نظرية الحداثة لدى هابرماس
لفلسفة هابرماس جانبٌ تاريخيٌّ ومنهجيٌّ في الوقت نفسه. فقد تعلَّم من هيجل وماركس، ومن الفلسفة التأويلية القائلة بأن موضوعات النظرية الاجتماعية ونظامها لهما تواريخ. وكما قال نيتشه: «الشيء الذي ليس له تاريخ هو وحده الذي يمكن تعريفه.» ولأن المجتمعات لها تاريخ، فإنه لا يمكن تعريفها؛ وهذا لا يعني أنه يتعذر تفسيرها، بل يعني أن تفسيرها يجب أن يضع في الاعتبار هذه التواريخ. وهذا ما تحققه فلسفة هابرماس اقتداءً بأسلوب معين (مع أنه أسلوب من المرجح أن يثير حفيظة المؤرخين). حتى الآن، مررت مرور الكرام على حقيقة أن النظرية الاجتماعية لهابرماس تشخيص ونقد للأشكال «الحديثة» من الحياة الاجتماعية، وأن أخلاقيات الخطاب تبرير وبيان للخلقية «الحديثة». والآن حان الوقت لمزيد من التركيز على نظرية الحداثة والتحديث. فذلك من شأنه أن يساعد في تسليط الضوء على البعد الأخلاقي الخفي في نظرية هابرماس الاجتماعية. بإثبات مدى التشابك بين الخلقية والحداثة، ستوضح النظرية السبب الذي يجعل لآثار الاستعمار الاجتماعية الضارة أثرها على أخلاق مجتمع ما.
على مستوًى معين، تشير الحداثة إلى فترة من الفترات (أو مجموعة من الأفكار المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفترة ما) ذات بداية زمنية. وما إن كانت تلك الفترة قد ولَّت، أو ما زالت تتكشف، أو ما إن كان من المفترض، لو كانت قد مضت، أن نودعها فرحين، كل تلك الأسئلة كانت مثار كثير من الجدل في الثمانينيات مع نشر «نظرية الفعل التواصلي». (لحسن الحظ، من الواضح أن الفترة التي كان فيها هذا السؤال مُلحًّا قد انتهت.) ولكن الحداثة تتجاوز كونها فترة وحسب؛ فهي تشير إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والمؤسسية والنفسية التي تنجم عن عمليات تاريخية بعينها.
ترتبط الحداثة من هذا المنطلق بمختلف الأعمال والأساليب الجمالية التي تنضوي تحت مسمى «الحداثوية»، لكنها تتمايز عنها. لدى الفنان حرية الاختيار؛ فإما أن يتبنى «الحداثوية» أو لا. أما الحداثة فهي تخالف ذلك. فقد تتجه أنت إلى الحداثوية (أوْ لا)، أما الحداثة فتأتي إليك. ورغم أنه من المنطقي أن نتحدث عن «نظرية» هابرماس عن الحداثة، كما أفعل الآن في هذا الكتاب، فهي ليست برنامجًا منفصلًا، كأخلاقيات الخطاب، بل مجموعة من الأفكار والفرضيات المنسوجة بداخل كل البرامج المختلفة.
يمكن القول إن نظرية الحداثة تنقسم إلى نصفين. وثمة رواية تاريخية واسعة النطاق جدًّا تتناول تطور المجتمع الغربي من نهاية فترة العصور الوسطى وحتى أواخر القرن العشرين. وللحبكة الفرعية الخاصة بنشأة الحداثة العلمانية في تلك الفترة من رحم إرث ديني مسيحي أهميةٌ خاصة. علاوة على ذلك، يقدم هابرماس رواية إصلاحية شديدة الطموح لمنطق التطور الاجتماعي: نظرية للتطور الاجتماعي. لنلقِ نظرة على كلٍّ مما سبق على حدة.
(١) الرواية التاريخية
(١-١) التحديث والتمييز بين نطاقات القيمة
لقد تعرضنا فيما سبق لبعض وجهات نظر هابرماس حول أصول المجتمعات الحديثة وطبيعتها. في رواية هابرماس، نجد أن الحداثوية عملية تشمل العديد من المستجدات المترابطة، سبق أن تعرضنا لبعضها. أولًا: كان هناك نمو كبير في المعرفة، ولا سيما في العلوم الطبيعية، من القرن السابع عشر فصاعدًا. كانت علوم العصور الوسطى — وهي وسيلة غير موثوقة لإسناد خصائص من المفترض أنها تفسيرية للمواد على أساس ملاحظات تدريجية — تستند إلى حد بعيد إلى مرجعية أرسطو. وتدريجيًّا، أفسحت هذه المرجعية المجال لنهجٍ أكثرَ تنظيمًا زاوَجَ بين التقنيات الدقيقة للقياس وصياغة النظرية الرياضية، وأسلوب جديد لصياغة الفرضيات التنبئية واختبارها. لقد اتضح أن العلوم الجديدة ناجحة جدًّا، لدرجة أن صعود نجمها أفضى (على مدار عدة قرون وبالتآزر مع عوامل أخرى) إلى تراجع هيمنة المنهج الأرسطي، ووهن سلطة الكنيسة، وإحلال السلطة المعرفية للعلوم الطبيعية والمنطق محلهما. ويزعم هابرماس (متأسيًا بماكس فيبر) أن هذه الزيادة المهولة في المعرفة المفيدة فنيًّا قد أفضت بدورها إلى الفصل بين ثلاثة نطاقات مختلفة للقيمة.
وليس من عجبٍ ظهور «ثلاثة» نطاقات متمايزة للقيمة. لقد حدث التمايز بين نطاقات القيمة منذ فجر نقل السلطة المعرفية والسلطة العملية من المناهج الدينية إلى الصحَّة، وبحسب هابرماس، هناك ثلاثة أنواع متمايزة من الصحَّة.
(١-٢) مشروع الحداثة غير المكتمل
في عام ١٩٨٠، أحدث هابرماس جَلَبة بالكلمة التي ألقاها تحت عنوان «الحداثة: مشروع غير مكتمل» بمناسبة حصوله على جائزة أدورنو. كانت الكلمة مثيرة لردود فعل غاضبة؛ لأن هابرماس سبح ضد التيار الفكري القوي آنذاك لحركةِ ما بعد الحداثة التي كانت تَتُوق لتوديع الحداثة، ومشروع التنوير الملازم لها بأكمله. إن العنوان الذي اختاره هابرماس يطرح نقطتين ضمنًا؛ الأولى أن الحداثة «مشروع» لا حقبة تاريخية، والثانية أن هذا المشروع لم يكتمل بعد (بل يمكن وينبغي أن يكتمل).
يطلق هابرماس على الحداثة اسم «المشروع»؛ لأنه يراها حركة ثقافية تنشأ استجابة لمشكلاتٍ بعينها تتسبب فيها عمليات التحديث السالف وصفها أعلاه. كانت المشكلة الرئيسية هي إيجاد طريقة لإعادة ربط المعرفة المتخصصة، التي أطلقتها عملية التنوير، بالفطرة السليمة والعمليات الحياتية اليومية، للسيطرة على إمكاناتها إلى الأبد بربطها مرة أخرى بالعالم المَعيش والمصلحة المشتركة. إن هذا المفهوم الخاص بالحداثة يضع ما يُطلِق عليه هابرماس فلسفةَ «ما بعد الميتافيزيقا» التي مهمتها، بحسب زعمه، أن تكون بديلًا للعلوم التخصصية ومفسِّرة لها، في قلب الحياة الحديثة وتحدياتها. (جدير بالذكر أن مفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية عالج التفاوت ذاته بين نمو المعرفة التي يمكن استغلالها فنيًّا، من ناحية، وغياب أي شكل مهم من الحياة الاجتماعية من ناحية أخرى.)
ويصف هابرماس المشروع الحديث بأنه «غير مكتمل»؛ لأن المشكلات التي يتناولها لم تُحَل بعد؛ إذ يعتقد أنه من غير المُجدي تعطيل أو عكس اتجاه عملية التحديث الجارية، ولأنه يعتقد أيضًا أن البدائل المطروحة للحداثة والتحديث أسوأ. ومن بين هذه البدائل السيئة مُناوَأَةُ الحداثة. إن الأفكار المناوِئَة للحداثة — كالمذهب المجتمعاتي لدى ألسدير ماكنتاير (مواليد عام ١٩٢٩) الذي يدافع في تفسير له عن إحياء منهج توما الإكويني للفضائل الأخلاقية؛ والأعمال اللاحقة لمارتن هايدجر، التي من الواضح أنها ترحب بعودة أسلوب للحياة أكثر ريفية وتقليدية — ما هي سوى وسائل مختلفة لتجميل انتكاسة في أشكال الحياة ما قبل الحداثية. والبديل السيِّئ الآخَر هو ما بعد الحداثوية. يشك هابرماس في أن الإعلان الصاخب العارض عن نهاية الحداثة يتخلص من الصالح (المُثُل الإنسانية للتنوير) مع الطالح (نمو العقلانية الأداتية والإيمان بالمنافع الاجتماعية للتطور التكنولوجي والعلمي). إنه ينفر من جميع أشكال النسبية والتناص اللذيْن يخلِط بينهما وبين اللامنطقية كثيرًا؛ ولعل ذلك يفسر النبرة الدرامية المبالَغ فيها الملتفتة إلى الماضي لمعارضته الجدلية لما بعد الحداثوية في كتابه «الخطاب الفلسفي للحداثة: اثنتا عشرة محاضرة». آنذاك، كان هابرماس قلقًا من أن فلسفة ما بعد الحداثة المؤثرة آنذاك من فرنسا ربما كانت فخًّا لانبعاث النزعة اللاعقلانية في ألمانيا.
يعتقد هابرماس أننا يجب ألا نضحي بالمكاسب التي جلبتها لنا الحداثة؛ ألا وهي زيادة المعارف، والفوائد الاقتصادية، والتوسع في الحريات الفردية. إن استكمال الحداثة لا يعني فقط قبول كل ما تُلقيه علينا من مستجدات، بل التخصيص الناقد للإمكانات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية للعالم الحديث في ضوء المُثُل الإنسانية العلمانية. وقد لا تكون هذه بالمهمة الهينة؛ ذلك أنها تتطلب، من بين متطلبات أخرى، «إمكانية توجيه التحديث الاجتماعي في اتجاهات أخرى غير رأسمالية» (الحداثة: مشروع غير مكتمل). ويتطلب استكمال الحداثة وقاية العالم المَعيش بفاعلية من الأثر المدمر للنظام، وكما رأينا في الفصل السابق، لا يوجد حاليًّا أي عامل أو قوة كافية لإنجاز هذه المهمة.
(١-٣) نشأة الخلقية العلمانية
لم يعد بإمكان الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها، بل ولن تفعل، من النماذج التي تقدمها حقبة أخرى؛ بل «لا بد أن تخلق معياريتها من تلقاء نفسها».
يشير الحديث عن «المعيارية» هنا إلى المعاني والتفاهمات المشتركة التي تنشأ نتيجة الخطابات التي تُجرى بنجاح. وهذه الخطابات تُخلق ذاتيًّا لأنها نتيجة التواصل والخطاب، ومن هذا المنطلق فهي تئول إلينا باعتبارنا الفاعلين والمشاركين في الخطاب. وهي أيضًا خطابات عقلانية ما دامت تستند إلى الإقرار المشترك بادعاءات الصحة.
ثمة حبكة فرعية لهذه الرواية العامة تتسم بأهمية كبرى لبرنامج أخلاقيات الخطاب. وهذه الحبكة الفرعية تختص بنشأة الخلقية العلمانية من رحم المنهج اليهودي-المسيحي التوحيدي («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). احتوى هذا المنهج — بحسب اعتقاد هابرماس — على فكرة إيجاد أسلوب حياة صالح ومستقيم موضوعيًّا يمكن في ضوئه الإجابة عن السؤال الأخلاقي الذي يطرح نفسه على كل فرد: «ماذا يجب أن أفعل؟»
أثناء التحول التاريخي إلى الحداثة، انفصلت أسئلة محددة وجوهرية حول الخير انفصالًا تدريجيًّا عن الأسئلة الشكلية المتعلقة بالعدالة والصواب الأخلاقي، والأخلاقيات المستندة إلى منهج ديني موحَّد ومتماثل حلَّ محلها مجموعة من مفاهيم الخير المتنافسة. تحولت الخلقية تدريجيًّا من مجموعة من الأوامر إلى نظام من المبادئ والمعايير السارية. والمعايير السارية للخلقية الحديثة تتصف بسمتين: العمومية واللاتَقَيُّديَّة. يقول هابرماس إن هاتين السمتين إرث من المسيحية-اليهودية. ولكن، لمجرد أن المعايير الأخلاقية لها تاريخ، فإن ذلك لا يشير إلى أنها مجرد أطلال لعصر بائد. صمدت الخلقية حتى الحداثة؛ لأن لها غاية إلى الآن؛ وهي فض النزاعات والمساعدة في تجديد النظام الاجتماعي والحفاظ عليه.
تصرَّفْ على أساس المبدأ الذي قد ترغب في الوقت نفسه أن تجعله قانونًا عامًّا.
يتحول التأكيد مما قد يرغب كلٌّ منا في جعله قانونًا عامًّا دون تعارض إلى ما قد نرغب جميعًا وباتفاق فيما بيننا في جعله قاعدة عامة.
وتعتبر أخلاقيات الخطاب لدى هابرماس تطورًا لأحد مفاهيم كانط الحديثة عن مبادئ الأخلاق، الذي يسترشد منطقه الداخلي بمُثُل أو قواعد الخطاب.
(٢) نظرية التطور الاجتماعي لدى هابرماس
وضع هابرماس أيضًا نظرية للتطور الاجتماعي تتخذ شكل أطروحة طموحة جدًّا مفادها أن نوع عمليات التعلم التنموية التي تم تحديدها لدى الأفراد من الممكن، بإدخال التعديلات المناسبة عليها، نقْلُها إلى مجتمعات كاملة. بعبارة أخرى، يمكن الإبقاء جزئيًّا على الفكرة الغائية القائلة بأن العالم الاجتماعي يتقدم، إذا ما وضعنا كل المتغيرات في الاعتبار، في اتجاه بعينه، إذا أمكن الحفاظ على التناظر بين عمليات التعلم الفردية والاجتماعية.
(٢-١) نظرية التطور الأخلاقي لدى لورنس كولبرج
عند النهاية الثابتة للتناظر، نجد نظرية لورنس كولبرج للتطور الأخلاقي لدى الأطفال. رأى كولبرج (١٩٢٧–١٩٨٧)، عالم النفس التطوري، أن الأهلية الأخلاقية للأفراد تتطور عبر ثلاثة مستويات ثابتة — المستوى قبل التقليدي والمستوى التقليدي والمستوى ما بعد التقليدي، بحيث ينقسم كل مستوًى إلى مرحلتين. ومن المفترض أن تكون هذه البنية من المستويات والمراحل «طبيعية»؛ لأنها واسعة الانتشار ثقافيًّا، ويمكن تأكيدها جزئيًّا عن طريق التجريب.
نظرية كولبرج للتطور الأخلاقي لدى الأطفال
المستوى الأول: الخلقية ما قبل التقليدية
في المستوى الأول، يستجيب الطفل إلى مسميات الخير والشر والصواب أو الخطأ، لكنه يفسرها في ضوء التبعات التجريبية لأفعاله.
المستوى الثاني: الخلقية التقليدية
في المستوى الثاني، يُعْلي الطفل من قيمة الوفاء بتوقعات عائلته بغضِّ النظر عن التبعات. وينصبُّ الاتجاه المميز له على التكيف والولاء للنظام الاجتماعي.
المستوى الثالث: الخلقية ما بعد التقليدية
يتميز المستوى الثالث للأخلاق بالقدرة على التمييز بين صحة المعايير الأخلاقية وسلطة الجماعات أو الأشخاص الذين يؤيدونها. ولا تعتمد الصحة على ارتباط المرء بالجماعة. وتعكس القرارات الأخلاقية القيم أو المبادئ المتفق عليها (أو التي يمكن الاتفاق عليها) من قِبَل جميع أفراد المجتمع؛ لأنها تخدم الصالح العام.
يرى كولبرج أن أي مستوًى وأي مرحلة هي خطوة في عملية تعلم، وكل خطوة تكون أهم من سابقاتها؛ بمعنى أنها تمثل زيادة في درجة التعقيد. وكل مستوًى جديد يحتفظ بقدرات حل المشكلات للمستوى السابق له ويطوره؛ ومن ثم ففي كل مستوًى جديدٍ يستطيع الأفراد حل المشكلات والمعضلات الأخلاقية بقدر أكثر إرضاءً؛ ولذا، فإن الأفراد الخلوقين، بصفة عامة، يفضلون المستويات العليا من الوعي الأخلاقي على المستويات الدنيا فور انتقالهم للأعلى.
هذه النظرية فرضية تجريبية في جزء منها، وفلسفة أخلاقية في الجزء الآخر. وبعضُ الأطروحات النفسية القائلة، على سبيل المثال، إن الفاعلين يفضلون حلول المستوى الأعلى على حلول المستوى الأدنى، قابلةٌ للقياس وتدعمها بيانات تجريبية. لكن المزاعم الخاصة بالتفوق النظري لحلول المرحلة السادسة على حلول المرحلة الخامسة (تفوُّق خلقية كانط على الخلقية النفعية) من المفترض أنها نشأت بحجة فلسفية. وحقيقة أن البيانات التجريبية والحجج الفلسفية يدعم بعضها بعضًا؛ يُعتد بها لاحقًا كدليل غير مباشر على صحة النظرية.
تعرضت نظرية كولبرج إلى الكثير من الانتقادات. على سبيل المثال، ينفر النفعيون من فكرة حصرهم في المركز الثاني وراء الكانطيين، وينكرون أن حلولهم للمشكلات الأخلاقية أدنى «طبيعيًّا» أو فلسفيًّا. علاوة على ذلك، كثير من النسويين يدَّعون أن ثمة بُعدًا أنثويًّا تحديدًا للخلقية — ألا وهو الرعاية — إلا أن كولبرج يقلل من أهميته الأخلاقية أو يتجاهلها لأسباب مختلفة. إنه يفضل الحلول «العقلانية» للمشكلات الأخلاقية التي يقدمها الذكور، ويغض الطرْف عن الحلول البديلة المقدَّمة من الإناث، ويستنبط عن طريق الخطأ أطروحة عن نمو الأطفال من الأدلة المتعلقة بنمو الذكور. ورغم هذه النقاط المثيرة للجدل، يؤيد هابرماس نظرية كولبرج عن التطور الأخلاقي مع اختلاف وحيد وحسب. فمثلما لا يجعل روايته التاريخية عن نشأة الخلقية العلمانية تنتهي بكانط بل بنظرية الخطاب الخلقي، فقد أقحم نظرية الخطاب الخلقي في المرحلة السادسة لنظرية كولبرج (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). وربما يعبِّر أنصار الفلسفة الكلبية عن استهجانهم هنا؛ إذ يبدو أنه ليس من قبيل المصادفة أن يئول التطور التاريخي للخلقية الحديثة، بحسب رواية هابرماس، وعلم النفس الأخلاقي التنموي، بحسب تفسير هابرماس له، في نهاية المطاف إلى نظرية الخطاب.
(٢-٢) التطور الاجتماعي والتحديث
تتلخص فرضية هابرماس الطموحة في أنه مثلما أن تطور الوعي الأخلاقي للأفراد هو عملية تعلُّم يمكن تقسيمها إلى مراحل منطقية، فكذلك تطوُّر المجتمع ككلٍّ. على أي حال، إذا كانت المراحل والمستويات المذكورة أعلاه طبيعية لدى الأفراد، فلا بد أن ينعكس ذلك على البِنى الاجتماعية؛ ينبغي أن تكون هناك مجتمعات قبل تقليدية، وأخرى تقليدية، وثالثة بعد تقليدية. يعتقد هابرماس أن كل هذه المستويات يمكن تحديدها في أشكال تاريخية مختلفة من التداعي. فالمجتمعات القائمة في الغالب على صلة الرحم والتقاليد الدينية المشتركة، التي ترتبط فيها الخلقية بالرموز الدينية والقَبَلِيَّة، هي مجتمعات «تقليدية»، بينما المجتمعات الحديثة القائمة على الخلقية العمومية والقانون الشرعي هي مجتمعات «ما بعد تقليدية». والنظير الاجتماعي لبنى المستوى الثاني والثالث للوعي الأخلاقي الفردي يمثل أنواع القواعد المتاحة لحل المشكلات الجمعي. إذا صحت فرضية هابرماس، فسيكون بالإمكان إعادة صياغة عملية التحديث باعتبارها تطورًا لبنًى اجتماعية متزايدة التعقيد يمكنها أن تُمَكِّن الأفراد من حل المشكلات والصراعات الاجتماعية بشكل أفضل.
لكن هذه الفرضية محاطة بالكثير من المشكلات الجسيمة. على سبيل المثال، ليس من الواضح أي الأدلة التجريبية يمكن تأكيدُها أو دحضُها. وثمة مصدر قلق آخر يكتنف التناظر المزعوم بين التطور المتعلق بنشأة الفرد والتطور المتعلق بالسلالات (عمليات التعلم الفردية والجمعية). ومن غير الواضح هل كان السلوك الفردي له أي نظائر جمعية أم لا. في نظرية كولبرج، من الواضح على الأقل الطرف القائم بالتعلم؛ والطفل الفرد. ثمة وعي متحكم ليس له نظير على المستوى الجمعي. كيف لمجتمعات كاملة أن تتعلم؟ يقر هابرماس بأن المجتمعات تتعلم فقط بالمعنى الاشتقاقي الذي مفاده أنها توفر الإطار الذي يتعلم داخله الأفرادُ التعاملَ مع الصراعات وحل المشكلات؛ ولذا، فإن النقلة ما بين المجتمعات التقليدية وما بعد التقليدية يمكن أن تسمى «عملية تعلم».
استنبط هابرماس هذه الفرضية الطموحة في السبعينيات أثناء تعاطيه النقدي مع المادية التاريخية. ولقد كان من المفترض أن تتمم نظريتُه عن البنى الاجتماعية المعيارية الرؤيةَ الماركسية القائلة إن التطور الاجتماعي يتحدد من أسفل بالتغيرات الطارئة على نمط الإنتاج. منذ ذلك الحين، أسقط هابرماس من حساباته أغلب نظرية التطور في هدوء، مع أنه استمر في استخدام بعض أفكارها وافتراضاتها المحورية في برامجه الأخرى. ما لم يسقطه من حساباته هو إيمانه بأن الفاعلين الذين يتصرفون تواصليًّا والذين يسوُّون الصراعات عن طريق الخطاب أقدرُ على التكيف مع صراعات الحياة الاجتماعية الحديثة وتعقيداتها.
(٣) استكمال المشروع الحداثي
كثيرًا ما يشكو نقاد هابرماس من أن أعماله ليست تاريخية الطابع مطلقًا. فهو ينقب في التاريخ بحثًا عن نتائج موائمة لبرامجه البحثية. على سبيل المثال، يقدم لنا هابرماس العمومية الأخلاقية كنتيجة تاريخية، لكنه يريد القول أيضًا إنها رغم ذلك «تطوُّرٌ» يُضاف لما حدث من قبل. يرى هابرماس أنه كلما كان المجتمع متماشيًا مع مُثُل التواصل والخطاب، أي كلما كان أفراده موجهين نحو الوصول إلى إجماع، كان ذلك أفضلَ لهم فرادى وجماعات. ويرى ناقدوه أن هذه المزاعم تذكرهم بالفكرة الهيجلية المرفوضة والقائلة إن ثمة «منطقًا في التاريخ».
هذه المخاوف مشروعة، لكن ليس بالقدر الذي يزعمه النقاد. ينكر هابرماس أن الأفكار السياسية والأخلاقية الموجهة للمشروع الحداثي، حتى لو نشأت في مرحلة معينة في التاريخ، متصلةٌ بالسياق الثقافي المحدد الذي تسبب في نشأتها. ويقدم هابرماس دفاعًا لائقًا عن فكرة التقدم الاجتماعي. فهو يعتقد أنه يمكن إعطاء هذه الفكرة تفسيرًا مبررًا تجريبيًّا (ومعتبرًا ميتافيزيقيًّا)؛ يمكن فهم التطور الاجتماعي باعتباره عملية تعلم من حيث إن الأفراد ما بعد التقليديين بالمجتمعات الحداثية أقدر على تنسيق أفعالهم والحفاظ على النظام الاجتماعي من الأفراد التقليديين أو ما قبل التقليديين بالمجتمعات ما قبل الحداثية. وعلى ذلك، فإن هابرماس أبعد ما يكون عن التفاؤل الساذج؛ فهو يرفض مفهوم هيجل الغائيَّ عن المجتمع باعتباره شكلًا ماديًّا لروح ذاتية التطور تتجه نحو غاية المعرفة الذاتية. واستنادًا إلى روايته، فإن آثارَ التحديث على النظام والعالم المَعيش وتوازنهما الهش متعددةٌ، وإرثَه غامضٌ. على الجانب السلبي من التوازن، يؤدي التحديث إلى ظهور الآفات الاجتماعية — كالتفسخ الاجتماعي والانفصال ومشاعر الاغتراب. وعلى الجانب الإيجابي، تجلب الحداثة مكاسب معرفية واقتصادية وعملية جديرة بأن نحافظ عليها.
ويصر هابرماس على أن محاولة إيقاف أو عكس عملية التحديث، وكأن أحدًا لديه القدرة على الضغط على زر وعكس مجريات التاريخ، لا جدوى منها. وهذا لا يعني أن المجتمع حصين من الأثر البشري. تكمن الحيلة في العمل مع ديناميكيات الحداثة لا بما يناقضها؛ وذلك لأن التحديث يوفر مواردَ يمكن بها حل المشكلات التي يتسبب فيها واحتواء الضرر الذي تلحقه. المحصلة النهائية أن استكمال المشروع الحداثي يعني إيجاد سبل ووسائل لتيسير الانتقال إلى مجتمع ما بعد تقليدي يُنسِّق الأفراد فيه أفعالهم، ويُرسون نظامهم الاجتماعي على أساس المبادئ الأخلاقية العامة والقوانين المشروعة. ولكي نفهم ما يتضمنه ذلك بشكل أوضح، يجب أن نلتفت إلى النظرية الأخلاقية والسياسية لدى هابرماس.