هابرماس والنظرية النقدية عند مدرسة فرانكفورت
(١) مدرسة فرانكفورت
ذاع صيت هابرماس بين المتحدثين بالإنجليزية بوصفه صاحبَ مُؤَلَّف «نظرية الفعل التواصلي»، والعديد من المقالات حول أخلاقيات الخطاب، ومُؤَلَّفه «بين الحقائق والمعايير»؛ وهي الأعمال التي تطورت فيها، إذا جاز التعبير، نظريتُه الاجتماعية والأخلاقية والسياسية على الترتيب. ويُعْرَف هابرماس أيضًا باعتباره رائدًا من رواد الجيل الثاني من مُنَظِّري مدرسة فرانكفورت، وتُفهَم أعماله بأفضل ما يكون باعتبارها ثمرة الاستجابة المستمرة للنظرية النقدية للجيل الأول من مُنَظِّري مدرسة فرانكفورت.
كانت «مدرسة» فرانكفورت، وهو الاسم الذي اشتُهرت به، تتألف من مجموعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعيين والناقدين الثقافيين الذين عملوا خلال الفترة السابقة واللاحقة للحرب العالمية الثانية لصالح معهد البحث الاجتماعي المموَّل تمويلًا خاصًّا، ومقره فرانكفورت. عمل هؤلاء المفكرون الذين نشروا ثمرة أفكارهم في «دورية البحث الاجتماعي» التي أصدرها المعهد في سياق نموذج مشترك تقريبًا؛ أي إنهم اشتركوا في الفرضيات نفسها، وطرحوا الأسئلة عينها، وتأثروا جميعًا بالفلسفة الجدلية لهيجل (١٧٧٠–١٨٣١) وكارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣). ولم يكن المنهجُ الألماني الحديث للفلسفة الجدلية الذي عملوا تحت مظلته، وأحيانًا ما كان يُعرف بالماركسية-الهيجلية؛ التيارَ السائد مطلقًا آنذاك. كانوا أقلية فكرية معارضة للمنهج الأوروبي المتمثل في الكانطية الجديدة، والمنهج الأنجلو-نمساوي المتمثل في التجريبية المنطقية. هكذا يتعين فهم الحوار الدائر بأثر رجعي عن «مدرسة فرانكفورت» ونظريتها.
كان ماكس هوركهايمر (١٨٩٥–١٩٧٣) المدير الأرستقراطي للمعهد والمسئول في المقام الأول عن تطوير نموذج «النظرية النقدية» في ثلاثينيات القرن العشرين.
ويرى هوركهايمر أن النظرية النقدية يتعين أن تكون نشاطًا نظريًّا جديدًا متعدد التخصصات يُكْمِل الفلسفة الجدلية لهيجل وماركس، ويُحدث فيها تحولًا بأفكار متعمقة من تخصص التحليل النفساني الجديد نسبيًّا وعلم الاجتماع الألماني والأنثروبولوجيا، وكذا من فلاسفة أقل شهرة مثل فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠) وآرثر شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠). واتسم المنهج الناتج عن ذلك بأربع خصائص أساسية: تعدد الاختصاصات والتأمل والجدل والنقد.
لقد كانت مدرسة فرانكفورت من بين أوائل المدارس التي تتناول قضايا الخلقية والعقيدة والعلم والمنطق والعقلانية من عدة منظورات وتخصصات في آن واحد. فقد آمن القائمون عليها أن التأليف بين تخصصات ومعارف مختلفة سيثمر عن أفكار متعمقة لم يكن يتأتى الحصول عليها لو عملوا ضمن مجالات أكاديمية ضيقة الأفق ومتخصصة بشكل كبير؛ ولذا، فقد طعنوا في الفرضية المسلَّم بها على نطاق واسع آنذاك، والقائلة إن المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية هو المنهج الوحيد الصالح.
وعلى النقيض مما أسماه هوركهايمر «النظرية التقليدية»، التي كادت تتضمن كل شيء، بداية من الرياضيات والمنطق الصوري وحتى العلوم الطبيعية؛ كانت النظرية النقدية تأمُّلية، أوْ لها وعي ذاتي متأصل فيها. فالنظرية النقدية تأملت السياق الاجتماعي الذي أدى إلى نشأتها، ووظيفتها داخل هذا المجتمع، وأغراض ممارسيها واهتمامهم، وما إلى ذلك. وتآلفت هذه التأملات داخل النظرية.
إضافة إلى تعدد جوانبها المعرفية، كان من المفترض أن تكشف الطبيعة التأملية للنظرية النقدية القناعَ عما اعتبره مُنَظِّرو مدرسة فرانكفورت الوهمَ «الوضعي» الذي يشوب النظريات التقليدية (كالعلوم الطبيعية)؛ ألا وهو أن النظرية ليست سوى الانعكاس الصحيح لواقع مستقل من الحقائق.
ولقد شجعت هذه الصورة المزدوجة للمعرفة على الاعتقاد بأن الحقائق ثابتة ومسلَّم بها، ومحال أن تتغير، ومستقلة عن النظرية. ورَفَضَ المُنَظِّرون النقديون هذه الصورة، وفضلوا عليها مفهومًا أكثر «هيجلية» وجدلية عن المعرفة يرون بحسبه أن الحقائق ونظرياتنا جزءٌ من عملية تاريخية ديناميكية مستمرة نجد فيها أن الكيفية التي نرى بها العالم (نظريًّا أو خلاف ذلك) والكيفية التي عليها العالم فعليًّا تؤثر إحداهما في الأخرى.
وأخيرًا، قال هوركهايمر إن النظرية النقدية ينبغي أن تكون «نقدية». وهذا المتطلَّب يحوي في طياته العديد من المزاعم الواضحة. بصفة عامة، كان هذا المتطلَّب يعني أن مهمةَ النظريةِ عمليةٌ، لا نظريةٌ وحسب؛ أي إنها ينبغي ألا تستهدف وحسب تحقيق فهمٍ قويم، بل يجب أن تخلق ظروفًا اجتماعية وسياسية أكثر دعمًا لازدهار البشرية من الظروف الحالية. وإنْ شِئْنَا قدْرًا أكبر من الدقة، فقد كان يعني أن النظرية لها ضربان مختلفان من الأهداف المعيارية؛ أحدهما تشخيصي، والآخر علاجي. لم يكن هدف النظرية وحسب تحديد ما «يعيب» المجتمع المعاصر حاليًّا، ولكن المساعدة أيضًا في إحداث تحول في المجتمع إلى الأفضل عن طريق تحديد الجوانب والنزعات التصاعدية داخله.
عندما جعل المناخُ السياسي للنازية من المستحيل على المنتسبين للمدرسة (حيث كان غالبيتهم يتحدرون من عائلات يهودية) مواصلةُ أعمالهم في فرانكفورت؛ نُقِلَ المعهد مؤقتًا، أولًا إلى جينيف ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث واجه القائمون عليه مباشرةً ظاهرة اجتماعية جديدة عليهم؛ مجتمعٌ استهلاكي أسير لنموذج هنري فورد للرأسمالية الصناعية والإنتاج الضخم. وأَذهلهم تحديدًا كيف تحولت الثقافة إلى شكل من أشكال الصناعة على يد شركات هوليوود لإنتاج الأفلام، ووسائل البث الإعلامي، ودور النشر. لقد مارست هذه الشركات الاحتكارية الضخمة أساليب استغلالية وتوجيهية ماكرة، كان لها من الأثر أن جعلت الناس يتقبلون بل وحتى يقرون بنظام اجتماعيٍّ أحبطَ وكَبَتَ اهتماماتهم الأساسية. على سبيل المثال، كانت النهايات السعيدة المتوقعة لأفلام الدرجة الثانية التي تنتجها هوليوود تخلق لدى الجمهور إحساسًا بالرضا المصطنع. وبدلًا من انتقاد الظروف الاجتماعية التي حالت دون عثورهم على السعادة الحقيقية، عكف الناس على معايشة السعادة الخيالية لأبطال أفلامهم عوضًا عنهم. ولعبت الثقافة بشكل عفْوي دور الإعلان عن الوضع الراهن. وأشار هوركهايمر وزميله الشاب تيودور أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩) إلى هذه الظاهرة باسم «صناعة الثقافة».
ولقد شكلت صناعة الثقافة جزءًا حيويًّا من ميل المجتمع الرأسمالي إلى خلْق احتياجات الناس ورغباتهم وإحداث تحول فيها، لدرجة أنه أمسَتْ لديهم رغبة في الخَبَث الذي صُنِعَ لأجلهم، وانزوت لديهم الرغبة في عيش حياة مُرْضيَة ومُجدِيَة. لقد وفَّرَ تحليل هذه الظواهر أفكارًا متعمقة فيما يتعلق بالطرق التي يمكن بها التلاعب بوعي الناس بواسطة الإعلانات وغيرها من الوسائل؛ من أجل خلق ما عَدَّه مُنَظِّرو مدرسة فرانكفورت حالةً زائفة من المصالحة. كانت المصالحة الزائفة تترتب على الاعتقاد بأن العالم الاجتماعي عقلاني ومُفْضٍ إلى حرية البشر وسعادتهم ويتعذر تغييره، بينما هو في واقع الأمر يفتقر بالمرة للعقلانية ويعوق حرية البشر وسعادتهم، وهو أيضًا عرضة للتغير. قبل ذلك بقرن من الزمان، وفي ظروف مختلفة نوعًا ما في بروسيا، ذكر هيجل أنه تم التوصل إلى مصالحة حقيقية — أي في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي يستطيع أن يتقبلها العقلانيون ويقرون بها — لأنهم، بالنظر إلى جميع المتغيرات، أشبعوا أعمق رغباتهم. لقد قَلَبَتْ مدرسة فرانكفورت، المتأثرة بماركس وبخبرة القائمين عليها بالقرن العشرين، تفاؤلَ هيجل رأسًا على عقب.
عندما عاد هوركهايمر إلى فرانكفورت عام ١٩٤٩، أمسى هو وأدورنو أكثر تشاؤمًا حيال فرص تحقيق الهدف العملي من النظرية النقدية؛ ألا وهو التحوُّل الجذري للمجتمع. وتجذَّر هذا التشاؤم نظريًّا في التحليل الذي عرضاه في كتابهما الشهير «جدلية التنوير» (الصادر عام ١٩٤٧، لكنه نُشر لأول مرة عام ١٩٤٤ على هيئة نسخة مطبوعة بعنوان «شذرات فلسفية»).
يمهد تحليل أدورنو وهوركهايمر لعصر التنوير الطريقَ للتطور اللاحق للنظرية النقدية. لقد شرعا في تحليلهما انطلاقًا من الفرضية الهيجلية (التي يشاطرهما إياها ماركس) والقائلة بأن البشر يشكلون أو يحددون العالم من حولهم عبر نشاطهم العقلي والمادي، أو على حد تعبير ماركس عبر جهودهم الفكرية واليدوية. وبعدها أضافا أطروحة تاريخية مُفادها أنه بحلول القرن الثامن عشر الميلادي أمسَت العقلانيةُ الأداتية، أيْ تقدير أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق غاية أو تلبية رغبة بعينها، الشكلَ السائد للمعرفة. لقد منحت عملية التنوير التاريخية ميزة خاصة للأشكال العلمية الطبيعية والقابلة للاستغلال تكنولوجيًّا للمعرفة خلاف غيرها من الأشكال المعرفية قاطبة. وقال أدورنو وهوركهايمر إن العلوم الطبيعية، التي تطرح تعميمات وتنبؤات قابلة للاختبار عن الطبيعة الخارجية، هي شكل مستتر لاستدلال الوسائل/الغايات. من وجهة النظر الأنثروبولوجية، العلم مجرد أداة تدعم الحاجة الأساسية لدى البشر لإحكام السيطرة على بيئتهم وتسخيرها. والتكنولوجيا والصناعة امتداد لهذه الأداة وتطبيقٌ لها.
ويزعم أدورنو وهوركهايمر أن العالم الحديث الصناعي والبيروقراطي تَشَكَّلَ بفعل عملية العقلنة. إن العالم الاجتماعي للقرن العشرين هو نتاج أفعال البشر الذين أُصيبت ملكة تفكيرهم بالضمور حتى أصبحت مجرد حساب لأكثر السبل فاعلية لتحقيق غاية ما. لقد أفضى تَشْيِيء (التجسيد في صورة شيء) الطبيعة وحسبنتها (إضفاء الصبغة الحسابية عليها) إلى فَنَاء وجهات النظر الأسطورية والدينية عن العالم. وفي الوقت نفسه، تنشأ المفاهيم التي يدرِك بها البشر عالمهم من ظروف تاريخية واجتماعية بعينها. يرى أدورنو وهوركهايمر أن العلم والتكنولوجيا يزداد تشكيلهما للحياة المؤسسية يومًا بعد يوم، وذلك بفعل العقلانية الأداتية. والأشكال الحديثة للمخالطة الاجتماعية (الأشكال المؤسسية للعقلانية الأداتية) تؤدي بدورها إلى مفاهيم وتصورات وطرق تفكير أداتية في العالم؛ إنها تخلق عقلية علمية وحذرة وفاعلة. ويتبع ذلك دائرة مفرغة تُمسي فيها العقلانية الأداتية حصريةً وكليَّة.
ثمة جانب يُنذر بالشؤم في الفرضية القائلة إن العلم والعقلانية يخدمان حاجة البشر الأساسية لاستغلال الطبيعة الخارجية والتحكم فيها؛ وهو أن الهيمنة والسيطرة وثيقتا الصِّلة جدًّا بالعقلانية. والأمر لا ينحصر في العلم والتكنولوجيا وحسب، بل العقلانية نفسها تُعتبر عنصرًا ضمنيًّا في الهيمنة. بحسب هوركهايمر وأدورنو، حتى الأشكال البدائية للعقلانية، كالسحر، هي في الواقع أشكال أوليَّة لهيمنة البشر على الطبيعة وعلى غيرهم من البشر؛ وذلك لأن السَّحَرة يُلقون بتعويذاتهم لإخضاع الطبيعة لسيطرتهم، وحيازتهم لقوًى سحرية تؤدي إلى خلق طبقات اجتماعية.
من المفارقة إذن أن عملية التنوير نفسها التي كان من المفترض — بحسب المفكرين التنويريين في القرن الثامن عشر؛ مثل روسو، وفولتير، وديدرو، وكانط — أن تفك أسر الإنسان من الطبيعة وتُفضي إلى حريته وازدهاره؛ أتتْ بنتائج عكسية. وتدريجيًّا، بينما أحكمتْ النزعتان الصناعية والرأسمالية قبضتَهما في القرن التاسع عشر، تعرضَ البشر إلى شبكات أكثر توغلًا من الانضباط والسيطرة الإداريينِ، وكذا إلى نظام اقتصادي لا يَفْتَأ يَقْوَى ويتعذر ترويضه. وبدلًا من أن تفك عملية التنوير أسر الإنسان من الطبيعة، نجدها قيدت الإنسان الذي هو بدوره جزء من الطبيعة. وبدلًا من الرخاء الاقتصادي، شاع الشقاء والفقر. وبدلًا من التقدم الأخلاقي، حدثت انتكاسة إلى البربرية والعنف والتعصب. هذه هي «جدلية التنوير» التي استلْهَمَ منها هوركهايمر وأدورنو فهْمَهما لعالمهما الاجتماعي، وأثَّرت في تشخيصهما لعيوبه.
(٢) استجابة هابرماس الأولى
يعتبر أول أعمال هابرماس الكبرى «التحولات البنيوية للفضاء العام: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي» (١٩٦٢) استجابةً نقدية بنَّاءة لمفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية. ولو أن هذا العمل أشبه ﺑ «قضية مشهورة» في ألمانيا الغربية في أوائل الستينيات، فهو لم يترجَم إلى الإنجليزية حتى عام ١٩٩٣. وهو محاولة لحل مشكلات النظرية النقدية للجيل الأول من مدرسة فرانكفورت؛ محاولة مخلصة في الوقت نفسه لروح النظرية الأصلية مع الحفاظ على بعض جوانب تشخيصها للآفات الاجتماعية.
يَظَلُّ «التحولات البنيوية» مخلصًا للنموذج الأصلي من عدة أوجه. أولًا: هو متعدد التخصصات؛ حيث يمزج ما بين أفكار متعمقة من التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والفلسفة. وثانيًا: يهدف إلى تحديد الجوانب التقدمية العقلانية للمجتمع الحديث والتمييز بينها وبين الجوانب الرجعية غير العقلانية. وثالثًا: يوظف هابرماس، شأنه شأن هوركهايمر وأدورنو من قبله، أسلوبَ «النقد المحايث». ويجوز أن يطلق عليه أيضًا اسم النقد الداخلي، في مقابل النقد الخارجي. ويعتقد المنظِّرون النقديون أن هذا الأسلوب مستلهَمٌ من هيجل وماركس. من بعض الأوجه نراه أقرب إلى أسلوب سقراط في المُحاجَّة؛ وهو الأسلوب الذي يتبنى صاحبه دور المُحاور، تلبية لغرض النقاش، دون أن يدعمه دعمًا حقيقيًّا، من أجل بيان افتقاره للاتساق والصدق. أيًّا كانت أصوله، فإن غاية المنظرين النقديين نقدُ شيء ما — مفهوم عن المجتمع أو عمل فلسفي — في حد ذاته لا على أساس القيم أو المعايير التي تتجاوزه، بِنِيَّة تسليط الضوء على زيفه.
لكن هابرماس يقدم لنا تشخيصًا تاريخيًّا للوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي مختلفًا تمامًا عما يقدمه هوركهايمر وأدورنو. ورغم أنه لا ينتقدهما صراحةً حتى بعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمان؛ أي بعد رحيلهما بفترة طويلة، فإن روايتهما للعقلنة حسبما يرى هابرماس كانت أحادية الجانب ومتشائمة بشكل مبالغ فيه، ومفهومَهما عن جدلية التنوير كان يفتقر إلى كلٍّ من المبرر التجريبي والتاريخي وكذا الاتساق المفاهيمي. إن أعماله نفسها تحاول إنقاذ فكرة النظرية النقدية الأصلية، وذلك بواسطة المزج ما بين تاريخ أكثر تنوُّعًا وتبريرًا للتنوير ونموذج أكثر اتساقًا للنظرية الاجتماعية.
(٢-١) مفهوم الفضاء العام البرجوازي
يرسم «التحولات البنيوية» نشأة الجمهور المفكر من رحم جمهور الصالونات والنوادي والمقاهي المعني بالآداب في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم يصور تقهقره وتفسخه التدريجي. ورواية هابرماس مفصلةٌ تفصيلًا شديدًا، وتكشف عن نطاق مرجعي غير تقليدي.
في بداية القرن الثامن عشر، ساعد توطيد الحقوق المدنية التي تضمن حرية التنظيم وحرية التعبير للأفراد، ونشأة الصحافة الحرة، على ظهور مساحات مادية كالمقاهي والصالونات والدوريات الأدبية، يستطيع المواطنون فيها الانخراط في نقاشات عامة حرة. لقد كانت منتديات يجتمع فيها شمل الناس طواعية، ويشاركون أندادًا في حوارات عامة. وكانت هذه الساحات مستقلة من ناحيتين؛ فالمشاركة فيها كانت طوعية، فضلًا عن أنها كانت تتمتع بالاستقلال النسبي عن النظامين السياسي والاقتصادي. لم يكتف المشاركون في الفضاء العام بالتعامل بعضهم مع بعض اقتصاديًّا عبر التبادل والتعاقد سعيًا لتحقيق الربح الفردي والمصلحة الشخصية. يتكون الفضاء العام من تجمعات طوعية لمواطنين مستقلين يجمع بينهم هدفٌ مشترك؛ ألا وهو استغلال منطقهم في نقاش غير مقيد يدور بين أنداد. وسرعان ما تطورت ثقافة مشتركة ساعدت، من بين أمور أخرى، المشاركين على اكتشاف احتياجاتهم واهتماماتهم والتعبير عنها، وصياغة تصور للمصلحة العامة. وبحسب هابرماس، تبلورت فكرة قياسية للرأي العام حول مفهوم المصلحة العامة الذي ترسخ في ساحات الخطاب العام هذه، والتي يمكن وصفها بالهشة والآمنة في الوقت نفسه.
ومع انتشار سلطة العامة وأثرهم، بدأ الرأي العام تدريجيًّا في لعب دور الرقيب على شرعية صلاحيات الحكومة غير الممثلة للشعب والمنغلقة على نفسها. وعن طريق التحقق مما إذا كانت القوانين والسياسات تخدم الصالح العام أم لا، يستطيع العامة اختبار شرعيتها بفاعلية. ورغم أن الفضاء العام بدأ يمارس وظيفة سياسية واجتماعية، فإنه لا يمكن الخلط بينه وبين أي مؤسسة سياسية محددة أو ربطه بها. فقد كان فضاءً غير رسمي للتواصل الاجتماعي يستقر في مكانٍ ما بين المجتمع المدني البرجوازي والدولة أو الحكومة.
(٢-٢) الفضاء العام كفكرة وأيديولوجية
تعتبر النظرية النقدية عند هابرماس، كما هو مبيَّن في «التحولات البنيوية»، تنويعة من النقد المحايث المعروف باسم نقد الأيديولوجية أو النقد الأيديولوجي. ولفهم فحوى هذه النظرية، يجب أولًا أن ندرس فكرة الأيديولوجية. يُعَرِّف أدورنو الأيديولوجية بأنها «وهْمٌ ضروريٌّ اجتماعيًّا» أو «وعيٌ زائفٌ ضروريٌّ اجتماعيًّا»، ويقبل هابرماس في شبابه تعريفًا شبيهًا بذاك التعريف. واستنادًا إلى وجهة النظر هذه، فالأيديولوجيات هي الأفكار أو المعتقدات الزائفة التي يتمكن المجتمع بشكل نظامي من حث الناس على تبنِّيها. لكن الأيديولوجيات ليست معتقدات زائفة عادية، كاعتقادي الزائف بأن ثمة شايًا في قدحي بينما يحتوي القدح على القهوة، بل هي معتقدات خاطئة يُفْتَرَض صحتها على نطاق واسع؛ لأن جميع أفراد المجتمع تقريبًا حُملُوا على الاقتناع بها بشكل ما. علاوة على ذلك، فالأيديولوجيات معتقدات زائفة فاعلة تعمل — لا سيما في ظل انتشارها على نطاق واسع — على دعم بعض المؤسسات الاجتماعية المحددة وعلاقات الهيمنة التي تؤيدها. ومن هذا المنطلق تحديدًا نجد أن الأيديولوجيات «ضرورية اجتماعيًّا».
والأيديولوجية من هذا المنطلق يمكنها أن تلبي وظائف اجتماعية من عدة طرق مختلفة. فمن الجائز أن تشكل في الواقع مؤسسة اجتماعية من صنع الإنسان؛ ومن ثم مؤسسة قابلة للتعديل أساسًا، تبدو وكأنها ثابتة وطبيعية. أو قد تشكل مؤسسة تخدم في واقع الأمر مصالح فئة محدودة من الناس تبدو وكأنها تخدم مصالح الجميع. على سبيل المثال، إذا كان الجميع يؤمنون بأن القوانين الاقتصادية توجد بشكل طبيعي ومستقل عن البشر، فأغلب الظن أن يقبل العمال الأجور الزهيدة التي يحصلون عليها لقاء كدهم بدلًا من أن يروا في موقفهم إجحافًا هيكليًّا بحاجة إلى إصلاح؛ ولذا، فإن نقد الأيديولوجية نوع من النقد المحايث الذي يفضح هذه الأوهام الضرورية اجتماعيًّا؛ ومن ثم يجعل، أو هكذا نأمل، موضوعَ النقد — وهو هنا البنية الاجتماعية المشكِّلة للوهم — أكثرَ سلاسة وقابلية للتغير.
وبحسب هابرماس، فإن مفهوم الفضاء العام فكرةٌ وأيديولوجية في آن واحد. فالفضاء العام مساحة يشارك فيها الناس كأنداد في نقاش عقلاني طلبًا للحقيقة والصالح العام. فالانفتاح والشمولية والمساواة والحرية كأفكار كانت لا تقربها الشبهات، لكنها في الواقع محض أيديولوجيات أو أوهام؛ وذلك لأن المشاركة في الفضاء العام الموجود في المقاهي والصالونات والدوريات الأدبية في أوروبا القرن الثامن عشر نظريًّا طالما كانت حكرًا على مجموعة صغيرة من الرجال المتعلمين الأثرياء. وكان الثراء والتعليم شَرطَيِ المشاركة الضمنيَّيْن. والواقع أن السواد الأعظم من الفقراء وغير المتعلمين، وجميع النساء تقريبًا، كانوا مستبعدين من الفضاء العام. ومن ثم، فإن فكرة الفضاء العام ظلت طوباوية وحسب؛ مجرد رؤية شاملة داعية للمساواة بين البشر لمجتمع جدير بأن نسعى لتحقيقه، لكنه لم يتحقق كليًّا قط. وظل مفهوم الفضاء العام البرجوازي أيديولوجيًّا بالمعنى الثاني أيضًا؛ وذلك لأن فكرة المصلحة العامة أو الصالح العام، التي خلقتها الثقافة المشتركة للجمهور المولَع بالأدب وسوق الحُجج، طرحت ما كانت في حقيقة الأمر مصالح مجموعة محدودة من الرجال المتعلمين الأثرياء باعتبارها المصلحة العامة للبشر أجمعين.
أهمُّ نقطة في منهج هابرماس هي إثبات أن فكرة الفضاء العام البرجوازي كانت، رغم كل ذلك، تتجاوز الوهم المحض؛ لأن هذا الفضاء كان أساسًا مفتوحًا؛ فكل مَن حصَّل ثروة وتعليمًا مستقليْن، بغض النظر عن مكانته أو حالته الاجتماعية أو الطبقة التي ينتمي إليها أو جنسه، يحق له المشاركة في النقاش العام. ولم يكن هناك مَن يُستبعد «نظريًّا» من المشاركة في الفضاء العام، مع أن كثيرًا من الناس استُبْعِدوا «فعليًّا». إن نموذج اجتماع عدد من الأشخاص المستقلين على نحو تطوعي مفتوح للجميع، يجتمعون كأنداد للمشاركة في نقاش لا يقيده قيد طلبًا للحقيقة والمصلحة العامة، كان لا شك طوباويًّا، لكنها كانت ولا تزال يوتوبيا جديرة بالسعي إليها. ولفترة وجيزة خلال القرن الثامن عشر، لم تكتسب هذه اليوتوبيا رواجًا فكريًّا فحسب، بل وبدأت تتحقق على أرض الواقع، بشكل عابر وجزئي، في الواقع الاجتماعي والسياسي.
(٢-٣) انحسار الفضاء العام
يرسم الجزء الثاني من «التحولات البنيوية» تفسخ الفضاء العام وانحساره. لمَّا شهدت الصحف والمجلات تدريجيًّا رواجًا كبيرًا على نطاق واسع، تحولت إلى شركات رأسمالية عملاقة تعمل على خدمة المصالح الخاصة لعدد قليل من أصحاب النفوذ. وتدريجيًّا فقد الرأي العام استقلاليته المزدوجة، علاوة على وظيفته النقدية. وبدلًا من تعزيز تَشَكُّل الرأي العقلاني والمعتقدات الموثوقة، أمسى الفضاء العام في القرنين التاسع عشر والعشرين حلبة يمكن فيها توجيه الرأي العام والتلاعب به. وأمست صحف ومجلات الإعلام الجماهيري والروايات الأعلى مبيعًا، إضافة إلى البث الإذاعي والتليفزيوني، عناصرَ استهلاكية؛ وبدلًا من أن تعزز الحرية والرخاء البشري بدأت في واقع الأمر تقمعهما. ولا شك أن مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية أصبحت أكثر براعة من ذي قبل في الفوز بتقدير الجمهور وتأييده؛ مما كفل لها غطاءً من الشرعية لاحقًا. ولكن هذا التأييد قِوامُه الآراء الخاصة لمستهلكين صاغرين غير ناقدين وتابعين اقتصاديًّا، لا الرأي العام السديد الذي يتشكل عبر النقاش العام المدروس.
إن هذه النظرة المتشائمة نوعًا ما لِتطوُّر المجتمع الرأسمالي الغربي في القرن العشرين كانت تتسق مع جزء كبير من رواية أدورنو وهوركهايمر للطريقة التي خلقت بها صناعة الثقافة جمهورًا متجانسًا بشكل متزايد من المستهلكين الخانعين غير الناقدين. وتبنَّى هابرماس أيضًا تحليل مدرسة فرانكفورت المتشائم نوعًا ما، والذي مفاده أن الرأسمالية الاحتكارية وليبرالية دولة الرَّفاه في الولايات المتحدة الأمريكية أفضتا في نهاية المطاف إلى تضاؤل حرية الإنسان، وتفريغ السياسات الديمقراطية من مضمونها، ولم تُقدِّما بديلًا مثمرًا للنظام الاجتماعي الهش لجمهورية فايمر الألمانية التي أذعنت للنازية.
لهذه الأسباب كلها، يتصف هابرماس بمزيد من الوضوح والإيجابية مقارنةً بما كان عليه أدورنو وهوركهايمر في أي وقت حيال المسار الذي كان ينبغي سلوكه. فالفضاء العام الذي انحسر حقًّا وتشظَّى كان ينبغي تعميقه وتوسعة نطاقه واستمراره في ممارسة مهمة النقد وإضفاء الشرعية على النظامين السياسي والاقتصادي، والزج بهما في نطاقات تحظى بالسيطرة الديمقراطية. ويختتم هابرماس حديثه في «التحولات البنيوية» بما يحويه التحليل النهائي؛ ألا وهو تخمين يحدوه الأمل بأن هذا التطور لم يحدث بعد، وقد يطرأ في المستقبل على أساس الفضاءات الحالية للدعاية المدمجة في مؤسسات كالأحزاب السياسية. وفي ظل الظروف السياسية والاجتماعية المواتية، يحتمل سد الفجوة التي لا تفتأ تتسع بين فكرة الفضاء العام والواقع الاجتماعي والسياسي مجددًا.
(٢-٤) مفهوم النظرية النقدية عند هابرماس
يهتم هابرماس بمفهوم الفضاء العام؛ لأنه يعتبره أصلًا لنموذج إرساء السياسات الديمقراطية، وأساسًا للقيم الأخلاقية والمعرفية التي تعزز الديمقراطية وتحافظ عليها؛ ألا وهي المساواة والحرية والعقلانية والحقيقة. ودائمًا كانت أعمال هابرماس مختلفة عن أعمال أساتذته بمدرسة فرانكفورت؛ إذ كان اهتمامه الشديد بالحرية الفردية دومًا مرتبطًا باهتمامه بمصير المؤسسات الديمقراطية وبآفاق تجديد السياسات الديمقراطية. ومن ثم، فهو يُبدي اهتمامًا بالبنية المؤسسية الفعلية للمجتمع الديمقراطي أكبر بكثير من هوركهايمر وأدورنو. وهو يرى أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنواع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعًا من ناحية أخرى.
ولذا فإن «التحولات البنيوية» يعطي صورة للتنوير أقل تشاؤمًا وسوادًا بكثير من «جدلية التنوير». ففي «جدلية التنوير»، نجد أن العقلانية نفسها هي السبب المحتوم للهيمنة وفي آن واحد السبيل لفك عُراها. إن نظرية أدورنو وهوركهايمر أبورية عن وعي ذاتي؛ فهي تسلط ضوءًا طفيفًا على الموقف المتأزم الذي لا سبيل للخروج منه. وفي المقابل نجد أن نظرية هابرماس عن الفضاء العام تتبنى نموذج النقاش العقلاني الحر بين الأنداد، مع أنه لم يتحقق حاليًّا باعتباره نموذجًا جديرًا بأن نسعى وراءه رغم ذلك.