حصار يانيه وسقوطها
أوضحنا في بدء الكلام على زحف القوات اليونانية وتقسيمها أن الجيش الغربي الذي عُقد لواؤه للجنرال سابوندزاكيس في أوائل الحرب زحف قاصدًا يانيه، وكان غرضه من الأعمال الحربية الأولى وقاية سهل أرطه الخصيب، والاستيلاء على بريفيزا لإنشاء قاعدة حربية فيها وإمداد الجنود التي تُساق إلى يانيه.
فعبر اليونان نهر أرطه ثم تقدموا فاحتلوا كريبوفو وصدوا الجنود العثمانية إلى بريفيزا في ٢٠ أكتوبر، ثم عاد العثمانيون فاستأنفوا الهجوم واستردوها، ولكن اليونانيين عادوا أيضًا فجمعوا قواهم وضموا أطرافهم وزحزحوا العثمانيين عنها.
وظلت الحرب سجالًا بين الفريقين في تلك الجهات حتى ٢٤ أكتوبر، فوقعت وقعة عظيمة في جهة قيافه فظفر العثمانيون أولًا، ثم عاد اليونان إلى القتال واستمرت الوقعة ثلاثين ساعة كادت تخرس فيها المدافع لشدة الإطلاق وانتهت بنصر اليونان.
وفي ٢٦ منه احتل الجيش اليوناني عدة مواقع جديدة مشرفة على الطريقين الممتدين من يانيه إلى سهل أرطه، ثم أخذوا يحملون على بريفيزا حملات شديدة، فاستولوا في ٢ نوفمبر على استحكامات نيكوبوليس، ونسفت قنابل مدفعياتهم التي كانت في الخليج بطارية عثمانية. وفي ٣ منه استولوا على بريفيزا نفسها، وأخذوا يتقدمون نحو يانيه فقاومهم العثمانيون مقاومة عنيفة وألحقوا بهم خسارة كبيرة، ثم تركوا الجهات الجبلية الجنوبية وزحفوا إلى يانيه.
وما كاد ينتهي شهر نوفمبر حتى أصبح جيش الجنرال سابوندزاكيس أمام الخط الأول من حصون يانيه.
وكانت حامية ذاك الموقع العثماني مؤلفة من الفرقة الثالثة والعشرين فزيدت فرقة أخرى من رديف أهالي البلاد، ثم انضم إلى هاتين الفرقتين أفواج اللاجئين من مناستر وفلورينا قادمين من الأماكن التي استولى عليها الصرب واليونان، ثم انضم إلى هؤلاء وأولئك فريق عظيم من الألبانيين (الباشبزق)، وكان مجموع هذا الجيش بقيادة وهيب بك.
أما الجيش اليوناني فلم يكن له قبلٌ في ذاك الحين بلقاء تلك الحامية؛ لأنه كان أقل عددًا منها، فجعل غرضه فصل يانيه من جهة الشرق وجهة البحر.
وفي ٧ ديسمبر أنزل اليونان قوة من الجند والمدافع إلى شاطئ سانتي كارانتا، فاحتلت بعض الجهات الشمالية، ولكن العثمانيين هاجموها ودحروها فاضطرت أن تركب البحر وتعود من حيث أتت.
على أن الصعوبة الكبرى التي لقيها الجيش اليوناني الغربي إنما كانت في جهة بيزاني أي قلب المواقع الهائلة، وكان عدد كبير من الجنود اليونانية يموت بردًا وتعبًا أو بالالتهاب الرئوي. قال الجنرال آيدو رئيس الوفد العسكري الفرنساوي الذي درب الجيش اليوناني: «إن أوروبا بل الأمة اليونانية نفسها لا تدري كم قاست جنودها من شظف العيش وعذاب البرد الذي جاوز الحد، فإني أذكر لكم من جملة تلك الآلام مثلًا واحدًا وهو أن ٨٠٠ جندي أجلدت أرجلهم لشدة الزمهرير وسيقطع أكثرها، فتأملوا أن تلك الجنود التي كانت تقاسي هذا العذاب كانت مضطرة إلى التنبه الدائم وإلى الهجوم على الأعداء أو صد هجمتهم مدة شهرين …
أما الجنود العثمانية فقد كان عذابها شديدًا أيضًا، بدليل أن المرضى كانوا يملئون المستشفيات، وزد على ألم البرد أن إدارة المئونة كانت مختلة في يانيه كما رأيناها في سائر الجهات، حتى أصبحت جنود الحامية جلدًا على عظم. ومع ذاك كله فإن الحامية صبرت صبر الكرام وأبلت بلاءً حسنًا في الدفاع والصدام. قال مراسل التان في ٢٥ ديسمبر: «إني رجعت من جهة أمين آغا لأن الأيام متشابهة، فاليونان يهجمون ويحتلون بعض المواقع المتقدمة فتضربهم البطاريات العثمانية فتدحرهم وتطردهم، ثم يجيء الليل فيهجم العثمانيون تحت خافيته فتصدهم القوة اليونانية أيضًا، ثم يحدث في اليوم التالي ما وقع البارحة وهلم جرَّا. وطبيعي أن النتيجة إلحاق الخسارة العظيمة بالفريقين، غير أن اليونانيين يمكنهم أن يرسلوا النجدات إلى رجالهم بعكس العثمانيين فإن قوتهم تضعف شيئًا فشيئًا.»
أما الحصون العثمانية فإنها منيعة ومسلحة أفضل تسليح، ومدافعها تفوق المدافع اليونانية حتى الآن، ولقد رسخ في ذهني منذ الأيام الأولى أن يانيه لا تسقط إلا بعد مدة طويلة برغم التفاؤل الحسن الذي يبديه القائد اليوناني العام والقناصل والوطنيون، ولا يستطيع اليونان أن يأخذوا الموقع في وقت قريب إلا إذا أتتهم القوة من الجهة الشمالية، ولكن تموينها صعب جدًّا من تلك الجهة، وقد وصل منذ أسبوع ١٢٠٠٠ جندي قادمين من أثينا وسلانيك.
وكان من أسباب عذاب اليونانيين أنهم لم يستطيعوا إرسال مدافع ضخمة كافية، فلم يكن عندهم منها إلا بطارية واحدة منصوبة في جهة أمين آغا، والمستفاد من رسالة مكاتب «الألوستراسيون» أن الأوحال والأمطار والمسالك الوعرة كانت تضطرهم إلى حملها على الأكتاف بعد تفكيكها كل قطعة على حدة.
فحسبنا ما تقدم للدلالة على المصاعب والأهوال التي كابدها العدوان من الطبيعة ومن الحرب، ولا سيما أن الحكومة اليونانية أبت أن توافق على الهدنة الأولى فبقيت تلك المتاعب متفاقمة حتى سقطت يانيه.
(١) كيف سقطت يانيه؟
سافر ولي عهد اليونان من مقدونيا إلى جهة يانيه بعد تعيينه قائدًا عامًّا لجميع القوات اليونانية في مقدونيا وأبيروس، فاستلم قيادة الجيش المحاصر لذاك الموقع وعين الجنرال سابوندزاكيس قائدًا للميمنة، ووافق على الخطة الحربية التي وضعها هذا الجنرال قبل وصوله، إلا أنه أدخل عليها تعديلات يقتضي تنفيذها مدةً من الزمن، وكان الثلج يتساقط، والبرد يشتد، والمئونة لا تصل إلا بصعوبة، والحيوانات تموت عشرات، حتى سدت أشلاء البغال والأبقار أكثر الطرق أو ما يسمونه طرقًا.
ولما تم استعداد ولي العهد أصدر أمره بالصدام صباح يوم الثلاثاء ٤ مارس، وكان من خطته أن اليوم الأول يخصص لإطلاق المدافع على القوات العثمانية، فقذفت البطاريات اليونانية في ذاك اليوم بنحو عشرة آلاف قنبلة.
وكان الجيش اليوناني مقسومًا إلى ثلاثة أقسام، فلبث يحارب وهو في خنادقه ليستبقي الحامية العثمانية في مواقعها، واستمر إطلاق النار على هذا النحو سحابة ليل ٥ مارس. ولما كان فجر اليوم التالي أبقى ولي عهد اليونان ميمنة جيشه وقلبه في مواقعهما لمشاغلة الحامية العثمانية، وأمر ميسرته بأن تفاجئ العثمانيين بعد أن عززها بجزء من القلب والميمنة، وبينما كانت الحامية العثمانية توجه كل أنظارها وأفكارها إلى ميمنة الجيش اليوناني وقلبه لاعتقادها أن الهجمة الكبرى ستكون من جهتهما، باغتتها الميسرة اليونانية فاستولت على موقع تشوكا، وغنمت فيه أربعة مدافع وأسرت ٥٠ جنديًّا، ونحو الساعة العاشرة قبل الظهر أخذت سلسلة جبال مانولياسَّا وغنمت ستة مدافع وأسرت طابورًا، ثم هبَّ قلب الجيش اليوناني لتأييد ميسرته فأخذت الحامية العثمانية تنكص أمام تلك القوة الكبرى، وما حلت الساعة الثانية بعد الظهر حتى ناب الحامية ضعف كبير وأخذ رجالها يرجعون إلى مدينة يانيه والقنابل تهطل فوقهم. ولما جاء المساء كانت المواقع الحصينة في أيدي اليونانيين، فرأى قائد الحامية أن الدفاع أصبح عبثًا بعد ما جرى، فأوفد رسولًا إلى ولي عهد اليونان ومعه كُتابٌ من قناصل الدول في يانيه قالوا فيه: «إن القائد العثماني العام طلب إليهم بعد ما حلَّ بجيشه من الخسارة العظمى أن يتوسطوا لدى ولي عهد اليونان ليكف عن القتال»، وكانت المقابلة نحو الساعة الخامسة بعد منتصف الليل.
فأجاب ولي العهد وأركان حربه بأنهم يطلبون أولًا تسليم الجيش العثماني بسلاحه، فقبل أسعد باشا هذا الطلب، وكان عدد الجنود العثمانية نحو ٣٥ ألفًا على رواية التان، وذكر أسعد باشا في حديث أن سبعة آلاف مريض وعليل كانوا بين أولئك الجنود، وأنه كان يتوقع هجوم اليونان من جهة الميسرة ولكن قوته كانت ضعيفة وذخيرته قليلة.
وما وصل الخبر إلى العاصمة اليونانية حتى سرى كتيار الكهرباء في جميع أنحاء المملكة وأرسل زعماء النواب أحر التهاني إلى ولي العهد. وإذا أراد القارئ أن يعرف مقام يانيه عند اليونان فحسبه أن يرجع إلى التاريخ فيعلم أنها كانت مهدًا لذوي التجارة وأرباب العقول منهم، فهي التي أخرجت نخبةً من أساتذتهم وصفوةً من شعرائهم. كما أن البلاد المجاورة لها ولا سيما سولي أخرجت لهم جماعة من أكابر رجال الحرب فيهم، ولما عقد مؤتمر برلين أراد أن يعيد تلك الأراضي إلى المملكة اليونانية، ولكن البند المختص بإعادتها بقي من المهملات، وأضف إلى هذا كله أن لهم حكايات وخرافات قديمة تتعلق بيانيه وتجعل ذكرها مألوفًا معروفًا عند الشاب والأشيب.
(٢) عزاء بعد هناء
وبينما كان اليونان مسترسلين إلى الفرح والابتهاج، ناسين من حصدتهم الحرب بمنجلها الباتر من الآباء والأبناء إذا برصاصة اهتزت لها بلادهم وجاز صفيرها البر والبحر، فألبست أسرتهم المالكة وغيرها من ملوك أوروبا وأمرائها ثوب الحداد.
ذلك أن ملكهم جورج الأول كان عائدًا من قصر ابنه الأمير نقولا في سلانيك ومعه ضابط واحد، فما اجتاز بعض الطريق حتى تقدم إليه يوناني ضعيف العقل اسمه سكيناس وأطلق عليه الرصاص من مسدس فسقط الملك يختبط بدمه، وأسرع الضابط الذي كان معه فقبض على عنق القاتل، وجيء بنقالة لحمل الملك إلى المستشفى العسكري ولكن روحه فاضت قبل الوصول إليه، وكان من غرائب الاتفاق أن اختيار هذا الملك كان في ١٨ مارس سنة ١٨٦٣، وقتله كان في ١٨ مارس سنة ١٩١٣؛ أي يوم كانت أمته ترغب في إقامة يوبيل له احتفالًا بمرور خمسين عامًا على جلوسه، وكان المنتظر أن يكون الاحتفال مضاعفًا؛ لأن الدولة اليونانية بلغت في وقته ما لم تكن تؤمل، فقد احتلت لسوء طالع الأمة العثمانية سلانيك ويانيه ومعظم أنحاء أبيروس، ورأت الدهر باسمًا بعد طول العبوسة.
ولما انتشر الخبر في أوروبا أحدث تأثيرًا شديدًا في عدة قصور ملكية؛ لأن الملك القتيل هو ابن كريستيان ملك الدنيمرك الأسبق، وخال ملك الإنكليز وقيصر الروس الحاليين، ونجله الأكبر هو صهر إمبراطور ألمانيا.