أكثر من المال
- (أ)
تقديم خدمات تتطلب الثقة.
- (ب)
تحسين الشفافية.
- (جـ)
البيانات والمؤسسات.
قبل أن نتطرَّق إلى كل مجالٍ من هذه المجالات، سنعرض كلمة تحذيرية. تزخر الحياة في الدول النامية بأمثلةٍ توضح أن الانتقال من النظام اليدوي المعتمِد على الورق إلى عملية رقمية سيجلب تحسيناتٍ ضخمة في الكفاءة، لكن هذا لا يعني أن النظام الجديد يحتاج إلى أن يكون قائمًا على سلسلة الكتل. في الحقيقة، إن أغلب الحالات ذات الصلة لن تحتاج على نحوٍ شبه مؤكد إلى سلسلة كتل.
تعليق بول: نسمع المتحمِّسون يحلمون بتطبيق حلولٍ تقوم على سلسلة الكتل في كل مجالٍ ممكن تقريبًا من مجالات النشاط البشري. كنت أفكِّر في هذا الأمر بينما كنت أستقل حافلةً تقطع طريقها بين المدن في زامبيا. اشتريتُ تذكرتي مسبقًا من مكتب التذاكر. يُخصَّص لكل تذكرة رقمُ مقعد. أثناء صعودنا الحافلة، حمَّل العمَّال حقائبَ الرُّكاب، التي تتراوح بين حقائب ظهْر وحقائب سفر وأشولة من البطاطس ودجاج حي مربوط من أرجله. احتشد بائعو الطعام الجائلون حول الحافلة، يبيعون السمبوسك من النوافذ. تفقَّد المحصِّل تذاكرنا. وفي حال عدم توافر مقعد محجوز، كان يتصل بمكتب الحجز الداخلي لطلب رقم مقعدٍ جديد ويُحدِّث التذكرة. بينما كان يجتاز السائق المطبات ويتفادى الماعز والأبقار وأحيانًا الأفيال التي كانت تعبر الطريق، كان يسجل المحصِّل أرقام المقاعد المشغولة بالفعل ويتصل في الحال بمكاتب التذاكر طوال الطريق ليخبرهم بأرقام المقاعد المتوفرة حتى يمكنهم التأكد أنهم لا يبيعون سوى المقاعد المتوفرة. تستنزف هذه العملية الكثير من الوقت وتؤدي إلى وقوع الكثير من سوء الفهم. ومع غياب نظام مركزي لمعرفة كل شخص والتذكرة التي اشتراها، من العادي أن تجد شخصًا آخرَ يشغل مقعدك. فلا بد حينها من إزاحة الأطفال، والدجاج الحي، وأشولة البطاطس لإفساح مكان.
كان من الممكن بالتأكيد أن تُحسِّن عملية رقمية من الكفاءة، حتى لو ظلت التذاكر ورقية. يمكن أن يراجِع موظفو الحجز قاعدة بيانات مركزية عند إصدار التذاكر بدلًا من التواصل بالهاتف. يثق النظام، سواء كان رقميًّا أو تناظريًّا، بالفعل في السائق والمعلومات التي يوفرها. ونظرًا لأن الأمر لا يتطلب أيَّ مصادقة إضافية، فلا يوجد ما يستدعي أن تعتمد العملية الرقمية على سلسلة كتل.
(أ) النُّظم التي تستوجب الثقة
قارِن بيع مقاعد الحافلة بعمليات احتيال ٤١٩ في نيجيريا التي ناقشناها في الفصل الثاني، حيث يجد المحتال عقارًا شاغرًا ويبيعه إلى مشترٍ حسنِ الظن بالآخرين، ثم يختفي قبل أن يدرك «المالك الجديد» حقيقةَ الموقف عند مقابلة المُلَّاك الأصليين.
تسجيل الملكية العقارية
هل يمكن لسلسلة الكتل حلُّ هذه المشكلة؟ أو هل لقاعدة بياناتٍ مركزية أن تكون «جيدة بما يكفي» في هذا الشأن؟ في ضوء احتمالية أن تكون المؤسسة التي تدير قاعدة البيانات هذه مؤسسةً فاسدة، فهذا مثالٌ واضح على المجال الذي بإمكان سلسلة الكتل أن تقدِّم فيه حلًّا رائعًا. مثل هذا النظام المعتمِد على سلسلة الكتل قد يجعل الاحتفاظ بالسجلات لا مركزيًّا وينشِئ معاملاتٍ غير قابلة للتغيير وعمليات مصادقة بالمفتاحين العام والخاص لسجلات الملكية. وقد يمكِّن أيَّ مشترٍ في المستقبل من تحديد المالك المسجِّل للعقار بسهولة.
حتى في الدول المتقدمة، حيث لا تواجه السجلات العقارية بوجهٍ عام التحدياتِ نفسَها فيما يخص الفساد، يمكن لمثل هذا النظام أن يكون مُجديًا في تقليل المخاطر المحتملة للمعاملات وتكاليفها. في المملكة المتحدة، حيث تتكلَّف عمليات البحث عن الملكية بوجه عام آلاف الجنيهات، يستكشف السجل العقاري لجلالة الملكة استخدامَ سلسلة الكتل في إنشاء رموز خاصة بالعقارات والتي لا يمكن استخدامها للاحتفاظ بالسجلات فحسب، وإنما أيضًا لتجزئة الملكية حتى يتسنى للمشترين من الشباب وذوي الدخل الأقل الوصولُ إلى العقارات.
طُرحِت نُظم الملكية العقارية القائمة على سلسلة الكتل للنقاش في بلدان عدة، بدءًا من جمهورية جورجيا السوفييتية السابقة وحتى بنجلاديش. ولم تدخل حتى الآن أيٌّ منها حيزَ التنفيذ.
بعد فترة قصيرة من أداء خوان أورلاندو إيرنانديس اليمينَ الدستورية رئيسًا لهندوراس عام ٢٠١٤، بدأ فريقه النظر في إعادة حالة الاستقرار إلى معهد الملكية، وهي الوكالة الحكومية التي تدير حقوق الملكية العقارية في البلاد. تُرك معهد الملكية ليتمكَّن منه الضَّعف، مما سمح للفساد بأن يتسلل إليه والشكوك بأن تحوم حوله. استعانت حكومة هندوراس في مطلع عام ٢٠١٥ بخدمات إبيجراف، وهي شركة ناشئة تستخدم سلسلة الكتل في مجال تسجيل الملكية العقارية.
استخدمت شركة إبيجراف سلسلةَ كتل فاكتوم، التي تركِّز على تقديم إثبات تحقُّق، أو تاريخ ملكية، عبر رابط متصل بمعاملة. سينشئ المستخدم سجلًّا رقميًّا لمستندٍ، أو فيديو، أو أي إثبات آخر للمعاملة، ثم يقوم بتجزئة السجل (وفقًا للعملية الموضَّحة في الفصل الرابع). ستضاف سلسلة التجزئة الناتجة بعد ذلك إلى سلسلة كتل البتكوين، لتنشئ بذلك دليلًا غير قابل للتغيير موثقًا بختم زمني لتلك النسخة من المستند ذي الصلة، مما يقدِّم إثباتًا على أن إحدى المعاملات المتعلقة بالملكية حدثت في الماضي. في أي وقتٍ في المستقبل، يمكن لشخص التحقُّق من الملف لتأكيد أو دحض إذا ما كان قد أجري عليه تعديل أم لا. وقد يترتب على تغيير بكسل واحد في الفيديو أو المستند ظهورُ سلسلة تجزئة مختلفة، لا تطابق السلسلة الأصلية مما يؤكِّد حدوث تغيير.
يسير على هذا النهج نفسِه عدةُ بنوك كبرى لتأكيد الامتثال إلى قواعد التوثيق الخاصة بالقروض العقارية. تُجرِّب وزارة الأمن الداخلي الأمريكية استخدامَ هذا النهج لتتبع إذا ما كان يجري التلاعب بمقاطع الفيديو الخاصة بالمراقبة أم لا.
يواجه تسجيل الملكية العقارية مشكلةً يشترك فيها مع كثيرٍ من التطبيقات الأخرى: ألا وهي، كيفية التحكُّم في الواجهة التي بين النظام التناظري أو غير المتصل بالإنترنت والعالم الرقمي، وهي مشكلة يُشار إليها في بعض الأحيان ﺑ «هراء داخل، هراء خارج». بعبارة أخرى، إن كفاءة أي نظام معتمِد على سلسلة كتل تقوم على كفاءة البيانات المسجلة عليه. وفي حالة تسجيل الملكية، يكمُن التحدي في التفاصيل. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تختلف حقوق الملكية في صيغتها اختلافًا كبيرًا من قطعة أرض إلى قطعة أرضٍ أخرى، فضلًا عن الاختلاف من مقاطعةٍ إلى مقاطعة ومن ولاية إلى ولاية. ربما تمتلك كل قطعة ظاهريًّا حقوقَ استغلال مختلفة وأمورًا أخرى قد يكون من الصعب فهمها، ومن الأصعب حتى رقمنتها. تأمَّل التفاصيل، مثل قيود الارتفاع المفروضة على المباني أو حقوق استخراج المعادن من باطن الأرض، وستجد أن مفهوم تسجيل الملكية سيصبح شديدَ التعقيد بسرعة فائقة.
تتنوع نُظم إدارة حقوق الملكية تنوعًا شاسعًا. تطبِّق أستراليا وكندا وعدد من الولايات الأمريكية ما يُعرف بنظام تورينس، الذي يقضي بأنه بمجرد إنشاء سجل في نظام تسجيل الملكية فإنه يُعد نهائيًّا ويبطل فعليًّا أي ادعاءات سابقة للملكية. هذا يُلغي الحاجة إلى التأمين على صحة الملكية؛ إذ إن الادعاءات السابقة للملكية تبطل بمجرد اعتماد التسجيل. مع ذلك، إدخال سجلٍّ على نظامٍ من هذا النوع أمرٌ يتطلب عملًا هائلًا من أجل ضمان قانونية التسجيل. قد يكون هذا مكلِّفًا ويتسبَّب في تأخير ملموس في المعاملات — يصل أحيانًا إلى شهور أو حتى سنوات.
في أرجاء أغلب الولايات الأمريكية، يُستخدم نظام بديل لإثبات الملكية، والمعروف بموجز تاريخ الملكية. وطبقًا له، يقبَل مسئول التسجيل بالمقاطعة أيَّ تسجيل ما دام يراعي القواعد الإدارية. ولا يدعي أيَّ شيء فيما يتعلق بجودة عملية التسجيل — فهذا أمرٌ متروك للمحاكم والأطراف المعنية بالتسجيل. يختص مسئول التسجيل بالمقاطعة بإدارة ما أصبح سجلًّا غير قابل للتعديل يتضمَّن جميع عمليات التسجيل، سواء أكانت قانونية أم لا، والقرار النهائي فيما يخص قانونية التسجيل من عدمه هو أمرٌ متروك في الواقع للنظام القانوني. وهذا من شأنه أن يتيح الإمكانية لإجراء معاملات الأفراد بوتيرة سريعة نسبيًّا، نظرًا لقلةِ ما هو مطلوب فيما يتعلق بالإجراءات الإدارية. مع ذلك، يُعد هنا التأمين على صحة الملكية ضروريًّا لحماية المشتري من أي مطالباتٍ خفية متعلقة بالشيء المملوك ربما تكون لآخرين أو من أي تحدياتٍ أخرى متعلقة بقانونية التسجيل.
عند التفكير في الإمكانات التي توفِّرها سلسلة الكتل، فإن التقنية تمثل فقط نصف المعادلة (أو أقل من النصف). إن فهْم «كيفية» حفظ البيانات على سلسلة الكتل أمرٌ مماثل في الأهمية، إن لم يكن أهم. تخيَّل مدى الفوضى التي قد تحدث لو أن محتالي ٤١٩ استطاعوا تسجيل ادعاءاتهم الزائفة الخاصة بالملكية كسجلات على سلسلة كتل، مما يضفي شرعيةً على تلك الادعاءات.
في أيِّ من نظامَي إثبات الملكية، سواء نظام تورينس أو ذلك النظام القائم على إنشاء موجز تاريخ ملكية، فإن جوهرَ ما هو مطلوب هو وجود سجل ملكية على مرِّ الوقت يتميز بالموثوقية وعدم القابلية للتعديل.
إن جميع الخيارات المتاحة لإنشاء سجل دائم للملكية عرضةٌ لوقوع أخطاء بشرية، وفساد، وممارسات إجرامية. إذا كان النظام معتمدًا في الأساس على سجل عقاري حالي — سواء كان رقميًّا أو ورقيًّا، كما هي الحال في الأغلب — فستتوارث سلسلة الكتل أوجه القصور الموجودة في السجل الحالي. على الجانب الآخر، في حال محاولة نظام سلسلة الكتل أن يبدأ من جديد، سوف يستلزم الأمرُ خبراءَ بشريين لفحص وثائق الملكية، وزيارة العقارات والتوصُّل إلى أحكام نهائية فيما يخص الملكية الراهنة لتلك العقارات — وهي مهمة شديدة الصعوبة على أي دولة.
يكمُن أحد الحلول في عدم التركيز على نظام حقوق الملكية الرسمي، إنما بدلًا من ذلك في تزويد الأفراد بالأدوات اللازمة لرقمنة نظامهم غير الرسمي. تسلك شركة إبيجراف هذا النهجَ عن طريق جعل إصدار بسيط من النظام الخاص بها مفتوحَ المصدر مما يسمح لأي شخص باستخدام بنيتها التحتية المتاحة المعتمدة على سلسلة الكتل لإدارة الملكية بين مجتمع من المُلَّاك المتماثلين. إن توافُر نظام معتمِد على هذا سيمكِّن الملَّاك من التسجيل بأنفسهم وتقديم إثباتات على ملكيتهم، ثم إتاحة مثل هذه الإثباتات، مما يسمح للمشترين في المستقبل بإصدار أحكامهم حيالَ حالة العقار. وسيقل عبءُ تحميل البيانات إلى أدنى درجةٍ، وستُختصَر عملية التوصل إلى قرار بشأن صلاحية العقار.
إن إدخال تقنية سلسلة الكتل يعني عدمَ إمكانية التلاعب في سجلات الملكية بسهولة بمجرد إنشائها. ويمكن أن يُفحص النظام، أو يُتحقَّق منه بشفافية، سواء من قِبل المشترين المحتملين الذين يتطلعون إلى إثبات قانونية عملية شراء عقار محتملة، أو أحد البنوك الذي يقيِّم عقارًا ما بوصفه ضمانًا لقرض، أو الهيئات الضريبية التي تسعى إلى تطبيق معدل الضريبة المناسب. يمكن تتبُّع ملكية العقار بوضوح — لا يقتصر الأمر على مَنْ يمتلك العقار اليوم، وإنما ممن اشتُري ومن المحتَمل أيضًا بأي سعر.
يُعَد الوضوح فيما يتعلق بحقوق الملكية واحدًا من أكبر التحديات، وكذلك الفرص، للدول النامية. فهذا هو المفتاح الرئيسي لإحداث تحوُّل جذري في المسار الاقتصادي لأي مجتمع. فإضفاء صبغة رسمية على حقوق الملكية يمكن أن يكون له تأثير تحويلي يتمثل في تحرير رءوس الأموال والإسراع في النمو.
بمجرد أن تزداد موثوقية المعاملات الخاصة بالعقارات، سيتمكَّن المُلَّاك من الكشف عن قيمة ممتلكاتهم، مما يخلق حافزًا كبيرًا للنشاط الاقتصادي الذي كان محدودًا في مناطقَ عديدة من بلدان العالم النامي. إذا أُحسِنَ فعل ذلك، فستصبح المزايا التي ستعود على الاقتصاد بأكمله لا حدَّ لها. لا عليك سوى تذكُّر الطفرة الاستهلاكية التي شهدتها الولايات المتحدة وأوروبا المدفوعة بزيادة تملُّك العقارات بعد الحرب العالمية الثانية. إن ثقة البنوك في تسنيد القروض المعتمِدة على معرفتهم المؤكدة بإمكانية تملُّك الأصول المستخدمة كضمان إذا أخفق المقترض في السداد، وتحويل تلك القروض إلى أوراق مالية، أمرٌ جوهري في المسار التاريخي للازدهار الاقتصادي في دول العالم المتقدم.
لا يزال التأثير يزداد عمقًا، وفقًا للخبير الاقتصادي إيرناندو دي سوتو، الذي يرى أن الرأسمالية يمكن أن تزدهر، وتتغلب على تهديدات مثل الإرهاب، فقط إذا تغيَّرت المنظومات القانونية بحيث يشعر أغلب الأفراد بأن القانون يقف إلى جانبهم. إن خلْق مثل هذا الإحساس بالاندماج يتطلب عواملَ كثيرة، لكن واحدة من الآليات الأكثر فاعليةً للتغيير تتمثَّل في توفير حماية قانونية كاملة لحقوق الملكية القائمة على أرض الواقع التي لا يتمتع بها الأفراد من الطبقات الأفقر في الغالب إلا بطريقة غير رسمية.
دراسة حالة: غانا — ملكية الأراضي — شركة بيتلاند
- التجربة موضوع الدراسة: يعمل مؤسِّس شركة بيتلاند ناريجامبا موينسوبو مع رؤساء قبائل بارزين يمتلكون أراضي في ٢٤ إقليمًا في أرجاء ثاني أكبر مدن غانا، كوماسي، لتوفير عقود إيجار مدتُها ٩٩ عامًا إلى الأفراد المقيمين فيها، وذلك من أجل معالجة مشكلة تعارض سجلات الملكية في أفريقيا وتكرارها.
- آلية العمل: تسجِّل بيتلاند كلَّ عقد تأجير اعتمدته أمانات الأراضي العرفية التي تخدم رؤساء قبائل الأربعة وعشرين إقليمًا. تُوضَح التفاصيل الرئيسية التي لا تحتوي عليها سجلات الأمانة، مثل عدد سنوات الإيجار، على سلسلة كتل بيتلاند. وحيث يوجد تعارض — لنَقُل على سبيل المثال، تُوفي أحد الأعمام وغير معلوم بوضوح مَن ورِثه من أبناء الأخ أو أبناء الأخت — ستلتقي العائلة برئيس القبيلة لحل المسألة، ثم يُسجَّل القرار على سلسلة الكتل. ظلَّ عددٌ من النزاعات غير محسوم، وبذلك بقيت نتائجها غير مسجَّلة حتى اللحظة. وبمجرد أن تعتمد الأمانة المعلومات وتُدخلها، تصبح سجلًّا دائمًا متاحًا الوصول إليه.
- سير العملية: إجمالًا، أصبح مسجلًّا على سلسلة كتل بيتلاند ١١٢ قطعة أرض ممتدة على ١٤٠٠ فدان. لكن المشروع توقَّف. إذ إن بيتلاند في انتظار إصدار حكومة غانا الفيدرالية ترخيصًا لها لمزاولة العمل. بالنسبة إلى بيتلاند فإن هذا ضروري حتى تُقنع رؤساء قبائل وملاك أراضٍ آخرين في أنحاء الدولة بمنحها حقَّ الوصول إلى سجلاتهم وحتى يستخدموا، في نهاية المطاف، المنصةَ في معاملات الأراضي وضمان القروض العقارية. نفدت أيضًا الأموال التي تمتلكها تلك الشركة غير الهادفة إلى الربح؛ ولهذا تحتاج إلى ٢٠٠ ألف دولار أمريكي حتى يظل عملها قائمًا.
- التقييم: مثلما هو الحال في الكثير من المناطق الأخرى من أفريقيا، هناك حاجة ملموسة إلى الوضوح فيما يتعلق بملكية الأراضي في غانا، والتي يُشاع أن ٧٨٪ منها غير مسجلة. لكن الحقيقة هي اعتماد سلاسل الكتل على موافقة وتعاون نفس السياسيين ومحاسبيهم الذين زادوا من تعقيد سجلات الملكية على مدى سنوات. وهناك أيضًا مشكلة أخرى. سلاسل الكتل، التي يتمثل الغرض منها في تجاوز أي افتقار إلى الثقة في العنصر البشري، غالبًا ما تتطلب بدلًا من ذلك ما يمكن أن نطلق عليه قفزة إيمانية للوثوق في قيمة رمز أو عملة رقمية. استخدمت بيتلاند عملةً مشفرة يُطلق عليها «كاداسترال» لجمع تمويلٍ من أجل هذا المشروع. ما مدى ضرورة هذه الطبقة الإضافية من التعقيد في ضوء النظام الذي يُقدَّم والذي هو في جوهره نظامٌ لا مركزي للاحتفاظ بالسجلات أو سجل موزَّع بسيط نسبيًّا؟ قال موينسوبو: «لم تكن هناك ضرورة على الإطلاق». أرادت بيتلاند استخدام تلك العملات حتى تُمكِّن الأفراد من طرح الأراضي على هيئة رموز وإنشاء سجلٍّ للمعاملات. وعلَّق موينسوبو أنه يمكن إنشاء سجلات مماثلة من خلال عمليات الشراء على منصات الخدمات المالية المتاحة الخاصة بالهاتف المحمول. فالمشروعات التي تواجه بالفعل صراعًا عسيرًا من أجل الحصول على موافقة رسمية ربما كان الأفضل لها أن تُبقي الأشياء أبسط من البداية، حتى لو لم تطبِّق بالكامل مفاهيم سلاسل الكتل.
هل من المنطقي أن يكون لديك نظامٌ معتمِد على سلسلة الكتل من دون رمز مميز؟
تعليق بول: إن تسجيل الملكية العقارية هو مجردُ مثال من بين العديد من الأمثلة التي يمكن تحرير القيمة فيها من أجل المجتمع والأفراد عن طريق إنشاء إطار عمل ييسر القيام بإجراء جماعي. في هذه الحالة، يُعد الإجراء الجماعي هو توثيق المعلومات الخاصة بالملكية ومشاركتها. إن امتلاك سجل ملكية يُوجِد قيمة للفرد تتمثل في زيادة أمان حيازة ممتلكاته، والحد من خطر الوقوع ضحيةً لعملية احتيال، وتبسيط البيع النهائي لتلك الممتلكات. ومع ذلك، لا يمكن اختزال هذه القيمة في رمز مميز.
تعليق براندون: إذا أردت الاستفادة من النطاق الواسع من الابتكارات الذي كشف عنه نظام البتكوين، فأنت بحاجةٍ إلى رمز مميز. من وجهة نظري، يكمُن الجمال الحقيقي للنظام في الجهد المحفِّز. يعرف كل نوعٍ من المستخدمين ما بإمكانه أن يفعله وما بإمكانه ألَّا يفعله، وكيف يفعل ذلك، ويُكافأ على جهده. هذا يسمح بوجود عملٍ موزع، وملكية لا مركزية، ونظام قابل للتوسُّع بدرجةٍ كبيرة. تأتي الثقة من الجهد المحفِّز. إذا كنت تحاول محاكاة أيٍّ من تلك الأهداف، فأنت بحاجة إلى رمز مميز — ليس بالضرورة بغرض المكافأة، ولكن لتمثيل القيمة أثناء انتقالها خلال النظام وإنتاجه لها، ولتحفيز السلوكيات القويمة والجديرة بالثقة.
(ب) تعزيز الشفافية
مجموعة أخرى من الفرص التي أُتيحت من خلال الاستفادة من سمات سلسلة الكتل تتعلق بإدخال الشفافية إلى النُّظم غير الشفَّافة أو المُساء فهمها. إن الشفافية واحدة من أكثر الخصائص التي يتغنَّى بها المؤيدون لتلك التقنية — حيث يجري إنشاء سجل مشترك يحدِّد مَن يمتلك ماذا، بشفافية لأي فردٍ يرغب في فحصه. وغالبًا يكون السؤال الذي يفرض نفسه هو ما الذي يمنع الأنظمة الحالية من تقديم قواعد بياناتها للفحص. واحد من الأنظمة القليلة نسبيًّا حول العالم التي تفعل ذلك هي السويد، حيث توفِّر وصولًا متاحًا للجميع إلى عدة مجالاتٍ تشهد تفاعلًا عامًّا. في الغالب، الشفافية من أجل الشفافية يمكن تحقيقها باستخدام التقنيات الحالية.
لكن، وكما هو الحال مع الرقمنة، إدخال الشفافية قد يكون عاملًا محفزًا لإعادة التفكير في آليات الثقة في أي نظام، مما يفتح المجال أمام سلسلة الكتل لتلعب دورًا محوريًّا. ربما تستأصل الشفافية الفساد مبدئيًّا، لكن الفاسد دائمًا ما يجد طرقًا جديدة لتخريب النُّظم. ولهذا فإن إعادة صياغة آليات الثقة في النظام توفِّر حلًّا ذا مدًى أطول لمواجهة الفساد والسماح بوجود نظام يتمتع بموثوقية وكفاءة أكبر. تُعد سلسلة الكتل ذات قيمة كبيرة عندما يصبح الهدف هو إعادة صياغة كلٍّ من الشفافية والثقة.
الإعانات الأجنبية
من الممكن مواجهة مشكلات تنسيق الجهود بين الجهات المانحة ببساطة عن طريق تجميع المعاملات الخاصة بجهات مانحة متعددة. ومراقبة الكيانات أو الجهات المانحة نفسها أمرٌ ممكن عن طريق تتبُّع المال. وبهذا، فإن تحديد المعاملات وتتبُّعها هي وسيلة يستطيع كلٌّ من المتبرع والمستفيد ليس فقط الوثوق في الطريقة التي ستستخدم بها الأموال وإنما أيضًا التحقق منها.
في هذا السياق، من غير الضروري في كثيرٍ من الحالات الاندفاعُ من أجل إنشاء سلسلة كتل متخصصة لإدارة الإعانات الأجنبية. الإعانات الأجنبية في جوهرها هي أحد أشكال المدفوعات، ولذا تلبي العملاتُ المشفرة الحالية الاحتياجات الخاصة بالمراجعة وإمكانية التتبُّع. واستخدام عملة البتكوين أو أي عملة مشفرة أخرى متوفرة لتقديم الإعانات سينشئ في حد ذاته سجلَّ مراجعة للأطراف المعنية حتى تفهم الرحلة التي تقطعها الأموال بعد التبرع بها.
دراسة حالة: فانواتو — الإعانات — منظمة أوكسفام
- التجربة موضوع الدراسة: في فانواتو، اعتاد السكان المحليون دفنَ أوراقهم النقدية المصنوعة من البوليمر للحفاظ عليها من الضياع. وتعاني أيضًا فانواتو، وهي واحدة من سلسلة جزرٍ واقعة في مركزِ حزامِ أعاصير المحيط الهادئ؛ ثورانَ البراكين المتكرر، كما أنها واقعة في منطقة «الحزام الناري» المعرَّضة لوقوع زلازل. في مشروعٍ تجريبي لاختبار التطبيق السريع والفعَّال لوسائل الإغاثة عند وقوع الكوارث، استعانت منظمة أوكسفام بمقدِّم خدمة تحويل الأموال «سيمبو» وشركة كونسينسيس التي تقدِّم حلولًا تقوم على تقنية سلسلة الكتل من أجل تقديم مكافئ للنقود أو قسائم الشراء إلى المجتمع في مدينة بانجو.
- آلية العمل: تسلَّم أفراد المجتمع بطاقاتٍ نقدية مدفوعة مقدَّمًا لإنفاقها على الغذاء، والدواء، والمستلزمات الأساسية في المتاجر المُشارِكة. أما أصحاب المتاجر الذين كانوا يستقبلون المدفوعات على الهواتف الذكية عبر تطبيق «سيمبو»، فقد تلقَّوا رموزًا على سلسلة كتل الإيثريوم تمثِّل المبلغ النقدي المكافئ للسلع المَبيعة. ثم كان «سيمبو» يحسُب إجمالي العملات المستقرة المشفرة التي جناها كلُّ متجر ويبادل بها ما يكافئها نقدًا.
- سير العملية: يُعَد هذا أحد المشروعات التي توسَّعت خلال أزمة جائحة كوفيد-١٩، مع وضوح أهمية الحاجة إلى سرعة توجيه إعانات الإغاثة إلى العالم بأسْره. أُجريت التجربة في مدينة بانجو على ١١٢ مستفيدًا و١٥ بائعًا، أجرَوا ٨٢٧ معاملة بنجاح، وبشفافية في استخدام الأموال لكن مع إخفاء هوية الأطراف المشاركة في المعاملات من خلال أرقام عناوين على سلسلة كتل الإيثريوم والتي تحل محلَّ بيانات الهوية. ضمنت متطلبات التحقق تلقي المستفيدين المستهدفين للأموال وإنفاقها على النحو المنشود، مع جعل عمليات تحويل الأموال غير المصرح بها مستحيلة عن طريق الموافقة المسبقة على المستخدمين المقبولين. تخطِّط منظمة أوكسفام إلى توسعة النظام ليشمل ٥ آلاف فرد في فانواتو، إلى جانب إقامة مشروعات مماثلة في آسيا، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية.
- التقييم: في السنوات الأخيرة، يتَّجه مجتمع الجهات المانحة إلى عدم منْح بضائع ومستلزمات والتي غالبًا ما يجري إهدارها وتحط من قدْر المستفيدين عن طريق عدم منحهم فرصًا للاختيار. عوضًا عن ذلك، يزداد تقديم الإعانات على هيئة إعانات نقدية وقسائم شراء — لكن الدقة في عمليتَي التوزيع والمتابعة مهمة إدارية شاقة. سيسهم مشروع «أنبلوكد كاش» الخاص بأوكسفام في تحرير القوة العاملة المهمة أثناء الفترات الحرجة. والأفضل من ذلك كله أن الجوانب الفنية لسلسلة الكتل متوارية في الكواليس على نحوٍ ملائم، وبعيدة عن واجهة المستخدم. يقول أحد المستفيدين من الإعانات: «ظننت أن الأمر سيكون صعبًا جدًّا، لكن عند ذهابي للتسوق، لاحظتُ أنه كان بالفعل غاية في السهولة».
دراسة حالة: البرازيل، وبوركينا فاسو، وإثيوبيا، وجورجيا — الإعانات — بنك التنمية الألماني
- التجربة موضوع الدراسة: طوَّر بنك التنمية الألماني KFW نظام «ترابدجيت» كطريقة لتتبُّع جميع الأنشطة المتعلقة بكل بندٍ من النفقات، وذلك لتوفير المال والوقت اللذين تهدرهما الجهاتُ المانحة للإعانات في التحقُّق والمستفيدون في المحاسبة.
- آلية العمل: تقسَّم عملية التمويل إلى مشروعاتٍ محدَّدة، على سبيل المثال إنشاء مدرسة ابتدائية. ثم تتشعَّب تلك المشروعات إلى مشروعات فرعية، على سبيل المثال، التشييد، والتجهيز، ودراسات التصميم. ثم تنقسم مرة أخرى تلك المشروعات الفرعية إلى تدفقاتِ عمل، مثل اعتماد وثائق المناقصات، وصرف الأموال. يخصَّص لكل تدفُّقِ عملٍ فردٌ مُكلَّف مسئول عن إتمام المهمة. وهو الشخص الوحيد الذي بإمكانه إنهاء تدفُّق العمل. قد يحمل هذا الشخص إثباتًا على إنهاء المهمة، على سبيل المثال، كشفًا بنكيًّا يثبت صرْف المال أو تقرير يوضِّح الأنشطة المنجَزة. وبمجرد إغلاق المهمة، تُسنَد التفاصيل على نحوٍ دائم إلى سلسلة الكتل وتصبح مرئية للأطراف المعنية كافة. ونظرًا لأنه لا يمكن حذف أي مُدخل في سلسلة الكتل أو تعديله بعد ذلك، فإن كل تدفُّق عمل (مهمة) مغلق يجعل المكلَّف به هو المسئول أمام الأطراف المعنية.
- سير العملية: طبَّق بنك التنمية الألماني نظام «ترابدجيت» على سبيل التجربة في البرازيل وبوركينا فاسو، وتوسَّع بعد ذلك ليشمل إثيوبيا وجورجيا. وقد جعلت الوكالة الحكومية الألمانية هذا النظام مفتوح المصدر والوصول إليه مجانًا، وذلك لتشجيع مقدمي الإعانات أو الائتمان على استخدامه.
- التقييم: أفضل شيءٍ هو أن بنك التنمية الألماني — الذي ينفق مليارات اليوروات سنويًّا بصفته مؤسسة التنمية الرئيسية لأكبر اقتصادٍ في أوروبا — له نفوذ كافٍ بحيث يجعل هذا النظام أو نُظمًا أخرى على شاكلته النظامَ القياسي لصرف الإعانات. فإلى جانب سهولة استخدامه المذهلة، فمن شأنه أن يوفِّر على الجهات المانحة، والدائنين، والمؤسسات الخيرية، والمشروعات وقتًا هائلًا يُهدر في ملء النماذج، وحفظ الملفات، ورسائل البريد الإلكتروني.
السجلات الصحية
مما لا شكَّ فيه أن الخدمات الصحية تحتاج إلى الدعم في العالمِ بأسْره في أعقاب جائحة كوفيد-١٩، وفي بعض الحالات، ربما تُعَد تقنية سلسلة الكتل حلًّا جيدًا. في كثيرٍ من البلدان النامية، تجد إداراتُ الصحة صعوبةً في توثيق اللقاحات وسجلات التاريخ الطبي. أما المؤسسات الصحية في الدول الأغنى، فتشارك سجلاتٍ ومعلومات موضعَ ثقة منذ سنوات. ويستخدم الكثير منها نُظم السجلات الصحية الإلكترونية. بالنسبة إلى تلك الخدمات، تُعد سلاسل الكتل تطورًا أحدثَ ضمن صفٍّ طويل من الأدوات المساعدة على تحقيق الكفاءة.
دراسة حالة: تايوان — كوفيد-١٩ — شركة بتمارك
- التجربة موضوع الدراسة: طوَّرت شركة بتمارك «أوتونومي»، وهو تطبيق يستخدم المعلومات والبيانات المتعلقة بكوفيد-١٩ والخاصة بالمجتمع لمساعدة الأفراد في الحد من خطر إصابتهم بالفيروس أو التعرُّض له. خضع التطبيق إلى التجربة لأول مرة في مدينة تايبيه، وهو يوفِّر للمستخدمين خارطةَ طريق مخصَّصة عن كيفية تفادي التعرُّض للفيروس والمحافظة على صحتهم.
- آلية العمل: يعتمد تطبيق «أوتونومي» على نُظم أنشأتها شركةُ بتمارك لتمكِّن الأفراد من تولي زمام بياناتهم الشخصية. عند تطبيق هذا على الصحة، طوَّرت بتمارك تطبيقًا أُطلق عليه اسم «دونيت» يسمح للأفراد بمشاركة عاداتهم الرياضية، ونُظمهم الغذائية، وأنماط نومهم، وأوزانهم، وغيرها من البيانات الأخرى التي أُخفيت هويةُ صاحبها والتي سجَّلتها أجهزة «فيتبت» وغيرها من الأجهزة مع باحثين في المجال الطبي في جامعة كاليفورنيا، ببيركلي. وفي تطبيقٍ آخر، أنشأت بتمارك نظامًا لشركة فايزر يقارن بين السجلات الصحية للمرضى الذين أُخفيت هويتهم لتقييم مدى ملاءمة خضوعهم للتجارب السريرية. يجمع تطبيق «أوتونومي» بين البيانات المستقاة من مؤسساتٍ موضعَ ثقة عن البيئة والصحة ومعلومات الموقع السرية من أجل مساعدة المواطنين والمجتمعات على فهم خطر إصابتهم بالفيروس والتحرُّك للحدِّ من تفشي الجائحة. يضمن بروتوكول بتمارك سلامةَ المعلومات المُشَارَكة بين الأفراد والمؤسسات، ويحافظ على سريَّتها، مع دمج الإجابات الخاصة بالاستبيانات مع بيانات الأدوات الصحية من أجل تقييم صحة مجتمع ما.
- سير العمل: أطلقت بتمارك تطبيقَ «أوتونومي» بالشراكة مع جامعة كاليفورنيا، ببيركلي كجزء من مبادرتها التي تحت عنوان «حرمٌ جامعي آمِن» والتي تسعى إلى استئناف الأنشطة الأكاديمية أثناء الجائحة في أواخر عام ٢٠٢٠.
- التقييم: أثناء تفشي فيروس كوفيد-١٩، أُغرق الناس بمعلوماتٍ متضاربة. لم يكن سهلًا التحقُّق من مصادرِ الكثيرِ من الأخبار، لا سيَّما عند انتشارها على وسائلِ التواصل الاجتماعي. ومن خلال تجميع كل المعلومات المتحقَّق منها عن الجائحة داخل مجتمعاتهم ودمجها، يتيح تطبيق «أوتونومي» للمستخدمين التطوُّع بتقديم معلوماتٍ بطريقةٍ جماعية حتى يتسنى للمجتمعات اتخاذُ خطواتٍ لحماية ومساعدة نفسها.
(ﺟ) البيانات والمؤسسات الحكومية
أحدُ أكبر التحديات التي تواجهها الدول الأكثر تقلبًا وهشاشةً سياسيًّا في العالم هو الدمار الذي يحدث عندما تتغيَّر الحكومات على إثر وقوع انقلابات، أو ثورات، أو حروب. تنهار الحكومات عادةً بطريقة مركزية — يحتمي الديكتاتور بقصرٍ أو مبنًى حكومي آخر. وعند الإطاحة بالزعيم، تُدمَّر المنطقة على الأغلب، ماحيةً معها أيَّ أملٍ في الاحتفاظ بالسجلات الموجودة داخل المنطقة وحولها. لهذا فإن الطبيعة اللامركزية المتأصلة في النُّظم القائمة على سلسلة الكتل ستضمن بقاء السجلات.
الهوية
يصبح الوضع أصعبَ لمَنْ هم في أشدِّ الحاجة إلى المساعدة: ألا وهم اللاجئون. ففي كل مرة ينتقل فيها لاجئ بين المخيمات، يتعيَّن عليه بدء عملية إثبات هويته من جديد؛ لأنه عادة ما يترك وراءه أيَّ سجلاتٍ تثبت هويته، وسجلاته الطبية، وعلاقاته الاجتماعية. هنا، يمكن للرقمنة أن تفيد. بمجرد تحويل أوراق هوية اللاجئين إلى صيغةٍ رقمية، فهذا من شأنه أن يجعل نقْل السجلات أكثرَ سهولةً وأمانًا. وتقِل احتمالية أن ينجح قُطَّاع الطُّرق وغيرهم ممَّنْ يستهدفون أولئك الفارين من أجل اللجوء من أجل سلب هوياتهم.
تُعَد الهوية أساسَ الفرصة لإعادة بناء الثقة في أي اقتصادٍ نامٍ. وإنها أساس أي نظام ائتمان. فمعرفة هوية المقترِض وتاريخه السابق في سداد الديون يسمح للجهةِ المقرِضة بتقييم جدارته الائتمانية وإعطائه قرضًا لتحسين أوضاعه المعيشية أو توسيع نشاطه التجاري. وبمجرد أن يثبت أحد الأفراد هويَّته على نحوٍ قابل للتحقق، بإمكانه أن يصبح مشمولًا ماليًّا، ويبدأ في إثبات جدارته الائتمانية ويشق طريقه نحو الارتقاء الاقتصادي.
الشمول المالي
في خِضم الانتعاش الاقتصادي، كان مشروع جيمي وهالا يحقق نجاحًا كبيرًا. يقع فندقهما الصغير في موقع ملائم بين مقر الاتحاد الأفريقي ومحطةٍ في شبكة المترو الجديدة الصينية الصنع الخاصة بأديس أبابا، والتي تُعَد أولَ شبكة سكة حديدية خفيفة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. مع ذلك، وحتى قبل أن تتسبَّب جائحة كوفيد في انقطاع الزائرين، كان الأخوان يصادفان مشكلاتٍ فيما يتعلق بالائتمان. فهالا، الذي يدير الفندق على نحوٍ يومي، ليست لديه وظيفة أخرى أو مصدر دخلٍ آخر يمكن لأي جهة مقرِضة استخدَامه لتقييم جدارته الائتمانية. أما جيمي، الذي يعيش في الولايات المتحدة، فيدخِر المال ويرسله لاستثماره في مشروعه، لكن جدارته الائتمانية في الولايات المتحدة لا تساعد في دعم مشروعه في أديس أبابا.
إذا كان أصحاب المشروعات التجارية الناجحون والبارعون عالميًّا يجاهدون لاستيفاء معايير الحصول على ائتمان، فالفرصة تُعَد أكثرَ ضَعفًا بالنسبة إلى غالبية أصحاب المشروعات. مثل تلك الصعوبات معروفة تمامًا. ولذا، اتجهت بعض الجهات المقرِضة إلى أشكالٍ من تصنيف الجدارة الائتمانية الاجتماعية، التي تتنوَّع من نماذجَ أقدم، قد تتولَّى فيها قريةٌ بأكملها ضمانَ القرض، إلى نماذجَ أكثرَ تعقيدًا تُخصَّص فيها درجة جدارة ائتمانية بناءً على بيانات الهاتف المحمول التي تُظهِر تاريخ المدفوعات، والعلاقات مع أفراد ذوي جدارة ائتمانية، وأنماط السلوك التي تشير إلى الانتظام في العمل، ومعلومات مماثلة مشفَّرة ومجهولة الهوية. وفي حين أن هذا يصلح مع القروض المتناهية الصغر، فالأمر لا يزال بحاجةٍ إلى آلية لإثبات هوية المقترض ووثائق إثبات أهليته للحصول على ائتمانٍ والتحقق منها، ومن الصعب التوسُّع إلى منح قروض أكبر من النوع الذي كان سيتيح لجيمي وهالا توسيع نشاطهما التجاري.
يمكن لنظام يستفيد من سلسلة الكتل، والتشفير، وتقنيات أخرى ناشئة أن يواجه جميع تلك المشكلات، مما يطلِق العِنان لحدوث نموٍ اقتصادي في مناح غير مستغلَّة. يمكن تحقيق هذا من خلال سجل مركزي يسمح لأي فرد بإدخال جميع بياناته المالية، مما يجعل تصنيف جدارته الائتمانية الاجتماعية أسهلَ وأقوى. ومن المحتمَل أن يسمح هذا النظام بمشاركة المقترضين في الدول المتقدمة لجدارتهم الائتمانية مع العائلة والأصدقاء في دول العالم النامي. جيمي، الذي يعيش في أمريكا، لديه درجة فيكو، وهي أحد أنواع درجات الجدارة الائتمانية في الولايات المتحدة. وعلى افتراض أن وضعه جيد، من المفترض أن يستطيع مشاركة جدارته الائتمانية مع هالا في أديس أبابا حتى يُمكِّن هالا من الاقتراض من جهة محلية وتوسيع نشاطه التجاري. وفي حين يخفق كثيرٌ من النماذج المعتمِدة على سلسلة الكتل في العمل بكفاءة بسبب التشكك في البيانات المحمَّلة على النظام، ففي هذه الحالة ربما تأتي البيانات الأصلية من مؤسسة فيكو، وهي كيان معترَف به وجدير بالثقة، ثم يمكن أن تمتد هذه الثقة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية باستخدام النظام المعتمِد على سلسلة الكتل.
دراسة حالة: الفلبين — الشمول المالي — يونيون بنك
- التجربة موضوع الدراسة: في دولة تعتمد على التحويلات الدولية التي تمثِّل عُشْر الناتج القومي الإجمالي، وحيث لا يمتلك أغلب الأفراد حسابات بنكية، تعمل إحدى كبرى الجهات المقرِضة في الدولة مع البنوك الريفية لخدمة ملايين الأفراد الذين يعيشون في المجتمعات الريفية بدخلٍ يقلُّ عن دولارَيْن في اليوم.
- آلية العمل: الأمر لا يقتصر فقط على الأفراد. كان الكثير من البنوك في الريف معزولًا على نحوٍ شبه تام عن الخدمات البنكية الإلكترونية وشبكات تحويل الأموال المحلية. وبموافقةٍ من البنك المركزي الفلبيني، ربطت منصة «آي تو آي» التابعةُ لبنك يونيون بَنك ١٣٠ جهةً مقرِضة ريفية حتى يحقَّ لها الوصول إلى عمليات التحويل البنكي الدولية عبر سلسلة كتل الإيثريوم التي تديرها شركة كونسينسيس. ومكَّنت العقودُ الذكية المستخدمين من رهنِ واستقبالِ رموز رقمية تكافئ المبالغ المودَعة بالبيزو الفلبيني في حساب بنكي غير متصل بسلسلة الكتل، ومكَّنتهم كذلك من تبادل الرموز فيما بينهم واسترداد قيمتها بالبيزو. إن وجود سجل تحويلات رقمي موثَّق بختم زمني يسمح بوجود شفافية فورية فيما يتعلق بالتدفقات النقدية الداخلة والخارجة عبر كل بنك مشارِك.
- سير العملية: إلى جانب ربط البنوك التي لم تكن متصلة بالشبكة مسبقًا، بسَّطت منصة «آي تو آي» في معاملة واحدة عملية كانت تتطلب من قبلُ ما لا يقل عن عشرين خطوة لإتمامها، مما قلَّل من الوقت والتكاليف بدرجةٍ كبيرة. ومع وجود واجهة استخدام بسيطة، يمكن تشغيلها في بيئاتٍ ذات مستوًى تقني منخفض، يستهدف مشروع «آي تو آي» ربطَ البنوك الريفية المتبقية والتي يصل عددها إلى ٣٤٦، مدعومًا بأمر البنك المركزي للجهات المقرِضة في المناطق الريفية بإتاحة بنيتها التحتية حتى تسمح بعملية الاندماج.
- التقييم: إن المقابل الإنجليزي لكلمة «آي تو آي» يعني المعاملات بين الأفراد، وبين المؤسسات، وبين الجزر. هذا الأرخبيل الذي يضم أكثر من ٧ آلاف جزيرة يمثل تحديًا فريدًا فيما يتعلق بالشمول المالي — وفرصة هائلة في الوقتِ نفسه. إن استقبال تحويلات بدرجة أكبر من الكفاءة والأمان لهو المرحلة الأولى من أجل الوصول إلى خدمات الائتمان والخدمات المالية الأخرى. المرحلة التالية لمشروع «آي تو آي» هي تجاوز الفلبين ودخول سنغافورة، والتي تُعَد أحد المصادر الرئيسية للتحويلات، وذلك عن طريق الاندماج مع «بروجكت أوبن»، وهي منصة أخرى تديرها شركة كونسينسيس لصالح السلطة النقدية في سنغافورة لإتاحة إجراء عمليات دفع عابرة للحدود.
التصويت في الانتخابات
إنَّ منْع التلاعب في الانتخابات، وحساب الأصوات بدقة، وضمان حرية الانتخابات ونزاهتها لهي تحديات مستمرة لكثير من الدول النامية، وفي واقع الأمر الدول المتقدمة: تذكَّر أزمة «بطاقات الانتخاب غير المثقوبة بما يكفي» لولاية فلوريدا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠٠٠ وعشرات الدعاوى القضائية المرفوعة بشأن التصويت عبر البريد الإلكتروني وتسجيل الناخبين بعد السباق الرئاسي لعام ٢٠٢٠. يتجه عدد هائل من المراقبين الدوليين إلى متابعة الانتخابات في الدول النامية وإلى تقديم حُكمِهم المحايد بشأن مدى حرية الانتخابات ونزاهتها. لكن هذا الأمر صار أكثرَ تعقيدًا حتى أصبح المعلِّقون يشيرون أحيانًا في هذه الآونة إلى أن الانتخابات «حرة بما يكفي»: إذ لا تخلو من ترويع الناخبين أو غيره من أشكال الاعتداء، لكنها كانت حرة بما يكفي لمنح الفائز الشرعية المحلية والدولية.
تُعَد الثقة في نُظم الانتخاب عاملًا محفزًا للاستقرار. في حين يُعَد انعدام الثقة في هذا الشأن فتيلًا لاندلاع العنف. تخضع نُظمٌ ذات بنية أكثر انفتاحًا، وموثوقية إلى التطوير عبر عدة مشروعات. ربما تزيد مثل هذه النُّظم من سهولة التعرُّف على إذا ما أُضيفت أصواتٌ بعد غلق مراكز الانتخاب أو اكتشاف أي نشاط غير قانوني مماثل. مع ذلك، وعلى غرار الكثير من المواقف التي ناقشناها، فإن الشيطان يكمُن في التفاصيل.
يتمثل التحدي في عملية الانتخاب في التأكُّد من هوية الناخب وقت التصويت. في الدول المتقدمة، وتحديدًا في الولايات المتحدة، العملية التي تؤكَّد بها الهوية عند صندوق الانتخاب هي في حد ذاتها عملية غير محدَّدة. تشترط بعض الولايات الأمريكية التعرُّف على الهوية بالصورة، ليُحرم بذلك من التصويت غير القادرين على الحصول على بطاقةِ هوية صادرة من الولاية أو العازفين عن ذلك. بينما لا تشترط ولاياتٌ أخرى إلا توقيع الناخب المسجَّل (المفترض). في بعض الحالات، تختلف وسائل تحديد المؤهلين للإدلاء بأصواتهم بين الولايات. في أغلب الأحيان، يُطلب من الناخبين التسجيل — بملء استمارة تؤكِّد اهتمامهم بالمشاركة في عملية الاقتراع. بينما تلجأ ولايات أخرى إلى «التسجيل التلقائي» للناخبين عند حصولهم على بطاقة هوية، أو عند إجراء تسجيل مماثل. الغرض من ذِكر هذا كله هو توضيح أنه حتى في نظام انتخابٍ ناضج مثل الولايات المتحدة، تتحكَّم مجموعةٌ معقَّدة من السياسات والإجراءات، التي تُدار غالبًا على المستوى المحلي، في تحديد مَنْ بإمكانه المشارَكة في التصويت ومن ليس بإمكانه ذلك. وحتى مثل هذا الجانب من عملية الانتخاب تتطلب رقمنته مجهودًا جبارًا. وسيكون من السذاجة التلميحُ بأن الدول النامية ستمتلك عمليةً أقلَّ فوضوية أو أكثر تحديدًا للتعرف على هوية المؤهلين للتصويت.
لن تَحُلَّ التقنية وحدَها مشكلةَ التلاعب في صناديق الاقتراع. فحتى تُعتَبر الانتخابات نزيهة، لا بد من وجود آلية مناسبة للتأكد من قدرة كل ناخب على التصويت لمرة واحدة فقط، وأن كلَّ شخص مشارك في التصويت له الحق في ذلك. هذا يستلزم اتخاذَ مجموعة شاملة من الإجراءات التي تحدُث خارج نطاق سلسلة الكتل، وفي ذلك مراقبةُ مراكز الاقتراع، وبناءً على أنظمة الدولة، إما تمييز أسماء الناخبين المحتملين في كشف الناخبين أو وضع علامة على إصبع الناخب بحبرٍ لا يمكن محوه لضمان عدم قيامهم بالتصويت مرةً ثانية. وفي الوقت نفسه، أي حل فني لمواجهة المشكلة المتمثلة في ضمان قيام شخص واحد بالتصويت لمرة واحدة، لا بد أن يحمي أيضًا سرية التصويت، وذلك عن طريق منع خطر وجود معلوماتٍ تربط بين الناخبين وتوجِّههم في التصويت.
إنَّ حل مشكلة إقامة انتخابات حرة ونزيهة يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد منْع التلاعب في صناديق الاقتراع. فحتى لو احتُسبت الأصوات بنزاهة، فالجزء الأكبر من عمليات التلاعب في الانتخابات يحدث بعيدًا عن صناديق الاقتراع. يستخدم الحزب المستأثر بالسلطة مواردَ الدولة، مثل سيطرته على وسائل الإعلام، لدعم حملته الانتخابية. ويتعرَّض السياسيون من الأحزاب المعارضة ومؤيدوهم إلى الترهيب أو السجن. ويُستبعد المرشحون، أو تُوضع عقباتٌ لمنع مؤيدي المعارضين من التسجيل أو الإدلاء بأصواتهم. وحتى بعد التصويت، قد تُجرى إعادة الانتخابات مرةً أخرى إذا لم تحقِّق الحكومة النتيجةَ التي تسعى إليها. ومع أن النُّظم القائمة على سلسلة الكتل يمكن أن تساعد في إحصاءِ عددِ الأصوات بدقة، إلا أنها لا يمكنها ضمان حرية باقي أجزاء العملية الانتخابية أو نزاهتها. التصويت في الانتخابات نظام؛ وسلسلة الكتل ما هي إلا أداة صغيرة يمكن الاستفادة منها لتحسين هذا النظام.
الإيرادات الضريبية
لا تؤدي الشفافية في المجال الاقتصادي إلى حدوثِ مزيدٍ من النشاط الاقتصادي فحسب، وإنما وجودها قد يوفِّر أيضًا إمكانيةَ تتبُّع أكبرَ للهيئات الضريبية. قد يكون لهذا تحديدًا تأثيرٌ ضخم على الدول النامية، التي تجنح إلى أن تكون أقلَّ فاعليةً في فرض الضرائب على النشاط الاقتصادي. تتسبَّب أجزاءٌ كبيرة غير رسمية من الاقتصادات النامية في وجودِ مستوياتٍ أكثرَ انخفاضًا من الإيرادات الضريبية بوصفها تمثل نسبةً من إجمالي النشاط الاقتصادي. أحد الأمثلة الأكثر تطرفًا هي الهند، التي رغم الجهود المبذولة لإضفاء صبغة رسمية على الاقتصاد، تصل الإيرادات الضريبية فيها إلى نحو ١٠٫٩٪ من الناتج القومي الإجمالي؛ أي حوالي نصف النسبة التي تمثلها في أوروبا.
التوثيق
توفِّر النُّظم المعتمدة على سلسلة الكتل بديلًا أفضلَ لنُظم التوثيق التقليدية المعتمِدة على الورق. فبدلًا من الاعتماد على السِّمة المميزة لختم جهة التوثيق لإثبات أن التوثيق أصلي، فإن مدخلًا واحدًا على سلسلة الكتل يعني عدم وجود أي مجالٍ للشك فيما يخص المستند الذي يشير إليه التوثيق. وكما هو الحال مع الكثير من النُّظم التي تناولناها، تكمُن المخاطر المحتملة في نقطة الالتقاء بين الإنسان وسلسلة الكتل: التأكد من أن البيانات المدخَلة في سلسلة الكتل صحيحة، وأن جهات التوثيق المسجَّلة هي وحدها التي بإمكانها الدخول إلى النظام.
في المقابل، تُعَد جهاتُ التوثيق جهاتِ تصديق على الهوية في عالمٍ تناظري. وعلى المدى الطويل، يمكن التوقيع على المستندات المعتمِدة على سلسلة الكتل بالمفاتيح الخاصة التي لا يعرفها أحد غير صاحب الهوية، مما يلغي الحاجةَ إلى وجودِ جهة توثيق لتصدِّق على هوية الشخص.
رؤية خبير: ترميز الأوراق المالية
جيم نيدام هو مدير التخطيط الاستراتيجي في بورصة ميرج، التي تُعَد أولَ بورصة في العالم تُدرج رموز أوراق مالية.
(١) ما الفكرة الرئيسية وراء الترميز؟
بالنسبة إلينا، كبورصة، يُقصد من الترميز تسجيلُ المِلكية أو تأمين الحقوق الخاصة بالأصول من خلال سجل موزَّع وغير قابل للتعديل. إنه يؤتمت من خلال عقودٍ ذكية المعاملات والعمليات الأخرى التي كانت في السابق تتم يدويًّا. فالأمر كله يدور حول الانتقال من السجلات الورقية، والشهادات الورقية، وقواعد البيانات المركزية والارتباطية إلى نظامٍ أكثر تفاعلية بكثير. إننا ننظر إلى الأمر على أنه إعادة تصميم للطريقة التي تُسجَّل بها المِلكية والطريقة التي تُنقل بها القيمة. إنه يخلق فرصًا لحدوثِ واحدةٍ من أكبر القفزات في الكفاءة منذ بدء الأسواق. واحد من المكاسب التي ستعود من هذه القفزة في الكفاءة هو أن جميع أشكال الأصول يمكن تحويلها إلى رموز. وهذا يفتح عالَمًا من الاحتمالات لظهور منتجاتٍ استثمارية جديدة، وقد شهدنا بالفعل سيلًا من النشاط لتجزئة ملكية أصولٍ كانت مقصورة في السابق على فئاتٍ معينة مثل الأعمال الفنية، والعقارات، والأشياء التي يجمعها هواة التجميع، وحقوق النشر وغيرها.
(٢) لماذا يُعَد ذلك مهمًّا في سياق الأسواق الناشئة؟
هناك فرصةٌ لحدوث قفزة نوعية في الأسواق الناشئة والواعدة بطريقة مشابهة كثيرًا لما قد رأيناه بالفعل في قطاع الاتصالات والخدمات البنكية مع انتشار الهاتف الذكي الذي أصبح الأداة الوحيدة للهوية ولإجراء الخدمات البنكية. يتكامل الهاتف المحمول تكاملًا مذهلًا مع التقنية الداعمة للأوراق المالية الرقمية. لفترةٍ طويلة كان دخول أسواق رأس المال معتمِدًا على أن يكون لديك وسيطُ أوراق مالية أو على الأقل وصول إلى جهاز كمبيوتر مكتبي. خلال فترة وجيزة لن تحتاج إلا إلى هاتف ذكي. هذا من شأنه أن يفتح البابَ على مصراعيه لانضمام مشاركين جدد تمامًا. وتُعَد الأسواق الناشئة هي نقطة الانطلاق الواضحة لهذه التقنية. إذ إنه من الأصعب تطبيقُ هذه التقنية الانتقالية في الأسواق المتقدِّمة؛ حيث تصبح في منافسةٍ مع أطراف راسخة ومسيطِرة في مجال البنية التحتية.
(٣) كيف تسير العملية بأكملها؟
يُعَد هذا تطورًا، وليس ثورة. خُذ في الاعتبارِ ما كان يحدث في السابق: كانت شهادات الأسهم تبقى في درج مكتبك. وقُرب نهاية القرن الماضي، حدث تحوُّل من السجلات الورقية إلى الإصدارات الإلكترونية للشهادات. ومع ذلك، كان النهج الأساسي لا يزال كما هو، وحتى مع تسجيل الملكية إلكترونيًّا، كان إجراء كم كبير من عمليات الاحتفاظ بالسجلات لا يزال مطلوبًا. كان جميع الأطراف المشارِكة في سلسلة الحيازة يحتفظون بسجلاتهم وكانت تخضع للتسوية على نحو منتظِم — مع وجود أخطاء في الغالب. وتقضي فِرق التسوية في البنوك ساعاتٍ وأيامًا في محاولةٍ لتحديد الأوامر غير المتطابقة. إن هذا النظام بحاجةٍ إلى الإصلاح، وتقنية السجل الموزَّع هي السبيل الواضح لإنجاز ذلك.
سيحل محلَّ النظام المعتمِد على قواعد بيانات مركزية مختلفة، بكل ثغراتها المتأصلة فيها، سجلٌّ مشترَك واحد يسجِّل ملكية الأوراق المالية على هيئةِ رموز رقمية. وستحمل هذه الرموز معها سجلًّا كاملًا بخصائصها وتاريخ ملكيتها، كلما انتقل الرمز عبر السجل. النتيجة المرتقَبة هنا تكمُن في التخلص من إجراءات إدارية كثيرة، وتقليل الأخطاء، وتقليص الوقت المستغرَق في التسوية على الأرجح ليصل إلى الصفر، وتحرير كمٍّ هائل من رءوس الأموال المقيَّدة. يبدو منطقيًّا لصناعة الأوراق المالية أن تتحرَّك في هذا الاتجاه، لكنَّ هناك أسبابًا تنظيمية لا يُستهان بها تبرِّر أن تطبيق ذلك ليس بهذه الدرجة من السهولة.
(٤) كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟
لا تعتبر السجلات الموزَّعة والتشفير من التقنيات الجديدة، لكن الطريقة التي دمجها بها ساتوشي مع آلية الإجماع والحوافز الجديدة أنتجت شيئًا جديدًا كليًّا في سلسلة كتل البتكوين. إذا فكَّرت في سلسلة كتل البتكوين على أنها عملة رقمية بُنيت على سجل موزَّع، فإن التطور التالي كان الإيثريوم التي اقتبست فكرةَ العملة الرقمية ووسَّعت فكرةَ العقود الذكية لتوسِّع نطاق التطبيق متجاوزةً بذلك كونها مجردَ عملة. إن الترميز لهو حقًّا امتداد لتلك الفلسفة.
(٥) ما الذي أُنجز إلى الآن في هذا المجال؟
إن أكبر إنجازٍ حقًّا هو أن الجهات التنظيمية تدرك أن هذا لا يعتبر فئةً جديدة من الأصول؛ إنما هو تقنية جديدة. ومثلها مثل أي تقنية جديدة قد يجري إدخالها في البنية التحتية للأسواق المالية، هناك حاجة إلى إجراء تقييم للمزايا مقابلَ المخاطر المحتمَلة، وكيف يمكن التقليل من تلك المخاطر. لهذا، تعقِد الجهات التنظيمية الآن ما يلزم من مناقشات في هذا الإطار.
(٦) ما الذي لا يزال مطلوبًا إنجازه؟
هناك حاجة إلى تبني التقنية على نطاقٍ أوسع كثيرًا. حتى الآن، التطوُّر الحادث يقوم في جانب كبير منه على تطبيق التقنية في مجال ما بعد التداول، وهو ما يبدو منطقيًّا لأن التقنية مفيدة في أداء مهام المقاصة المالية، والتسوية، والتسجيل. لكن الأطراف المركزية التقليدية كانت بطيئة في تبنيها للتقنية. وجزء من السبب في ذلك هو أنها تهدِّد بزعزعة نموذج أعمالهم الحالي.
(٧) في ضوء جسامة التحدي، ما النهج الذي تتبعونه في بورصة ميرج؟
نرى أن رقمنة الأوراق المالية هي تقنية تمكينية ستعزِّز الموجة الكبيرة القادمة من نماذج الأعمال المبتكَرة، بالطريقة نفسها التي مُكِّنت بها تطبيقات أوبر، و«إير بي إن بي»، وسبوتيفاي من خلال هواتف ذكية فعَّالة وشبكات هواتف محمولة سريعة. وعلى هذا الأساس، نؤمن بأنه سيُصدر المزيد والمزيد من الأوراق المالية على شبكات تقنية السجل الموزع وسلسلة الكتل، بعيدًا عن قواعد البيانات والنُّظم التقليدية القائمة على النظام المركزي لإيداع الأوراق المالية ووكيل النقل المركزي. تعمل بورصة ميرج على ربط بنيتها التحتية الشاملة الخاصة بالأسواق المالية بالكثير من تلك الشبكات قدرَ الإمكان من أجل إتاحة مشاركة الأوراق المالية والمستثمرين من جميع أنحاء العالم. ولهذا السبب نصِفُ نموذجنا للأعمالِ بأنه بورصة عالمية بحق. ستتيح الأوراق المالية الرقمية ظهورَ نماذج أعمالٍ جديدة تستفيد من الطبيعة الديناميكية للرمز. لا أحد يدري إذا ما كان هذا سيحدث في نماذج الإدارة، أو تفعيل دور المساهمين، أو المكافآت. إن وظيفتنا لا تتمثَّل في تصميم نماذج الأعمال؛ وإنما تتلخص في تقديم البنية التحتية التي تسمح بنجاحها.
(٨) ما التحدي الأكبر أمام القبول العام لنهجكم؟
نواجه مشكلةَ البيضة أمِ الدجاجة. نحتاج إلى جودةٍ أفضل من جانب البيع وحجمٍ أكبر في جانب الشراء. ونحن نعمل بجِدٍّ على جانبي هذا اللغز في الوقت الحالي.
(٩) ما الخطر الأكبر الذي قد يحدث نتيجةً لوقوعِ أزمة كبيرة في هذا المجال؟
الخطر الأكبر دائمًا هو الأطراف السيئة، إلا أن قوانين الأوراق المالية حول العالم موجودة للحد من تلك المخاطر. كل شيء نفعله يقع في إطار القوانين الحالية المنظِّمة للأوراق المالية؛ ولهذا فنحن بصدد المخاطر نفسها الموجودة في الأسواق التقليدية.
أظن أن أكبر خطر هو على الأرجح أن يتبنى التقنيةَ طرفٌ كبير ومؤثِّر بطريقة تعيق الأطراف الجديدة عن المشاركة، بدلًا من أن تكون إيجابية لصالح الابتكار. وهذا سيكون مخزيًا.
(١٠) أين ترى الترميز في غضون خمس سنوات؟
في غضون خمس سنوات لا أظن أننا سنتحدث عن رموز الأوراق المالية؛ فستصبح مجردَ أوراق مالية. أما في غضون عشْر سنوات، فأتوقَّع إحلالًا شاملًا للبنية التحتية الحالية للأسواق المالية.