نهج هابرماس الجديد نحو النظرية الاجتماعية
(١) أعمال هابرماس الأولى
بعد «التحولات البنيوية» بعشرين عامًا تقريبًا، نشر هابرماس عمله «نظرية الفعل التواصلي» الذي يُعتبر أول إعلان رئيسي عن نظريته الناضجة. ولم يكن العقدان الفاصلان بأي حال من الأحوال فترةً من الصمت المطبق. على العكس من ذلك، كان إنتاج هابرماس في هذه الفترة غزيرًا على غير العادة؛ حيث نشر العديد من الأعمال المهمة. فإذا كان «التحولات البنيوية» العملَ الذي بشَّرَ بنهاية تبعية هابرماس الفكرية، فقد مثَّل هذان العقدان سنوات إبحاره في رحلته الفكرية. وخلال هذه الرحلة، أعاد هابرماس تجهيز نفسه وتعديل موقفه فيما يختص بالمنهج الهيجلي-الماركسي الذي لم يكن على وفاق تام معه على الإطلاق. وحقق ذلك بأن طوَّرَ ثلاثة مسارات فكرية ذات صلة بذلك المنهج.
أطال هابرماس انخراطه النقدي مع ماركس وإرثه الفكري في الستينيات والسبعينيات، مستندًا إلى فرضية مفادها أن العمل هو الفئة الأساسية لإدراك الإمكانات البشرية، وأن حرية الإنسان يمكن تصورها بشكل ذي مغزًى باعتبارها تحرُّرًا لقوى الإنتاج وتحولًا لعلاقات الإنتاج.
وكما أوضح غيره من المنظِّرين، ومنهم المنظِّر الاجتماعي الفرنسي سيمون ويل (١٩٠٩–١٩٤٣)، أن الحرية بتصورها هذا لا ترقى إلى تحرر البشر والقضاء على الظلم الاجتماعي، فيجب عدم الخلط بين العلاقات والتفاعلات الإنسانية من ناحية والعمل والكد من ناحية أخرى؛ ذلك أن العمل والكد علاقات تربط بين ذات وموضوع، وهي علاقات أداتية محضة، بينما الأولى علاقات بين الذوات وهي لا أداتية إلى حد كبير. واستجابة لذلك، شرع هابرماس في دراسة تطور البِنى المعيارية، وتطوُّر الوعي الأخلاقي كتتمَّة وتصحيح للفكر الماركسي، الذي كان مشغولًا أكثر من اللازم بتطوير أنماط الإنتاج. ولقد أعطاه ذلك مفهومًا أكثر ثراءً بالروابط الاجتماعية والإنسانية مقارنة بما أتاحته عادةً النظريات الماركسية.
التطور الثاني هو أن هابرماس أمسى مهتمًّا بمنهج البراجماتية الأمريكية الذي وضعه ويليام جيمس (١٨٤٢–١٩١٠) وجون ديوي (١٨٥٩–١٩٥٢) وجورج هربرت ميد (١٨٦٣–١٩٣١) وتشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)، والمنهج التأويلي غير المنقطع الصلة تمامًا والممتد من فلهلم دلتاي (١٨٣٣–١٩١١) إلى هانز-جورج جادامير (١٩٠٠–٢٠٠٢). اشترك هذان المنهجان، البراجماتية الأمريكية والتأويلية الألمانية، في فرضية مهمة، وهي أن الفلسفة يجب أن تجد لها مستقرًّا في الحياة اليومية وتحافظ على رابطها بها. ويتعين أن تؤتي النظريات والمفاهيم الفلسفية ثمارها بإحداثها فارقًا في حياة أناس حقيقيين وتجربتهم في عالم الواقع.
وثالثًا، إلى جانب نقده لماركس وانغماسه في التأويلية والبراجماتية، قَدَّمَ هابرماس نقدًا للتكنولوجيا والعلم والأساليب العلمية والوضعية في التفكير. ورغم ميله إلى الوضعية المنطقية عند مدرسة فيينا بقدر أكبر من أدورنو وهوركهايمر، ظل هابرماس منتقدًا لوجهة النظر القائلة بأن المعرفة كلها، ولا سيما معرفة العالم الاجتماعي، يجب أن تتسق وقوانينَ العلوم الطبيعية. وفي نهاية المطاف، استحدث هابرماس وجهة النظر القائلة بأن الأنواع المختلفة للمعرفة — النظرية والعملية والنقدية — تتشكل في سياق أُطُر مختلفة، وتخدم مصالح بشرية مختلفة. فالمعرفة النظرية تستند إلى اهتمام البشر بالسيطرة التقنية على الطبيعة؛ أما المعرفة العملية والأخلاقية فترتكز على اهتمام البشر بفهم بعضهم بعضًا؛ بينما تستند النظرية الاجتماعية النقدية والتحليل النفساني على الترتيب إلى الاهتمام الجمعي والفردي بالتحرر، وبالتحلل من الأوهام، وبالاستقلالية، وتحقيق الحياة الصالحة.
ورغم أن أعماله الأولى كانت حافلة بشكل مميز بأفكار «هابرماسية»، فإنها الآن ذات اهتمام بيوجرافي وتاريخي إلى حد بعيد. بدأت تأثيرات هابرماس واسعة النطاق بعمله «نظرية الفعل التواصلي» (١٩٨١) في التحول إلى برنامج متسق للنظرية الاجتماعية تفتَّقت منه نظريته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. إن جزءًا كبيرًا من الكتاب مكرَّس لنقاشات عن علماء الاجتماع ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠) وإميل دوركايم (١٨٥٨–١٩١٧) وتالكوت بارسونز (١٩٠٢–١٩٧٩) وصولًا إلى جيورج لوكاتش الهيجلي الماركسي (١٨٨٥–١٩٧١) وحتى النظرية النقدية لأدورنو وهوركهايمر. هذا العمل ليس مراجعة للأدبيات.
يتسم نهج هابرماس بأنه إصلاحي لا تاريخي. فهو يباشر عمله بانتقاء النظريات والسوابق التاريخية المتنافسة انتقاءً نقديًّا. ودفاعًا عن نهجه، يقول هابرماس إن نماذج العلوم الاجتماعية (على عكس نماذج العلوم الطبيعية) لا يرتبط بعضها ببعض كمعقبات تاريخية؛ فعلماء الاجتماع لا يُسقطون نظرية ما لصالح نظرية أخرى أفضل منها؛ وذلك لأن النظريات الاجتماعية يرتبط بعضها ببعض كبدائل تتنافس، إذا جاز التعبير، «على قَدَم المساواة» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ومن ثم فمن بين معايير النظرية الاجتماعية السديدة الدرجة التي تستطيع بها التعامل مع سابقاتها ومنافِساتها؛ بحيث تفسر إنجازاتها وتحافظ عليها وتعالج عيوبها في الوقت نفسه. وتلبيةً لهذه الغاية، يقدم هابرماس ما يسميه «تاريخ النظرية بِنِيَّة منهجية»، وهو نهج تركيبي مدروس يُنسب إليه ثراء أعماله الرئيسية، وكذلك إسهابها المخيب للآمال.
بدلًا من التركيز على تناولات هابرماس لتاريخ النظرية الاجتماعية، الأمر قد يكون متحيزًا نوعًا ما، سأركز على النية المنهجية في أعماله. إن هدفه المباشر في «نظرية الفعل التواصلي» هو حل ثلاث مشكلات يعتقد أنها سببت إحباطًا للمفكرين أصحاب المناهج سالفة الذكر.
(٢) ثلاث مشكلات في النظرية الاجتماعية
(٢-١) مشكلة فهم المغزى في العلوم الاجتماعية
وعلى نهج دلتاي، فكَّر فيبر أن على المرء المزجَ بين الملاحظات الخارجية للسلوك البشري وفهم المغزى الذاتي «الداخلي» للفعل. ويمكن الوصول إلى المغزى الذاتي السالف الذكر بتفسير السلوك البشري في ضوء السياق ذي الصلة للدوافع والقيم والاحتياجات والرغبات البشرية. وقال فيبر إن الفعلَ ذو مغزًى ذاتي؛ ومن ثم فهو مفهوم إذا تسنَّى ربطه بسياق مناسب من الوسائل والغايات؛ أي إذا تسنَّى فهمه باعتباره أُقْدِمَ عليه لسبب. وفي المقابل، فالفعل «غير ذي مغزًى»، شأنه شأن غالبية السلوكيات الحيوانية، إذا لم يتسنَّ تفسيره إلا كردِّ فعل لمثير خارجي. لقد ربط فيبر بين مسألة مغزى الفعل ومسألة السبب الداعي للإقدام عليه.
يعيب نظريةَ فيبر للفعل، رغم كل مميزاتها التي تتفوق بها على نظرية دلتاي، العديدُ من السقطات. يرى فيبر أن المُفَسِّر يمكن أن يفهم مغزى فعل شخص ما، لدرجة أنه يستطيع إعادة خلق أو استنساخ ما يحدث ذاتيًّا «داخل» عقل ذلك الشخص بشكل فيه تقمُّص عاطفي، لكنه لا يقدِّم لنا تحليلًا وافيًا لماهية هذا الفهم الحاصل بالتقمص العاطفي. لدى فيبر مفهوم ازدواجي عن الفعل طبقًا له ينفصل العقل الداخلي عن الجسد الخارجي، وبذا تظل العلاقة بينهما غامضة في حد ذاتها. ومن ثم، يتعذر عليه أن يصرح بالقيود التي تقيد تفسير فعل ما. وهذا يعني أنه لا سبيل لديه لتفسير سبب أنَّ ما يُعد غيرَ عقلاني أو عقلانيًّا من منظور الفاعل يُعَد أيضًا غيرَ عقلاني أو عقلانيًّا من منظور مُفَسِّر الفعل. ولذلك، لا يستطيع فيبر تفسير علة استمرار ثبات مغزى الفعل بمرور الوقت وإمكانية الكشف عنه.
- (١)
يود سميث الحفاظ على شعوره بالدفء.
- (٢)
يملك سميث موقدًا لحرق الخشب يستخدمه في تدفئة البيت.
- (٣)
نفد الوقود الذي يستخدمه سميث لإشعال الموقد.
- (٤)
يعلم سميث أنه يستطيع الحصول على وقود للموقد إذا ما جمع الحطب وقطعه.
- (٥)
ولذا، ينبغي أن يجمع سميث الحطب ويقطِّعه.
تبرهن هذه الحجة على أن سميث لديه سبب في ظل الظروف الحالية لجمع الحطب وتقطيعه. وإذا تسنى لنا كمفسرين افتراض أن فهم سميث لهذا المنطق أدى به إلى جمع الحطب وتقطيعه، فسيمكننا، على أساس سلوكه الظاهري، فهم مغزى فعلِه فهمًا وافيًا. يعتمد مغزى فعل سميث على حقيقة الافتراضات من ١ إلى ٤، وكذا على صحة الاستنباط المفضي إلى النقطة ٥، وهي كلها منفصلة عن الحالات الذهنية لسميث ولمُفَسِّره.
- (١)
لفهم مغزى فعل من الأفعال، لا يكفي أن نطرح وصفًا خارجيًّا من طرف ثالث للسلوك.
- (٢)
الفهم السديد لمغزى الفعل يعتمد على فهم صحيح للأسباب الداعية للقيام بالفعل.
- (٣)
لا يمكن تفسير الأسباب؛ ومن ثم الأفعال، تفسيرًا صحيحًا إلا بمساعدة المعرفة المسبقة للأغراض والقيم والاحتياجات والرغبات والتوجهات البشرية.
- (٤)
المغزى وراء فعل ما، والأسباب الداعية للقيام به، لها محتوًى متاح في الأساس لكلٍّ من المُفَسِّر والفاعل، وليس حكرًا على الفاعل وحده.
وبناءً على ما تقدم، يرى هابرماس أن النهج القياسي معيب؛ إذ يُفترض خطأً أن البشر كائنات تحمل احتياجاتها ورغباتها قبل تفردها ونزوعها للتجمع. علاوة على ذلك، فهو يفترض أن كل فرد يفكر بشكل أداتي من وجهة نظره الشخصية؛ ولذا فإن المعاني العامة والمشتركة تعتمد على أسباب خاصة وفردية. وأخيرًا، فهذا النهج يستبدل بكلٍّ من المفهوم التأويلي عند دلتاي والمفهوم المنطقي النفساني عند فيبر للاصطلاح الباطن لغويًّا شيئًا آخر أكثر صلة بمفهوم فريجه عن الإشارة الكائنة بالعالم الخارجي. وفي المقابل، يرى هابرماس، كما سيتبين لنا في الفصل التالي، أن المعنى اللغوي لا يمكن اختزاله إلى شروط افتراضات الحقيقة.
(٢-٢) اللاعقلانية ومشكلة نقد الأيديولوجية
تساءل المنظِّرون الاجتماعيون منذ عهد لودفيج فويرباخ (١٨٠٤–١٨٨٣) وكارل ماركس عن علة استعداد الفاعلين للحفاظ على مؤسسات تعوق أو حتى تُحبط تحقيق مصالحهم وإعادة استنساخها. لِمَ يُجاري الفقراء والمهمَّشون والمضطهدون المؤسساتِ والقوانين نفسها — سواء كانت دينية أم اقتصادية أم سياسية — التي تُفقرهم وتهمشهم وتضطهدهم؟ الإجابة التي يقدمونها هي أن هذه الفئات تتصرف بلا عقلانية؛ لأنها تتبنى معتقدات خاطئة عن ماهية مصالحها الحقيقية. استخدم ماركس اصطلاح «الأيديولوجيات» الفني (الذي تعرفنا عليه في الفصل الأول) إشارةً لمثل هذه المعتقدات الخاطئة. فقد رأى أنه ليس من الكافي للفيلسوف الاجتماعي أن يجعل الفاعلين المضطهدين ببساطة على دراية بمعتقداتهم الخاطئة. فالتغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بإحلال معتقدات سليمة محل أخرى خاطئة هكذا ببساطة. فالمسألة ليست، كما كتب أفلاطون ذات مرة، بمنزلة صب البصر في أعين المكفوفين. ثمة شيء في المجتمع — شيء يتعلق بتنظيمه الاقتصادي لدى ماركس — يجعل الفاعلين أكثر ميلًا لاكتساب هذه الأيديولوجيات والتشبث بها، رغم الجهود المثلى للفلاسفة الاجتماعيين الساعية لإزالة الغشاوة من على أعينهم. والأدهى أن استمرار هذه الأيديولوجيات ساعد على استنساخ الأنظمة الاجتماعية الاستبدادية نفسها التي ساعدت على نشأتها، والحفاظ عليها. لقد كانت المشكلة العملية للمنظرين الاجتماعيين الماركسيين تكمن في تحديد وتغيير الآليات المولِّدة للأيديولوجية التي جعلت الفاعلين ينزعون إلى التصرف بما يتعارض مع مصالحهم الحقيقية.
لقد كانت هذه الاستراتيجية التفسيرية مَعيبة، مع أنها لم تخلُ من جاذبية بديهية خاصة. أولًا: يجب أن تتاح لدى الناقد الماركسي للأيديولوجية نفسه معلوماتٌ موثوقة عن ماهية الآلية المولدة للأيديولوجية، وتفسيرٌ وجيه يعلل كون معلوماته الخاصة ليست عرضة لأي نوع من أنواع الخطأ الأيديولوجي الذي ينسبه على نطاق واسع للآخرين. يجد ناقد الأيديولوجية أمامه خيارين: إما أن يستثني نظريته الخاصة من الشك في أنها وهْم أيديولوجي. وفي هذه الحالة، لا بد أن تكون هناك وسيلة لتفادي تعرضه للخداع، وينبغي أن تكون معرفة حدوث خداع ما كافيةً للحيلولة دون تَكَوُّن المعتقدات الخاطئة. (فور أن نرى حيلة البطاقة، نكف عن الإيمان بسحرها). وإما ألا يستثني نظريته من الشك، وفي هذه الحالة لا يكون هناك أي داعٍ لتصديق ناقد الأيديولوجية أكثر من الأيديولوجية نفسها. على سبيل المثال، يدرك هوركهايمر الجانب الأول من المعضلة. وفقًا لتصوره الأصلي للنظرية النقدية، فإن الطبيعة المتعددةَ التخصصاتِ الانعكاسية الجدلية للنظرية النقدية كان من المفترض أن تُحصِّنها من الأيديولوجية، وتمنح المُنَظِّر رؤًى متعمقة مميزة في الواقع الاجتماعي. وبالمثل، نجد أن أدورنو أحيانًا ما يزعم أنه من حسن الطالع أنَّ واقعةً خلال نشأته حصَّنته من آثار الأيديولوجية. ومع ذلك، فالمُنَظِّر النقدي يجد نفسه في موقف مزعج؛ فكلما كان من المفترض أن تكون الآلية المُكَوِّنَة للوهم أكثر عمقًا وأكثر فسادًا، كان زعمه بعدم التأثر بها أقل مصداقية.
ثانيًا: من المقبول حاليًّا وعلى نطاق واسع أنه لا يمكن تفسير المعنى إلا على فرض أن الناس عقلانيون في الأساس، وأن معتقداتهم صحيحة إلى حدٍّ بعيد. إذا كان المُفَسِّر على استعداد للقبول باللاعقلانية والخطأ الشائع نفسه لدى الفاعلين الذين يحاول تفسير أفعالهم، فسيَقبل الكثير من التفسيرات المحتملة لسلوكهم. (وربما أن الشخص المار من أمامنا يعتقد أن ثمَّة دبًّا خفيًّا يطارده). وبذلك فإن المفسر يحرِم نفسه من أي وسائل موثوقة لتحديد أيُّ التفسيرات صحيح؛ ومن ثم فهْم معنى الأفعال المراد تفسيرها. لا يمكن التوسع في فكرة الوهم الأيديولوجي أكثر من اللازم دون الحط من شأنها. فإذا بولِغَ في الاحتكام إلى اللاعقلانية، فإن ذلك يهدد بأن يصبح العالَم الاجتماعي غير مفهوم. تستجيب النظرية الاجتماعية عند هابرماس، كما سنرى في الفصل الرابع، إلى هذه المشكلة بإعادة صياغة فكرة الأيديولوجية، ومفهوم النقد الأيديولوجي المرتبط بها في سياق تمييزه بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي. من وجهة نظر هابرماس، الإجابة ليست أن كثيرًا من الناس، دون دراية منهم، يتصرفون بلا عقلانية، بل إنهم يُوَجَّهون بفعل الأنظمة الاقتصادية والإدارية إلى أنماط بعينها من السلوك العقلاني بشكل أداتي.
(٢-٣) مشكلة النظام الاجتماعي
يهتم هابرماس — شأنه شأن كثير من المُنَظِّرين الاجتماعيين من قبله — بمسألة إمكانية وجود نظام اجتماعي. وتُطرح هذه المسألة كثيرًا كما أثارها توماس هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩). فقد تساءل هوبز كيف يمكن أن ينشأ نظام اجتماعي متوقع ومستقر من رحم أفعال أعداد مهولة من البشر المتمايزين، قليل منهم يعرف الآخرين شخصيًّا، وقليل جدًّا فقط منهم، في أي مكان أو زمان، في موقف يسمح لهم بتنسيق أفعالهم باتفاق صريح بينهم. كانت إجابة هوبز هي أن النظام ينشأ بموجب قوانين وسلطة حاكم قدير يتكئ على استخدام القوة والتهديد الحقيقي بإنزال العقاب.
إن المشكلات المرتبطة بحل هوبز لمشكلة النظام الاجتماعي مألوفة. فمن وجهة نظر الفرد، أحيانًا ما يكون الثمن المتوقع لمخالفة القوانين وانتهاك الأعراف — أي العقوبة — أقل بكثير من المنفعة المتصورة للنجاة من العقاب، وفي هذه الحالة سيكون من المنطقي أكثر مخالفةُ القانون بدلًا من الامتثال له. إن النظريات التي تزعم بيان أن طاعة القوانين الراسخة تعود بالنفع بشكل ما على الفرد — النظريات الاجتماعية الأداتية — تصطدم بما يُعرف بمشكلة «المنتفع بالمجان». فهذه النظريات لا تستطيع أن تعلل لماذا يطيع الناس، أو ينبغي أن يطيعوا، القوانين حتى ولو بدا لهم أنه من المنطقي ألا يفعلوا، وأن يستفيدوا شخصيًّا من طاعة الآخرين. ومن ثم، فمشكلة النظام الاجتماعي لم يوجد لها جوابٌ شافٍ.
في مواجهة هذه الاعتراضات، لجأ الفلاسفة لنظريات العقد الاجتماعي التماسًا لأجوبةٍ لمشكلة النظام الاجتماعي. زعمت هذه النظريات أن النظام الاجتماعي يستند إلى شبكة من العلاقات التعاقدية الضمنية أو الصريحة. ولكن هذه النظريات يصعب عليها هي الأخرى — بل ويستحيل — تفسير متى وكيف تحديدًا تم إبرام هذا العقد ما بين الناس الذين من المفترض أن يلتزموا بشروطه. علاوة على ذلك، كما بيَّن دوركايم، ليس كل ما هو تعاقدي منصوصًا عليه في العقد. بدلًا من تفسير وجود القوانين والأعراف الاجتماعية، تفترض فكرة العقد مسبقًا أن ثمة مجموعة كاملة من الأعراف الاجتماعية — وخاصة تلك التي تنص على تنفيذ العقود — موجودة بالفعل.
حاول دوركايم نفسه تفسير النظام الاجتماعي بافتراض أن الفاعلين يلتزمون بالأعراف التي تشكِّل الوعي الأخلاقي الجمعي. وهم يفعلون ذلك لأسباب إيجابية وسلبية على حد سواء. فمن خلال التطبع الاجتماعي، يربطون بين عقوبات بعينها وانتهاك الأعراف، ويتعلمون كيف يتجنبون هذه العقوبات بالفعل الطوعي. وفي الوقت نفسه، يخالجهم شعور تدريجي بالألفة والتماهي مع الوعي الأخلاقي الجمعي للمجتمع الذي يعيشون فيه. طوَّر عالِم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز وجهة النظر هذه، فتحولت على يديه إلى نظرية أكثر تعقيدًا نوعًا ما، مفادها أن امتلاك نظام من الأعراف والقيم يُفضي إلى التناسق والاستقرار الاجتماعي. وقال إن الفاعلين يكتسبون نزوعًا لتصنيف الدواعي الأخلاقية (اللاأداتية والموجهة نحو الآخرين) في مرتبة أعلى من الدواعي اللاأخلاقية (الأداتية والموجهة نحو الذات)، ونزوعًا إلى إنزال العقاب بمن يفشلون في ذلك. وحيث إن أغلب الناس يكتسبون النزعتين معًا، فمن الممكن الحفاظ على النظام الاجتماعي مع أن بعض الفاعلين قد ينحرفون من آنٍ لآخر عن الأعراف الاجتماعية. وفي حال فشل الآلية المعيارية في ضمان الالتزام في بعض الحالات، تظل شبكة أمان أداتية في محلها وراء هذه الآلية؛ لأن الناس سيخشون أن ينزل بهم العقاب إذا لم يلتزموا بما تُلزمهم به الخلقية.
يكمن حلُّ هابرماس لمشكلة النظام الاجتماعي في إعادة صياغة جديدة لأجزاء مختلفة من تلك النظريات. سأبادر برسم الخطوط العريضة للفكرة الرئيسية بإيجاز شديد. بحسب هابرماس، يتم تنسيق الأفعال البشرية دومًا وفي المقام الأول باستخدام الكلمات أو اللغة. وإذا استخدم الفاعلون اللغة لتنسيق أفعالهم، فإنهم يلتزمون التزامات محددة بتبرير أفعالهم (أو كلماتهم) على أساس دواعٍ وجيهة. ويطلق على هذه الالتزامات «ادعاءات الصحة». سندرس ما يعنيه بكلٍّ من «ادعاء الصحة» و«الصحة» في الفصول التالية. يكفينا الآن أن نلاحظ أن هذه الالتزامات لها نوع من المكانة «الأخلاقية»؛ لأنها منطبقة عمومًا على الفاعلين ولا مناص منها، وتخلق تعهدات تجاه المستخدمين الآخرين للُّغة. ولادِّعاءات الصحة أيضًا مكانة «عقلانية»؛ لأنها ترتبط بدواعٍ وجيهة. ادعاء الصحة هو التزامٌ نحو تبرير المرء لأفعاله وكلماته للآخرين. وهذه ليست ظاهرة لغوية ودلالية وحسب؛ فادعاءات الصحة لها وظيفة عملية بما أنها توجِّه أفعال الفاعلين الاجتماعيين. تُقام المجتمعات الحديثة بحيث يمكن أن يُطْلَب من أي فاعل في أي موقف تفسير فعله، ويُلْزَم مسبقًا بذلك. بهذه الطريقة، توفِّر الدواعي الخطوطَ الخفية التي تتجلى معها تسلسلات التفاعل، وتنأى بالفاعلين عن الصراع. وبينما يألف الفاعلون الاجتماعيون توجيه أفعالهم بواسطة الكلام، والإقرار المتبادل بالدواعي الوجيهة، تبدأ أنماط مستقرة نسبيًّا من النظام الاجتماعي في التشكل؛ أنماط لا تعوِّل مباشرة على تهديدات معقولة بإنزال العقاب أو على التقاليد العقائدية المشتركة أو قيم أخلاقية سالفة.