مقدِّمة إلى سلسلة الكتل:
شبكة السكك الحديدية المرتقبة
لماذا تنجح بعض الابتكارات بينما تبوء ابتكاراتٌ أخرى بالفشل؟ كيف يمكننا التنبؤ بالابتكارات التي سيحالفها النجاح ومتى يمكننا ذلك؟ لِمَ يبدو أن بعض الابتكارات تفرض نفسها بسرعة على الساحة، بينما تتطور ابتكاراتٌ أخرى بوتيرة بطيئة؟ لمَ يُعزى الفضل لبعض الابتكارات أنها تجعل من العالم مكانًا أفضل، بينما يبدو أن ابتكارات أخرى تخلُق مشكلات جديدة أسرعَ مما تُوجِد حلولًا للمشكلات القديمة؟ تلك أسئلة ليس من السهل الإجابة عنها؛ لهذا السبب يوسِّع الرأسماليون المغامرون نطاقَ مخاطراتهم لتشمل مجموعة واسعة من الابتكارات بدلًا من الاعتماد على حدْس عدد صغير من رواد الأعمال.
في حين أننا قد لا نتمكن من التنبؤ بالابتكارات التي سيحالفها النجاح؛ فهناك بعض المبادئ التي تساعدنا في فهمِ ماهية النجاح. لنبدأ من المرحلة التي يكون فيها قد تطور بالفعل أحدُ الابتكارات، ووجد بعض المتبنين الأوائل له وقد خطا خطواته الأولى نحو التسويق التجاري. في هذه المرحلة تحديدًا يتجه الكثير من الابتكارات إلى التعثُّر، بينما تنتشر ابتكارات أخرى انتشارًا سريعًا وتُحدِث اضطرابًا في صناعات حالية.
تعليق بول: في المحاضراتِ الخاصة بماجستير إدارة الأعمال التي كنت ألقيها منذ خمس سنواتٍ أو ستٍّ، كنت أطلب من الطلاب رفعَ أيديهم لو كان قد سبق لهم استخدام خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول خلال الشهر السابق. حينئذٍ، لم يكن أيٌّ من الحاضرين في أي قاعة محاضرات بالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة قد استخدم خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول. في الحقيقة، المرة الأولى التي استخدمتُ فيها أنا محفظةَ الهاتف المحمول في حياتي اليومية في لندن كانت لأني كنت قد تركت محفظتي الحقيقيةَ في المنزل. لو طُرح السؤال نفسُه في أفريقيا أو مناطقَ من آسيا، لرُفعت كل الأيادي تقريبًا ردًّا على السؤال.
ما السبب إذن في أنَّ إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول كان «جيدًا بما يكفي» بالنسبة إلى كينيا، دون المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة؟ أُطلقت خدمة إم-بيسا في يونيو ٢٠٠٧؛ أي قبل إطلاق هواتف الآيفون بشهر. وفي الوقت الذي لاقت فيه إم-بيسا انتشارًا واسعًا عام ٢٠١١، كان إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول لا يزال تجربةً مريعة تمامًا. إذ لم تكن قد شهدت محافظنا بعد التجارب المتطورة لتطبيقات الهواتف المحمولة التي كانت هواتف آيفون ستصمِّمها في النهاية. كانت محافظ الهاتف المحمول في ذلك الوقت قائمة على مبادلة الأرصدة الائتمانية التي تمتلكها شبكة الهاتف المحمول، وليس أحد البنوك. فلم تجلب فائدةً أو منفعة بأي نحو فيما يتعلق بحماية الودائع. ولم يكن باستطاعة المستخدمين الحصول على ائتمان، على عكس البطاقات الائتمانية. وكانت المعاملات متعِبة ومزعجة، وتُجرَى عن طريق إرسال رسائل نصية بشفرات معاملات معقَّدة لتوجيه حركة الأموال. فما الذي يحمل شخصًا يمكنه استخدام بطاقة ائتمانية أو لديه حساب بنكي على استخدام نظامٍ يتمتع بمزايا أقلَّ من البنك، واستخدامه أصعب من استخدام البطاقة الائتمانية؟
تعليق جافين: أثناء زيارةٍ قمتُ بها عام ٢٠١٧ لمنطقة جوانجشي في الصين، المشهورة بجبالٍ لها شكل مخروطي والتي تقع أمام نهرِ لي، اكتشفتُ في أحد المطاعم أني أحمل القليل من المال، وليس معي سوى بطاقتين ائتمانيتين. قدمت البطاقتين الواحدة بعد الأخرى ونادلة المطعم تهز رأسها رافضةً يَمنةً ويسرى. أخذت تكرِّر: «نقود ورقية أو وي تشات». وحتى تعفيني من قضاء ليلة طويلة في غسل الصحون، أخذتني إلى جميع المتاجر والمطاعم في الشارع حتى ترى إن كان بإمكانهم استقبال المبلغ ببطاقة فيزا أو ماستر كارد الخاصة بي، ثم تحويل المبلغ إلى المطعم عن طريق منصة وي تشات. قضينا بعدها نصف ساعة تفقَّدنا خلالها ٢٥ بائعًا، ثم عُدنا إلى المطعم. ووعدتها بالعودة في اليوم التالي بالمبلغ. ولم يقبل ولا بائع واحد الدفع بالبطاقة الائتمانية، لا شيء سوى وي تشات.
في كينيا، لم تحل إم-بيسا محلَّ البطاقات الائتمانية أو الحسابات البنكية، لكنها تطورت بالتوازي معها. ففكرة الابتكارات التي تسير بالتوازي مع النُّظم الحالية أمرٌ شائع.
تعليق براندون: البيع بالتجزئة هو مثال واضح آخرُ على منظومةٍ مستحدَثة تسير بالتوازي مع المنظومات الحالية. تكتسح بسرعةٍ شركةُ أمازون ومجال التجارة الإلكترونية الأوسع المتاجرَ التقليدية للبيع بالتجزئة في الولايات المتحدة واقتصادات غربية أخرى، لا سيما منذ إغلاق الأنشطة التجارية على إثر جائحة فيروس كورونا. لكن لن تختفي متاجر البيع بالتجزئة المادية كليًّا. حتى أمازون صارت تفتح متاجر مادية لها. لماذا؟ لأن القصة لم تَعُد متمثلة في ثنائية المتاجر التقليدية والمتاجر الافتراضية عبر الإنترنت. فقد صار هناك تفاعلٌ بين المنظومة المستحدَثة والمنظومة التقليدية. ما يجري هو إعادة ترتيب للمزايا التي يُقدرها المستهلكون. أصبحت التجارب الخاصة بالعلامات التجارية أكثرَ أهمية من المبيعات المباشرة داخل المتاجر. على سبيل المثال، بإمكانك شراء هاتف آيفون من متجرٍ محلي لشركة آبل، لكن ذلك ليس وظيفته الرئيسية؛ إنما المتجر هو مكان يتيح لأي شخص أن يخوض تجربةَ استخدام منتجات آبل. فهو مصمَّم لجذب غير العملاء مثلما هو مصمَّم لجذب العملاء.
القفزات النوعية عبر التاريخ
قبل ظهور إم-بيسا أو وي تشات، لجأت الهواتف المحمولة نفسها إلى زيادة الإنتاجية الإضافية في البلدان النامية بمقدار الضِّعف على الأقل على غِرار الاقتصادات المتقدمة، رغم حقيقة انتشارها على نحوٍ متأخر كثيرًا في بلدان العالم النامي. لفهم السبب، تأمَّل النظام الذي حلَّت محلَّه الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة مقارنةً بالهند، على سبيل المثال. قبل الهواتف المحمولة، كان الأمريكان عندما يرغبون في إجراء مكالمة يتحسَّسون جيوبهم بحثًا عن نقودٍ فكَّة للتحدُّث في كابينة هاتف عمومي أو ينتظرون حتى يعودوا إلى منازلهم أو مكاتبهم. أما في المناطق الريفية في الهند، فربما كان على الشخص الذي لا يتوفَّر له وصول إلى هاتف أرضي ثابت، السفرُ لساعات من أجل إجراء اتصال.
حدثت قفزاتٌ نوعية عبر تاريخ الحقبة ما بعد الصناعية وما قبله. وبالعودة إلى القرن التاسع عشر، نجد أن السكك الحديدية أُنشئت في الدول الأكثر ثراءً قبل الدول الأفقر بفترة طويلة، لكنها قدَّمت تحسينات تدريجية أكبر في الدول النامية التي كان ينقصها شبكةٌ مؤسَّسة مسبقًا من الطرق والقنوات التي تمتد لمسافات طويلة. وحيث توفَّرت مثل هذه الشبكات، وفَّرت السكك الحديدية كفاءةً أكبرَ وسرعةً أعلى. وفي الدول التي لم تكن قد أسَّست شبكة من نظم القنوات والطرق الرئيسية، أتاحت القطارات لأول مرة إمكانيةَ وجود وسيلة نقل برية تمتد لمسافات طويلة.
إن البنية التحتية للمعاملات المالية — أي، الشبكات التي تتمتع بالثقة والقابلية للمساءلة التي تربط جوانب النشاط الاقتصادي معًا — هي النظير المعاصِر للبنية التحتية للهواتف وشبكات النقل التي كانت أضعف في البلدان النامية قبل ظهور الهواتف المحمولة والسكك الحديدية. فتميل المؤسسات الموثوق فيها — أي، تلك المسئولة عن الحفاظ على السجلات العامة مثل السجلات العقارية وهيئات الترخيص — إلى أن تكون أضعف في البلدان النامية. فهي تكون في الغالب أقلَّ موثوقية، أو صعبة في التعامل معها أو، في الواقع، غير موجودة.
إدخال سلاسل الكتل
بما أنَّ المؤسسات الموثوق فيها الحالية ضعيفة، فإنه يصبح من الأسهل للنُّظم المعتمِدة على سلسلة الكتل أن تكون «جيدة بما يكفي» — أي، أن توفِّر بديلًا مغريًا للنُّظم الحالية. ويبدو من المنطقي توقُّع أن يكون لذلك الابتكار — كما هو الحال مع الهواتف المحمولة، وإجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول والسكك الحديدية — التأثيرُ الأكبر في البلدان النامية.
على غِرار إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول، تُعنى سلسلة الكتل في أبسطِ صورِها على نحو أساسي بإنشاء شبكاتٍ يمكن من خلالها تنفيذ معاملات بين أطرافٍ لا يعرف الواحد منهم الآخر. تلك هي نقطة البداية. يكمُن الابتكار الأساسي في سلسلة الكتل في منحِ الأطراف المشاركة في المعاملات سلطةً كاملة بحق: فلا تتطلب الكثير من النُّظم العامة المعتمدة على سلسلة الكتل من أي طرف ثالث تقديمَ خدماتٍ أو إعطاءَ إذن في أي مرحلة.
حتى الآن، أسهم بعضٌ من تلك التطورات في جعلِ العالم مكانًا أفضلَ بدرجةٍ واضحة. والتفَّ مجتمع العملات المشفرة نفسه حول تقنيات ومناهج فلسفية مختلفة متعلِّقة بسلسلة الكتل. فصارت توجهاته تسير في اتجاهٍ مغاير لفكرة اللامركزية المتصوَّرة على مدى عَقدٍ مضى.
لا رغبة لدينا في أن نزيد على الضجة المثارة أو نؤيد منهجًا بعينه. إننا نعرض، في هذا الكتاب، تعريفًا شاملًا لما تشكِّله «سلسلة الكتل». وسوف يشمل استخدامنا كلَّ ما يشير إليه الكثير من الأشخاص على نحوٍ صحيح باعتباره تقنيةَ السجل الموزع، وهي أي نظام متصل بشبكةٍ لديه القدرة على حفظ السجلات على نحوٍ موزع ويسمح لجميع المستخدمين داخل النظام بالتحقق من البيانات. بهذا المعنى، فإن سلسلة الكتل هي بالأساس مجرد قاعدة بيانات مشتركة. هذا من شأنه أن يوسِّع مجال النقاش ليشمل النُّظم والتقنيات التي تصبح فيها المعلومات متاحةً ويمكن البحث عنها في سجل مشترك، حتى لو لم يكن بها بعض العناصر الضرورية للوفاء بالتعريفات التقليدية لسلسلة الكتل.
الأمر الواضح هو أن في الاقتصادات النامية، وبالأخص الأسواق الواعدة الأصغر حجمًا، المؤسسات التقليدية الموثوق فيها التي ربما يُعتمد عليها في الاقتصادات الأكثر تقدمًا كثيرًا ما يكون أداؤها ضعيفًا بسبب صعوبة الوصول إليها، وافتقارها إلى التمويل، وانعدام الشفافية فيها، والفساد؛ وهي خصائص تقوِّض من دورها بوصفها حكمًا للتثبت من صحة الأشياء. في ضوء ذلك، فإن النموذج الجديد للشفافية الذي أتاحته سلسلة الكتل يعطي الفرصة لإنشاء نُظم تعيد النظر في مسألة الثقة وتعيد تعريفها. في هذا السياق، بالنسبة إلى كثير من دول العالم النامي، يُعد المستوى المقبول لما يشكِّله مفهوم «جيد بما يكفي» أقل بكثير.
هل النموذج الجديد هذا موجود بالفعل على أرض الواقع؟ هل بإمكاننا أن نرى مجالات تعكس كيف توفر هذه التقنيات الناشئة بدائلَ «جيدة بما يكفي» للنُّظم الحالية؟
الإجابة هي «نعم» على نحوٍ حاسم. في هذا الكتاب، سنستعرض كيف ساعدت سلسلة الكتل في توصيل أول خدمات بنكية إلى مجتمعات ريفية في الفلبين، وحفَّزت التجارة بين الدول الأفريقية عن طريق إلغاء الحاجة إلى إجراء المعاملات بالدولار الأمريكي، وأوجدت الشفافية في الفواتير لمساعدة الشركات الصغيرة والمزارعين في أمريكا اللاتينية في الحصول على قروض.
تظل بعض الاستخدامات الأخرى غير مُختبَرة، أو مخصَّصة لفئات معينة من المستخدمين، أو طموحة على نحوٍ زائد، مثل استخدام الأدلة المخزَّنة في سلسلة الكتل لمحاكمة الرؤساء على جرائم الحرب. بيد أن هذه الاستخدامات تسمح لنا بإجراء تحليلٍ عن مدى احتمالية تنفيذ الابتكار وسرعته، ومِن ثَمَّ، التأثير المحتمل لسلسلة الكتل على بلدان العالم النامي.
يرى هذا الكتاب أن سلسلة الكتل هي أحد العوامل المحفِّزة للحقبة القادمة من القفزات النوعية التقنية. وفي حال استغلالها على نحوٍ صحيح، يمكن للمناطق التي تخلَّفت حتى الآن على إثر التنمية الاقتصادية العالمية أن تستفيد من تلك النُّظم الناشئة لتعزيز الإنتاجية، والنشاط الاقتصادي، والجودة الكلية للحياة. وكما هو الحال مع الهواتف الأرضية، والقنوات، والطرق الرئيسية في الماضي، يمكن للاقتصادات الوليدة الاستغناء عن تطوير البنية التحية الخاصة بالمعاملات المالية والثقة.
سيترتب على ذلك تداعياتٌ عميقة. فالسكان الذين يعيشون في ظل أنظمة حكم فاسدة بوسعهم أن يأملوا في مسارٍ جديد من الشفافية الاقتصادية عن طريق استخدام نظم لا مركزية. وبإمكان القروض الاستهلاكية أن تثمر عن تراجع معدلات الفقر إلى حدٍّ يفوق الوصف، وتحسين الرفاهة ورفع مستويات المعيشة.
مع ذلك، فإن الحصول على نتيجة إيجابية لهو أمرٌ غير مؤكَّد بأي حالٍ من الأحوال. ومثلما سنستكشف، فإن عملية حفظ السجلات المعتمدة على سلسلة الكتل تحمل خطرًا محتملًا بتعميق مشكلات الأسواق الناشئة بدلًا من إيجاد حلولٍ لها. ذلك أن امتلاك سلطة كبيرة يستتبع بدوره ضرورة التحلي بمسئولية أكبر.