أخلاقيات الخطاب (١): نظرية الخطاب الخلقي
أخلاقيات الخطاب هي البرنامج المحوري لفلسفة هابرماس: يفترض كتاب «نظرية الفعل التواصلي» وجود أخلاقيات التواصل؛ بينما يسلِّم بها جدلًا كتابه «بين الحقائق والمعايير». والبرنامج منقسم إلى مجلدين صغيرين من المقالات تحت عنوانَي «الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي» (١٩٨٣) و«التبرير والتطبيق» (١٩٩١). ولا يوجد أي عمل كبير عن أخلاقيات الخطاب يُقارن بأعماله التي تتناول النظرية الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فأخلاقيات الخطاب هي الأساس المعياري لفلسفة هابرماس، وهي التي تطوِّر الأفكار المميزة للعلانية والشمولية والمساواة والتضامن والعدالة في ضوء برنامج المعنى البراجماتي وبرنامج النظرية الاجتماعية.
ورغم أن ذلك ليس واضحًا من أول وهلة، فإن أخلاقيات الخطاب امتداد، بسبل مختلفة تمامًا، للبُعْد الأخلاقي الضمني المهمل عادةً في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. كتب أدورنو في كتابه «الجدل السلبي» عن «أمر قطعي جديد» فرضه هتلر على البشرية؛ ألا وهو «أن ينظموا أفكارهم وأفعالهم بحيث لا يتكرر ما حدث في معسكر أوشفيتس مجددًا، وألا تقع أي حادثة شبيهة قط.» إن السبب وراء إهمال الأهمية الأخلاقية لفلسفة أدورنو، رغم مثل هذه التصريحات، هو أنه ينكر احتمالية العيش بنزاهة في خضم ما يطلق عليه اسم «الوجود المتضرر». بعد حادثتَيْ معسكر أوشفيتس وهيروشيما، لم يعُد بالإمكان أن نحيا حياة هانئة أو نتصرف بشكل أخلاقي وبضمير مستريح. وأفضل ما يمكن أن يفعله المرء هو مقاومة الخسائر التي تُحدثها الثقافة الجماهيرية (مقاومة ما يُعرف أحيانًا، بطريقة مبسطة، باسم «التبسيط»)، ورفض مسايرة الخلقية التقليدية، والتكيف مع المعايير الاجتماعية؛ ولذا، مهما كان هذا الأمر الأخلاقي واضحًا وجليًّا، فثمة هالة من المفارقة تحيط به.
«التعلم من الكوارث» واحدة من الأفكار الأساسية في أعمال هابرماس. فقد عاصر هابرماس — شأنه شأن أدورنو — الفترة النازية وتبعاتها؛ والمثلُ أو، إن شئنا مزيدًا من الدقة، المحصلة الأخلاقية التي أعرب عنها أدورنو في أمره القطعي الجديد؛ محورية فيما يتعلق بفلسفة هابرماس الأخلاقية والسياسية. الفارق أن هذه المحصلة الأخلاقية لدى هابرماس لها تداعيات أخلاقية واجتماعية (وكذلك تداعيات سياسية، كما سيتبين لنا لاحقًا)؛ فمنع تكرار وقوع ما حدث في معسكر أوشفيتس أو ما شابهه يعني الحفاظ على العالم المَعيش، وخلق ظروف يندمج بموجبها الأفراد اجتماعيًّا في الخلقية ما بعد التقليدية، ويشيدون نظامًا اجتماعيًّا على أساس معايير صحيحة بالدليل القطعيِّ.
(١) الخطاب الأخلاقي والوظيفة الاجتماعية للخلقية
في هذا الفصل، ينصبُّ تركيزي على نظرية الخطاب الخلقي وفكرة الخطاب الخلقي. لا تجيب نظرية الخطاب الخلقي، وهو الغريب بالنسبة لنظرية خلقية معيارية واجباتية، عن سؤال «ماذا ينبغي أن أفعل؟» بل تهدف إلى كشف الستار عن الظروف التي يستطيع في ظلها الفاعلون الأخلاقيون الحداثيون الإجابة بنجاح عن السؤال بأنفسهم. يمكن فهم نظرية هابرماس الأخلاقية باعتبارها تفسيرًا لما يعنيه طرحُ ادعاءِ صحةٍ سليم بالصواب. إلى هذا الحد، تعتبر هذه النظرية نظرية براجماتية لمعنى الكلام الملفوظ الأخلاقي. لكن اهتمام هابرماس بعلم الدلالة الأخلاقي ثانوي. فهدفه الأساسي هو معرفة كيف يمكن لنظرية أخلاقية أن تساعد في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها نظريته الاجتماعية. وهو معني في المقام الأول بأسئلة من قبيل: ما المبادئ الأساسية الكامنة وراء الخلقية؟ وكيف يمكننا تأسيس معايير أخلاقية صحيحة؟ وما الوظيفة الاجتماعية لها؟ إجابته هي أنه في المجتمعات الحديثة، تحل المعايير الخلقية الصحيحة الصراعات بين الفاعلين، وتجدد مخزون المعايير المشتركة.
بحسب هابرماس، المعايير قواعد سلوكية عادة ما تتخذ الشكل النحوي للأوامر، مثل «لا تسرق». وتعمل المعايير الصحيحة (أو المبررة) على تنسيق أفعالنا في العالم المَعيش واستقرار توقعاتنا المتعلقة بسلوك الآخرين. وتساعد على جعل أفعال الآخرين متوقعة، وتخلق سبلًا لفعل يخلو من الصراع.
إن فرضية نظرية هابرماس عن التطور الاجتماعي مفادها أن المجتمعات الحداثية هي مجتمعات ما بعد تقليدية. ويعتقد هابرماس، عندما تسير عملية الإدماج الاجتماعي على خير ما يرام، أن الفاعلين الأخلاقيين الناضجين يكونون بالمرحلة السادسة من مراحل كولبرج، وهي مرحلة الخلقية المنضبطة. ففي المرحلة السادسة، لا يرضى الفاعلون بالالتزام وحسب بالتوقعات الأخلاقية. قد يفعلون ذلك من خلال استشارة الكتاب المقدس، أو التماس نصيحة معلم حكيم، أو محاكاة سلوك أقرانهم. يعلم الفاعلون ما بعد التقليديين لِمَ ينبغي أن يفعلوا ما ينبغي لهم فعله، ويتصرفون فقط استنادًا إلى المبادئ التي يستطيعون تبريرها.
من وجهة نظر هابرماس، ينشأ الصراع عند رفض ادعاء صحة صواب شيء ما. ولذلك يغذي الموقفُ معيارًا مرشحًا من الخلفية الضمنية للعالم المَعيش داخل الوسط الصريح للخطاب. سيشعر الفاعل بالإساءة بطريقة ما بسبب أفعال أو كلمات فاعل آخر، وسيواجه المسيء إليه بأن يطلب إليه تفسير أفعاله. وهناك عدة وسائل يمكن بها تسوية نزاع فعلي. تفيد أطروحة هابرماس بأنه بقدر ما يتسنى للفاعلين الالتجاء إلى الخطاب أو النقاش الأخلاقي، فإن غاية هذا الخطاب أو النقاش الأخلاقي إصلاح الرأب الذي شاب الإجماع بإرساء معيار للفعل يستطيع كل طرف من أطراف النزاع فهمه وقبوله.
(٢) بيان هابرماس للموقف الأخلاقي
من المفيد أكثر من أي شيء أن ننظر إلى حجة هابرماس بأكملها باعتبارها تنقسم إلى قسمين: بيان الموقف الأخلاقي، وتبريره. ويبدأ البيان بالظواهر الأخلاقية؛ بديهياتنا الأخلاقية اليومية. إنها حجة مسبقة. فهو ينطلق من مقدمات منطقية تجريبية محتملة الصحة، على سبيل المثال؛ أن الموقف الأخلاقي جزء من العالم الاجتماعي، وأن هناك معايير أخلاقية صحيحة. ثم تمحِّص الحجة شروط هذه الاحتمالية. إذا وُجِدَ موقف أخلاقي، فيجب أن يكون هناك مبدأ أو معيار للتمييز بين الاعتبارات الأخلاقية واللاأخلاقية، وهذا المبدأ يجب أن تحويه ممارساتنا الأخلاقية ضمنيًّا. ينطلق بيان هابرماس للموقف الأخلاقي على هذا النحو، وفي نهاية المطاف يُميط اللثام عن مبدأين: مبدأ الخطاب، والمبدأ الأخلاقي.
(٢-١) مبادئ أخلاقيات الخطاب
ما السبب وراء وجود مبدأين لأخلاقيات الخطاب بدلًا من مبدأ واحد؟ إنه سؤال جيد، لكن ليس لهابرماس إجابة قاطعة عليه. في النهاية، يصل هابرماس إلى وجهة النظر أن مبدأ الخطاب أوهن من المبدأ الأخلاقي وأقل منه جدلًا، وأنه أمسى منطقيًّا بالفعل بمقتضى نظريته للتواصل. المبدأ الأخلاقي أقوى، ويجب إثباته بواسطة حجة تستفيد من مبدأ الخطاب كمقدمة منطقية.
إن النقطة المحورية في نظرية هابرماس هي أن الخطاب يمكن أن يقوم بوظيفته الاجتماعية والبراجماتية بشكل أفضل؛ لأنه عملية «ثنائية الحوار» تؤلِّف بين الناس في حجة هادفة. وتنطوي دومًا عملية تبرير معيار ما على أكثر من شخص واحد؛ إذ إنها مسألة فيها شخص يجعل المعيار مقبولًا لشخص آخر. ويقول هابرماس إن مبدأ الخطاب «يُعبر وحسب عن معنى متطلبات التبرير ما بعد التقليدية.» وهذه لغة اصطلاحية للادعاء بأن مبدأ الخطاب يرصد حدْس الفاعل الأخلاقي بأن المعايير الصحيحة يجب أن تحظى باتفاق على مستوًى واسع. وتسمية «مبدأ الخطاب» مضلِّلةٌ بعض الشيء، ما دامت لا تجعل الفارق بينها وبين «المبدأ الأخلاقي» ظاهرًا. فالمبدأ الأخلاقي مبدأ خطابي بالقدر نفسه. فيشير مبدأ الخطاب إلى «معايير الفعل»؛ أي المعايير بصفة عامة، بما في ذلك المعايير القانونية والأخلاقية. ويرتبط هذا المبدأ بالخطابات المعنية بالمعايير، لا الخطاب مطلقًا. لا تنطوي الخطابات كلها على معايير، على سبيل المثال؛ فالخطابات النظرية والجمالية لا تنطوي على معايير. ربما كان من الأدق أن نطلق على مبدأ الخطاب مبدأ صحة المعايير عامةً.
لا يصح من معايير الفعل سوى تلك التي يمكن أن يوافق عليها جميع الأشخاص المتأثرين «باعتبارهم مشاركين في خطاب عقلاني».
من المفترض أن يرصد مبدأ الخطاب، كما يوحي بذلك اسمه، إجراء الخطاب. وعلى فرض أن ثمة خطابًا جرى التمحيص فيه بالقدر الكافي (أي إنه لم تحدث أي انتهاكات واضحة لقواعد الخطاب)، فإن الإخفاق في الوصول إلى إجماع على المعيار الجاري بحثه يشير إلى أنه ليس صحيحًا. على سبيل المثال، إن استطاع كلُّ مَن لم يتأثر الموافقةَ على معيار «لا تأكل اللحم»، فلا يوجد معيار صحيح يحظر أكل اللحم. يطلعنا مبدأ الخطاب أيضًا على مَن ستكون موافقته مهمة كمؤشر على الصحة. فهو ينص على أنه إذا كان معيار ما صحيحًا، فجميع الأشخاص «المحتمل تأثرهم» يمكنهم قبوله «باعتبارهم مشاركين في خطاب عقلاني». هذا البيان ليس مباشرًا كما يبدو. فكِّر كم يمكن أن يكون نطاق «كل المتأثرين» واسعًا. إذا كان المعيار عامًّا جدًّا، فإن الصعوبات العملية للسماح لكل المحتمل تأثرهم بالمشاركة في نقاشٍ ما حول هذا المعيار ستكون تعجيزية. وستعتمد صحة معيارٍ ما على الموافقة المتوقعة لكثير من الأشخاص غير القادرين عمليًّا على المشاركة في الخطاب. بعض المعايير — لننظر على سبيل المثال إلى المعايير الضابطة لسياسات تنظيم الأسرة الصينية التي تسمح بمولود واحد فقط لكل عائلة — ستؤثر حتى على الذين لم يُولدوا بعد. من الواضح أن الذين لم يولدوا بعد لا يستطيعون المشاركة في الخطاب، ولكن ما دام «من المحتمل أن يتأثروا»، فإن صحة المعيار تعوِّل على موافقتهم المناقضة للواقع. ولأن مبدأ الخطاب يتطلب قدرًا واسع النطاق جدًّا من الموافقة، فهو يفرض شرطًا شديد التقييد. ومن ثم، يكون عددُ الحالات التي يمكن أن يشير فيها الخطاب حقًّا إلى أن معيارًا ما ليس صحيحًا؛ محدودًا إلى حد ما.
يكون المعيار صحيحًا إذا، وفقط إذا، أمكن لجميع المتأثرين بمحض إرادتهم وبشكل مشترك قبولُ التبعات والآثار الجانبية المنظورة للالتزام العام به لمصالح كل فرد وتوجهه القِيَميِّ.
يستخدم هابرماس مصطلحا «المبدأ الأخلاقي»، أو «مبدأ القابلية للتعميم». و«المبدأ الأخلاقي» ليس في حد ذاته معيارًا أخلاقيًّا. فهو مبدأ ثانوي يختبر صحة المعايير الأخلاقية الأولية بالتحقق من كونها قابلة للتعميم أم لا. وهو مصمم بحيث يرصد ممارسة الحجة الأخلاقية، ولا سيما عملية التعميم التي تنطوي عليها الحجة الأخلاقية.
المعايير الأخلاقية هي قواعد واجباتية تعبر عن التزامات، وتتميز بصيغة الأمر مثل: «لا تقتل». وكما رأينا في الفصل السابق، يقول هابرماس إن مثل هذه الأوامر هي إرث من أسلوب حياة يهودي-مسيحي. على مدار فترة التحديث، برزت مجموعة كبيرة من الخطابات تدريجيًّا من خلال محتويات هذا المنهج؛ مما أدى إلى الاحتفاظ بالمعايير التي ما زالت سارية (على سبيل المثال، «لا تسرق» و«لا تقتل»)، بينما تلك التي لم تَعُد سارية (مثل «لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا») تم تحييدها.
الفارق الثاني الكبير بين مبدأ الخطاب والمبدأ الأخلاقي هو أن المبدأ الأخلاقي يجعل الصحة تعتمد على إمكانية قبول «التبعات والآثار الجانبية المنظورة» لتنفيذ المعيار. يضع هابرماس بهذه العبارة حدْسًا عواقبيًّا داخل نظريته الأخلاقية الواجباتية. وبذلك فهو يباعد بين أخلاقيات الخطاب وبين كانط، الذي ينكر أنَّ تَبِعات الفعل تلعب دورًا في تحديد قيمته الأخلاقية. وهذا غير مألوف نوعًا ما؛ لأن النظريات الأخلاقية الواجباتية عامةً تفترض أن نيَّات الفاعل وحدها تحدد القيمة الأخلاقية لفعل ما. (إذا بصقتُ على الأرض، فحملَت الريح بصاقي وألقت به على عابر سبيل، فإن النظرية العواقبية ستفيد بأن الفعل الذي أقدمتُ عليه خاطئ أخلاقيًّا، بينما النظرية الواجباتية ستفيد بأن فعلي ليس كذلك ما دام أنه لم يكن طائشًا ولم تكن نيَّتي إلحاقَ الضرر بالآخرين.)
وأخيرًا، يقدم المبدأ الأخلاقي معلومات أكثر من مبدأ الخطاب فيما يتعلق بمكونات إمكانية القبول في الخطاب أو الإجماع المدفوع بالعقلانية. فهو ينص على أن كل المعايير الأخلاقية الصحيحة يجب أن تعطي «اعتبارًا متساويًا» لمصلحة كل شخص مَعْنيٍّ، ويجب أن يكون بإمكان الجميع في خطاب عقلاني قبولُها (بين الحقائق والمعايير). وإيجازًا، ينص المبدأ الأخلاقي على أن أي معيار يكون صحيحًا إذا، وفقط إذا، كان يجسد بالبرهان ما يطلق عليه هابرماس المصلحة «القابلة للتعميم».
(٢-٢) الخطاب الأخلاقي باعتباره عملية تعميم
لكي نفهم ماهية المصلحة القابلة للتعميم، يجب أن ننظر إلى عملية التعميم التي يكتسب المبدأ الأخلاقي اسمه منها. كان كانط أول فيلسوف أخلاقي يعي المبدأ الأخلاقي باعتباره اختبارًا للقابلية للتعميم. ومن المفترض أن تستوعب الصيغة الأولى للأمر القطعي عند كانط (انظر الفصل الخامس) الفكرة البديهية الواسعة الانتشار التي تفيد بأن المرء لا ينبغي أن يستثني نفسه. ولكن نظرية كانط تُفضِي به إلى بعض الصعوبات المعروفة؛ لأنه يتصور قابلية التعميم باعتبارها ملكية منطقية أو عقلانية للمسلَّمات وحسب. على سبيل المثال، قد تكون الفكرة البديهية «حافِظ دومًا على عهودك» قابلة تمامًا للتعميم، لكن هذا في حد ذاته لا يفسر سبب وجود التزام أخلاقي بأن يحفظ المرء عهوده. «من يَنَمْ مبكرًا يستيقظْ مبكرًا» مسلَّمة قابلة للتعميم، ولكن رغم أنها قد تكون نصيحة سديدة، فمن الواضح أنها لا تنطوي على التزام أخلاقي. وبالمثل، فإن وجهة النظر القائلة إن الإساءة الأخلاقية في فعلٍ ما يمكن تفسيرها كنوع من التناقض المنطقي في منطق المرء هي وجهة نظر يشوبها الشك. فبيان أن نقض العهد أمر فيه تناقض — لأنه ليس من الممكن أن يوجَد إراديًّا عالَمٌ ينقض فيه الجميع عهودهم — لا يُظهر ما يعيب نقض العهد من الناحية الأخلاقية. إننا لا نستنكر أخلاقيًّا الذين تعوزهم كفاءة سوق الحجج. ولهذه الأسباب، فإن تصور هابرماس للتعميم يختلف كل الاختلاف عن تصور كانط له؛ حيث لا يراه الأول كإجراء عقلي فردي، بل كإجراء اجتماعي.
ويستقي هابرماس تصوره للتعميم من الفيلسوف الاجتماعي البراجماتي الأمريكي جورج هربرت ميد. يقول ميد في كتابه «العقل والذات والمجتمع» (١٩٣٤): «لِكوننا كائنات اجتماعية، أصبحنا كائنات أخلاقية.» ويتصور هربرت اختبار التعميم كوسيلة لإدماج الأفراد في النظام الاجتماعي يطلِق عليها اسم «التبني المثالي للأدوار». بالضبط كاللاعبين في لعبة جماعية، يعمل الفاعلون الأخلاقيون معًا؛ حيث يتصور كلٌّ منهم نفسه في مكان جميع الفاعلين الأخلاقيين الآخرين. ويطلق ميد على ذلك تبني موقف «الآخر المعمَّم»، لكنه يعني تحديدًا التكيُّف مع بقية أعضاء الفريق.
لقد ثبت أن إدماج المرء لنفسه داخل فريقٍ ما، هو عملية مرهقة جدًّا. فالإدماج لا يمكن أن يتحقق فقط بالتفكير كما يفكر الآخرون، وفِعْل ما يفعلون. إنه عملية انعكاسية تنطوي على اتخاذ مواقف ثانوية (أي مواقف تجاه مواقف الفرد نفسه)، وتعديل مواقفه الأساسية في ضوء ذلك. النظير الأخلاقي لذلك هو أن كل فاعل في المجتمع عليه تعديل أفعاله في ضوء توقعاته لما يفعله الآخرون، وهي التوقعات التي يكتسبها عن طريق تبنِّي منظورهم تجاهه وتجاه الآخرين.
يقول ميد إن منظور الفرد يتكون تبعًا لرغباته ومصالحه الخاصة، والذوات الفردية «تتشكل» من مصالحه. ومن ثم، فإن تبنِّي موقف الآخر المُعَمَّم يعني تبني الرؤية التي «تضع في الاعتبار كل مصلحة من تلك المصالح.» والسلوك الأخلاقي مسألة تنطوي على تعديل المرء لمصالحه في ضوء فهمه وإدراكه لمصالح الجميع، وهي العملية التي تفضي إلى اكتساب «ذاتٍ أكبر» تتسق ومصالح الآخرين.
يجب أن يكون كلٌّ منا قادرًا على أن يضع نفسه في موقفِ كل الذين قد يتأثرون بأداء فعلٍ إشكالي أو تبني معيار مشكوك فيه.
الدرس الثاني المهم المستفاد هو أن الخطاب الفعلي يجب أن يجري إذا تم تفعيل هذا التمديد المثالي للمنظور الفردي المحدود الذي سمَّاه هابرماس المثال التنظيمي ﻟ «مجتمع التواصل اللامحدود» (التبرير والتطبيق). وحتى إذا اقتضى الأمر تمديد خطابٍ ما بحيث يشمل أناسًا لا وجود لهم، يتعين أن يجري خطاب حقيقي فعلًا إن أردنا تبرير معيار ما (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). والدرس الثالث المستفاد هو أن الخطابات «ثنائية الحوار» أصلًا. على العكس من اختبار كانط «أحادي الحوار» لقابلية تعميم المسلَّمات، لا يمكن إجراء خطابات أخلاقية بمعرفة أفراد يسوقون الحجج وحدهم. ورابعًا وأخيرًا، ينتهي هابرماس إلى أن الخطاب عملية يدمج الأفراد أنفسهم بمقتضاها داخل المجتمع. فالفاعل الأخلاقي المندمج اجتماعيًّا بشكل ملائم يحقق الاتساق بين مصالحه الفردية وهويته من ناحية والمصلحة الجمعية من ناحية أخرى. بالتصرف بناءً على معايير صحيحة، يخدم الفاعلون المصلحة المشتركة. يعتبر هابرماس أطروحة أن المعايير الصحيحة تحوي «مصالح قابلة للتعميم» مكافئةً للادعاء بأن المعايير الصحيحة «مناسبة للجميع على حد سواء». وبهذه الطريقة، يتحقق ضرب من الإنصاف، لكن ليس على حساب الاستغناء عن منظورَي المتكلم والمخاطب.
الصورة الكلية هي أن الخطابات الأخلاقية تقتضي من المشاركين أن يضعوا أنفسهم في مكان جميع الآخرين المحتمل تأثرهم بمعيار مُرَشَّح؛ وذلك من أجل اختبار كونه مقبولًا من منظورهم أيضًا أم لا. على سبيل المثال، ربما يكون الأثرياء أو المتعلمون الذين يملكون مهارة رائجة نزَّاعين إلى قبول إلغاء الرعاية الاجتماعية على أساس أنها تفرض أعباءً ضريبية مُجحِفة على أمثالهم. ولكن، هل كانوا سيَقبلون بتلك السياسة لو كانوا هم الفقراءَ أو غير المَهَرَة؟ لو فُرض عليهم استبدال منظورهم مع الفقراء وغير المهرة، فإن المبدأ الأخلاقي يستبعد المعايير التي تعمل في مصلحة أشخاص بأعينهم أو جماعات بعينها.
(٢-٣) تبرير المبدأ الأخلاقي
يتخذ بيان هابرماس للموقف الأخلاقي شكل تحليل للأفكار البديهية اليومية التي يحملها الفاعلون الأخلاقيون الحداثيون؛ تحليل يُميط اللثام عن مبدأَيْ أخلاقيات الخطاب؛ مبدأ الخطاب والمبدأ الأخلاقي. يعبر هذان المبدآن عن إجراء الخطاب الذي يميِّز بموجبه الفاعلون في العالمِ المَعيشِ المعاييرَ الأخلاقية الصحيحة، وهي المعلومات التي تتيح لهم الحكم على خطأ أو جواز أفعال بعينها في مواقف بعينها.
إن بيان الموقف الأخلاقي ليس تبريرًا فلسفيًّا له، ما دام هذا البيان ينطلق من مقدمات منطقية أخلاقية. فهذا البيان يفترض وجود الموقف الأخلاقي، ويستفسر عن إمكانية وجوده. وتبرير هابرماس للموقف الأخلاقي لا يفترض هذه الفرضية. يتخذ تبرير الموقف الأخلاقي شكل اشتقاق شكليٍّ للمبدأ الأخلاقي. ويعتقد هابرماس أنه ما لم يمكن استخلاص المبدأ الأخلاقي شكليًّا، من مقدمات منطقية لا أخلاقية، فسيظل هناك شك بأن المبدأ الأخلاقي ليس سوى «تحيز عِرقي»؛ أي إنه مجرد تعبير عن مجموعة من القيم الممكنة ثقافيًّا وتاريخيًّا. وللأسف، لا يقدم هابرماس نفسُه اشتقاقًا شكليًّا للمبدأ الأخلاقي، رغم أنه افترض دومًا (وربما بثقة مفرطة بنفسه) وجوده.
من الناحية الواقعية، ثمة مكان وحيد يستطيع فيه هابرماس أن يبحث عن هذه المقدمات المنطقية الإضافية؛ ألا وهو نظرية الحداثة. المشكلة أنه من المستبعد جدًّا أن يتسنَّى التأكد من نظرية التحديث بمعزل عن برنامج أخلاقيات الخطاب. على أية حال، فإن علاقة التبرير ستتجه في الاتجاه الآخر. وجُلُّ ما يمكن أن نعقد الآمال عليه هو أن تُعتبر نظرية الخطاب الخلقي، إذا وُجد ما يبررها، دليلًا على نظرية هابرماس للحداثة. من الواضح إذن أنه في غياب أي اشتقاق شكلي للمبدأ الأخلاقي، تصمد أخلاقيات الخطاب وتتهاوى بحسب معقولية بيان هابرماس للموقف الأخلاقي.
(٣) أوجُه الاعتراض على المبدأ الأخلاقي
لننظرِ الآن في بعض أشهَر الاعتراضات التي وُجهت إلى نظرية الخطاب الخلقي.
(٣-١) الاعتراض على مسألة التكرار
رأينا توًّا كمْ هو مرهق اختبار التعميم. فبحسب المبدأ الأخلاقي، تصح المعايير إذا، وفقط إذا، كانت تلبي بالبرهان مصلحة عامة لكل المعنيين، ويتبناها الجميع على هذا الأساس. وما دام نطاق الإجماع الذي يستهدفه المبدأ الأخلاقي ومبدأ الخطاب واسعًا جدًّا (موافقة «كل المعنيين»)، وعمليةُ التبني المثالي للأدوار مرهقةً جدًّا، فيجب أن يكون المبدأ الأخلاقي مقيدًا جدًّا. لن تصمد الكثير من المعايير المرشحة أمام هذا الاختبار القاسي لصحتها، والتي ستصمد منها أمام هذا الاختبار ستكون عامة جدًّا.
كان رد هابرماس الأول على هذا الاعتراض إنكارَ أن هناك عددًا محدودًا جدًّا من المعايير الأخلاقية الصحيحة، إذا صحت هذه الرواية. ولاحقًا أقرَّ بهذه النقطة، لكن بدلًا من أن يعتبرها سقطة في نظريته، صوَّرها هابرماس على أنها نقطة قوة. تعكس أخلاقيات الخطاب بدقة واقع الخلقية الحداثية. ويقول هابرماس إنه رغم صحة أن عدد المعايير الأخلاقية الصحيحة يتقلص في المجتمعات الحداثية المتعددة الثقافات، فإن المعايير المتبقية جميعها محورية ومهمة (التبرير والتطبيق). ويستشهد هابرماس بمثال حقوق الإنسان العامة لبيان أن المعايير الأخلاقية الصحيحة محورية حقًّا، وذات حيثية عظيمة، وأن بعضها لاقى قبولًا عامًّا.
هل هذا ردٌّ مُقنع على اعتراض التكرار؟ نعم ولا، في آن واحد؛ فمن الصحيح تجريبيًّا أنه إذا كانت هناك معايير أخلاقية مقبولة عامة، يكون عددها محدودًا؛ ولذا، فالنظرية الأخلاقية يستحيل أن يُعاب عليها بيان ذلك. ورغم ذلك، تنطلق نظرية الخطاب لهابرماس لتفسير الوظيفة الاجتماعية والبراجماتية الحيوية للخلقية. إن إقرار هابرماس بوجود معايير أخلاقية قليلة جدًّا يجعل من المُحَيِّر كون الخطاب الأخلاقي لا يزال الآلية الافتراضية لحل النزاعات في العالم المَعيش، والوسيلة الأساسية للاندماج الاجتماعي. كلما كانت المعايير الصحيحة أقل عددًا، أمسى عدد الصراعات التي يمكن حلها بالخطاب الأخلاقي أقل أيضًا. وفي هذه الحالة، من الصعب أن نرى لِمَ ينبغي أن يكون الخطاب الأخلاقي محوريًّا جدًّا لتفسير النظام الاجتماعي. إن الجهود الحقيقية الساعية لتحقيق تماسك المجتمع تكمن في مكان آخر، بفعل شيء آخر خلاف المعايير الأخلاقية الصحيحة؛ ولذا، يجب أن يكون هناك سبب وراء بقاء الخطاب الأخلاقي غير نجاحه البراجماتي في حل النزاعات.
علاوة على ذلك، لا تتضح حقيقة أن خطابَ حقوق الإنسان الواسعَ النطاق والمتوطدَ الجذور دليلٌ على أن الخطاب الأخلاقي يجب أن يكون هو الذي يحقق التماسك للعالم الاجتماعي. إن السبب وراء مبادرة الناس في جميع أنحاء العالم إلى تأكيد حقوقهم الإنسانية ربما يكون ضمان تلك الحقوق منفعةً ما لصاحب الحق. فالحقوق تضع الآخرين تحت رحمة الالتزامات. ومع ذلك، نادرًا ما يكون الناس توَّاقين لتأكيد واجباتهم العامة تجاه الآخرين والوفاء بها. وهذا يفسح المجال للشك بأنه ربما تكون هناك، على حد تعبير هابرماس، أسباب نظامية وأيديولوجية لتنامي خطاب حقوق الإنسان. وقد يكون خطاب حقوق الإنسان نفسه مثالًا على استعمار العالم المَعيش، لا مصدرًا لمقاومته.
(٣-٢) الاعتراض على التمييز بين ثنائي الحوار وأحادي الحوار
ثمة مجموعة أخرى من الاعتراضات تختص بتمييز هابرماس القاطع بين النظريات الأخلاقية ثنائية الحوار وأحادية الحوار. وسبق أن تناولنا واحدة منها بالفعل. يعتقد هابرماس أن المفهوم أحادي الحوار للخلقية، كالذي يروج له كانط، يتضرر بمقارنته بالمفهوم ثنائي الحوار؛ لأن الأفراد الذين يسوقون الحجج وحدهم سيكونون أكثر عرضة لأخطاء وتحيزات المنظور. لكن عدد المشاركين الفعليين في حوار أخلاقي يمكن أن يكون محدودًا جدًّا، في حين يمكن أن يكون نطاق المتأثرين بالمعيار المُتَّبَع عامةً كبيرًا جدًّا. ليس لدى هابرماس أسباب حقيقية تدعوه لاستنتاج أن النهج ثنائي الحوار تجاه المشكلة (الخطاب) سيتفوق معرفيًّا من الناحية العملية على الحكم الفردي أحادي الحوار (والأرجح أنه سيكون أصح منه). ومن الممكن أن نقول إنه ما دام المعيار قائمًا على تقييم صحيح للأسباب ذات الصلة (على سبيل المثال، ماهية مصالح الجميع، وماهية المعيار الذي يخدم هذه المصالح)، فهو مُبَرَّر. إذا استطاع عدد قليل جدًّا من المشاركين الفعليين في الخطاب التدليل بشكل مقنع على صحة معيار ما، فلِمَ لا يستطيع إذن كل فرد أن يفعل ذلك بمفرده في الأساس؟ إن وجود الإجماع ربما لا يخلع صحة، بحسب ظن هابرماس، ولا حتى يبين أن كل شخص على حدة أصدر حكمًا صحيحًا.
(٣-٣) الاعتراض على حجة الدائرة المفرغة
وأخيرًا، اتُّهمت أخلاقيات الخطاب بدورانها في دائرة مفرغة. وُجِّهت هذه التهمة تحديدًا إلى اشتقاق هابرماس للمبدأ الأخلاقي، والحجة الكلية لأخلاقيات الخطاب، وكذلك لقواعد الخطاب. وينشأ الاعتراض على حجة الدائرة المفرغة لأن برنامج أخلاقيات الخطاب يَفترض أن الخلقية لا بد أن تُبرَّر على أساس فرضيات لا خلقية؛ وأنها لا بد وأن تكون حُجة يمكنها إقناع حتى المتشككين في الأخلاق شريطة أن يتحلَّوا بالعقلانية. من ناحية، كما رأينا من قبل، فالفرضيات اللاأخلاقية التي يطرحها هابرماس ليست بالقوة الكافية لتبرير المبدأ الأخلاقي. ومن ناحية أخرى، متى طرح هابرماس فرضية أكثر ثراءً — نظرية الحداثة أو قواعد الخطاب — يتضح أنها تجلب في طياتها فرضيات أخلاقية وتزيد من احتمال حجة الدائرة المفرغة. قواعد الخطاب مثال على ذلك. تتضمن هذه القواعد القاعدة ٢(ج)؛ وهي أنه يُسمَح للجميع بالتعبير عن مواقفهم ورغباتهم واحتياجاتهم. من الواضح أن القاعدة ٢(ج) ليست قاعدة خطاب بصفة عامة، ما دامت تمنح الجميع الإذن بالتعبير عن مواقفهم ورغباتهم واحتياجاتهم؛ ولذا، يبدو واضحًا أن لهذه القاعدة مغزًى أخلاقيًّا مقبولًا، ولا يمكن اعتبارها فرضية لا أخلاقية أو لا جدلية في حجة مؤيدة للمبدأ الأخلاقي.
ورغم ذلك، لا يتضح بأي حال من الأحوال أن هابرماس بحاجة إلى تبرير المبدأ الأخلاقي على أساس فرضيات لا أخلاقية. بالطبع لا بد أن يتجنب حجة الدائرة المفرغة؛ أي يتعين عليه ألا يدس النتيجة التي خلص إليها في الفرضيات الخاصة بحجته. وهذا لا يعني أن كل فرضياته يجب أن تكون محايدة أخلاقيًّا. لكنه يعني أن أخلاقيات الخطاب لن تكون في موقف يقنع المتشكك في الأخلاق، ولكن هذا قد يتجاوز ما يمكن أن يتمناه المرء من أي نظرية أخلاقية.