو لا يستطيع الوصول إلى أولئك الأعداء الذين هجموا على طرابلس، وكل من وقف على الجرائد الأوروبية الكبرى يعلم أن عددًا غير قليلٍ من القواد ولا سيما القواد الألمانيين كانوا يرجحون أن طالع الجيش العثماني سيكون سعيدًا في المعارك المقبلة.
وإذا راجعنا ما كتبه الموسيو استفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في عاصمة السلطنة أيام سفر الجنود العثمانية إلى مواقع القتال، وجدنا ما يدل على هذا الرأي الذي كان شائعًا، قال الكاتب المشار إليه في مؤلَّفه المسمَّى «عند سرير تركيا»: إني سألت الموسيو جورج ريمون الذي كان مع الأتراك في طرابلس عن عددهم هناك، فقال لي: إني أُوكد لك كل التأكيد أنهم لم يكونوا في طرابلس أكثر من ١٧٠٠ تركي، فعجبنا وأخذنا نتساءل قائلين: «إذا كان ١٧٠٠ تركي قاوموا مائة ألف رجل طلياني فأي عدد تحتاج إليه الحكومة التركية لقهر ٢٠٠ ألف بلغاري، ولكن الحرب هي — لفرط الأسف — أبعد شيء عند حساب الحاسبين.»
ذهبت إلى مقربة من سان استفانو؛ تلك المدينة الصغيرة التي اكتسبت صفة تاريخية مضاعفة بنزول الجيش الروسي فيها سنة ١٨٧٨، ثم بدخول الجيش الذي قدم من سلانيك سنة ١٩٠٩ (لتأييد الدستور)، فوجدت خمسة عشر ألف جندي عثماني معسكرين، ولما وصلت كانوا جالسين جماعات جماعات على شكل حلقات، بعضها يحيط بضابط يشرح بعض النظريات، والبعض يجهز العدات، وهم عامرو البنيان كبيرو الجثمان كالذين رأيتهم في الأستانة، فدعوت إلى أحدهم بعد استئذان ضابطه وسألْتُه: من أين أنت؟
– من أنقرة (وهي تبعد ٥٠٠ كيلومتر عن البوسفور).
– كم يوم قضيتم في السفر إلى هنا؟
– سبعة أيام.
– هل تركت عددًا من الجنود وراءك؟
– ألوفًا كثيرةً.
– كم تقبض من النقود في اليوم؟
– ثلاثة قروش.
– وهل تُدفع إليك؟
– بانتظام.
– متى تؤمِّل الرجوع إلى أنقرة؟
– بعد شهرين، فإنا قادمون لنزهةٍ حربيةٍ.
– هل تأسف على شيءٍ تركته وراءَك؟
– نعم، آسف على الموسيقيين، ولكنهم لا يلبثون أن يصلوا، ونحن محتاجون إليه لنرقص بنات البلغار على نغمات موسيقاهم.
تلك هي الحالة النفسية عند معظم الجيش يوم إعلان الحرب وهي عامل كبير من عوامل النصر، ولكن سوء الإدارة أودى بها كما يودي السوس بالشجر النضير.
(١) الجيش العثماني وقت إعلان الحرب
ولما وضعت نظارة الحربية العثمانية نظامًا جديدًا للجيش العثماني سنة ١٩٠٩ على أثر إعلان الدستور، ظهر من حسبانها وما نُشر من بيانها أن الدولة العثمانية سيكون لها قوة حربية لا تخاف معها دول البلقان ولا تكترث لعدوانها، فإن هذا النظام قضى بتقسيم الجيش العثماني إلى أربعة أقسام أو جيوش منها: جيشان للولايات العثمانية الأوروبية، والاثنان الباقيان لسائر أنحاء السلطنة. وجيشا الولايات الأوروبية يمكنهما أن يَتلقَّيا قوة للإبدال أو الإنجاد من جهات آسيا الصغرى، ومحل الجيش الأول منهما خط يمتد من أدرنه حتى الأستانة، وهو مؤلف من الفيلق الأول: المعروف بفيلق الأستانة، والفيلق الثاني: المعروف بفيلق تكفور طاغي (رودستو) والفيلق الثالث: المعين لقرق كليسا وما جاورها، والفيلق الرابع: لأدرن وحصونها، وقوة هذا الجيش تبلغ حسب النظام الجديد ٢٢٠٠٠٠ جندي من المشاة و٦٠٠٠ فارس و٤٥٤ مدفعًا.
أما الجيش الثاني الذي خصص للولايات المعروفة باسم مقدونيا؛ فقد كان أقوى منه بحسب ذاك النظام؛ لأن مجموعه يبلغ ٣٤٠٠٠٠ رجل و٥٠٠ مدفع، وكان من المأمول أن الجيشين المذكورين يمكنهما أن يقويا في وقت الحرب بفضل النجدات التي كان يُرجى إرسالها من آسيا الصغرى.
•••
غير أن تلك القوات الجميلة لم تكن إلا على الورق. والصحيح أن نظام ١٩٠٩ أضرَّ بالجيش العثماني بدلًا من أن ينفعه ويعزز جانبه، وليس ضرره بناشئ عن فساد النظام نفسه بل عن سبب آخر، هو أن كل نظام يدخل على جيش — كما يقول الاختصاصيون — يدع هذا الجيش ضعيفًا غير متماسك الأجزاء إلى أن يتم، وكل دولة تدور بها الأخطار مثل تركيا لا يجوز لها أن تهدم نظام جيشها دفعة واحدة لتقيم مقامه نظامًا آخر، بل يجدر بها لتأمن الخطر أن تغير ذاك النظام شيئًا فشيئًا حتى لا يتزعزع بنيان قواتها الحربية فيطمع فيها العدو الساهر، كما فعلت روسيا مع تركيا نفسها سنة ١٨٢٠، وكما فعلت الممالك البلقانية في هذا الزمن، ولقد أظهر الكُتَّاب الحربيون ومن جملتهم الموسيو وجنر أن الحرب البلقانية نشبت ونظام الجيش العثماني لم يُكمل، والرديف لم يتمرن، وبعض القواد لم يتعودوا تحريك الجنود الجرارة في ساحات القتال، وعدد الضباط اللازم لم يتم، فإن الجيش كان يحتاج إلى ٥٠٠٠ ضابط كما قال فخامة مختار باشا الغازي في حديث، وزد على ذاك كله أن السكك الحديدية لم تكن تنقل العدد الذي كان يُرجى نقله.
وكان من نكد الدنيا وسوء الطالع على تركيا أن أولياء الأمور قد اقترفوا خطأً كبيرًا في أوائل شهر سبتمبر؛ أي قبل إعلان الحرب بنحو شهر ونصف، وذاك أنهم صرفوا الرديف الذي كان تحت الهلال، فجاء صرفه في الوقت الذي يجب فيه تعزيزه وتقويته. وفي منتصف الشهر المذكور صُرفت أيضًا طبقة من الجيش العامل، وفي ٢٣ منه عادت تركيا تعبئ عشر فِرق من الرديف على حدود البلغار والصرب بحجة أنها تنوي تمرينهم، ولكن تعبئتها كانت بطيئة صعبة، ولما هبت الممالك المتحالفة إلى التعبئة العامة بعد بضعة أيام لم يكن لدى وزارة الحربية العثمانية وقت كافٍ للتعبئة التامة وحشد الفيالق في الوقت الموافق لها.
وليس من خدمة الحقيقة والتاريخ أن نهمل هنا خطأ آخر ارتكبته الحكومة العثمانية: وهو تجنيدها لرعاياها البلغاريين والصربيين واليونانيين، فإنها ظنت — وما أبعد ظنها عن الصواب — أن وضعهم في مقدمة ألوف من المسلمين يضطرهم إلى إطلاق النار على أعداء الدولة، ولكنهم كانوا يطلقون رصاصهم في الفضاء كما قال غير واحد منهم، ولما لاحت بارقة النصر في جانب إخوانهم في الجنسية والدين طاروا إليهم ورموا طرابيشهم ووضعوا القبعات على رءوسهم، ولا عجب ولا غرابة فيما فعلوا بل العجيب الغريب أن يصدقوا تركيا قولًا أو عملًا، وكل من يفكر في تاريخهم وأحوالهم يعلم أن «عثمانيتهم» اسم بلا مسمى، وأن كل فريق منهم يحن إلى الدولة التي من دمه وأصله، فالبلغاري يميل إلى البلغار، والصربي إلى الصرب، واليوناني إلى اليونان، ولو بذلت تركيا في سبيل راحتهم دم القلب وسواد العين، لما فضلوها على دولهم الأصلية، بعكس ما نظنه في بقية المسيحيين العثمانيين الذين لا دولة لهم من جنسهم، فإنهم وإن كانوا يذكرون الماضي والقلب حزين، يجدون من مصلحتهم أن يمتزجوا بالدولة العثمانية، وليس في الدنيا أقوى من المصلحة على التوفيق، ولكن رأس الشروط لحملهم على الصفاء لها هو إقامة الحق وتأييد العدل، وأقرب البراهين التي نقدمها على إمكان خدمتهم للوطن العثماني هو أن معظم جنود الأرمن أبلوا بلاءً حسنًا في القتال، وما عدد الذين حذوا حذو البلقانيين المسيحيين في الهرب والخيانة إلا قليل جدًّا، ولما قامت إحدى الجرائد تطعن عليهم كتب المرحوم ناظم باشا كتابًا إلى جرائد الأستانة مدح فيه الجنود الآرمنية، واعترف بحسن خدمتها في المعارك وأمل أن يكون لها مستقبل حسن في الجيش العثماني.
•••
ويجدر بنا أن نختم هذا الفصل بأهم ما كتبه الماجور فون هوشوختر الألماني (الذي كان أحد أساتذة الجنود العثمانية) في شأن الخلل قبل الحرب، قال: إن حكومة الأستانة لم تكن تجهل أن الحرب إذا نشبت بين تركيا والبلغار ستكون في جهات أدرنه، وأن البلغاريين يتأهبون لها، ومع ذاك كله فإنها لم تزد هناك الخطوط الحديدية، ولم تصلح الطرق ولم تنشئ الجسور، ولم تعتقد أخيرًا أن كفة الحرب أرجح من كفة السلم، بدليل أنها أطلقت سراح الرديف قبل إعلان الحرب بقليل، فضعفت القوة التي بقيت إلى حدِّ أن طوابير كثيرة نزل عدد الواحد منها إلى ٣٥٠ رجلًا، ولما عادت الحكومة فأمرت بالتعبئة وجدت نفسها عاجزة عن لحاق العدو في هذا سبيل، وما تمت تعبئة جيشها إلا بإبطاءٍ لا يُتصور.
وكانت دوائر النظارات مختلة، ثم جاءتها الأعمال الكثيرة قبل إعلان الحرب فازداد الخلل، وربما كان التنافس في مسألة القيادة بين ناظم باشا وعبد الله باشا من أسباب الشؤم على الجيش العثماني؛ لأن نقل الأوامر تأخر كثيرًا بسبب ذاك التنافس.
وكان خط السكك الحديد الشرقية وحيدًا، ليس معه إلا بعض خطوط لنقل العدة والأمتعة، وعدد الأرصفة غير كافٍ، ولقد أظهر الموظفون إخلاصًا تامًّا في عملهم لكنهم ما لبثوا أن رزحوا تحت أعباء المتاعب.
وزد على ذاك كله أن آلات السكك الحديدية أُهملت بلا تنظيف، فما انقضت مدة من الزمن حتى أصبحت غير صالحة، ثم إن المياه لم تكن كافية، واشتداد تيار الناس من أهالي وجنود أدى إلى اختلال عظيم؛ حتى إن القطارات العديدة كانت تقضي عدة أيام في اجتياز ٥٠ أو ٦٠ كيلومترًا.
أما الجنود — وهنا أريدُ الجيش العامل — فقد كانت جيدة ومجهزة تجهيزًا حسنًا ومتعلمة تعليمًا كافيًا، وأما الرديف فقد كان جاهلًا للتعليم العسكري؛ لأن العدد المتعلم منه فُنِيَ بجهات اليمن وحوران وألبانيا وطرابلس، ومع ذاك كله فإن الجيش العثماني لو كان فيه عدد كافٍ من الضباط المتعلمين لما بلغت به الحالة من الخطر إلى تلك الدرجة، ولكن القواد المتفوقين لا تجدهم بين كبار الضباط العثمانيين وهؤلاء لا يخالطون الضباط الشبان.
ولما وصل الرديف كان منظره حسنًا إلى حدٍّ ما، ولكنه كان تعبًا من طول شقة السفر، سيءَ الطعام سيء الإدارة، وبعضه من ذوي العاهات، والجندي القديم الذي كان في العهد الحميدي لا يعرف اليوم كيف يُطلق الرصاصة، وكثير من أولئك الجنود لم يتعود إلا استعمال البندقيات التي تُحشى من فُوَّهتها، وكانت البطاريات حسنة لكنها محتاجة إلى الخيل، وما حصلوا عليه منها كان ضعيفًا.
وكانت معدات النقل التي رأيتها حسنة لكنها قليلة، والعربات غير متينة، على أنني لم أرَ مطابخ نقالة ولا أفرانًا حربية. فقد كان من الواجب على الحكومة أن تهتم بها وتودع مقادير عظيمة من المئونة في جهات المعارك، أما ترتيب إدارة الذخيرة كما نفهمه نحن فلم يكن مضمونًا، مع أن الواجب كان يقضي على ولاة الأمور بأن يتوقعوا سوء حالة السكة الحديدية، ويعدوا عرباتٍ للنقل غير التي تجرها الجواميس، وبأن يُعينوا لأقسام إدارة الميرة والذخيرة موظفين أكفاء مسئولين، فقد رأيت بعيني أن المدافع كانت محتاجة إلى الذخيرة في جميع المعارك، وأن الذخيرة كانت موضوعة وراء الجيش.
على تلك الحال أُرسل الجيش العثماني وأثقاله إلى ساحات القتال، فقف بنا ننظر هنا في حالة الجيش البلغاري الذي سيقتحم أكبر المعارك الفاصلة.
(٢) الجيش البلغاري وقت إعلان الحرب
أما الخدمة العسكرية فهي إجبارية بالبلاد، يقوم بها كل رجل عمره من عشرين إلى ستٍ وأربعين سنة، ولا يُعفى إلا المسلمون بعد أن يدفعوا البدل العسكري، وجميع الرجال المخصصين للخدمة الإضافية يحق للحكومة أن تدعوهم لأدائها سحابة أربعة أشهر كما يحق لها أن تدعو وقت الحرب كل شاب عمره سبع عشرة سنة، وإن كان موعد خدمته لم يحل، ومدة الخدمة القانونية سنتان للمشاة وثلاث للفرسان وغيرهم، والعدد الرسمي الذي تعتمد عليه بلغاريا وقت الحرب هو ٧٥٠٠ ضابط و٣٨٥٠٠٠ جندي، وهناك عدد للاستبدال وللخدمة في غير مواقع القتال، على أن الجهد الذي بذلته بلغاريا في حرب البلقان تجاوز ما كان في الحسبان. ومعظم الرديف مُدرب مجرب خلافًا لما ظهر في الجيش العثماني. والقواد كلهم متعلمون واسعو الاطلاع كما شهد جميع المراسلين الحربين وكما تشهد تراجم حياتهم، وعدد ضباطهم لم يكن قليلًا بالنسبة إلى جيشهم كما كان عدد الضباط العثمانيين.
غير أن الجيش البلغاري يعتمد على البلاد الخارجية في إعداد ما يكفيه من الخيل، وهو يحتاج وقت الحرب إلى ٧٠ ألف حصان وحيوان، وليس عنده منها إلا عشرة آلاف حصان و٤٠٠٠ للبطاريات مودعة عند أفرادٍ يأخذون لها مرتبًّا.
أما أسلحة الجيش البلغاري فتتألف من بندقيَّات منليخر المتعددة الطلقات، وكل جندي يأخذ لبندقيته ١٥٠ خرطوشة ويبقي وراءه ١٠٠ أخرى، وقسم من الجيش يُقاتل ببندقية من طراز بردان ومعها ٨٠ خرطوشة.
ومن ١٠٨ بطاريات سريعة الإطلاق للميدان مصنوعة في معامل شنيدر وكروزو الفرنساوية، وعدد قليل من مدافع كروب، وكل مدفع منها له ٥٠٠ قنبلة.
ومن مدافع ثقيلة ومدافع جبلية وكلها فرنساوية، ومعلومٌ أن البندقيات والمدافع العثمانية هي ألمانية، وبعضها من طراز مارتيني القديم.
تلك هي حالة الجيش البلغاري يوم زحفه إلى مجال القتال.
(٣) جيوش الصرب واليونان وقت إعلان الحرب
كان الجيش الصربي متأهبًا كالجيش البلغاري ومسلحًا بالمدافع الفرنساوية، ومقسومًا إلى أربعة أقسام؛ أولها: يتألف من جنود عمر الواحد منهم ٢١–٣١ سنة، والثاني: من الذين عمر الواحد ٣١–٣٨ سنة، والثالث: من الذين عمرهم ٣٨–٤٥، والرابع — وهو المُسمَّى بالميليس — يتألف ممن عمره ١٧–٢١ و٤٥–٥٠ سنة.
•••
أما الجيش اليوناني فقد نظمه ضباط فرنساويون بعد حرب ١٨٩٧، وكان مسلحًا بالمدافع الفرنساوية وبندقيات منليخر، وبلغ عدد الجنود المعبأة وقت الحرب ١٨٥ ألف رجل، ثم أضيف إليهم عدد من الكريتيين والغاريبالديين المتطوعين فبلغ ٢٠٠ ألف رجل أو أكثر من هذا العدد، ولقد أجمع المراسلون الحربيون على أن الضباط الفرنساويين نهضوا به نهضة كبيرة في نحو سنة وثمانية أشهر، بدليل أن تعبئته تمت على تمام النظام.
•••
أما جيش الجبل الأسود فهو كما قال الكولونل بوكابيل لا يعد إلا من طراز الجيوش المسماة «بالميليس»، وقانونه العسكري يقضي بأن يجتمع تحت رايته كل رجل من سن ١٨ سنة إلى سن ٦٢، وجنوده العاملة تتألف من الذين تختلف أعمارهم بين ١٨ و٥٣، والجنود الاحتياطية من الذين أعمارهم بين ٥٣ و٦٢، ومجموع جيشه وقت الحرب ٣٧ ألف رجل يقسمون إلى أربع فرق، وهو يملك بطاريتين روسيتين للميدان وثلاث بطاريات إيطالية، وسبع بطاريات جبلية منها أربع روسية وثلاث إيطالية وست بطاريات أخرى.
وليس عنده من الفرسان من يستحق هذا «الاسم» ولا معدات حديثة للنقل ولا إدارة صحية، ولكن الصفات الحربية تسري في كل جبلي مع الدم.
(٤) المعارك في تراقيه ومقدونيا وألبانيا وعلى ظهر البحر
لدينا طريقتان في تقسيم الكلام على المعارك؛ أولاهما: النظر إلى تاريخ كل معركة وتقديمها على ما حدث بعدها، والثانية: تقسيم البلدان التي حدثت فيها المعارك والنظر في معارك كل قسم منها على حدة. ونحن متبعون الطريقة الثانية؛ لأنها أقرب إلى الأفهام، وأول ما نبدأ به المعارك التي حدثت بين العثمانيين والبلغاريين في تراقيه، ثم بين العثمانيين والصربيين، ثم أعمال اليونان الحربية والبحرية، فأعمال الجبل الأسود، فأعمال الأسطول العثماني.
وخليقٌ بنا أن نسارع إلى تسكين بال القارئ الذي ينفر من الإسهاب فنعده بإهمال كل تفصيل ثانوي لا يهم إلا الحربيون الفنيون. واعتمادنا في هذا الباب الفني على فريقين من الكُتَّاب الحربيين أحدهما: كان مع الجيش العثماني، والثاني: مع جيوش أعدائه، وكل رواية لا يمكن فيها التوفيق بين أقوال هذين الفريقين لم تصب عندنا نصيبًا من العناية؛ لأن الغاية الوحيدة التي نسعى إليها إنما هي خدمة الحق، وخدمته صعبة مع تضارب الآراء وتصادم الأهواء.
(٤-١) زحف العدوين في تراقيه
كانت القوات العثمانية المعدة لقتال البلغاريين في تراقيه مؤلفة أولًا: من أربعة فيالق، وهي فيلق الأستانة، وفيلق تكفور طاغي (رودستو)، وفيلق قرق كليسا، وفيلق أدرنه، ثانيًا: من ٨ فرق الرديف منها اثنتان جمعتا من الأستانة وسافرتا بلا إبطاءٍ، وستٌ من آسيا الصغرى (وهي فرق أركلي وقسطموني وأنقرة وعشاق وأفيون قره حصار)، إلا أنها لم تصل إلى مواقع القتال في الوقت الموافق لمصلحة الدولة بل وصلت مبطئة كل الإبطاء. أجل إن جموعًا مختلفة من الرديف وصلت إلى قرق كليسا قُبيل سقوطها، ولكن بقية الرديف لم تصل إلى تراقيه إلا بعد انتهاء معركة لوله بورغاز؛ أي بعد الضربة الهائلة التي أكدت نجاح البلغاريين.
وكانت تلك القوات معقودة اللواء لعبد الله باشا، على أنه كان تحت إمرة ناظم باشا الذي عين وكيلًا لجلالة السلطان في القيادة العامة.
حشد القائد العثماني تلك القوات على شكل مربع الأضلاع ممتد من أدرنه إلى قرق كليسا، فديمتوقة، فلوله بورغاز، وسلم قيادة الفيلق الأول إلى ياور باشا وقيادة الفيلق الثاني إلى طورغود باشا، وأوقفه بين ترك بك وقره أغاج، وقيادة الفيلق الثالث إلى محمود مختار باشا، وأوقفه عند بيكار حصار (أو بونار حصار)، وترك فرقتين من الفيلق الرابع في لوله بورغاز تحت إمرة عبوق باشا.
•••
أما القوات البلغارية التي زحفت أولًا على تلك القوات العثمانية في تراقيه فهي؛ الجيش الأول: بقيادة الجنرال كوكنتشيف ومعظم رجاله من جهات صوفيا وفيلبوبولي (أوفيلبه كما يُسميها الأتراك)، وموقع حشده يانوبلي (جامبولي)، ثم الجيش الثاني: بقيادة الجنرال إيفانوف وموقعه طرنوى (تيرنوفو)، ثم الجيش الثالث: بقيادة الجنرال داتكو ديمتريف، وموقعه قزيل أغاج (كزيلاغاتش)، ويظهر من قول عدة مراسلين أن التعبئة والحشد لم يتطلبا أكثر من خمسة عشر يومًا.
أما القائد العام فالجنرال سافوف صديق ملك البلغار، وهو مشهور بالحزم والعزم واحتمال المسئولية والمعارف الحربية، قال الموسيو وجنر: «إنه في طليعة الذين أدخلوا جميع الإصلاحات الحربية الحديثة على الجيش البلغاري، وأنه كان يعرف كل شبر من الأرض التي حدثت فيها المعارك، ولا يجهل شيئًا من أحوال الجيش العثماني، ولما أعلنت الحرب قال: «أنا أراهن على ضرب عنقي أن جيشنا سيقهر الجيش العثماني بعد أيام».»
بدأ البلغاريون بالحركات الحربية في ١٨ أكتوبر؛ أي يوم إعلان الحرب، فزحف الجيشان الثاني والثالث قاصدين أدرنه من جهة، وقرق كليسا من جهة أخرى، وزحف الجيش الأول بينهما.
وروى الماجور فون هوشوختر أن الخطة الحربية الأصلية التي نصح المارشال فوندرغولتز لأركان حرب الجيش العثماني باتباعها في تراقيه؛ هي أن يلزموا خطة الدفاع ريثما يتم حشد الجيش العثماني. على أن هناك خطة أخرى أشار إليها الكولونل بوكابيل، وهي على ما قيل كانت تقضي بقسم القوات العثمانية إلى ثلاثة جيوش، يقيم منها اثنان عند أدرنه وقرق كليسا، والثالث يأتي بحرًا من جهة ميدية لسحق ميسرة البلغار، ولكن السرعة الهائلة التي أظهرها الجنرال سافوف وجيشه في الزحف والهجوم لم تُمَكن أركان حرب الجيش العثماني من النجاح فيها، ولا سيما بعد سقوط قرق كليسا على وجه لم يذكر مثله في تاريخ الجيش العثماني كما سترى.
أما خطة الجيش البلغاري فهي تتوقف على اجتناب فتح أدرنه في بدء الحرب، وعلى السرعة العظيمة في قهر القوات العثمانية الأخرى بقصد أن لا يُترك للدولة العلية وقتًا كافيًا لحشد جيوشها وتعزيز جوانبها قبل المعارك الفاصلة، وبقصد أن تكون النفقات المالية أقل ما يستطاع.
(٤-٢) حركات الجيش الثاني للبلغار
سقوط مصطفى باشا
زحف الجيش البلغاري الثاني إلى جهات أدرنه من وادي مريج (مارتيزا) ومن الضفة اليمنى لطونجة، وتقدم بعض فرقه إلى جهة مصطفى باشا التي لم يكن فيها إلا حامية صغيرة فلم يجد إلا مقاومة ضعيفة، ثم تقهقر العثمانيون بسرعة؛ لأن القائد العثماني لم يكن يرغب في معركة كبيرة هناك، ولشدة سرعتهم في التقهقر فاتهم أن ينسفوا ثلاثة جسور كان نسفها مقررًا من قبل، على أن بعض الجنود تنبه إلى الأمر فألهب موقدًا واحدًا من الديناميت الذي كان معدًّا لنسفها فلم يُحدث إلا أضرارًا قليلة، فدخل البلغاريون مصطفى باشا وهي أول أرضٍ عثمانية وقعت في قبضتهم.
ولما طير القائد البلغاري خبر فتحها إلى ملكه انتقل إليها ومعه أركان حربه ونجلاه بوريس وسيريل، وكان من تقاليد البلغاريين القدماء أن ملكهم إذا دخل أرضًا لعدوه بعد النصر، خطا الخطوة الأولى على الأسلحة التي غنمها جيشه، فأراد الملك فردينان أن يُعيد تلك العادة بعد مئاتٍ من السنين. ولما وصل القطار به جيءَ ببندقية من بندقيات العثمانيين فوضعها تحت قدميه ووقف عليها نحو دقيقة من الزمن، وأبدل البلغاريون اسم مصطفى باشا فسموها «فرديناندوفو»، ثم دخل ملكهم تلك المدينة الصغيرة باحتفال كبير مشى فيه كبار رجالهم الدينيين بملابسهم المذهبة التي يزدانون بها في الحفلات الدينية الكبرى، وإنَّا كعثمانيين نذكر تلك الحفلة والأسف يملأ الصدر، وأشد ما يؤلم فيها أن الذين ساعدهم حُسْن الطالع فأقاموها لم يكونوا بالأمس إلا ولاية عثمانية بلغت ما بلغت من العزة والمنعة، بفضل الإصلاح الذي نشتاق إليه اشتياق الظماء إلى الماء والجياع إلى القصاع.
وبعد أن فتح البلغاريون مصطفى باشا أمر قائدهم باتباع العثمانيين المتقهقرين فزحفوا حثيثًا على ضفتي نهر مريج (ماريتزا)، وحدثت معركة صغيرة في جرمن فازت فيها الجنود البلغارية.
وكان معظم الجيش البلغاري الثاني مستمرًّا على الزحف إلى جهة أدرنه، ولما وصلها أراد أن يُفاجئ حصونها الغربية والجنوبية الغربية بهجمة قوية؛ لأن الخطوط الحديدية منشأة في تلك الجهة. وقد تباينت أقوال المراسلين في سبب تلك الهجمة، مع اعتقاد أركان حرب البلغار أن أدرنه محصنة أفضل تحصين فلا يمكن فتحها بهجمة أو عشر، ولكن الراجح ما ذكره الكولونل بوكابيل وهو أن الجنرال إيفانوف قال في نفسه: «إذا لم نفلح في الهجمات الأولى فإنها تعود علينا بشيءٍ من النفع، لكونها تُعدُّ لنا المحل اللازم لوضع بطاريات الحصار الضخمة.» وليس ببعيد عن الصواب قول الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي: وهو أن أركان حرب الجيش البلغاري الذين اهتموا أشد اهتمام بإخفاء الحركات الحربية، وأبوا على الجنود أن يكتبوا كلمة إلى أهلهم حتى لا يعرف أحد موضع إقامتهم، أرادوا أن يوهموا العثمانيين والصحافيين وغيرهم أنهم يريدون أخذ أدرنه عنوةً في أوائل الحرب، ثم دلنا الواقع على أنهم أجلوا الهجوم الأكبر على أدرنه إلى ما بعد المعارك الفاصلة. فلندعهم حول أدرنه الآن ونلتفت إلى الجيش البلغاري الأول ثم إلى الجيش الثالث الموكلين بأخذ قرق كليسا من الجهة الشرقية.
(٤-٣) معركة قرق كليسا
تقدم أن الجيش البلغاري الأول زحف إلى الوسط فيما بين الجيش الثاني الذي سار إلى جهة أدرنه، والجيش الثالث الذي قصد قرق كليسا، وكان غرض الجيش الأول على الأخص أن يعضد الجيش الثالث في أخذ قرق كليسا عنوةً واقتدارًا ولو كبرت خسارة البلغاريين؛ لأن الإبطاء يُفسد عليهم خطتهم، ولكن مساعدته انحصرت في قتال جانب من العثمانيين ومنع كل صلة بين قرق كليسا وأدرنه، وكان الفوز حليفه في ذاك القتال، ثم ذهب عدد عظيم منه إلى جهات أدرنه فانضم إلى الجيش الثاني.
أما الجيش الثالث المذكور فقد اجتاز الحدود العثمانية في ١٩ أكتوبر؛ أي بعد إعلان الحرب بيوم واحد، وكان مقسومًا إلى أربعة أقسام؛ قسم الميمنة: الذي سار نحو أركلر، وقسمي القلب: اللذين اتجها نحو قرق كليسا، وقسم الميسرة: الذي زحف شرقي سترانجه طاغي.
وكان أول خط منيع للعثمانيين قائمًا على نحو ٨ كيلومترات شمالي قرق كليسا، وهناك طرق وعرة تساعد على الدفاع، فبقي البلغاريون ثلاثة أيام (٢٠ و٢١ و٢٢ أكتوبر) حتى تمكنوا من صد الجنود العثمانية إلى الموقع نفسه.
كنت أتعشى مساء ذاك اليوم (أي بعد سقوط قرق كليسا) عند وزير الخارجية العثمانية، وإني لا أزال أتمثله نصب عيني وهو داخل إلى ردهة الاستقبال أصفر اللون كالح الوجه، وأسمعه يقول لنا بصوت خافت: «لقد وقع حادث ليس له نظير في تاريخنا … وقع أن جنودنا تركت قرق كليسا من شدة الرعب …» ثم قص علينا تفصيل الحادث، وذكر أن التلغرافات المتقطعة الدالة على شدة الهلع ترد تباعًا منذ أربع وعشرين ساعة على أركان الحرب، ومنها ما يفيد أن فرسان البلغار هجموا على قرق كليسا مع أن البلغار لم يكن عندهم فرسان، ومنها ما يدل على أن الخسارة عظيمة مع أن الإحصاء الرسمي الذي أرسل إلى الأستانة يدل على أنها لم تزد عن مائة رجل بين قتيل وجريح، ثم قال الوزير بصوت منخفض: «كان عندنا كثيرون من أصل بلغاري أو يوناني في صفوف الجيش … والضباط قليلون جدًّا …»
وكتب مراسل الجورنال الحربي في وصف ذاك الهلع: «أنه لما ظهر الهاربون استولى الرعب على متصرف قرق كليسا وأهلها فلاذوا بالفرار، وقصد الأهالي والجنود محطة السكة الحديدية وهجموا على قطر كان مستعدًّا للسفر، ثم حدث اصطدام فخرج القطر عن الخط على مسافة كيلومتر من المحطة، فترك الهاربون القطر ومشوا بضع عشرة ساعة حتى وصلوا إلى بابا أسكي حيث وجدوا القطر الذي أقلهم إلى لوله بورغاز.»
ثم وقع هناك أيضًا حادث موجب للأسف، وهو أن جنود لوله بورغاز أبصروا الفرسان المتقهقرين فظنوهم من فرسان البلغار وأخذوا يطلقون عليهم نارًا حامية، وما أدركوا خطأهم إلا بعد أن غطت الأشلاء الجسر القائم عند مدخل المدينة.
على أن الله أراد أن يحفظ أساس السمعة الطيبة للجندي العثماني، فجعل يُظهر بين تلك المشاهد الأليمة العظيمة مشاهد تعزي الأمة العثمانية بعض التعزية في إبان خطبها الجلل، فمنها أن البطل حلمي بك الذي كان يقود فرقة من الميمنة جاهد جهادًا عجبًا، وكان كلما رأى أحد الجنود يريد اللحاق بالهاربين يرميه بالرصاص، حتى تمكن من إيقاف الميسرة البلغارية التي كانت تجهل ما حدث ليلًا.
ولما رأى حلمي بك أن البلغاريين كادوا يحيطون بجناحي فرقته، ترك موقعه نحو الظهر، فبطلت كل مقاومة أمام البلغاريين هناك وغنموا ما بقي وما تركته الجنود على الطريق من المدافع والذخائر وغيرها.
وليس من العدل أن نغفل هنا ما رآه الموسيو ريني بيو، وهو أن فريقًا من الجنود العثمانية أبى عليه شرفه العسكري أن يترك مدافعه وذخائره في تلك الساعة الهائلة، ولكن الطرق التي كانت على أسوأ حال، أبطلت ذاك الجهد الشريف.
وقع هذا الخطب لشؤم طالع الأمة العثمانية، والبلغاريون يعتقدون أن الجنود العثمانية رجعت إلى مواقعها وستدافع أشد دفاع، وما علموا إلا في اليوم التالي ما جرى لحامية قرق كليسا؛ لذلك لم يتمكنوا من مطاردتها ساعة الهلع، بل اكتفوا رغم إرادتهم بالمؤن والذخائر، وبالأزهار التي قدمتها لهم بعض النساء البلغاريات …
•••
أما سبب هذا الفشل العاجل في موقع أُعد للمقاومة الشديدة، فقد كثرت فيه أقوال الناقدين الحربيين، فقال الموسيو وجنر: إن هجوم العثمانيين أولًا لم يكن من الصواب وإن كان المقصود منه استطلاع طلع العدو وإجباره على إظهار قوته؛ لأن مثل هذا الاستطلاع يضطر القوة المستطلعة إلى خوض معركة كبيرة فتعود إلى موقعها بخبر الفشل بدلًا من خبر العدو. وقال هوشوختر: «إن سوء حالة الجنود من حيث المطعم والملبس وقلة الذخيرة وجهل الأمور العسكرية والحاجة إلى الضباط الأكفاء، جعل هذا الهجوم شؤمًا على حامية قرق كليسا.» ثم مدح محمود مختار باشا مدحًا جميلًا، وذكر أنه كان يطوف في أنحاء الموقع ويشجع الجنود ويصلح ذات البين عند الخصام، ولكن مرءوسيه لم يكونوا يعملون شيئًا من تلقاء أنفسهم ولم يكن في وسعه أن يكون في كل جهة ومع كل واحد. وكان من جملة ما رواه أن الباشا كان يطلق مسدسه على من يفر ويُحدث الرعب، وأنه اضطر مرة إلى الاشتراك معه في مثل هذا العمل الموجب للأسف والأسى.
وقال لوجنر ضابط عثماني من الأسرى: «إنا لم نكن متأهبين ولا معتقدين أن البلغاريين يهاجموننا كما فعلوا، بل كنا نظن أنهم سيهجمون على أدرنه فينهكون قواهم أمامها، وبينا يكونون مشتغلين بها نتمُّ نحن حشد جيوشنا في المواقع التي نريدها، لكن هجمتهم على قرق كليسا حدثت بغتة فقاتلناهم بشجاعة، على أن القيادة لم تكن حسنة؛ لأن كثيرين من الضباط أرسلوا بعد إعلان الحرب وهم لا يدرون ما يطلبون من جنودهم، ثم إن عدة فرق من الرديف كانت تجهل التعليم العسكري واستخدمت كما تُستخدم الجنود القديمة المنظمة، وكنتَ ترى هذا القائد يريد الهجوم وذاك يريد الدفاع، فيتقدم عدد من الجنود ويتخلف الباقون لا يبدون حراكًا.» ثم مدح البلغاريين بقوله: «إن لهم هجمات بالسلاح الأبيض لا تُرد ولا تُصد، فإذا قتلنا مائة أبصرنا مائتين يمرون على جثثهم ليتموا هجومهم.»
وطبيعي أن خبر هذا الفشل الأول أقام الأستانة وأقعدها كما سترى، وعزم ناظم باشا وزير الحربية وقتئذ على السفر إلى تراقيه، وأخذ الناس يتحدثون بسقوط وزارة مختار باشا، ولكن الحكومة العثمانية لم ترَ من المصلحة الداخلية أن تنشر الحقيقة، بل قالت: إن تقهقر الجنود من قرق كليسا هو بعض الخطة الحربية المرسومة، على أنها ما لبثت أن اعترفت بالحقيقة الجارحة؛ لأن المراسلين الحربيين أذاعوا خبرها في العالمين فلم يبقَ سترها في طاقة الحاكمين.
(٤-٤) بعد قرق كليسا
وقعت حوادث تدمي الفؤاد بعد التقهقر من قرق كليسا، منها: إحراق عدة قرى وسرقة المؤن، وهرب الأهالي من نساء وأطفال حفاة عراةً، وموت عدد من الجنود تعبًا أو عطشًا وجوعًا.
وروى الماجور فون هوشوختر أن الأهالي البلغاريين واليونانيين كانوا يطلقون الرصاص على الجنود العثمانية من النوافذ، وحدث في إحدى القرى أن رجالها نهضوا ليلًا فذبحوا الضباط والجنود العثمانيين، فلما طلعت شمس اليوم التالي وجدت أعضاؤهم مطروحة هنا وهناك، فاشتد سخط ولاة الأمور — وحق لهم أن يسخطوا — من تلك الفظائع، وأمروا بإعدام رجال تلك القرية رميًا بالرصاص ثم أحرقوها بعد أن أخرجوا منها النساء والأطفال، فذكرتنا حادثة هؤلاء بما فعله الألمانيون بإحدى القرى الفرنساوية، إذ جعل أهلها يرمونهم بالرصاص من النوافذ، فإنهم كانوا أشد قسوة من العثمانيين فعاقبوا أهلها غير راحمين ولا مميزين بين النساء والأطفال، فيالله من الحرب ويالله من الإنسان.
(٤-٥) معركة لوله بورغاز وهي الفاصلة
- الفيلق الثالث: وما زال تحت إمرة محمود مختار باشا.
- الفيلق الثاني: وقلبه في جهة قره أغاج.
- بقايا الفيلق الأول: الذي شتته مصاب قرق كليسا.
- الفيلق الرابع: وقلبه في لوله بورغاز.
- وفرقة الفرسان: عند لوله بورغاز أيضًا.
وكانت خطته الأصلية في المعركة المذكورة أن يأمر القلب والميسرة بالدفاع ويهاجم عدوه من جهة الميمنة (ومما يُذكر هنا أن الأرض التي كان الجيش العثماني يحتلها هي الأرض التي قاوم فيها الجيش الروسي تسعة أيام في سنة ١٨٧٨)، وكان خط المقاومة الذي رسمه واقعًا على الضفة اليسرى لنهر «قره أغاج دره سي» على مقربة من المرتفعات التي تشرف على هذا النهر الذي لا يُجاز هناك إلا على جسور لوله بورغاز وترك بك وجفلك قبه.
وكان ابتداء المعركة الكبرى في ٢٨ أكتوبر بين مقدمة العثمانيين وفرسان الأعداء، ثم أخذ القتال يمتد، وفي ٢٩ أكتوبر تقدم القلب والميسرة من الفيلق الثالث فزحف القلب إلى «ترك بك» والميمنة إلى جهة لوله بورغاز، وما حلت الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى أضحى القتال عامًّا، ونحو الساعة الثانية بعد الظهر تمكن البلغاريون من أخذ لوله بورغاز وإصعاد بطارياتهم إلى الروابي.
وكان الفرسان العثمانيون في تلك الساعة يُجاهدون لصدِّ البلغار عن جنوبي لوله بورغاز وهم واقفون، ثم امتطوا جيادهم وحملوا حملة شديدة على صدر الجيش البلغاري ليمكنوا المشاة العثمانيين من احتلال الروابي المهددة، وبعد أن أتموا مهمتهم عادوا إلى وراء.
وما حلت الساعة الخامسة بعد الظهر حتى هب الفيلق العثماني الرابع إلى الهجوم على لوله بورغاز فطرد منها البلغاريين، ثم عاد فتركها واحتل المرتفعات فبقيت لوله بورغاز تلك الليلة خالية من العدوين.
أما في جهة قره أغاج حيث كان قلب الفيلق الثاني فقد نجح البلغاريون قليلًا، ولكن العثمانيين عادوا فهجموا عليهم نحو الساعة الرابعة بعد الظهر فأرجعوهم إلى موقفهم الأول، ثم عاد البلغاريون إلى هجمة شديدة فأخذوا المواقع التي خسروها.
وخلاصة «الحساب» في هذا اليوم؛ أي ٢٩ أكتوبر أن النصر بقي يتراوح بين العدوين.
في ٣٠ أكتوبر؛ بدأت الذخائر تنفد عند ثلاثة فيالق عثمانية وهي الأول والثاني والرابع، فأصبح أمل عبد الله باشا وناظم باشا (الذي حضر من الأستانة) منوطًا بالفيلق الثالث الذي صدر إليه الأمر بالهجوم في اليوم التالي (٣٠ أكتوبر). أما البلغاريون فقد تعبوا تعبًا شديدًا، على أن فيالقهم لم تقتحم كلها معارك ٢٩ أكتوبر بل كان جُل التعب مقصورًا على الجيش الثالث منهم، وقد وصل جيشهم الأول في اليوم المذكور، واستعد للهجوم عند ظهر اليوم التالي، فصار في وسعهم أن يُعيدوا الكرَّة على طول الخط وعلى ميسرة العثمانيين عند الضفة اليسرى من نهر أركنه (أرجين).
وكذلك فعلوا، فإن ميمنتهم زحفت في ٣٠ أكتوبر إلى الضفة اليسرى من ذاك النهر، ثم أرسلوا جنودًا جديدة لتستأنف الهجوم من جهة لوله بورغاز والجهات الجنوبية، فقابلتهم بقايا الفيلق الأول والفيلق الرابع. وكان عبد الله باشا لسوء الطالع لا يستطيع إرسال نجدات جديدة إلى هذين الفيلقين، وما زال جُل اعتماده على الفيلق الثالث الذي تقدم ذكره، وعلى الفيلق الثاني الذي أمره باستئناف الهجوم على قره أغاج رجاء أن يعضد بعمله الفيلق الثالث.
وما صدر الأمر إلى الفيلق العثماني الثاني بالهجوم حتى تقدمت بطارياته بحزم وبسالة لحماية مشاته ومساعدتهم على التقدم، لكن البطاريات البلغارية كانت أقوى منها فأسكتتها بعد حين، وبقي المشاة العثمانيون يزحفون فأخذوا بعض المواقع البلغارية الأمامية، ولكنهم ما لبثوا أن وقعوا بين نيران المشاة والبطاريات البلغارية، فاضطروا إلى الرجوع بعد خسارة عظيمة، وقد حاولت بعض البطاريات العثمانية الأخرى أن تحميهم ساعة التقهقر فلم تفلح؛ لأن مدافع البلغاريين كانت تفعل فعلًا ذريعًا.
وكان الفيلق الثالث في ذاك الوقت يحاول الوصول إلى بيكار حصار ويُبدي من البسالة ما اعترف به الأعداء، ولكن الجنود البلغارية التي كانت تحت إمرة الجنرال كريستوف أفلحت في صدِّه، فحاول الفيلق العثماني الثاني أن يعضده مرة أخرى فلم ينجح.
غربت الشمس وخيم الغسق في ذاك اليوم الأسود، والذخائر نادرة لدى الجيش العثماني، والتعب شديد فاتك، والنجدات غير موجودة، والجوع يأكل من أحشاء الجنود، وما كان أحد يظن أنها تصبر على تلك الوقعة الهائلة وأن معظمها يُدافع ذاك الدفاع الحسن وأمامها ثلاثة أعداء؛ الخلل والجوع والجيش البلغاري.
ولزيادة نكد الدنيا عليها أن الجيش البلغاري الثالث أراد نحو الساعة التاسعة مساءً أن يوالي الهجوم ليزيد الجيش العثماني ضعفًا في جهة ترك بك، فشاء سوء الطالع أن تكون في تلك النقطة بقايا الفيلق الأول الذي فقد قوته المعنوية بعد قرق كليسا، فما ظهر البلغاريون حتى غادرت تلك البقايا موقعها، وما حلت الساعة الحادية عشرة مساء حتى كانت الجنود البلغارية على المرتفعات التي تشرف على ترك بك ثم اجتازت نهر «قره أغاج دره سي».
٣١ أكتوبر؛ وفي صباح اليوم التالي أخذ البلغاريون يوسعون الفرجة في مقدمة الجيش العثماني، ونصب الجنرال كوكانتشيف مدافعه على المرتفعات وأخذ يضرب ميسرة الجيش العثماني، فلم ترَ بُدًّا من التقهقر نحو جورلو (تشورلو).
إلا أن البلغاريين الذين ظفروا في جهة القلب هاجموه من الجهة اليمنى ثم أرسلوا فرقة احتياطية من الجهة اليسرى إلى قوة الجنرال كريستوف، فرأى حينئذ محمود مختار باشا أن الأعداء كادوا يحيطون به فأصدر أمره إلى فيلقه بالتقهقر، وبقي النظام على ما يُرام بين صفوفه، بعكس ما جرى في بقية الجيش.
أما خسارة العثمانيين في تلك المعركة الهائلة، فيقول الكولونل بوكابيل: إنها تبلغ على التعديل المتوسط الخالي من كل مبالغة نحو ٢٥ ألف رجل بين قتيل وجريح، ونحو ٣٠٠٠ أسير و٤٢ مدفعًا، وأما خسارة البلغاريين فتبلغ نحو ١٥٠٠٠ (وبعض المراسلين يقول إنها أعظم من هذا العدد). ومما يذكرونه أن عدد كل من الآلايين الأول والثاني من مشاة البلغار نزل مساء ٣٠ أكتوبر من ٧٠٠٠ إلى ٧٠٠ رجل.
وفي خلال تلك الأحوال ورد على البلغاريين أن الصربيين انتصروا في معركة فاصلة بقومانووا (كومانوفو)، وأنهم يقدرون على إرسال جيشهم الثاني إلى أدرنه لمناصرة البلغاريين حول ذاك الموقع، فجاء هذا الخبر بردًا وسلامًا على قلوب البلغاريين؛ لأن إرسال الجيش الصربي الثاني يمكنهم من أخذ فرقتين من الجيش المحاصر لأدرنه، وكانت حكومتهم وقتئذ تنفذ أمرًا صادرًا في ٢٥ أكتوبر بدعوة طبقتين من الرديف (١٩١٢ و١٩١٣) عدد رجالهما نحو ٨٠ ألفًا.
(٤-٦) بعد لوله بورغاز
تقدم أن الفيلق العثماني الثالث اتجه نحو جتالجه بترتيب ونظام، وظهر من عدد المدافع التي غنمها البلغاريون بعد المعركة الكبرى أن معظم المدافع العثمانية بقي مع الجيش العثماني المتقهقر، كما يؤخذ التحقيق الذي أجراه الكولونل بوكابيل قبل تأليف كتابه عن الحرب البلقانية. ثم ظهر من كلام هذا الكاتب الحربي المحقق أن البلغاريين لم يزحفوا لا في اليوم التالي ولا في الثالث ولا في الرابع وراء الجيش العثماني لمطاردته، خلافًا لما ذكره مراسل الريشبوخت وغيره، فإن هذا المراسل (الذي روى في أوائل الحرب ما يعتمد عليه وما أيده سائر المراسلين) اعتمد على خبرٍ في جريدة مير البلغارية، فبنى عليه وصف معركة هائلة بعد لوله بورغاز، ولكن مراسلي التيمس والطان ما لبثا أن كذباه ثم أصدر أركان حرب الجيش البلغاري موجزًا للأعمال الحربية، اتضح منه أن الجيش البلغاري لم يتأثر بالعثمانيين وأن هؤلاء لم يضطروا إلى اقتحام أية معركة في مدة تقهقرهم إلى جتالجه، قال مراسل التيمس: إن البلغاريين لم يزحفوا من لوله بورغاز إلا بعد ستة أيام من يوم المعركة الكبرى، وأن مؤخرة الجيش العثماني المؤلفة من فرقتين تركت جورلو من غير أن تطلق رصاصة واحدة في مدة ستة أيام، وفي اليوم السابع أخذ البلغاريون يزحفون، وكان الفرسان العثمانيون المعروفون باسم «الفرقة المستقلة» لا يزالون في جورلو فساروا أمامهم.
وهذا كله رأيته بعيني وكدت أقع من أجله في يد طوافة من البلغاريين المستطلعين، ولا شك في أن الجيش البلغاري أضاع فرصة من أجمل الفرص التي تسنح لجيشٍ منصور، وما ذاك إلا لأن باقي الجيش العثماني لبث حزومًا مدافعًا.
وذكر جملة من الكُتَّاب الحربيين (ومنهم الكولونل الفرنساوي) أن الأسباب التي من أجلها أحجم الجيش البلغاري عن اللحاق بالجيش العثماني هي عدة؛ أولها: أن التعب نهك أجسام البلغاريين، والثاني: أن المؤن والذخائر لم تكن كافية لديهم، والثالث؛ أنهم كانوا ينتظرون جنودًا جديدة بعد وصول الصربيين إلى جهة أدرنه؛ لأن جميع الجنود الاحتياطية التي جاءتهم خاضت غبار المعركة الكبرى وخرجت منها بعد خسارة ومشقة، فوجب عليهم أن يصبروا بضعة أيام قبل الزحف إلى جتالجه.
- الميسرة: الجيش الثالث ومعه أربع فرق أخرى.
- الميمنة: الجيش الأول ومعه أربع فرق وعدد من الفرسان.
وأبقوا لواء الجيش الثالث معقودًا للجنرال راتكو ديمتريف الذي أبدى حزمًا ونشاطًا وكفاءةً في المعارك الماضية، ولواء الجيش الأول للجنرال كوتنتشيف.
وكان الجيش العثماني لا يزال في تقهقره، فمن الجهة الشرقية كان يسير الفيلق الثالث ومن ضمهم إليه متبعًا طريق سراي وجركس كوى، ثم دخل من هناك غابةً كثيرة الأدغال والأشجار فكان فيها بمأمنٍ. ومن الجهة الغربية كانت تسير بقايا الفيلق الأول مع الفيلق الثاني والفيلق الرابع متبعةً طريق جانطه إلى جتالجه، على أن النظام كان مختلًّا فيها بعكس الفيلق الثالث، ومما زاد الجنود عذابًا فوق عذاب التعب والجوع أن المطر بقي يهطل مدرارًا سحابة أسبوع حتى كان منظرهم ولا سيما الجرحى يُدمي العيون ويُفطر القلوب.
ولما وصلت الجنود العثمانية إلى خط جتالجه قابلتها جنودٌ أخرى جديدة من أرضروم وأزمير وسوريا، وعدد قليل من الضباط وبينهم عدد من الضباط الألمانيين، وأخذ ناظم باشا زمام القيادة الفعلية، وأصبح إرسال الميرة مؤكدًا مضمونًا لقرب الجيش من الأستانة، وضُربت الخيام في جهات كثيرة، ثم عُززت البطاريات باثنين وخمسين مدفعًا من مدافع كروزو الفرنساوية، وهي التي كانت مرسلة إلى الصرب قبيل الحرب، فاستولى عليها العثمانيون في الطريق.
ثم وحدث لسوء الحظ أن الكولرا ظهرت بالأستانة في تلك الأثناء فانتقلت إلى صفوف الرديف في جتالجه، وظهرت معها الدوسنطاريا فأودت بنفوسٍ كثيرة.
وصل خبر المصاب الجلل الذي حلَّ بالجيش العثماني في لوله بورغاز إلى لندرا وباريس قبل أن يصل إلى الأستانة نفسها، فإنه لم يتصل بالسفارات إلا في هزيع متأخر من ليل الأحد ٣ نوفمبر، ولم يعلم الترك متسع الخطب إلا صباح الاثنين (أي بعد المعركة بأربعة أيام)، حين صدر البلاغ الرسمي وكانت السماء غائمة محزنة في ذاك الصباح، وهاك معنى البلاغ: «إن النجاح في جميع الأنحاء وقت الحرب أمر غير ممكن، والأمة التي تخوض حربًا يجب عليها أن تقبل مع الحزم التام جميع النتائج التي تنجم عنها، وهو مبدأ لا يجوز إغفاله أو نسيانه، وعليه يجب اجتناب الغلو في الطرب عند النجاح كما يجب التزام الحزم والصبر عند الفشل. فإن جيشنا مثلًا بقي منصورًا في مقاومة البلقانيين المتحالفين بجهة يانيه وجهة أشقودره. ولكن الجيش الشرقي في جهات ويزه ولوله بورغاز رأى أن يتقهقر إلى جتالجه ليكون أقوى على الدفاع منه في تلك الجهات، وأنه لمن المقرر الطبيعي أن نبذل كل ما في وسعنا لصيانة مصالح الوطن.»
صدر هذا البلاغ الرسمي، وفي يوم صدوره أخذت المحطة تلفظ على العاصمة العثمانية جموعًا من ذوي الأعضاء المبتورة والجسوم النحيلة الدامية، فينسلون في الشوارع والرحبات العامة وهم صفرٌ عاطلو الوجوه من نور الصحة، وبردُ نوفمبر يقرس جلودهم: أولئك هم جرحى الحرب، يقصون من أخبارها ما يحزن القلب ويورث الكرب ويمثل نصب العيون مجمل أهوالها، وإني لا أزال أسمع حتى الساعة صوت شاب في المستشفى الفرنساوي اسمه رياض بك يقص عليَّ ما رأت عيناه من المشاهد. وحكاية هذا الشاب أنه ذهب مع وفد الصليب الأحمر إلى ساحة القتال للعناية بالجرحى، ولكنه لم يستطع أن يضبط عنان شوقه إلى القتال حين دوي المدفع في لوله بورغاز، فنزع من ذراعه شارة الصليب الأحمر وأخذ بندقية أحد العساكر وهبَّ يُقاتل كسائر الجنود، فأصابته رصاصة كسرت كتفه فتقهقر، ثم أُرسل مع العائدين إلى الأستانة، وكان من قوله لي: «إننا لم نخطُ في الوحل بل كنا نخوض بحيرات من الدماء. ولما دخلتُ أحد الخنادق التي كان يحتلها البلغاريون وجدتُّني على آكام من الجثث … إن جنودنا البائسين يحتاجون إلى القوت، فقد رأيت بينهم من بقي أربعة أيام بلا أكل، فكيف تطلب من أمثال هؤلاء قوة معنوية ما داموا لا يملكون قوة جثمانية؟ زد على هذا كله أن الأمراض ستنضم إلى ذاك العذاب؛ لأن سهل جورلو يشبه مستودعًا كبيرًا من الأشلاء …»
غير أن حكايات المتقاتلين على هولها لم تكن أدعى إلى الحزن من المشهد الذي وقع تحت أنظارنا، فإن سكان الأستانة يبلغون نحو مليون و٥٠٠ ألف، منهم نحو مليون من الأروام واليهود والشرقيين والأوروبيين، فلا يمكن مع هذا الاختلاط أن نرى وحدة نفسية بينهم، بل نحن لم نرَ العطف الذي يحق لأمة منكوبة أن تراه، فإنك لم تجد يونانيًّا (عثمانيًّا) رضي بأن يقفل دكانه ولا شرقيًّا كفَّ عن الذهاب إلى قهوات الرقص، ولا فندقًا أوروبيًّا فكر في منع الرقص ساعة تناول الشاي، بل كنت ترى الجرحى المرتجفين بردًا الممتقعين لونًا يسيرون في جهات «بيرا» على ألحان الموسيقات وخطرات الراقصين والراقصات.
بل كنت ترى ما هو أقبح من ذاك كله، ترى أناسًا يرقبون أخبار فشل الجيش ليذيعوها في الأنحاء، وبعضهم كان يستنبطها. ألا إن تركيا لا تستحق هذا كله، لا تستحق أن تصاب بالفشل في عاصمتها ومن أيدي سكانها قبل أن تُصاب بسيف عدوها، فيالها من عبرةٍ للذين شهدوا تلك الساعات الفاجعة … فعلينا أن نتذكرها، وأن نقيم حراسة قوية حول وطننا فلا ندعنَّ الأجانب يزدحمون معنا جنبًا إلى جنب، ولا نكتفينَّ بحماية تجارتنا وقت السلم من الغزوات الخارجية بل يجب أن نصون وحدتنا النفسية ليكون فرحنا أو حزننا واحدًا في وقت الحرب.
ثم وصف جموع المهاجرين الذين قدموا من تراقيه وصفًا يثير الشجون ويسيل الشئون، فقال: إن بينهم عددًا كبيرًا من النساء والأطفال وهم على أسوأ حال، وأنهم كانوا ينامون في الشوارع والساحات وحول المساجد، فلا يجدون من سقف سوى السماء ولا غطاء سوى الهواء، حتى خُيِّل للناظر أنه رجع ألف سنة إلى وراء، أو أنه يشهد هجرة الغوليين القدماء. فلما رأت الحكومة ذاك المشهد الأليم أخذت تهتم بتسفيرهم إلى جهات أشقودره وبروسة وشواطئ البحر الأسود.
وأما كامل باشا الذي كان صدرًا أعظم يوم لوله بورغاز فإنه لما علم بالخطب مساء ٣ نوفمبر قال لمن أخبره به: «كنت أفضل الموت على سماع هذا الخبر»، ثم جمع مجلس وكلاء الدولة وقرر معه أن يطلب تعضيد أوروبا في إيقاف رحى القتال، وأمر نورد نجيان أفندي وزير الخارجية بالذهاب إلى السفارة الفرنساوية ليطلب بواسطتها إلى الموسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الحالي أن يسعى لدى أوروبا في إيقاف الحرب، فذهب الوزير وهو عالم أن هذا السعي لا يُجدي نفعًا، وأن الحرب ستبقى حتى يعترف أحد الفريقين بالعجز، وقال في حديث رواه رئيس تحرير الماتين: «لو كان هذا الوقت وقت السخر والتهكم، لاكتفيتُ بأن ألصق على جدران الأستانة وأنشر على صدور الصحف التركية ذاك البلاغ الذي قالت فيه أوروبا: إنها لا تسمح بأي تغيير في أراضي البلقان، ثم أزيد عليه صور سبع وعشرين معاهدة عقدتها الدول الأوروبية وضمنت فيها سلامة الأراضي العثمانية»، ثم روى ما جرى بعد أن قهر جيش أدهم باشا اليونان سنة ١٨٩٧، وهو «أن قيصر الروس أرسل وقتئذ إلى السلطان المخلوع تلغرافًا خاصًّا طلب فيه إيقاف الجيش العثماني الذي كان مستعدًّا للزحف على أثينا، ثم ذهب سفراء الدول أنفسهم إلى وزير الخارجية العثمانية للتناقش معه في مسألة الصلح، فهل كان هذا كله من الحقوق الدولية؟ إن الحقوق الدولية تغير بتغيير الأزمان والأمم والمخاوف التي تداخل أوروبا من الغالب أو من نفسها.»
ولما ذهب السفراء بعد ذاك الخبر الأليم لمقابلة كامل باشا ومفاوضته في شأن الأمن، قال لهم: «إني سأدافع عن النظام في الأستانة حتى النهاية، أما إذا سمحت الدول بغزو الأستانة واستولى اليأس على الأهالي، فإني ألقى تبعة ما يجري حينئذ على وجدان أوروبا، ولا تحسبوا أنني أترك الأستانة مع سلطاني؛ فهو يُفضل أن يُقتل في قصره، وأنا أفضل أن أقتل في ديواني على مزايلة الأستانة.»
فأثر كلام هذا الشيخ الذي يضع إحدى رجليه عند باب القبر في سفراء الدول العظمى، غير أنه لم يذهب بخوفهم، لم يخفف من قلقهم، ولما اشتد دوي المدفع في جتالجه أنزلت بوارج الدول جنودًا لحماية الأحياء والمصارف والسفارات والقنصليات، ثم عادت فاسترجعتها.
تلك حالة الأستانة بعد لوله بورغاز، فنحن ندعها الآن مع مشاغلها السياسية ومفاوضتها المتواصلة للدول، لنرى ما جرى في جتالجه نفسها بعد وصول الجيش العثماني وزحف الجيش البلغاري.
جتالجه
جتالجه؛ اسم ملأ الدنيا فكم تداولته ألسنة الملايين في العالمين، وكم خفقت لذكره قلوب، وجاشت مطامع، وقلقت أفكار، واشْرَأبَّت أعناق وشخصت أبصار …
جتالجه، لا عجب في بلوغ العناية بكِ ذاك المبلغ فأنت الحاجز الوحيد بين الأعداء المنصورين ودار الخلافة، وعاصمة السلطنة، ومدينة الذهب، وملتقى البرين والبحرين، ومركز فروق، والموقع الذي اهتزت له أوروبا يوم بلغه الروس سنة ١٨٧٨.
تاللهِ لقد أصبح العثمانيون وكأنهم في حلم يوم زحف الجيش البلغاري إلى ذاك الموقع، وأخذوا يسمعون ما لم يكن يخطر في خاطر ولا يفكر فيه فاكر، يسمعون الناس يتساءلون: «لمن تكون الأستانة؟» ثم يسترسلون إلى التكهن والتخمين على صفحات الجرائد الكبيرة، فواحد يقول قول الموسيو بوانكاريه: إن الأستانة وما حولها تبقى لتركيا، وآخر يقول: بل تُعطى للبلغار، وثالث يقول: لا بل توضع تحت حماية الدول وتكون إمارة مستقلة، ورابع يرى أنها ستكون لروسيا.
اللهم اشفِ المريض واجعلهم من المخطئين …
(٤-٧) معارك جتالجه
تركنا الجيش العثماني فيما تقدم يهتم بضم شمله وتعزيز قوته وتحصين خط الدفاع في جتالجه، وتركنا الجيش البلغاري زاحفًا نحوه بعد أن وقف بضعة أيام للأسباب التي أوضحناها في بابٍ سابق.
ويحسن بنا قبل الكلام على معارك جتالجه أن نصف ذاك الخط بإيجازٍ، قال الكولونل بوكابيل: إن خط جتالجه — أو بالأولى — خطوطها الدفاعية هي عند الجانب الشرقي من وادٍ هناك واقع بين بحيرة جكمجه وبحيرة ترقوس، والمسافة بين البحيرتين ٢٥ كيلو مترًا، وأعلى نقطة من الوادي واقعة عند قرية اسمها بالتركية طاغ يكي كوى. والوادي يحتوي على منطقتين من المستنقعات.
ولما نشبت الحرب الروسية العثمانية حصنت الدولة تلك الخطوط بعض التحصين، ثم زادتها تحصينًا بعد سنة ١٨٧٨ تحت مراقبة بلوم باشا، وأهم خط منها يجاور ربوة يبلغ ارتفاعها عن البحر ٢٠٠ متر، ويمتد من شرقي بحيرة جكمجه إلى جهة قره برون شرقي بحيرة ترقوس عند البحر الأسود.
وفي سنة ١٨٨٣ طلبت الحكومة العثمانية إلى الجنرال بريالمون أن يرسم خطة دفاعية دائمة للأستانة، فنصح لها بأن تحوِّل خمسة حصون صغيرة إلى حصون حديثة هناك، على أن قلة المال حالت دون العمل بنصيحته، فبقيت حصون جتالجه كما كانت. وما اهتمت الحكومة العثمانية بها اهتمامًا صحيحًا إلا في النصف الثاني من شهر أكتوبر أي بعد إعلان الحرب، فنُصبت المدافع وحُفرت الخنادق بين الحصون، على أن مدافع الحصار كانت قليلة.
وقبل وصول الجيش البلغاري رتب ناظم باشا الفيالق على تلك الخطوط، فوضع الفيلق الأول في جهة أحمد باشا وهي أقل استهدافًا من سواها لنيران العدو، ووضع الفيلق الثاني في الجهة الممتدة من أحمد باشا إلى البحر الأسود، وأوقف الفيلق الثالث أي فيلق محمود مختار باشا في أشد المواقع خطرًا، وأبقى الفيلق الرابع احتياطيًّا وراء الفيلق الثاني، وترك الرديف الاحتياطي وراء الفيلقين الثالث والأول، أما المعسكر العام فكان في خادم كوى.
•••
نلتفت الآن إلى البلغاريين، فإنهم بعد ما وقفوا إلى ٦ نوفمبر عمدوا إلى التقدم نحو جتالجه، فزحف جيشهم الثالث إلى جركس كوى وسترانجه، وتقدم جيشهم الأول من الجهة اليمنى وبلغ قلبه جورلو، وسارت بعض فصائل إلى جهة بحر مرمرة لتحتل جهات رودوستو، وكانت رودوستو مستودعًا لمقدار عظيم من المؤن والذخائر وقاعدة لغذاء الجيش العثماني في تراقيه، وكانت البوارج مسعودية وحميدية وعصر توفيق تحميها مع طابور من الجنود، وما وصلت طلائع البلغاريين في التاسع من أكتوبر حتى أخذ العثمانيون يستعدون لنقل مؤنهم وذخائرهم، ولما هجمت القوة البلغارية عليها في ١٠ نوفمبر كانت منقولة إلى البحر، ولم يتمكن العثمانيون من الدفاع قبل نقلها إلا بفضل بطاريات البوارج المذكورة، ولم يقدر البلغاريون على دخولها إلا في ١١ أكتوبر أي بعد أن تركها العثمانيون وأخذوا ما كان فيها.
وفي ذلك الوقت نفسه كانت قوة بلغارية زاحفة على نهر مريج، فاحتلت ديمتوقه وصوفيلو.
على أن الجنود العثمانية لم تحاول أن توقف الجنود البلغارية في جهة من تلك الجهات، وما توالت المناوشات بين طلائع العدوين إلا منذ ١٢ أكتوبر بعد أن احتل البلغاريون سيلوري، ليدفعوا فيها عن ميمنة جيشهم إذا تمكن العثمانيون من إنزال قوة عن طريق البحر.
ثم قضى البلغاريون أيام ١٤ و١٥ و١٦ نوفمبر في استطلاع طلع العثمانيين وتعرُّف مواقعهم، ومواضع مدافعهم، والأماكن التي يحسن فيها نصب المدافع البلغارية، وسائر ما يجب العلم به قبل المعركة. ثم عزم أركان الحرب أن يجعلوا هجومهم من جهتين؛ إحداهما: جنوبية، والثانية: شمالية. وكانت المواقع التي اتخذها البلغاريون تعلو مواقع العثمانيين بنحو مائة متر، فتمكنهم من رؤية ما يجري في الصفوف العثمانية، ولكن المسافة كانت واسعة بينهم في بعض الأنحاء.
وبينما كان الجيشان واقفين على تلك الحال ومستعدين للقتال كانت وزارة كامل باشا تسعى في عقد هدنة، فأمرت القائد العثماني العام بأن يُرسل مندوبًا يطلبها من قائد الجيش البلغاري. ولما وصل المندوب إلى معسكر البلغاريين أجاب قائدهم بأن الأمر منوط بحكومته، فيجب أن تكون المفاوضة في هذا الشأن بين الأستانة وصوفيا، وربما كان إرسال هذا المندوب باعثًا على اعتقاد القواد البلغاريين أن الحكومة العثمانية ما أرسلته إلا لشدة اقتناعها بأن الجيش العثماني أضعف من أن يقاومهم، وأن هجمة قوية تكفي لتبديد شمله.
معركة ١٧ نوفمبر
ولما كان اليوم السادس عشر من نوفمبر تمت أهبة البلغاريين، وفي ١٧ منه تقدَّم قسم من الجيش البلغاري الأول، ونشب قتال شديد قاوم فيه العثمانيون مقاومة لم تكن في حسبان البلغاريين، ومما يدل على شدته في الجهة الشمالية أن البلغاريين غنموا عددًا من المدافع ثلاث مرات وخسروها ثلاثًا؛ لأنها كانت بلا خيل ولأن العثمانيين تفانوا في سبيل استبقائها. ثم غربت شمس ١٧ نوفمبر والعدوَّان في المواقع التي كانا فيها عند الصباح. وكان من أهم العوامل في صد هجوم البلغاريين مساعدة البارجتين مسعودية وبرباروسا من خليج جكمجه.
تلك نتيجة هجوم الجيش البلغاري الأول، أما الجيش البلغاري الثالث فقد كان هجومه أشد من هجوم الجيش الأول وأصابته خسارة عظيمة؛ لأن البطاريات العثمانية كما قال الكولونل بوكابيل: كانت سديدة الرماية. وحدث أن الفرقة البلغارية الثالثة وقعت بين نارين فكان هذا الخطاء وبالًا عليها. ولما رأى قائد الجيش المذكور أن جنوده لم تتقدم نهارًا إلى حيث أراد، أمر بعض فرقها بأن تثابر على الهجوم ليلًا، فاستولت على لازار كوى وما فيها من الخنادق العثمانية، ولكن محمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث اغتنم فرصة الضباب صباحًا فحمل عليهم حملة صادقة وطردهم من الخنادق، ولشؤم طالعهم في تلك الوقعة ظنتهم بطارياتهم من العثمانيين وأخذت ترميهم بالقنابل … فذعروا وتبعهم العثمانيون، لكنهم عادوا فضموا أطرافهم وجمعوا قواتهم.
أما خسارة البلغاريين فيقول الكولونل بوكابيل: إنها بلغت في اليوم المذكور ١٠٠٠٠ رجل بين قتيل وجريح، وأما خسارة العثمانيين فقد كانت عظيمة إلا أنها أقل من خسارتهم، والمستفاد من أقوال الاختصاصيين عن تلك الوقعة أن البلغاريين لم يكونوا راغبين في هجمة عامة فاصلة، بدليل أن جانبًا من قواتهم لم يقتحم نار القتال، بل أرادوا أن يعرفوا مبلغ القوة العثمانية فتحول عملهم إلى معركة دموية كبيرة عرفوا منها أن الجيش العثماني المرابط هناك لا يسهل قهره. وكانوا يعلمون فوق ذاك كله من الوجهة السياسية أنهم وإن دخلوا الأستانة لا يستطيعون البقاء فيها؛ لأن الدول حتى روسيا حامية الصقالبة تضطرهم حينئذٍ إلى تركها، فعلامَ إذن يُفنون معظم جيشهم عند بابها؟! أجل إن أخذها بالسيف يُسَهِّل عليهم اشتراط ما يريدون من شروط الصلح، ولكن ما يستفيدونه لا يُضاهي ما يخسرونه على افتراض أنهم يفلحون.
وزد على ذاك كله أن المفاوضات في شأن الهدنة كانت جارية بين الأستانة وصوفيا، فقد روى رئيس تحرير الماتين إن كامل باشا كتب إلى ملك البلغار نفسه في هذا الشأن، فليس من الحكمة ولا من أصالة الرأي أن يواصلوا القتال ما دامت يد السياسة تعمل على إغماد السيف.
لتلك الاعتبارات ولعلمهم في يومي ١٧ و١٨ نوفمبر أن الجيش العثماني الذي قابلهم في جتالجه هو غير الجيش الذي قاتلوه وقهروه في قرق كليسا ولوله بورغاز، ولكون طبقة ١٩١٢-١٩١٣ من جنودهم لم تصل ولم يكونوا ينتظرون وصولها قبل أواخر نوفمبر؛ قرروا أن يتقهقروا إلى مواقع تبعد عن مواقع العثمانيين مسافات تختلف بين ٥ و٧ كيلومترات على ما جاء في كتاب الكولونل بوكابيل، وكان تقهقرهم على مهل في ١٩ و٢٠ و٢١ من نوفمبر تحت حماية مدافعهم ومؤخرتهم، وكان العثمانيون يلاحقونهم ويناوشون الفرق المتأخرة منهم، وقد دُهش قواد الجيش العثماني من هذا التقهقر؛ لأنهم كانوا يتوقعون هجمات ترخص فيها الأرواح ولا سيما في جهة الفيلق العثماني الثالث. وكان ناظم باشا القائد العام برغم هذا النجاح يهتم كل الاهتمام بإنشاء خطين جديدين للدفاع وراء جتالجه؛ لأن ثقته بالنجاح النهائي لم تكن قوية راسخة.
(٤-٨) جرح محمود مختار باشا في جتالجه
سرت مع محمود مختار باشا وكمال بك وكاظم بك وصلاح الدين بك وناظم بك قاصدين الخط الأول؛ لأن الباشا أراد أن يرى بعينه طريقة تنظيم الدفاع، وكان الرصاص يصفر فوق رءوسنا واتفق أنَّا رأينا بعض أفراد متقهقرين فدفعناهم إلى الأمام، ثم تقدمنا عدْوًا على جيادنا وصفير الرصاص لا ينقطع فوق رءوسنا حتى وصلنا إلى مأمن عند الحصون. وإنا لواقفون هناك إذا بعددٍ من الجنود المشاة نهضوا واقفين حولنا فصاح فينا ناظم بك «البلغار البلغار»، فلحظتُ القبعات الروسية على مسافة عشرين مترًا منَّا، ثم وقف ضابط بلغاري وقال: «مكانكم …» وكان قريبًا منِّي إلى حدٍّ أني أستطيع معرفته إذا وقف اليوم أمامي، فأدرتُ عنان حصاني ورأيتُ محمود مختار باشا وكمال بك يعدوان إلى الجهة اليسرى، وصلاح الدين يعدو أمامي وكاظم بك ورائي، وبعد قليل وقع صلاح الدين عن جواده فظننت أنه سقط قتيلًا، ثم سمعتُ وقع جثمان فالتفتُ فإذا كاظم بك على الأرض، ثم حولت نظري إلى الباشا فرأيت جواده مقتولًا وهو يمشي كالأعرج، ولم يكن في وسعي أن أمدَ له يدي؛ لأني كنت مستهدفًا كل الاستهداف للعدو من الجهة اليمنى، وفي تلك الساعة خرقت رصاصة «قلبقي» العثماني، ثم غاب الباشا عن نظري فذهبتُ عدْوًا إلى طابور رئيسه يفهم الألمانية، فكلفته أن يذهب إلى الجهة التي كان فيها الباشا ليأتي به، وإذا كان قتيلًا فليتلقف جثته من العدو ولا يرجع إلا بها، فوضعت الجنود حرابها في بندقياتها وهجمت مسرعة، ولكني لم أجد للباشا أثرًا، وبعد البحث عنه نحو نصف ساعة وجدته على الطريق المؤدي من الحصن إلى المستشفى النقَّال، فلا تسل عن سروري برؤية رئيسي فإني لشدة فرحي وقفتُ أنظر إليه ولا أنبس ببنت شفة، وأظنه أدرك معني نظرتي ثم تصافحنا بلا كلام، وكان مُصابًا بثلاث رصاصات وعلى رأسه «قلبق» طبيب وعلى كتفيه عباءة جندي، وعلى وجهه دلائل الألم الشديد، وعلمت أنه لما أصيب بالرصاصة الأولى بعد قتل حصانه لم ينقطع عن السير، ولكنه لما أصيب بالرصاصة الثانية رمى بنفسه إلى الأرض، ولبث حينًا طويلًا تحت نيران العدو، ثم تقدم إليه جندي رثُّ الملبس فطيب نفسه وحمله على ظهره مسافة ٥٠٠ متر، ثم ألقاه في محل أمين وراء ربوة، وبينما كان في طريق الأستانة التقى بعزت باشا رئيس أركان الحرب فانحنى عزت باشا وقبَّله في جبينه، ولما وصل إلى المعسكر العام استقبله ناظم باشا والضباط الذين كانوا هناك، ثم نُقل إلى الأستانة حيث كان ينتظره ٢٠٠ من أصدقائه، فعملت له عملية في المستشفى الألماني أسفرت عن النجاح.
(٤-٩) الضباط الألمانيون في جتالجه وغيرها
وقبيل إعلان الحرب عقد أركان الجيش العثماني عدة اجتماعات حضرها ضباط ألمانيون، وبسطوا آراءهم في شأن الخطة الحربية التي يحسن بتركيا اتِّبَاعِها.
وإذا أضفت إلى هذا كله أن المدافع والبنادق التي استخدمها الجيش العثماني كانت ألمانية، وأن المارشال فوندر غولتز كان رئيس أساتذة الجيش العثماني، ظهر لك السبب الذي من أجله قام كثير من الجرائد ولا سيما الجرائد الفرنساوية، يعزو إلى الألمانيين جانبًا من تبعة الفشل الفاضح الذي أصاب الجيش العثماني.
على أن الألمانيين يقولون: «إنَّا وضعنا النظريات وتركنا العمليات لأركان حرب الجيش العثماني ولحكومته، فما ذنبنا مثلًا إذا كان ضباط تركيا لم يتبعوا أولًا خطة الدفاع كما رسمناها لهم؟ وما ذنب بنادقنا إذا كان الرديف العثماني لا يعرف كيف يستخدمها؟ وأي عيب يلحق بمدافعنا إذا كانت الطرق غير صالحة، فلا يمكن تسيير البطاريات فيها، وإذا كانت ذخيرتها قليلة؟ إن إهمال العثمانيين هو الذي جرَّ عليهم البلاء ونكبهم بأعظم الإرزاء».
تلك خلاصة ما يرد به الألمانيون على خصومهم، وهو لا يخلو من نور الحقيقة، ولكن هناك أمرًا لا ريب فيه: وهو أن المدافع الفرنساوية فعلت فعلًا هائلًا، وأن عددًا غير قليل من القنابل الألمانية لم ينفجر، وأن القنابل التي كان يطلقها المدفع الفرنساوي المعروف بمدفع ٧٥ في الدقيقة ظهرت أشد فعلًا من مدفع كروب الذي يضارعه في الحجم، كما قال الاختصاصيون الذين حضروا المعارك الكبرى ومنهم كبار قواد الصرب والبلغار واليونان.