معارك الجيش الصربي والجيش العثماني الغربي
صدر أمر الدولة الصربية بتعبئة جيشها في أول أكتوبر فقابلته أمتها بالتحمس الشديد، وتولى الملك القيادة العامة وعين الجنرال بوتنيك رئيس أركان حرب، ثم قسم القوات الصربية إلى أربعة جيوش، وسيَّر ثلاثة منها إلى جهات اسكوب وأشتيب حيث معظم الجيش العثماني الملقب بالغربي، وكان لواء الجيش الأول؛ معقودًا للأمير إسكندر ولي عهد الصرب، والثاني: تحت قيادة الجنرال ستفانوفتش، والثالث؛ تحت قيادة الجنرال جانكوفتش، أما الرابع؛ فكان مستقلًّا عن الثلاثة المذكورة، وحُشد شمالي سنجق يني بازار.
وأما القوات العثمانية التي أعدت لمقابلة الجيوش الصربية الأربعة، فقد جُعلت تحت قيادة محمد رضا باشا، وكانت مؤلفة من ثلاثة فيالق وهي الخامس والسادس والسابع وكل واحد منها مؤلف من ثلاث فرق، وكان هناك ثلاث فرق مستقلة وهي الفرقة الثانية والعشرون في قوجانه، والثالثة والعشرون في يانيه، والرابعة والعشرون في أشقودره، ثم أُضيف إلى القوات المذكورة فرقتان من الرديف المحلِّي، ثم فرقة واحدة من رديف الأناضول بعد فشل تحسين باشا كما سترى.
ولما كان الرديف الألباني وخصوصًا الرديف المسيحي من بلغاريين وصربيين وغيرهم لم يظهروا إخلاصًا راسخًا، فقد رجح الكولونل بوكابيل أن عدد الجنود العثمانية لم يبلغ أمام القوات الصربية ما قُدر له على الورق الرسمي.
•••
وقد أوقف علي رضا باشا قواته مقسمةً إلى أربعة أقسام لدى الصربيين وما ترك أمام اليونانيين والجبليين إلا الفرق الثلاث المستقلة التي تقدم ذكرها، وثلاث فرق أخرى من الرديف، وكان قلب الجيش العثماني تحت إمرة زكي باشا وموقعه بين أشتيب وأسكوب، والميسرة تحت قيادة توفيق باشا وموقعها برشتينه، والميمنة بقيادة قره سعيد باشا وموقعها بين أشتيب وسترومجه.
وكان وراء تلك القوات بعض الفرق الاحتياطية من الرديف.
(١) معركة قومونوا أو كومانوفو وهي الفاصلة
- الجيش الثالث: سار يقصد ميسرة الجيش العثماني وبدأ القتال بين الفريقين في ١٩ أكتوبر، وما كان مساء اليوم التالي حتي أحرز الصربيون النصر وأسروا طابورًا عثمانيًّا وغنموا مقدارًا كبيرًا من العِدد والذخائر، وفي ٢١ منه سارت مقدمة الجيش الصربي قاصدة سهل قوصوه، وفي ٢٢ منه قامت معركة شديدة في السهل المذكور بين الصربيين ومعظم قوة توفيق باشا، وكانت نتيجتها فشل العثمانيين أيضًا فتقهقروا جنوبًا، واحتل أعداؤهم مواقعهم.
- الجيش الثاني: زحف هذا الجيش قسمين فلم يجد أمامه مقاومة جديرة بالذكر، ولما هجم أحد قسميه على بلدة كريفا استولى الرعب على الأهالي ولا سيما المسلمين، فهربوا وتركوا أولادهم على طريق كومانوفو. وما كان اليوم الثاني والعشرون من أكتوبر حتى أصبح هذا الجيش على ثلاثين كيلومترًا أو أقل من مدينة كومانوفو التي ستحدث فيها الوقعة الفاصلة.
- الجيش الأول: قلنا إن هذا الجيش لم يتحرك إلا في ٢٠ أكتوبر أي بعد إعلان الحرب بيومين، وقد التقى بمقدمة القوة العثمانية فصدها إلى طبانوفجه، وما كان اليوم الثاني والعشرون من أكتوبر حتى بدأ الصدام على مسافة كيلومترات قليلة شمالي مدينة كومانوفو، على أن المعركة الكبرى الفاصلة لم تبتدئ إلا في الثالث والعشرين، وهاك تفصيلها: لما كانت الساعة الثانية والنصف بعد ظهر اليوم المذكور أصدر زكي باشا أمره بالهجوم على الفيلق الصربي الأول الذي كان على بضعة كيلومترات شمالي المدينة، وكان الجو قاتمًا غائمًا والمطر يهطل مدرارًا، فقاوم الصربيون العثمانيين حتى المساء، ولكنهم لم ينالوا مأربًا ولم يشوموا للنجاح برقًا، ولما أزفت الساعة الواحدة بعد منتصف ليل ٢٤ أكتوبر حملوا حملة شديدة تحت جنح الظلام، فاستولوا على المواقع التي يصلح منها الهجوم العام ونصبوا مدافعهم على المرتفعات، ثم أتاهم جانب من الجيش الصربي الثاني فوقف بمدافعه عند الميسرة الصربية، ثم أخذ الصربيون يواصلون الهجمات على مواقع العثمانيين في الجهات الشمالية والشمالية الشرقية من مدينة كومانوفو، وكانوا في كل هجمة يخسرون عددًا كثيرًا من جنودهم حتى زعزعوا حزم الفيلق العثماني السابع، ولا سيما بعد أن وصلت القوة التي أرسلها الفيلق الصربي الثاني، فأراد زكي باشا أن يتقهقر، وأمر الفيلق السادس بالتقدم ليتمكن من تخليص الفيلق السابع، ولكن نيران المدافع الصربية اشتدت إلى حد أوقع الرعب في قلب الفيلق السابع، فكانت خسارة العثمانيين هائلة في ذاك اليوم الأسود؛ لأنهم فقدوا القوة المعنوية ومعظم القوة المادية. ونحو الساعة العاشرة قبل الظهر تقدم الجيش الصربي الأول إلى مدينة كومانوفو واحتل المرتفعات ووادي ليبقوه، ثم أخذ يستولي على مواقع العثمانيين واحدًا بعد واحد.
وفي ذاك الوقت نفسه قاتلت قوة بلغارية جنود قره سعيد باشا فصدتها.
•••
بعد تلك الوقعة الفاصلة أخذ الجيش العثماني الغربي يتقهقر إلى جهات مناستر، فسار قسم منه على طريق غستوا والثاني على طريق برلبه، وأجمع المراسلون الحربيون على أن تقهقره وخصوصًا تقهقر الفيلق السابع كان منظرًا يُدمي مقلة العثماني، فلا نظام وافٍ ولا أكل كافٍ ولا مستشفيات نقالة للجرحى، بل شذاذٌ منتشرون على الطريق هنا وهناك أو محتضرون يلفظون النفس الأخير وهم يرتجفون بردًا ويتألمون عطشًا أو جوعًا.
على أن القواد العثمانيين تمكنوا بعد ذاك الرعب من ضم شمل الجنود الباقية، وأخذوا ينكصون وهم يدافعون، ولما وصل الصربيون إلى أشتيب ثار أهلها على العثمانيين وانضموا إلى البلقانيين.
وفي يومي ٢٦ و٢٧ أكتوبر انقطعت كل صلة بين الجيش العثماني الشرقي والجيش العثماني الغربي، واستولى البلغاريون على الخط الحديدي في ديمتوقه، وحصل الأسطول اليوناني على السيادة البحرية من جهة أخرى، فصار من المستحيل على الجيش العثماني الذي فشل أمام الصربيين أن يتلقى نجدات أو مئونة من الأستانة، فلم يبقَ لدى هذا الجيش إلا مواصلة السير نحو ألبانيا حيث يرجو الحصول على قدر من المؤن، وحيث يرى أراضٍ وعرة تمكنه من المقاومة.
أما الصربيون الذين كانوا يلتهبون شوقًا إلى احتلال ثغر على البحر الأدرياتيكي، فإنهم قرروا أن يواصلوا الزحف ليقاتلوا الجنود العثمانية التي اجتمعت في مناستر، ثم يزحفوا نحو ذاك البحر.
(٢) وقعة مناستر
تمكن قائد الجيش العثماني الغربي من الحصول على الوقت اللازم لحشد ما لديه من القوات؛ أي نحو ٥٥ ألف رجل من الحاميات والرديف والألبانيين وبقايا الجيش الذي فشل في كومانوفو وجمع معهم نحو ٨٠ مدفعًا، وكان الفضل في تمكينه من حشدها راجعًا إلى المؤخرة العثمانية التي قاومت الصربيين في قرجوه وبرليبه.
وقبل الكلام على المعركة يجدر بنا أن نذكر للمطالع أن مناستر قائمة على الضفة اليمنى من نهر قرنه عند جبال بابا، ومدخل المضيق المؤدي إلى رسنه فالبلاد الألبانية، وهناك مرتفعات تشرف من الجهة الشمالية على المدينة وتتصل بالضفة اليمنى من نهر سمنيقا.
- الميسرة: الفيلق السادس بقيادة جاويد باشا.
- القلب: بقايا الفيلق السابع بقيادة فتحي باشا.
- الميمنة: الفيلق الخامس بقيادة زكي باشا.
ثم وضع قوة لصد قوة يونانية كانت تتقدم من جهة بانيجه (بانيتز)، أما الصربيون فقد واصلوا الزحف ولقوا مصاعب كثيرة من المطر والثلج والوحل، وفي ١٣ نوفمبر تلاقى فرسانهم وعدد قليل من الجيش العثماني في جوار دوبرمير عند الضفة اليسرى من نهر قرنه، فضربوه بالقنابل واضطروه إلى التسليم. وفي يوم ١٤ منه حمي وطيس المعركة الكبرى ثم زاد اشتدادًا في اليوم التالي، وأصبح ممتدًّا على مسافة خمسين كيلومترًا، فقاسى الصربيون المهاجمون تعبًا كبيرًا من وعورة الأرض وكثرة الأمطار على أنهم صبروا واستمروا على التقدم البطيء، وما كان ليل ١٦ نوفمبر حتى هجمت ميمنة جيشهم واستولت على المرتفعات القائمة بين أوبلا كوفو وكوسيستا، ثم تمكنوا صباحًا من الإحاطة بالعثمانيين بعد أن خسروا عددًا جمًّا من رجالهم. ولما تم لهم حصر الجنود العثمانية أخذوا يضنون بجنودهم ويعتمدون على مدافعهم الفاتكة، ولكنهم رأوا أن لا بدَّ لهم من هجمة جديدة لأخذ بعض المرتفعات فهبوا في ليل ١٧ نوفمبر وأخذوها عنوةً. حينئذ طفق العثمانيون يحاولون الخروج من حلقة الحديد والنار، فأمر زكي باشا قائد الميمنة بالرجوع إلى جهة فلورينا، فتمكنت عدة طوابير وكوكبتان من الفرسان وبطاريتان من الذهاب جنوبًا بفضل الضباب الذي كان كثيفًا قاتمًا، ولكن الفرسان الصربيين ما لبثوا أن شعروا بخروج تلك القوة العثمانية، فهجموا عليها مع قسمٍ من المشاة فحلوا عقدها وأخذوا مدافعها بعد قتال شديد، ثم لقيت بقاياها قوة يونانية فقاتلتها واتجهت نحو مضايق بيروديني.
أما جنود فتحي باشا وجاويد باشا؛ أي جنود القلب والميسرة، فإنها بعد أن قاتلت الصربيين وفشلت في صدهم حاولت أن تتجه نحو رسنه فلم تفلح، لم تشعر إلا وهي عند منحدرات جبال بابا لا تجد منفذًا لدى ميمنة الصربيين التي كانت تحتل الروابي وتهدد كل قوة عثمانية تمر على مرماها، فلما رأت هذا الموقف الحرج اتجه قسم كبير منها إلى الطرق الجبلية هناك ومعها جاويد باشا نفسه، وسلم قسم في مناستر وما جاورها، ولما تم النصر للصربيين أرسلوا قوة متجولة لمطاردة الذين ذهبوا من تلك الطرق الجبلية.
وبلغت خسارة الصربيين في تلك المعركة الكبرى ٨٠٠٠ رجل بين قتلى وجرحى، وخسارة العثمانيين ١٠٠٠٠ رجل و٥١ مدفعًا منها ٣٩ مدفعًا غنمتهم فرقة واحدة، وعدة آلاف من الأسرى بينهم ثمانية من كبار الضباط، وقد لبث المدفع يُدوي والدم يجري بين العدوين ثلاثة أيام بلياليها لم يسترح فيها المهاجمون ولا العثمانيون، برغم الضباب وكثرة المستنقعات والأوحال.
(٣) نحو ألبانيا والأدرياتيك
بعد أن احتل الصربيون مناستر وجهوا النظر إلى ألبانيا، فسيروا فرقة إلى جهة رسنه فوصلتها يوم ٢١ نوفمبر، ثم زحفت منها إلى أوكريدا (وتسمى أوخرى بالتركية) فبلغتها في ٢٩ منه.
وأرسلوا في ذاك الوقت أيضًا قوة متجولة فقابلتها هناك قوة من الجنود والأهالي الألبانيين، ودار قتالٌ شديد بين الفريقين انتهى بفوز الصربيين، وكانت قوة مختلطة من هؤلاء والجبليين تقاتل بقايا الجنود العثمانية في الجهات الغربية وتحتل المواقع التي في طريقها واحدًا فواحدًا.
وليس لنا مندوحة عن تذكير المطالع هنا بأن الجيش الصربي الرابع لم يكن مع الجنود التي خاضت المعارك المذكورة، فإن القيادة الصربية العامة وكلت إلى هذا الجيش يوم إعلان الحرب أن يزحف أولًا إلى سنجق يني بازار، فيخرج منها الحاميات العثمانية ثم يمدُّ يد المساعدة لجيش الجبل الأسود.
فقسَّم قواته إلى قسمين؛ أولهما: زحف إلى جهة يني بازار، والثاني: قصد سنيجه. فوصل الأول إلى يني بازار في ٢١ أكتوبر أي بعد إعلان الحرب بثلاثة أيام، فوجد فيها قوة عثمانية مؤلفة من نحو ثلاثة طوابير منظمة وبضعة آلاف من الألبانيين، فقاومت الصربيين ثلاثة أيام برغم مدافعهم الفاتكة ثم سلمت بعد هجمة قوية بالسلاح الأبيض، وقد بلغت خسارتها نحو ٣٠٠ قتيل و٧٠٠ جريح، وبلغت خسارة الصربيين ٥٠٠ بين قتيل وجريح.
أما القسم الصربي الثاني فقد استولى على ميتروفيتزا في ٢٦ أكتوبر، وسار إلى مدينة إيبك بعد أن احتلها الجبليون بيوم واحد، ثم أخذت الجنود الصربية تحتل المواقع العثمانية بعد معارك صغيرة لا يهمُّ وصفها.
على أن هناك معركة لا بدَّ من ذكرها؛ لأنها أدت إلى مشكلة سياسية كما سترى، وذاك أن قوة من الجيش الصربي الثالث زحفت في ٢٧ أكتوبر جنوبًا إلى جهة بريزراند، فنشب قتال شديد بينها وبين عدد من الجنود العثمانية المنظمة ومن ألبان ليوما، ولما كان ٣٠ أكتوبر دخل الصربيون المدينة فقابلهم عدد من العثمانيين فيها فتصادم الفريقان في الشوارع ثم انتهى القتال بتغلب الصربيين على تلك القوة الصغيرة، وقد حدث في ذاك اليوم أن جماعة من الألبانيين لجئوا إلى القنصلية النمساوية، فما كان من جنود الصرب إلا أن دخلتها بالقوة وذبحت من كان فيها برغم احتجاج الموسيو بروشاسكا قنصل النمسا، وأهانت الشعار النمساوي الذي كان معلقًا بالقنصلية (وسترى في الباب السياسي ما كان من نتائج هذا الحادث).
ثم ذهب قسم من الجنود الصربية فعضد الجبليين في أخذ دياكوفو يوم ٦ نوفمبر، ثم اتجه الصربيون منها ومن بريزرند إلى سواحل الأدرياتيك فاحتلوا دورازو (أو دراج) وغيرها. قال مراسل التيمس: إنهم لقوا في سيرهم مصاعب لا تخطر في بال، فقد اضطروا غير مرة إلى إنهاض المدافع والخيل بأيديهم من الثلج الذي بلغ علوه نحو متر في بعض الأنحاء، كما اضطروا إلى إنقاص قوتهم اليومي؛ لأن الأراضي التي اجتازوها جدبة قاحلة، وكانت درجة البرد ١٥ تحت الصفر.
ولما بلغوا السواحل، أخذ حلفاؤهم اليونانيون يرسلون إليهم المئونة والذخيرة عن طريق البحر.