حصار أدرنه وسقوطها
نتكلم هنا على حصار أدرنه ثم سقوطها بعد الهدنة الأولى، فنختم به شرح الأعمال الحربية التي جرت في تراقيه بين البلغاريين والعثمانيين، ثم ننتقل إلى معارك الصربيين والعثمانيين طبقًا للخطة التي رسمناها في تقسيم هذا الكتاب.
(١) ما هي أدرنه؟
أدرنه مدينة قائمة عند ملتقى نهري مريج وطونجه شمالًا ونهر أدرا يمينًا، طوَّقها بلوم باشا بستة وعشرين حصنًا صغيرًا أيام الحرب الروسية العثمانية، وهي — أي تلك الحصون — منشأة على مرتفعات تشرف من الجهتين الشرقية والغربية على مدينة أدرنه نفسها، وتتصل بموضع الخط الحديدي الممتد من الجهة الجنوبية الغربية، ولكنها لا تعد القسم الأهم من القلعة في هذا الوقت.
ولما كانت سنة ١٩٠٣ اتسعت دائرة الموقع اتساعًا كبيرًا، وأنشأت له الحكومة العثمانية حصونًا حديثة محمية ذات أبراج صغيرة في الجهات الشرقية والشمالية والغربية أي أشد الجهات استهدافًا للخطر، وهي تسمى قرتال تبه، وقزال تبه، وشيطان تبه، وطاش تبه، وقوش تبه.
وصُرفت عناية خاصة إلى المسافة التي بين قرتال تبه، وقزال تبه، فحُفرت هناك سلسلة من الخنادق، وأنشأت جملة مواقع دفاعية جعلتها ذات منعة كبيرة.
ولما اسوَدَّ وجه السياسة قبيل الحرب، وجهت الحكومة العثمانية همةً جديدةً إلى حصون أدرنه، فقدمت لها ما كان يعوزها لإتمام الأهبة في الخطوط الأولى وحفرت خنادق جديدة لإقامة المشاة، ونصبت مدافع مغمورة بالتراب على الطريقة الحديثة، ولما هجم الجنرال إيفانوف هجمته الأولى بعد إعلان الحرب رأى مقاومة شديدة من الخطوط الدفاعية الأولى، وظهر للبلغار أنها لا تؤخذ إلا بالحصار، ومما يجب ذكره فوق ما تقدم أن الأراضي الواقعة وراء قره أغاج من الجهة الجنوبية الغربية هي على مستوى القياس المتوسط لمياه مريج، وأن هناك مستنقعات مغطاة بالأعشاب، فإذا هطلت الأمطار في شهري أكتوبر ونوفمبر حولتها إلى بحيرات صعبة المجاز، فكانت للعثمانيين هناك معونة كبيرة من الطبيعة نفسها.
وصل البلغاريون فاختاروا أن يعسكروا أمام الجهات التي تفوق سواها قوةً وتحصنًا؛ لأن أضعف جهة — وهي الواقعة بين قرتال تبه وقوش تبه — كانت بعيدة عن محطة السكة الحديد، فلم يكن في وسع البلغاريين أن ينقلوا إليها المدافع الكبيرة والذخائر وغيرها. وزد على هذا كله أن جميع الأراضي لا تصلح لنصب مدافع الحصار، فلهذين الاعتبارين اختار الجنرال إيفانوف قائد الجيش البلغاري حول أدرنه أن يتجه بمعظم قوته إلى الجهات التي ما بين مريج وطونجه، وإن كانت الحصون العثمانية هناك منيعة جدًّا.
أما القوات البلغارية التي كانت حول أدرنه فهي ٣٠ مدفعًا (١٢سنتيمترًا)، و٤١ مدفعًا قصيرًا (١٥سنتيمترًا)، و٤٠ مدفعًا كبيرًا من العيار ذاته وسبع بطاريات من طراز ٧٥ مصنوعة على قواعد خاصة، غير أن الكولونل بوكابيل يقول: «إن بعض تلك المدافع كان قديمًا، أما عدد الجنود فقد كان يختلف بين حين وآخر؛ لأن أركان حرب الجيش البلغاري كانوا يبدلون ويزيدون وينقصون حسب مقتضى الحال، ولما قهر الصربيون الجيش العثماني الغربي في قومانوا (كومانوفو) أرسلوا إلى جهة أدرنه معظم الجيش الذي كان يقوده الجنرال ستفانوفتش، فسافرت حينئذ فرقتان بلغاريتان إلى جتالجه، وروى الموسيو دي زيغو نزاك الذي كان مع الجيش البلغاري أن الجنود المحاصرة لأدرنه لم تبلغ يومًا مائة وخمسين ألفًا، وأن منظر الرديف البلغاري بدا له غريبًا، فكان يبصر الشاب بجانب الكهل، ويجد كلا منهم على شكل، بعضهم يلبس الملابس الوطنية، وبعضٌ يلبس عباءة من جلود الخراف، وآخر يتشح ببرنس من الصوف الأسمر أو الرمادي، وغيرهُ متأنق في لبسه.»
على أن روحًا واحدة وغرضًا واحدًا كانا يجعلانهم جيشًا …
أما القوة العثمانية فقد كانت في أوائل الحرب نحو خمسين ألف رجل، ثم انضم إليها عدد من الجنود، واستخدم شكري باشا قائد الموقع كل رجل عثماني صالح للخدمة في المدينة نفسها، قال خليل بك والي ولاية أدرنه في مقال نشره بعد التسليم: «كان في قلاع أدرنه خمسة وسبعون ألفًا من الجنود، وبلغ عدد الأهالي مع الذين هاجروا إليها ١٢٠ ألفًا، وقد لبثنا نعول هؤلاء كلهم إلى أواخر أيام الحصار، وكان في القرى والدساكر المجاورة للمدينة قدرٌ كبيرٌ من المؤن والذخائر، ولكن هجوم العدو علينا منعنا من نقلها، فاستولى هو عليها وأطعم جنوده من تلك المؤن زمنًا طويلًا.»
وكان في القلعة ذاتها عدد كبير من الأبقار والأغنام فأردنا أن نسوق جانبًا منها إلى الأنحاء الجنوبية، فاستولت الجنود والعصابات البلغارية على أكثره عند نقله.
وكانت القوات العثمانية الموكلة بالدفاع والهجوم مؤلفة من الفرقة النظامية العاشرة تحت قيادة حسام الدين باشا، والفرقة النظامية الحادية عشرة بقيادة المير لوا إبراهيم باشا، والفرقة الثانية من رديف أدرنه بقيادة المير لوا علي ناظم باشا، وفرقة رديف بابا اسكي الثانية بقيادة الميرالاي نوري بك، وفرقة النشانجية وفرقة كرملنجه بقيادة الميرالاي جلال بك، وطوبجية المواقع.
ثم قال عن المئونة: «كان في القلاع عشرة آلاف كيس من الدقيق، واتفق أن موسم الحصاد كان في زمن التعبئة وأن أصحابه لم يتمكنوا بسببها من إرسال حبوبهم إلى الخارج، فاستفدنا منها وجمعنا عشور مدينة أدرنه وجعلناها وديعة في ذمة الحكومة.»
على أن الملح كان قليلًا في بدء الحصار، ولم يكن في المخازن العسكرية شيءٌ منه، فلما بلغني هذا الخبر طلبت منه مقدارًا من دده أغاج، ولكن الخطوط الحديدية كانت مشغولة بنقل الجنود وأثقالها، ولم أنَل بعد الجهد إلا تسع عربات من الملح باسم الشركة، وما مضى شهران ونصف أو ثلاثة من ابتداء الحصار حتى نفد الملح.
وكان ستون ألف صيفحة من الجبن في مدينة أدرنه، فلما علم أصحابها بخبر تعبئة الجيش أرادوا تهريبها، ثم عرضوا على الحكومة أن تساعدهم على نقلها إلى الخارج مقابل خمسة آلاف أو ستة آلاف من الليرات، ولكن حاجتنا إلى المئونة كالدقيق والأرز والفاصوليا والسكر إلخ، وعجزنا عن استحضارها من دده أغاج أو الأستانة، وملاحظة أن ذاك المقدار من الجبن ينفع الجنود والأهالي معًا؛ كل ذلك جعلني أمنعهم من نقل أية كمية من الجبن الموجود، ولقد صح ظني فإن الجبن كان إدام الجنود والأهالي بعد أن نفذ الملح، فكانوا يأكلونه مع الخبز الحلو فيسدُّ بعض الحاجة. أما المرضى والجرحى فقد كنا ادخرنا لهم مقدارًا من الملح كفاهم إلى آخر أيام الحصار.
ولما صدَّ البلغاريون الجنود العثمانية التي كانت في مصطفى باشا وغيرها من الجهات الواقعة خارج القلاع، أصدر شكري باشا منشورًا قال فيه: إن الجنود العثمانية ستقوم بواجب الدفاع حتى النهاية، وستُظهر من الحزم والثبات والشجاعة ما أظهره أبطال بلفنا في الحرب الروسية العثمانية. ثم أوصى الأهالي بالتزام السكون، وطلب إلى السكان الذين لا يملكون مئونةً تكفيهم نحو شهرين أن يبرحوا المدينة، على أنهم لم يكونوا يستطيعون السفر جمهورًا؛ لأن الخطوط الحديدية كانت مشغولة، فبقي في أدرنه أكثر من ثلثي الأهالي، وبلغ عدد الذين خرجوا من أسر الضباط وغيرهم نحو اثني عشر ألفًا على رواية والي أدرنه نفسه.
غير أنه برغم ذاك التدبير أخذ الأهالي يحتاجون إلى الخبز في أواخر أيام الحصار كما روى قنصل فرنسا. ويظهر من حديث والي أدرنه أن هناك أناسًا كانوا يخبئون المئونة.
وصفوة ما يقال من هذا القبيل: إن أهالي أدرنه إذا كانوا لم ينجوا من المضايقة والمخاوف الشديدة بسبب إطلاق المدافع واحتراق المنازل وتهديم بعضها، فإنهم لم يُقاسوا ما قاساه الباريسيون الذين اضطروا إلى أكل الفئران في حرب السبعين.
أما الوجهة الحربية فإن المراسلين وغيرهم أعجبوا بها وعدُّوها مفخرة لشكري باشا ورجاله، وأول ما نذكره للدلالة على دفاع أولئك الشجعان القساور شهادة ضابط صربي لمراسل الديلي تلغراف في بلغراد — والفضل ما شهدت به الأعداء — قال ذاك الضباط: إن شكري باشا لا يعرف التعب، ولا يترك للمحاصرين ساعة يستريحون فيها، بل كان سحابة الليل والنهار يرقب حركاتنا وسكناتنا حتى اعتقدنا نحن الصربيين والبلغاريين أن الرجل بطل كبير ووطني صادق، وصرنا نحترمه ونقدر قدره بعد ما رأينا من أفعاله، ولقد هرب في الأسبوع الماضي مائتان من الحامية وسلموا إلينا في الجهة الشرقية، فلما سألناهم أطنبوا في مدح شكري باشا والثناء على همته وبسالته، وقالوا: إنه كان يقضي معظم وقته في جامع السلطان سليم ويراقب منه حركات الجنود البلغارية والصربية. ثم ختم الضابط الصربي حديثه قائلًا: «إن الدفاع عن أدرنه وأشقودره يُزين صفحة جميلة من صفحات التاريخ العسكري العثماني.»
وقال مراسل التيمس: «إن عظمة العثمانيين وعزة أنفسهم في الأوقات المحزنة، لم تبلغا في وقت من الأوقات الدرجة التي بلغتاها في أدرنه، وإن اصفرار وجوه الحامية، وملابسها البالية الممزقة لدليل على الشدة التي قاستها في أواخر أيام الحصار.»
وأنشأ المارشال فوندر غولتز مقالة دافع فيها عن شكري باشا وقال: «إن أدرنه شرفت العثمانية بقدر ما حطت كارثة قرق كليسا من شأنها، وهذا قولٌ يجب التصريح به لمن يهمهم أمر الوطن العثماني حتى يعلم أبناء العثمانية خاصة والناس عامة أن الجندي العثماني هو أقوى جنود الأرض طرًّا، بشرط أن ينال حقه من المأكل والمشرب والملبس والعدة الحربية، وها إن التاريخ يضم اليوم إلى صحائفه التي تكتب عن الحرب البلقانية صفحات الخطأ والانهزام الشائن الذي حدث في قرق كليسا، وصفحات الجوع وخلل إدارة الميرة في لوله بورغاز، ولا ينسى صفحات الفخر الكبير لقائد أدرنه وقائد بانيا، ولأسعد باشا الذي حارب تسع ساعات ونصفًا وهو لا يملك ذخيرة ولا ميرة، فإذا كانت المصائب تعلِّم الأمم وكان صحيحًا أن الأمة لا تصلح خللها إلا بعد كارثة شديدة، فإن الواجب على العثمانيين أن يعتبروا بما فات ليبرهنوا للعالم أنهم قريبون من الحياة الحقيقية.»
وقرأنا في الجرائد الفرنساوية التي صدرت في النصف الأول من شهر أبريل الماضي أن عددًا كبيرًا من الفرنساويين عقدوا اجتماعًا في باريس تحت رئاسة الموسيو بويش وزير الأشغال الأسبق، فألقى الأستاذ ألفريد دوران خطبة عن تركيا وحالتها، ثم طلب إلى الحاضرين أن يوافقوه على إرسال كلمة إعجاب لشكري باشا فوافقوه بإجماع الآراء بين الهتاف والتصفيق، وكلفوا السفير العثماني أن يبلغ شكري باشا إعجابهم وميلهم العظيمين «للبطل الذي يجب أن تكون شجاعته ومقاومته مثالًا لمن يشغفه حب الوطن في ساعة الخطر.»
وروت التان: أن البلغاريين أنفسهم لقبوه «بأسد أدرنه».
•••
حسبما تقدم من الشهادات الأجنبية، ويجدر بنا أن نذكر لخدمة التاريخ انتقادًا وُجه على ذاك البطل المقدام، وهو أنه لم يخرج أيام المعركة الفاصلة في لوله بورغاز، مع أن مثل هذا الخروج كان يمكنه أن يفيد الجيش العثماني فائدة كبيرة؛ لأن النصر بقي يترواح يومًا كاملًا بين البلغاريين والعثمانيين، وممن أشار إلى هذا الإحجام خليل بك والي أدرنه حيث قال: «إن القائد العام طلب من شكري باشا عند ابتداء معركة لوله بورغاز أن يعدَّ جيشًا ويخرج به من أدرنه ليقطع خط الرجعة على البلغاريين، فأبى شكري باشا لاعتقاده أن إنقاص الحامية يفيد العدو.»
ثم نقل خالد بك رواية لأحد أمراء البلغار قال فيها: «لقد خفنا وصول المدد من أدرنه، وأخذنا نستعد للتقهقر في لوله بورغاز، ولكنا أردنا أولًا أن نستطلع طلع الأتراك، ولما علمنا أنهم تركوا مواقعهم وأن أدرنه لم تُرسل إليهم نجدات عدنا إلى التقدم.»
على أن مراسل التيمس في تراقيه بعث بمقالة عن حصار أدرنه ذكر فيها أن شكري باشا لم يقصر في الخروج، وأنه لما فشل في الانضمام إلى الجيش بعد نشوب القتال في قرق كليسا، كان السبب في فشله انقطاع الأخبار لعدم وجود «قلم مخابرات»، فهو قصد إلى الجهة التي كان يظن العدو نازلًا بها فوجدها خالية فذهبت حركته أدراج الرياح، ثم خرج غير مرة قبل تشديد حلقة الحصار، وحدث عند تقهقر العثمانيين أنه خرج أيضًا وكاد الأعداء يدخلون القلاع من خلفه، ولكن رفعت باشا أدرك مقصدهم وجمع الطوبجية المسلحين بالقرابينات؛ (لأنه لم يكن يثق بالرديف)، وزحف بهم إلى الجهة التي تقدم منها البلغاريون، فانخدع هؤلاء بهجومه وفشلوا في اغتنام الفرصة، فتمكن عندئذ شكري باشا من الرجوع إلى مواقعه.
وكان البلغاريون يصرفون الجهد إلى إضعاف عزائم الحامية، فمن أعمالهم التي ذكرها والي أدرنه والموسيو جينيه قنصل فرنسا الذي كان محصورًا، أنهم أرسلوا طيارًا بعد فشل الجيش العثماني إلى ما فوق المدينة، فأخذ يرمي عليهم من الجو منشورات جاء فيها أن البلغاريين إنما يحاربون الحكومة العثمانية ولا يرتكبون عملًا ضد المسلمين، ولا يريدون سفك الدماء بل يرمون إلى غرض وحيد، هو توطيد أركان الأمن في البلقان، ثم ذكروا أن أربع دول أحاطت بالأملاك العثمانية في شبه جزيرة البلقان، وأن بابا اسكي ولوله بورغاز وديمتوقه واسكوب وبرشتينا وقومانوا (أي قومانوفو) والاصونا وغيرها من المدن العثمانية العظيمة أصبحت في أيديهم وتحت سلطانهم، وأن أدرنه حوصرت من كل جهة فصار من المستحيل إرسال المدد إليها من الأستانة، وإن أمام أدرنه ألف مدفع بلغاري، فإذا لم تسلم المدينة كان نصيبها الدمار والخراب.
ولما اطلع شكري باشا على تلك المنشورات أصدر منشورًا أظهر فيه قوة قلاع أدرنه وذكر جملة حوادث فظيعة منسوبة إلى البلغار.
ومنها؛ أنهم أرسلوا مندوبين إلى شكري باشا ليشرحوا له ما أصاب الدولة العثمانية، ويُظهروا أن كل مقاومة أصبحت عبثًا، وعرضوا عليه أن يخرجوا الحامية بسلاحها وشرفها العسكري، فأبلغهم أنه يرفض التسليم كل الرفض، وبقيت الحرب سجالًا فردت حامية أدرنه هجمتين عنيفتين وهجمات صغيرة لا تعد، وإذا صح ما رواه الكولونل بوكابيل فإنها خسرت منذ ابتداء الحصار إلى يوم الهدنة (التي أبلغ خبرها إلى الحامية في ٨ أو ٩ ديسمبر) ١٥٠٠٠ بين قتيل وجريح، وخسارة البلغاريين ١٠٠٠٠ رجل.
وفي اليوم العاشر من شهر ديسمبر اجتمع المندوبون البلغاريون والمندوبون العثمانيون واتفقوا على شروط الهدنة.
•••
وقالت جريدة لوكال انزيجر في وصف أدرنه بعد سقوطها: «أنها كانت هائجة مائجة، وكان البلغاريون والأروام يهجمون على منازل المسلمين فينهبون ويسلبون ويرمون من قاومهم بالرصاص، حتى كنت ترى جثث القتلى متراكمة في الشوارع. وذكر مراسل التيمس ما يدل على وقوع حوادث فظيعة بعد سقوط المدينة، ولكن النظام ما لبث أن توطد في أنحائها، ودخلها ملك البلغار فزار جامع السلطان سليم الشهير، وكان الأهالي البلغاريون والأروام واليهود يستقبلونه بالأعلام والرياحين، أما خسارة البلغاريين والصربيين في تلك الهجمات فيرى المراسلون الحربيون أنها بلغت نحو ١٥ ألف رجل على أقل تقدير. وأما خسارة العثمانيين فهي ما بين ٧ و١٠ آلاف، ومما يحسن بنا التنبيه إليه عند تقدير الخسارة أن البيان الرسمي الدقيق لكل معركة لم يتصل بنا حتى الآن، وأن القواد العثمانيين لم يهتموا بإحصاء قتلى الجنود (كما روى الماجور هوشوختر الألماني الذي كان معهم)، بل كانوا يحصون الضباط القتلى فقط، ولعلهم ينشرون التفصيل الدقيق بعد الصلح، والراجح أن الاختصاصيين سينشئون مؤلفاتٍ خاصة مفصلة من الوجه الحربي لحصار أدرنه كما أنشئوا لحصار بلفنا.»
أما تأثير سقوط أدرنه فقد كان عظيمًا أليمًا في عاصمة الدولة واهتمت به الأندية السياسية؛ لأن الدول خافت أن يُرسل البلغاريون مائة ألف جندي من جهات أدرنه إلى جتالجه، وأن يصروا على دخول الأستانة ولو عظمت خسارتهم فينفتح حينئذ باب مسألة آسيا العثمانية التي تريد الدول تأجيلها، وكانت روسيا نفسها تأبى أن يقف البلغاريون أمام آيا صوفيا …
(٢) تحقيق وزير
كان الفكر الشائع أن أدرنه التي أشرف على تحصينها جماعة من أكابر الاختصاصيين الألمانيين فحولوها إلى موقعٍ حديثٍ تحيط به الحصون المحمية المرصوصة، لا يمكن أن تؤخذ إلا بالجوع أو بحصارٍ طويل الأمد، لكن هذا الرأي كان بعيدًا عن الصواب كما تحققْتُ بعد أن سمح لي الجنرال إيفانوف بزيارة جميع خطوط التحصين والوقوف على ما قلَّ وجلَّ.
إن أدرنه لديها مرتفعات متوسطة على مسافة خمسة أو ستة كيلومترات، ومنظرها يدلُّ على أنها منيعة وأن الدفاع عنها سهل؛ لعدم وجود غابات أو جدران وما شاكلها من الأشياء التي تحول دون الاستطلاع، ولما كانت سنة ١٩١١ زادتها الحكومة العثمانية تحصينًا فأنشأت السكك الحديدية الضيقة بين الحصون كما ترى في المواقع الفرنساوية الشرقية، ونصبت فيها المدافع الضخمة وأعدت لها مقدارًا كافيًا من الذخيرة، ووضعت في الأقسام التي رأتها أشد استهدافًا من غيرها بطاريات محمية بدلًا من البطاريات المكشوفة التي يسهل إسكاتها، ثم وضعت الأسلاك ذات الأشواك أمام الحصون فأصبح أخذها عنوةً من أصعب الأعمال، ولا سيما إذا كان فيها جنود راسخو العزيمة، وأحضرت منيرات كهربائية (بروجكتور) للاستطلاع.
ولكن الناظر إليها بعين الناقد يجد مع ذاك كله مواضع للضعف في تلك القلاع، فإنك لا تجد فيها خنادق منحدرة بالمعنى الصحيح لوقاية الحصون من الهجمات، ثم ترى بجانب البطاريات الحديثة حصونًا قديمة ذات شأن عظيم متداعية للخراب، كما ترى في أحدث الحصون ما يدل على توفير لا معنى له في رص المواقع المعرضة للقنابل.
أما عدد الحامية فقد كان سبعين ألف رجل، ولكن قوتها المعنوية وتعليمها الحربي لم يكونا على غاية ما يرام، ونحن مع اعترافنا بشجاعة قائدها شكرى باشا وأداء ما يستحقه من الإكرام، نرى أن الجنود التي كانت تحت إمرته لم يكن عندها من كنوز البراعة والنشاط ما كان للحامية التي تولى قيادتها عثمان باشا في بلفنا، فإن رجال بلفنا دخلوها مدينةً مفتوحةً، فما لبثوا أن حولوها إلى موقعٍ حصينٍ أوقف هجوم الجيش الروسي واستوقف معظمه حول موقعها، أما حامية أدرنه فلم تزد شيئًا على معدات الدفاع التي كانت قبل الحرب بل وقفت جامدة تنتظر ما تأتيها به يد القدر، في حين أن البلغاريين والصربيين كانوا يشتغلون بلا انقطاع في الأشهر الخمسة، فحفروا الخنادق وأنشئوا المراصد الخفية وبنوا مراكز للدفاع.
أما أطوار الحصار فهي كما عرف المُطالع تدل على أن البلغاريين اتبعوا القواعد الحربية الصحيحة، فإنهم اهتموا أولًا بقهر معظم القوات العثمانية في تراقيه، واكتفوا بأن يرسلوا إلى جهة أدرنه فرقتين ربما كان عدد رجالهما أقل من عدد الحامية، ثم جاءتهم فرقة ثالثة وفرقتان من الصربيين فضيقوا حلقة الحصار شيئًا فشيئًا بعد عدة معارك. وفي أواخر شهر أكتوبر طلب الجنرال إيفانوف إلى القيادة العامة أن تأذن له في هجمة عامة على مواقع أدرنه وكرر هذا الطلب، غير أن أركان الحرب رفضوا طلبه؛ لأنهم لم يرغبوا في شدة المخاطرة، بل رأوا من الصواب والحكمة أن يصبروا حتى تسقط المدينة بالجوع أو بشدة الهلع من القنابل المتساقطة على أحياء المدينة.
ولما عقدت الهدنة انقطع البلغاريون عن ضرب المدينة ثم عادوا إلى ضربها بشدة هائلة بعد إلغاء الهدنة.
ولكن عزيمة شكري باشا لم تهن بديمة القنابل أو غيرها، فلما رأى البلغاريون أن حالتهم لا تمكنهم من إقامة حصار منظم يقتضي إنشاء مواقع ومستودع أسلحة وطرقًا خفية وعددًا كبيرًا من الجنود الفعلة، ورأوا من جهة أخرى أن المواصلات لا تسمح لهم بمثل تلك الأعمال الكبيرة الطويلة، قرروا أن يهجموا على أدرنه ويأخذوها عنوةً وقسرًا كما طلب الجنرال إيفانوف. وفي ٢٣ مارس صدر إليه الأمر بالهجوم الشديد على المواقع الشرقية الشمالية، وفي ٢٤ منهُ أخذت المدافع البلغارية كلها تحول نيرانها إلى الجهة المعينة للهجوم، فأجابتها البطاريات العثمانية، ولكن النيران البلغارية الهائلة أسكتتها بعد مدة، وما اسودَّ جنح الليل حتى هجم البلغاريون بالسلاح الأبيض فاستولوا على المواقع العثمانية، ثم واصلوا الهجوم — كما شرحنا قبلًا — حتى تم لهم النصر وأسروا الحامية وغنموا مدافعها وكل ما كان لديها من المئونة.
أما النتيجة التي استخلصها الموسيو ميسيمي فهي: «أنه يعتقد مع جماعة من كبار الضباط البلغاريين أن المواقع الحصينة تكون مهددة بخطر السقوط إذا وُجِّهت المدافع الفاتكة إلى نقطة واحدة منها، فأودت بقوتها، ثم هجمت عليها تحت حماية المدافع جنودٌ باسلةٌ تريد النصر ولا تخشى الموت في سبيله، وأن البلغاريين لم يلبثوا خمسة أشهر أمام أدرنه؛ إلا لأنهم كانوا مضطرين إلى تسيير القسم الأعظم من جيشهم إلى جهات أخرى؛ ولأن مواصلاتهم ومعداتهم كانت غير كافية، وليس هذا حال دول أوروبية عظيمة، فإنها إذا كانت محاصرةً تتذرع بجميع الذرائع العلمية الحديثة لهدم قلاع عدوها، وإذا كانت محصورةً فلا تدع في مواقعها وجوه الضعف التي ظهرت في بعض جهات أدرنه.»