أخلاقيات الخطاب (٢): الخطاب الأخلاقي والتحول السياسي
(١) تقسيم هابرماس للمنطق العملي
قبل أن نُمحِّص في طبيعة ووظيفة الخطاب الأخلاقي بالتمايز عن الخطاب الأخلاقي، يجب أن نمر في عجالة على استخدام هابرماس لصفة «براجماتي» في الخطاب البراجماتي. حتى الآن، أشارت صفة «البراجماتي» إلى الوظيفة أو الاستخدام الاجتماعي لشيء ما. ومفهوم هابرماس للخلقية «براجماتيٌّ»؛ لأنه يفسر الخطاب الأخلاقي باعتباره آلية اجتماعية لحل الصراعات. ونظريته للمعنى براجماتيةٌ؛ إذ إنها تنظر إلى استخدام اللغة كوسيلة لتنسيق الأفعال، وترسيخ النظام الاجتماعي. ولكن، في هذا السياق يستحدث هابرماس هذا المصطلح بمعنًى أضيق. تتعلق الخطابات البراجماتية بالاختيار العقلاني للسبل المفضية إلى غاية محددة. ولا توحي تلك الخطابات بشيء حيال اختيار الغايات. الخطاب البراجماتي هو الشكل ثنائي الحوار للمنطق الأداتي، وهو تحديدًا وثيق الصلة بالنطاقين السياسي والقانوني؛ إذ إن السياسة والقانون معنيَّان أساسًا بما هو ممكن.
(٢) ما هو الخطاب الأخلاقي؟
- (١)
الخطاب الأخلاقي «غائيٌّ» من منطلق أنه معنيٌّ ﺑ «اختيار الغايات» و«التقييم العقلاني للأهداف» (التبرير والتطبيق). وبينما يتناول الخطاب البراجماتي الغايات التي ينشدها المرء كما هي، ويدرس الوسيلة المثلى لتحقيقها، يقوم الخطاب الأخلاقي بتقييم هذه الغايات.
- (٢)
يُقَيِّم الخطاب الأخلاقي الغايات عن طريق تقدير «ما يناسبني» أو «ما يناسبنا» («تضمين الآخر، النسخة الألمانية»؛ التبرير والتطبيق). وهذه منافع خاصة لا عامة. (الخلقية، في المقابل، تتناول مسألتَي الصواب والخطأ اللتين، بقدر نفعهما (أو ضررهما)، من المفترض أن تكونا نافعتين (أو مُضرتين) عامةً، ما دام أنهما تؤثران في الجميع بالطريقة نفسها.) إن فكرة الخير التي يزرعها الخطاب الأخلاقي في المعادلة ترتبط بكلٍّ من تاريخ الحياة الفردية للشخص والحياة الجمعية للمجتمع. ويطلق هابرماس على الخطابات المتعلقة بحياة الفرد «أخلاقية-وجودية»، وتلك المرتبطة بالحياة الجمعية أو حياة الجماعة «أخلاقية-سياسية».
- (٣)
الخطاب الأخلاقي احترازي: فهو يتعلق بالسبل التي ننظم بها إشباع رغباتنا وغاياتنا مع النظر للسعادة، ليس في الوقت الحاضر فحسب، بل وفي المستقبل أيضًا، ولسعادتنا مع اعتبار كل شيء.
- (٤)
يُبرز الخطاب الأخلاقي القيم المرتبطة بتاريخ حياة الفرد، وبالتقليد أو الجماعة الثقافية التي ينتمي إليها هذا الفرد. لهابرماس مفهوم محدد جدًّا عن القيمة. فالقيمة مكون رمزي أساسي للثقافة أو الحياة الأخلاقية. والقول بأن القيم أساسية يعني أنه يستحيل تحليلها إلى مكونات أبسط، أو تفسيرها بكلمات أبسط، لنَقُل كلمات خاصة بالتفضيلات أو الرغبات أو الحاجات أو الأسباب. القيم تحدد التفضيلات، لا العكس. فهي تساعد على تشكيل احتياجاتنا ورغباتنا واهتماماتنا التي، بحسب زعم هابرماس، لا تُقَدَّم لنا في شكلها الكامل بفعل إرثنا البيولوجي أو الاجتماعي، لكنها دومًا تظل بحاجة إلى التأويل. ولأن القيم مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنسيج مجتمع بعينه، فإن كل فرد خلال اندماجه اجتماعيًّا في مؤسسات وأنشطة ذلك المجتمع سيستوعب قيمه الأساسية؛ ولذا، فإن هذه القيم ستشكل تدريجيًّا مكوِّنًا محوريًّا لهوية الفرد. وهكذا فالقيم ليست «بمعزل» عنَّا شأنها شأن الحقائق الطبيعية المستقلة في وجودها. إنها راسخة فينا، ونحن نعيش في قلبها. ومن ثم، ورغم أن القيم الفردية عرضة للتفسير والتغيُّر التدريجي، فهي ليست شيئًا يمكن للبشر أن ينفصموا عنه بسهولة أو يجرِّدوا أنفسهم منه. وأخيرًا، فإن القيم بطبيعتها تدريجية، بينما المعايير مطلقة: القيم تسمح بدرجات أعلى وأدنى، بينما المعايير إما أن تكون صحيحة أو خاطئة. وبينما أنه من غير المنطقي — إلى حد بعيد — الزعمُ بأن ثمة فعلًا أكثر خطَأً من الناحية الأخلاقية من فعل آخر، فمن المنطقي جدًّا أن ثمة خيارًا ما أفضل من آخر.
- (٥)
إن فهْم هابرماس لمفهومَي الخير والقيمة يستند إلى سمة منطقية للخطاب الأخلاقي. إن النصائح والأحكام وترتيبات الأفضليات التي تنشأ في سياقها الخطابات الأخلاقية تتمتع بصحة «نسبية» أو «شرطية» وحسب. (وفي المقابل، فإن المعايير التي تنشأ في سياقاتها الخطابات الأخلاقية الناجحة صحيحة عامة وبلا قيد أو شرط. وبينما يُقْصَد من المعيار الأخلاقي الصحيح أن يصمد عبر التقاليد الثقافية المختلفة والمتنافسة، فإن القيم لا تصمد إلا في سياق تقليد بعينه أو جماعة ثقافية بذاتها.)
- (٦)
يُعْنَى الخطاب الأخلاقي بفهم الفرد أو الجماعة لِذاتها. وسواء أكانت المسائل الأخلاقية تخص الفرد أو الجماعة، فهي تعتبر مسائل تأويلية بصفة عامة؛ إذ تهدف إلى إيضاح الذات واستكشافها، وكذلك، إلى حد ما، تشكيلها. وإذا كُلِّلت بالنجاح، فهي تُصدر أحكامًا أو نصائح حيال أي الغايات أو القيم أو المصالح يتعين على المرء السعي وراءها لمصلحته العامة («التبرير والتطبيق»؛ «بين الحقائق والمعايير»؛ «تضمين الآخر، النسخة الألمانية»).
ملخص للفارق بين الخطاب الأخلاقي والخطاب الخلقي
الأخلاقيات | الخُلُقية | |
---|---|---|
المفهوم الأساسي | الخير/الشر | صائب/خاطئ |
منصف/غير منصف | ||
الوحدة الأساسية | القيم | المعايير |
السؤال الأساسي | ما المناسب لي أو لنا؟ | ما المنصف؟ ماذا ينبغي أن أفعل؟ ولماذا؟ ما الصواب؟ |
الصحة | نسبية أو مشروطة | مطْلقة أو غير مشروطة |
نوع النظرية | احترازية، وغائية | واجباتية |
الغايات | النصيحة، والحكم، وترتيب الأفضليات | تحديد المعايير الصحيحة، ومعرفة الواجبات |
-
(٧)
يطرح الخطاب الأخلاقي ادعاءً بصحة الأصالة («تضمين الآخر»، النسخة الألمانية). ولا يتضح بشكل كبير كيف يناسب ادعاءُ الصحة هذا أبعادَ الصحة الثلاثة الأخرى المعنية بالحقيقة والصواب والصدق. تبدو الأصالة نظيرًا للصدق في النطاق العملي. وهي لا تناسب مخطط هابرماس الثلاثي المنمق؛ لأنه، إذ يعرض هذا التعديل على الخطاب الأخلاقي، لا يُعنى كثيرًا بأن يجعله مطابقًا لنظريته البراجماتية للمعنى. وغياب التناسب هذا يشير إلى أن مفاهيمنا الأخلاقية أكثر اضطرابًا مما تبدو عليه في ظل تمايزات هابرماس المفاهيمية المنمقة.
(٣) صحة الخطاب الأخلاقي ونطاقه
من بين السمات المُحَدِّدَة للخطابات الأخلاقية أن النصائح التي تصدر في سياقها تتمتع بصحة «نسبية» أو «شرطية» وحسب. لا يصرح هابرماس بالكثير جدًّا حيال ماهية الصحة النسبية، لكننا نستطيع أن نفترض أنها مسألة نطاق. فالمعايير الأخلاقية الصحيحة يُفترض أن تكون ملزمة عامةً لجميع المشاركين في الخطاب أو جميع المعنيين بتنفيذه، بينما القيم أو الأحكام الأخلاقية ملزمة فقط للأشخاص الذين ينتمون إلى جماعة بعينها. ومع ذلك، فإن حقيقة أن أعضاء جماعة ما يستطيعون مجتمعين وبمحض إرادتهم الموافقة على حكمٍ ما حيال جانب من جوانب مفهومهم عن الخير؛ حكمٌ يعبر عن قيمة مشتركة بينهم، من المفترض أن يكون لها قوة تبريرية، مع أنها، كما سيتبين لنا فيما يلي، ليست كافية كي تفُوق أي اعتبارات أخلاقية مقابلة.
وعلى ذلك، فإن الجماعات الثقافية توفر أُطُرًا ترتبط بها القيم الأخلاقية والأعمال الخيِّرة. ويثير ذلك سؤالًا يتعلق بما يُمكن أن يُعتبر مجموعة ثقافية؛ ومن ثم إطارًا شرعيًّا للتقييم. أعتقد أن هابرماس يفترض أن هذا سؤال اجتماعي تجريبي إلى حد بعيد. ومع ذلك، فهي أيضًا مسألة تقع في بؤرة اهتمام الفلسفة. على سبيل المثال، يبدو واضحًا أن هذا الحديث عن جماعات ثقافية محددة لا يغطي كل النساء أو كل الأشخاص العُسر أو جميع مشجعي نادي الأرسنال الإنجليزي. من المفترض أنهم جميعًا أعضاء في مجموعة كُليَّة، لكن عضوية هذه المجموعة ليس لها أية أهمية أخلاقية-سياسية (مع أنها ربما كانت، بطبيعة الحال، ذات أهمية أخلاقية-وجودية للحياة الشخصية للفرد).
إن العضوية في مجموعة ثقافية بالمعنى المقصود تُعتبر علاقة من نوع مختلف كليًّا. بدايةً، للمجموعات سمة مشتركة تتخلل الكثير من جوانب الحياة، وتُشَكِّل الأفراد الذين يَنشئون بداخلها، ويندمجون اجتماعيًّا في إطارها. وهذا يعني أن المجموعات الثقافية يجب أن تكون كبيرة بالقدر الكافي كي تحافظ على نفسها وتستنسخها والشخصية المشتركة لها. والعضوية في المجموعة أيضًا مسألة إقرار مشترك؛ ولذا فإن المرء لا يُعتبر عضوًا بجماعة إلا إذا أقرت به الجماعة عضوًا بها، من بين اشتراطات أخرى. وثالثًا: فالعضوية مهمة جدًّا لتعرُّف الأعضاء على ذواتهم وفهمها، وهي واحدة من الطرق الجوهرية التي يتعرف بها الآخرون عليهم ويفهمونهم في سياقها. وأخيرًا، العضوية مسألة انتماء إلى حد بعيد. المجموعات الثقافية ليست نوادِيَ يتأتَّى الانضمام إليها بآلية إدارية. والانتماء إلى مجموعة ما ليست مسألة سهلة هينة؛ فقد تكون نتيجة عملية طويلة وصعبة يستوعب فيها الفرد ثقافة المجموعة ويلقَى القبول ضمنها تدريجيًّا.
تبيِّن هذه المعايير لِمَ لا يمثل جميع مشجعي فريق الأرسنال وكل الأشخاص العُسر وجميع النساء، بِغَض النظر عن تشابه تجاربهم، مجموعاتٍ ثقافية بالمعنى الذي يتطلبه مفهوم هابرماس للخطاب الأخلاقي-السياسي. وهذا أمر مهم ما دام أنه يجب ألا يسمح بأن تشكل كل مجموعة من أشخاص يشتركون في اهتمام بعينه، كبيرًا كان أو صغيرًا، مجموعة ثقافية يمكنها أن تلعب دور إطار التقييم الأخلاقي. في إنجلترا، يطيب لصيادي الثعالب وعشاق الرياضات الميدانية تقديم أنفسهم للآخرين على اعتبار أنهم ينتمون إلى مجموعة ثقافية من سكان الريف تسيء الغالبية المدنية فهمها. واستنادًا إلى هذا السبب، فهم يعترضون على اقتراح الحكومة بحظر صيد الثعالب. لكن مفهومهم عن ذواتهم مختلط ومضلل. لا شك أن كل من يهتم بصيد الثعالب سيوافق بكامل إرادته على أنه ما من شيء يعيب صيدها، تمامًا كما يمكن لكل من يهتم بلعب البريدج أو الاستماع إلى بوب ديلان أن يتفق على أنه ما من شيء يعيب الاثنين. إن هذا الاتفاق لا يعني أن صيد الثعالب مبرَّر أخلاقيًّا أو بأي طريقة أخرى. فالجماعات ذات الاهتمام المشترك أو جماعات الضغط هذه ليست جماعات بالمعنى المقصود. جُل ما في الأمر أنهم مجموعة من الأشخاص يشتركون في تفضيلات بعينها. ولا يشكلون التقاليد التي تحتاج إلى إيضاح بخطاب أخلاقي. فالسؤال نفسه المعني بماهية الاهتمامات الأصيلة للمجموعة يجيب عنه وجودها ذاته. قارن بين صائدي الثعالب الإنجليز للحظة وقبيلة البوشمان (رجالًا ونساءً) التي تعيش في صحراء كالهاري وتَعتبر الصيد جزءًا من حياتهم اليومية. بالنسبة لهؤلاء، سيهدد حظر الصيد فعلًا أسلوب حياتهم وهويتهم الثقافية.
(٤) الوظيفة الاجتماعية للخطاب الأخلاقي
تختلف الوظيفة الاجتماعية للخطاب الأخلاقي بحسب كونه يخص تاريخ حياة فرد ما أو ثقافة مجموعة كاملة. وعلى اعتبار أن المجتمعات الحديثة تتألف من تقاليد متنافسة ومجموعات ثقافية ذات مفاهيم مختلفة ومتناقضة عن الخير، فمن الأرجح أن تكون القيم المشتركة مصدرًا لخلافات الجماعات في المجتمعات الحديثة المتعددة الثقافات بقدر أكبر من كونها مفتاحَ حلٍّ لتلك الصراعات. وكمثال عشوائي على ذلك، كثيرًا ما تندلع الخلافات في بريطانيا فيما يتعلق بالزيجات المرتبة لبنات الجيلين الثاني والثالث لآباءٍ مهاجرين. يود الآباء المهاجرون من ناحيتهم أن يرث أبناؤهم عاداتهم وتقاليدهم وممارساتهم التي تتشكل على ضوئها آمالهم وتوقعاتهم من بناتهم. ولكن أغلب الظن أن بناتهم يَكُنَّ قد شكلْنَ تفضيلاتهن وتوقعاتهن الخاصة في ضوء قيم كالاستقلال الشخصي والحب الرومانسي؛ التي تشرَّبْنَها من الثقافة التي ترعرعْنَ فيها.
استنادًا إلى نظرية هابرماس، وبالنظر إلى أن القيم قد تكون سببًا لنزاع مستعصٍ، من الاستجابات التي يمكن التعويل عليها أن نحاول حل النزاع بتفادي أي احتكام للقيم. وهذا بالضبط ما يقوم به الخطاب الخلقي بحسب المبدأ الأخلاقي. المعايير ليست قيمًا؛ إنما هي قواعد سلوكية لها أسسها في البنية التواصلية للعالم المَعيش استنادًا إلى اهتمامات عامة للغاية ومشتركة عمومًا. ومن ثم، فإن الخطاب الخلقي هو الملجأ الأول للأطراف المتنازعة في العالم المَعيش. ومع ذلك، فبالنظر إلى ندرة المعايير الصحيحة عامةً، فإن هذه الصراعات قد لا تكون خاضعة للتنظيم الخلقي، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون الخطاب الأخلاقي مفيدًا. في موقف كهذا، سينطوي الخطاب الأخلاقي بشكل رئيسي على نقاش وإيضاح لجميع الأمور التي تعتبر المصالح المثلى للشخص المعنيِّ. وسينطوي أيضًا لا محالة على تخصيص نقدي للقيم المتأصلة في ثقافة هذا الشخص، وتدبُّرًا لموقفه الشخصي وتاريخ حياته.
وشأنها شأن الخطابات الخلقية، لا يمكن أن يُجري الخطابات الأخلاقية سوى الأشخاص المعنيين وحدهم. ولا يستطيع أحد، على الأقل من جميع الفلاسفة الأخلاقيين، أن يحدد نتائج تلك الخطابات مقدمًا. ورغم ذلك، يمكننا أن نتخيل اثنين من السيناريوهات المنطقية. في الأول، يتجاهل الآباءُ، بعد أن يلاحظوا رغبة الابنة في اختيار زوجها، تلك الرغبةَ، ويقررون المسألة في إطار ما يعتبرونه مصلحتها ومصلحتهم المثلى، ويزوجونها على غير رغبتها. حينئذٍ تتمثل خياراتها إما في التحدي الصريح لرغبات الآباء أو الامتثال المشوب بالتردد. وثمة تصور بديل؛ ألا وهو أن المعنِيِّينَ يكيِّفون مصالحهم وقِيَمهم وينقحونها ويعيدون تفسيرها بشكل مشترك بما يجنبهم الصراع. على سبيل المثال، قد يسمح الآباء بترتيب زيجة بالتشاور مع العروس بحيث لا تشعر أنها ضحَّت باستقلالها الشخصي واحتمال وقوعها في الحب على مذبح تقاليد ثقافية غريبة على جيلها. وهذا السيناريو محتمل لأن الثقافات معقدة داخليًّا ومتعددة الروافد، والمصالح الخاصة للناس عرضة للتعديل والتفسير في ضوء جوانب مختلفة لها.
يشير هذا البديل إلى سمة مهمة من سمات الخطاب الأخلاقي. لنسترجعْ أطروحة هابرماس القائلة بأن التحديث ينطوي على تخصيص نقدي للتقاليد. فالتقاليد تتبدل تدريجيًّا بالتدبر فيها في سياق الخطاب الأخلاقي، فتستمر بعض العناصر ويطوي النسيانُ البعضَ الآخر. القيم ومفاهيم الخير والتفاهمات الذاتية ليست ثابتة. فهي تخضع دومًا لعملية إعادة تفسير. والهويات الجمعية (وكذا الفردية) يجب أن يُنْظَر إليها كضرب من المشروعات بالمعنى الحِرفيِّ؛ إننا عالقون بين ما نجد أنفسنا عليه وما نريده لأنفسنا.
(٥) أولوية الخُلُقي على الأخلاقي
يلاحظ هابرماس أنه على مدار فترة التحديث، تمايزت المسائل المتعلقة بالصواب العام (العدالة) تدريجيًّا عن المسائل المتعلقة بالحياة الصالحة، ونشأت تدريجيًّا مجموعة من المفاهيم المتعارضة والمتنافسة عن الخير من تراث ديني متجانس بوجه عام. وبناءً على ذلك، فهو يرى أنه من الخطأ اعتبار الأخلاقيات والخلقية نهجيْن متنافسين للمسائل نفسها؛ فهما عنصران متمايزان ولكنهما مكملان لفهم ذاتنا في كل يوم. ويَعتبر هابرماس أن قدرة أخلاقيات الخطاب على إفساح المجال لكل من الخطاب الخلقي والخطاب الأخلاقي، بدلًا من تغليب أحدهما على الآخر؛ ميزة استثنائية.
(٥-١) هابرماس وأولوية الخطاب الخلقي
تلعب فكرة الخطاب الأخلاقي دورًا لا تفتأ أهميته تزداد في فكر هابرماس وهو يُمسي أكثر اهتمامًا بالنظرية الديمقراطية والقانونية. ومع ذلك، يستمر هابرماس في الإصرار على أولوية الخطاب الخلقي. ويبرهن أولويته استنادًا إلى عدة أسباب. أولها أن الخطاب الخلقي، من الناحية البراجماتية، هو الآلية الافتراضية لحل النزاعات بين الفاعلين في العالم المَعيش؛ لأنه، على عكس الخطاب الأخلاقي، يستبعد القيم من عملية التبرير، وبذلك فإنه يتفادى مصدر صراعٍ عويصٍ. وثانيها أن الخطاب الخلقي له أولوية اجتماعية-وجودية معينة على الخطاب الأخلاقي، استنادًا إلى حقيقة أن المبدأ الأخلاقي، ومن ثم كل معيار صحيح، متجذرٌ في البنية التواصلية للعالم المَعيش. الصواب المعياري ليس قيمة ثقافية، ولا حتى قيمة واسعة الانتشار جدًّا. إنه يجسد المُثُل التواصلية للاحترام المتساوي للجميع والتضامن العام الذي تحويه قواعد الخطاب. وهو تخصيص للصحة، ومقابل للحقيقة التي من دونها لما استطاع الفاعلون المتواصلون في المجتمعات الحديثة العيش كما يعيشون. وأخيرًا، فإن نموذج كولبرج للتطور الخلقي ونظرية التحديث يدعمان أطروحة أولوية الخلقية. للأفراد ما بعد التقليديين هويات ذاتية مجردة ليست راسخة في أي تقليد بعينه. ويتجلى ذلك في الميل إلى تبنِّي إجراءات تداولية للاستقرار على قضايا خلقية بتدبُّر، قبل طرح أسئلة جوهرية حيال هوية المرء وماهية الحياة المثلى.
المحصِّلة أن الخلقية تضع حدودًا على الأخلاقيات. بحسب هابرماس، الخطابات الأخلاقية مصادر للتبرير تعمل بالفعل داخل حدود الجواز الخلقي. لنفترضْ أن التفكر الأخلاقي يفضي إلى حكم ينتهك معيارًا خلقيًّا. بالعودة إلى المثال الذي طرحناه، لنفترض أن الآباء ينتهون إلى أن أفضل سيناريو هو إجبار بناتهم على العودة إلى وطنهن على غير رغبتهن. في هذه الحالة، يجب دفع المشاركين في خطاب أخلاقي يتعلق بصواب هذا الفعل، وربما أيضًا يتعين عليهم التعامل مع فكرة خرق القانون. في مخطط هابرماس، مهما كان الاعتبار الأخلاقي مبررًا تبريرًا وجيهًا، ومهما كانت أهمية قيمة ثقافية بعينها، فمن الممكن دومًا أن يبطلها معيار خلقي صحيح. فالمعايير الخلقية، متى كانت متاحة، تتفوق على القيم الأخلاقية التي تتعارض معها.
(٥-٢) رولز وأولوية الصواب
في هذه النقطة، ثمة وجه شبه بين أخلاقيات الخطاب والأعمال اللاحقة للفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز (١٩٢١–٢٠٠٢) الذي يدافع عن أطروحة أولوية الصواب على الخير. ووجه الشبه بين وجهات النظر ليس من قبيل المصادفة ما دامت التنقيحات التي دخلت على أخلاقيات الخطاب في التسعينيات قد تأثرت أيَّما تأثر برولز. يعتقد رولز أن الصواب والخير مفهومان متكاملان. فالصواب يجب أن يُفهم في سياق علاقته بأطروحة رولز القائلة إن المفهوم الحديث العملي للعدالة على أنها الإنصاف يجب أن يكون «سياسيًّا لا ميتافيزيقيًّا». ويلاحظ رولز أن المجتمعات الحديثة لم تعُدْ متجانسة ثقافيًّا؛ فهي تشكل مجموعة ضخمة من وجهات نظر عامة و«مذاهب شاملة» تتنافس أيُّها يحظى بالولاء. وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن الإطار القانوني والدستوري لمجتمع منظم يجب ألا يعول على حقيقة أي وجهة نظر عامة بعينها، أو يفترضها مسبقًا. وهذا هو المعنى السلبي للأطروحة التي مفادها أن العدالة يجب أن تكون سياسية لا ميتافيزيقية؛ ولذا، يوصي رولز ﺑ «أسلوب مراوغة» يتم به تقليل النزاع إلى الحدود الدنيا؛ ذلك لأن القيم الأخلاقية والدينية الجدلية تُستبعد من عملية التبرير السياسي.
إذا نظرنا نظرة إيجابية للتبريرات السياسية، فسنراها تحتكم إلى أفكار وقيم عامة تحظى بقبول واسع النطاق بين جميع الثقافات والرؤى العالمية المختلفة. إنها جزء مما يطلق عليه رولز اسم «الإجماع المتداخل» الممكن للقيم. ويجب أن يتحرى المرء الحذر هنا. عندما يستخدم رولز اصطلاح «الإجماع»، فهو لا يعني عملية الوصول إلى فهم أو اتفاق والنتيجة المترتبة على تلك العملية. بالنسبة لرولز، يكون المعتقد أو الفكرة جزءًا من إجماع متداخل عندما يكون لدى الجميع، بغض النظر عن التقاليد أو الرؤى العالمية، سببٌ لقبوله. والسبب الذي يقبلونه على أساسه لا يهم. ومن أبرز هذه الأفكار فكرةُ المجتمع كنظام منصف للتعاون بين المواطنين الأحرار السواسية. يقول رولز إن هذه فكرة خلقية، لكنها لا تتقيد بأيٍّ من المذاهب الشاملة؛ فهي تجد لنفسها صدًى في كل هذه المذاهب.
يقول رولز إن أي مفهوم عن الصواب (أو العدالة) يفي بهذا المعيار السياسي للتبرير؛ معقولٌ أو مبرر، مع أن هذه المعقولية أو التبرير ليس بمقتضى كونه صحيحًا أو جواز كونه صحيحًا. فمسألة صحته أو عدم صحته لا تعوِّل على تبريره السياسي. الأمر الذي يعتبر وثيق الصلة هنا هو أنه يثير أقل قدر من الجدل ويحظى بأكبر قدر من الإخلاص. بهذه الطريقة، يفرض الصواب (أو العدالة) إطارًا سياسيًّا ليبراليًّا يحق لكل فرد فيه المراجعة والتنقيح والسعي لصياغة مفهومه الشخصي عن الخير إلى الحد الذي يتوافق وحرية الآخرين في أن يفعلوا المثل. ومن ثم، فالصواب يعوِّل على وجود عدة مفاهيم متنافسة للخير (أو مذاهب شاملة) من الممكن أن تحظى بدعم المواطنين. والصواب والخير متكاملان: «العدالة ترسم الحدود، والخير يجلي الغاية.»
(٥-٣) هابرماس في مقابل رولز
من الواضح أن هناك اتفاقًا كبيرًا بين هابرماس ورولز؛ فكلاهما يقبل حقيقة التعددية المعقولة. ويتفق الاثنان على أن هناك فارقًا جوهريًّا بين شيء الخلقية/الصواب والأخلاقيات/الخير، وأن الحاجة تقتضي وضع نظرية وافية لاستيعابهما. علاوة على ذلك، فهما يتفقان على أن الصواب له أولوية على الخير. وأخيرًا، فهما يتفقان على أن هناك جانبًا وظيفيًّا أو براجماتيًّا لأولوية الصواب. إن موضوعية مفهوم الصواب تضمن أن يلقى قبولًا واسع النطاق بين الثقافات والرؤى العالمية؛ مما ييسر الاستقرار والانسجام الاجتماعيين.
ولكن كما يتجلى لنا من السجال الشهير بين هابرماس ورولز، هناك مَواطن للخلاف أيضًا. يفترض هابرماس أنه في مجتمع تعددي ثقافيًّا، تكون الأفضلية للاعتبارات الخلقية الدنيوية والعلمانية، في حين نجد رولز أكثر لاأدرية حيال هذه النقطة. إن مسألة كون الخلقية دنيوية أم دينية محل خلاف ميتافيزيقي. يعترض هابرماس على أن مفهوم رولز «السياسي» للعدالة يضحي بمكانته الإدراكية (مقبوليته العقلانية) لصالح غايته الوظيفية أو الأداتية المعنية بضمان الاستقرار الاجتماعي. إن مبادئ العدالة مبررة باعتبارها معقولة لا لسبب إلا أنه يصادَف أنها تلقى قبول الجميع، بِغَض النظر عن كون هذه المبادئ تستحق القبول. وفي المقابل، نجد أن المبدأ الأخلاقي يضمن أن جميع المعايير المقبولة عقلانيًّا، دون سواها، هي المبررة (أي التي تستحق القبول من الجميع) على أساس أنها تجسد بالدليل مصلحة قابلة للتعميم. ووفقًا لأخلاقيات الخطاب، يرتبط الصواب الأخلاقي بالصحة داخليًّا، ويناظر الحقيقة؛ ولذا، فإن هابرماس يعتبر أنه قدَّم مُسوِّغات «معرفية» و«إدراكية»، لا وظيفية وحسب، على أولوية الخلقية؛ فقد أثبت أن الخلقية هي المعرفة، لا التعبير عن قيم من الممكن تبنِّيها.
ومن ناحية رولز، فهو يرد على هابرماس بأن الأخير، إذ أسند أخلاقيات الخطاب إلى نظريته الجدلية للمعنى (وإذ يصر على أن الخلقية علمانية)، يطرح مبدأً ميتافيزيقيًّا جديدًا فحسب. ويمتد أسلوب رولز في الإعراض أيضًا ليشمل النظريات الفلسفية وما وراء الأخلاقية (أي النظريات التي تتناول ماهية الخلقية)؛ حيث لا يقتصر فقط على الرؤى العالمية والمذاهب الميتافيزيقية. ويزعم رولز أن الفلسفة السياسية ينبغي أن تتفادى اتخاذ أي إجراءات نظرية لا حاجة لها، من شأنها أن تجلب له المتاعب لاحقًا. من جانب واحد، من الواضح أن رولز مُحِقٌّ.
يرتبط برنامج هابرماس لأخلاقيات الخطاب ارتباطًا وثيقًا بمجموعة كاملة من وجهات النظر الفلسفية الجدلية المتعلقة بالمعنى والتواصل وما إلى ذلك. ورغم ذلك، فإن شاغل هابرماس الأكبر هو إنكار كون نظرية الخطاب الخلقي ميتافزيقيةً، انطلاقًا تحديدًا من كونها تعبِّر عن قيم ثقافية محددة. يرصد الخطاب الخلقي إجراءً شكليًّا وعامًّا ليس له بديل مقبول، يحدِّد بواسطته المشاركون مجتمعين ما يصح من الناحية الخلقية. ومن ثم فهو يؤسس حدود الجواز الخلقي التي يعمل في إطارها الخطاب الأخلاقي. (هذه الحجة تتعرض للتقويض إلى حد ما بفعل إخفاقه في طرح اشتقاق شكلي للمبدأ الخلقي.)
المقارنة بين رولز وهابرماس فيما يتعلق بمسألة الأولوية مفيدة، لكنها في الوقت عينه مضللة بعض الشيء عندما تتجرد من سياق المشروعات الفلسفية لكل منهما؛ فأطروحة رولز لأولوية الصواب ترتبط بمفهومه اللاميتافيزيقي عما هو سياسي. فهو يهدف إلى وضع مفهوم مستقل لكل ما هو سياسي يدعم مفهومه للعدالة كإنصاف، وفي الوقت نفسه يحصنه من أي جدل لا داعي له. أما مشروع هابرماس فهو شامل بالمقارنة، لأنه معنيٌّ بجميع جوانب النظام الاجتماعي، بما في ذلك أبعاده الخلقية والأخلاقية والسياسية والقانونية. ورغم أنه يظن أن الاعتبارات الخلقية يجب ألا تحتكم إلى قيم ثقافية جدلية، فهو ينكر أن ما هو سياسي يمكن أن يكون مستقلًّا بالطريقة التي يظن رولز أنه يجب أن يكون عليها. وعلى النقيض، يشكِّل ما هو سياسي مجموعة متنوعة كاملة من آليات مختلفة لحل النزاعات، تعتمد بشكل مستقل على الأنواع الثلاثة المختلفة للخطاب العملي.
(٦) معقولية تمييز هابرماس بين الخلقية والأخلاقيات
يؤكد هابرماس على أنه رغم أن التمييز التاريخي بين الخلقية والأخلاقيات غامض وملتبس، فإن تمييزه المفاهيمي بين الاثنتين قاطع وحاسم. ويصر على أن المعايير الصحيحة مختلفة جوهريًّا عن القيم. إن الغاية من خطاب خلقي متسق مع المبدأ الأخلاقي هي استبعاد جميع القيم باعتبارها غير قابلة للتعميم. وحينئذٍ فقط يمكنه أن يعمل كقاعدة لحجة تجعل الاتفاق ممكنًا. يود هابرماس أن يبدد أي شكوك متبقية في أن المبدأ الأخلاقي مجرد تحيز عِرقي يستند إلى مجموعة عارضة من القيم. ويقول إن المبدأ الأخلاقي يضرب بجذوره في التواصل والخطاب، ويُعَد جزءًا من نسيج المجتمعات الحديثة نفسه. وتحكم ادعاءاتُ صحةِ الصوابِ والحقيقةِ التنسيقَ بين الأفعال، وتوفر أساسًا للنظام الاجتماعي. لو كان له أن يشوِّش التمايز بين الخلقية والأخلاقيات، وبين المعايير الخلقية والقيم، من أيٍّ من الاتجاهين، لتسربَت القيم التي يقر بها مصدرًا للنزاع المستعصي إلى النطاق الأخلاقي، ولهددت مفهومه البراجماتي عن الخلقية بأكمله.
تكمن المشكلة في أن تمييز هابرماس ليس محكمًا كما ينبغي. يوضح توماس ماكارثي أن هابرماس أثناء تسرعه لرفض المذهب الطبيعي (القائل بأن جميع القيم يمكن اختزالها إلى حقائق تجريبية عن احتياجات البشر ومصالحهم)، فإنه يزعم أن الاحتياجات والمصالح دائمًا ما تتشكل ويتم تفسيرها في ضوء القيم الثقافية. ومع ذلك، فهو يزعم أيضًا أن المعايير الخلقية تُجَسِّد المصالح، مع أنه يقصد المصالح القابلة للتعميم فقط؛ ولذا، فإن هابرماس يقر على أية حال بأن المعايير الخلقية تعول على القيم باعتبارها الأساس الذي يفسر الفاعلون والمشاركون في الخطاب مصالحهم واحتياجاتهم عليه. ومن ثم فهو يسمح للقيم، دون قصد، بالدخول من الباب الخلفي، وما تحمله من احتمالات تسببها في صراع خلقي.
لدى هيلاري بوتنام اعتراض يخوض بعض الشيء في هذا الاتجاه نفسه. يقول بوتنام إن التمايز بين المعايير والقيم لا يمكن أن يكون حاسمًا؛ لأن المعايير تفترض مسبقًا وجود «مفاهيم أخلاقية صلبة» أو قيم. فمعايير مثل «كن لطيفًا مع أصدقائك» و«لا تكن قاسيًا على الأطفال» تفترض مسبقًا وجود قيمتَيِ الصداقة أو القسوة، ومن دونهما لا توجد لغة يمكن تعريف هذين المعيارين ووصفهما بها. إذا كان مكارثي وبوتنام على حق، فسنجد أن المعايير الصحيحة ليست نادرة وحسب، بل ومتداخلة مع القيم الثقافية المثيرة للجدل بشكل لا مناص منه. وفي هذه الحالة، سيضطر الفاعلون إلى أن يجدوا آليات مختلفة لحل النزاع، وأن يبحثوا عن سبل أخرى للتعاون والنظام الاجتماعيَّيْن بخلاف السبل الخلقية. ويستتبع هذا تحولًا كبيرًا في ركيزة برنامج أخلاقيات الخطاب بعيدًا عن الخلقية والأخلاقيات وباتجاه السياسة والقانون.