السياسة والديمقراطية والقانون
في البرنامج الأصلي لأخلاقيات الخطاب، زعم هابرماس أنه تحت الظروف الحديثة يكون الخطاب الأخلاقي الآلية الأساسية للاندماج الاجتماعي. فالخطاب الأخلاقي مناسب للمجتمعات المتنوعة ثقافيًّا، ما دام أنه يسمح للناس مجتمعين بتحديد قواعد تعايُشِهم بأنفسهم، وهذه القواعد عامةٌ جدًّا وشمولية إلى أقصى درجة ممكنة. في فترةٍ ما في أواخر الثمانينيات، أدرك هابرماس أن الخلقية، حسب وصفها في البرنامج الأساسي، محدودة للغاية، لدرجة أنها تخفق في الوفاء بالوظيفة الاجتماعية المركزية التي يخصصها لها. بالتزامن مع استحداث مفهوم الخطاب الأخلاقي، يبدأ برنامج أخلاقيات الخطاب المُعَدَّل في مواجهة هذه المعضلة، وتستمر النظرية السياسية لهابرماس في الاتجاه نفسه. فهي تقر بأن الخطاب الأخلاقي وحده لا يكفي لتنظيم النزاعات، والحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات المتباينة ثقافيًّا. وليس ذلك لمجرد وجود القليل جدًّا من المعايير الأخلاقية الصحيحة، ولا لأن المعايير نفسها قد تكون مُحَمَّلة بقيم مثيرة للجدل، ولكن لأن البشر فيهم «اعوجاج» أصلًا بحسب المجاز الذي ساقه كانط. إذا كانت الأمور خلاف ذلك؛ أي إذا كان الفاعلون الحداثيون يميلون بدون شك إلى التصرف بشكل أخلاقي طوال الوقت، فقد تكون الخلقية وحدها كافية للحفاظ على سلامة المجتمع واستمراره. ومن الواضح أن هذا ليس الحال.
يبدأ برنامج هابرماس للنظرية الديمقراطية والقانونية بالإقرار بأن الأنظمة الاجتماعية الحديثة لا تتشكل بالمعايير الأخلاقية فحسب، بل بالمؤسسات السياسية والقوانين أيضًا. وفي هذا السياق، يُتَمِّم «بين الحقائق والمعايير» أخلاقيات الخطاب، وفي الوقت نفسه يُعد امتدادًا واستكمالًا لبرنامج النظرية الاجتماعية. يجوز أن يقول المرء (ولا شك أن أحدهم قالها بالفعل) إن فلسفة هابرماس اتخذت منعطفًا سياسيًّا. وإذا صح ذلك، فلا عجب ما دامت نظريته الاجتماعية والأخلاقية، بحسب زعْم كثير من نقاده، كانت دومًا في واقع الأمر نظرية سياسية مُقَنَّعَة. وحتى لو صح ذلك، فهو لا يعني أن هابرماس يمكن أن يُسْقِط النظرية الأخلاقية لمصلحة نظريته السياسية والقانونية. والواقع أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك؛ لأن السياسة والقانون، من وجهة نظره، لا يتسنى لهما العمل في غير وجود الخلقية؛ ومن ثم تعتمد النظرية السياسية والقانونية على النظرية الأخلاقية.
(١) مفهوم السياسة لدى هابرماس
(١-١) بنية السياسة «ذات المسارين»
يميز هابرماس بين نطاقين أساسيين للسياسة: غير الرسمي والرسمي. ويتألف النطاق السياسي غير الرسمي من شبكة من المصادر التلقائية «الفوضوية» من التواصل والخطاب. لنطلقْ على هذا النطاق «المجتمع المدني». وتشمل أمثلة المجتمع المدني المنظمات التطوعية والاتحادات السياسية والإعلام. والأمارات المميزة للمجتمع المدني هي أنه لا يتحول إلى مؤسسة، ولم يُخلق لصنع القرار. وفي المقابل، فالسياسة بمعناها الرسمي تختص بالنطاقات المؤسسية للتواصل والخطاب، وهي مصممة تحديدًا لصنع القرار. وتتضمن الأمثلة البارزة على السياسة الرسمية البرلمانات ومجالس الوزراء والمجالس المنتخبة والأحزاب السياسية. لاحظ أنه من الخطأ الظن بأن هذا النطاق السياسي الرسمي مرادف للدولة؛ وذلك لأن الدولة ليست مجموعة من المنتديات المؤسسية المسئولة عن وضع السياسات وصنع القرارات فحسب، بل هي أيضًا نظام إداري وكيان بيروقراطي توجهه، على حد قول هابرماس، أداة السلطة.
هذا المفهوم ثنائي المسار للنطاقين الرسمي وغير الرسمي يعطينا إطارًا أساسيًّا لمفهوم هابرماس عن السياسة. في المجتمع المدني، يشارك أعضاء المجتمع السياسي في الخطاب، ويصلون إلى تفاهم، ويقدمون تنازلات، ويصوغون آراءً حول شئون خاصة وعامة. ويطلق هابرماس على تلك العملية عملية تشكُّل رأي الفرد وإرادته. وفي المقابل، في النطاق السياسي الرسمي يقوم الممثلون المحددون لأعضاء المجتمع السياسي باتخاذ القرارات والموافقة على القوانين وصياغة السياسات وتنفيذها.
استنادًا للصورة التي يرسمها هابرماس، يؤدي النظام السياسي وظيفته جيدًا عندما تستوعب مؤسسات صنع القرار مداخلات المجتمع المدني، وعندما يكون لديه القنوات السليمة التي يمكن للمداخلات الواردة من أدنى (المجتمع المدني والرأي العام) التأثيرُ في مخرجاته (السياسات والقوانين). عمليًّا، تحقق الدول الديمقراطية هذا التوازن أفضل من الأنظمة اللاديمقراطية. وتميل المؤسسات الديمقراطية السليمة إلى وضع سياسات وسَنِّ قوانين متسقة مع الرأي العام المشكل تداوليًّا؛ ومن ثم فإنها عقلانية ومبرَّرة. وهذا أمر منشود بحد ذاته، ومنشود من الناحية الوظيفية أيضًا ما دام أن الحداثيين سينزعون إلى الالتزام بالسياسات والقوانين التي يقبلون بأساسها المنطقي. من المرجح أن يكون المجتمع العقلاني مستقرًّا؛ ولذا، فهناك مسوغات أخلاقية وأداتية وجيهة تعلل تفضيل الحداثيين العيشَ تحت مظلة مؤسسات ديمقراطية.
يجب أن نتحرى الحيطة الشديدة عندما نتناول قدرة الأنظمة الديمقراطية على الوصول إلى قرارات مبررة. في النطاق السياسي، نجد أن فكرةَ ما هو مبرر أكثر شمولًا منها في النطاقات الفردية للخطاب النظري والخلقي والأخلاقي. تشكل التبريرات السياسية مجموعة متنوعة من الاعتبارات، إضافة إلى المعايير المعرفية والأخلاقية (أبعاد صحة الحقيقة والصواب) التي تحكم الخطاب النظري والأخلاقي على الترتيب. على سبيل المثال، يتم تفعيل الاعتبارات الأخلاقية والبراجماتية إلى جانب العوامل الخاصة بالإدراك السليم، كتلك التي يمكن تحقيقها بفعل إجراءات الوصول إلى الحلول الوسط والتفاوض. إن الخطاب السياسي أشبه بورشة العمل التي يمكن فيها، فور تجربةِ إجراءات الخطاب الخلقي والخطاب الأخلاقي الأكثر تطلبًا وثبوتِ فشلها، إجراءُ مجموعة كاملة من التجارب الأخرى للوصول إلى حلول عقلانية وتوافقية بشكل عام.
(١-٢) حقوق الإنسان وسيادة الشعب
يمزج هابرماس كعادته بين مفهومين سياسيين عادة ما يعامَلان على اعتبار أنهما بديلان: الديمقراطية الليبرالية والجمهورية المدنية. ويقول هابرماس إن كل مفهوم يتمحور حول فكرة وحيدة؛ الديمقراطية الليبرالية تقوم على فكرة حقوق الإنسان، والجمهورية المدنية على فكرة سيادة الشعب. (والواقع أن المفهومين ملازمان لبعض جوانب الليبرالية والديمقراطية. في الأول، نجد أن الليبرالية لها اليد العليا على الديمقراطية، وفي الثاني نرى الليبرالية تخضع للديمقراطية.) ويذكر هابرماس أن كل مفهوم يُفَضِّل تفسيرًا معينًا للاستقلال؛ تفضل الديمقراطية الليبرالية الاستقلال الفردي أو الخاص (أي تقرير الفرد مصيره)، في حين تُفضل الجمهورية المدنية الاستقلال الجمعي أو العام أو السياسي (أي تحقيق المجتمع السياسي ذاته).
يقول هابرماس إن حقوق الإنسان تحمي الاستقلال الخاص للفرد. واستنادًا لوجهة النظر الليبرالية الديمقراطية، فإن للأفراد مصالح ما قبل سياسية، ومجموعة من الحقوق التي تحمي حريتهم للسعي وراء تلك المصالح، بما يتوافق مع الحرية المماثلة للآخرين جميعًا في السعي وراء مصالحهم. يُنظر للحرية هنا باعتبارها فرصة. وتكمن قيمة حريتي في الفرص التي تكفلها لي، والتي يمكنني استغلالها أو تفويتها كيفما أشاء، لا في أي ممارسة فعلية لهذه الحرية. وعادةً ما تلازم وجهة النظر هذه فكرة دولة الحد الأدنى التي تترك لكل فرد حرية عيش حياته على النحو الذي يناسبه، ولا تتدخل إلا لحل النزاعات الناشئة حالَ طغيانِ حرية أحدهم على حرية الآخر؛ ولذا، لا يُنظر للمواطنة أو المشاركة في المجتمع السياسي باعتبارها ذات قيمة بحد ذاتها، لكنها ذات قيمة من الناحية الأداتية فقط باعتبارها وسيلة لتأمين هذه الحقوق والفرص.
ولتحقيق ذلك بإنصاف، يجب على الدولة أن تظل محايدة فيما يتعلق بقيم ومفاهيم الخير التي يسعى إليها مواطنوها. ورغم ذلك، فإن فكرة حقوق الإنسان فكرة أخلاقية متحيزة لا محالة ضد أية قيمة أو رؤية عالمية لا تتسق مع الحقوق والحريات الأساسية للجميع. ولهذا السبب، يطعن كثير من النقاد المجتمعيين والجمهوريين الذين ينتقدون الديمقراطية الليبرالية، في حيادها المزعوم. وينكر أغلب الليبراليين من ناحيتهم أن الدولة يجب أو حتى يمكن أن تظل محايدة فيما يتعلق بنتائج أو تبعات سياساتها وقوانينها؛ ويزعمون أنها ينبغي أن تظل محايدة فيما يختص بتبرير سياساتها وقوانينها كي تنأى بنفسها عن أي جدل لا داعي له؛ ولذا، فرغم أن جميع القوانين أو السياسات ربما لن تفيد الجميع بالطريقة نفسها وبالقدر نفسه، فإنه لا يجوز تبرير أي قانون على أساس قيم خلافية.
سيادة الشعب هي الفكرة القائلة إن السلطة السياسية للدولة تكمن في نهاية المطاف في إرادة الشعب. وتفترض الفكرة أن السياسة في الأصل مسألة تتعلق بتحقيق الاستقلال الشعبي جمعيًّا، لا تأمين الاستقلال الخاص بالأفراد؛ إن حرية «الشعب الممثل فينا» هي ما يهم، لا حرية كل فرد على حدة. وعادة ما نتخيل الاستقلال العام استنادًا إلى نموذج مجلس الشعب؛ مما ساعد على استحداث وجهة النظر القائلة إن المواطنين أحرار بقدر ما يشرعون لأنفسهم من قوانين. وبشكل أكثر عمومية، يُمكن فهم السيادة العامة باعتبارها فكرة أن أعضاء المجتمع السياسي أحرار إلى الحد الذي يستطيعون في إطاره اعتبار القوانين الحاكمة لهم تعبيرًا عن قيمهم الخاصة.
على النقيض من المفهوم الليبرالي للاستقلال الخاص، فإن الفكرة الجمهورية المدنية عن الاستقلال العام ليست مفهومًا لفرصة، بل مفهومٌ لممارسة. على سبيل المثال، فالقيمة الحقيقية لحرية التعبير لا تكمن في الفرص التي تكفلها للأفراد بل في تطبيقها الجمعي. فعندما يمارس عدد كافٍ من الناس حريتهم في التعبير، ينشأ الإعلام الحر/الصحافة الحرة، وبشكل أكثر عمومية تتطور ثقافة مشتركة تعود بالفائدة والنفع على جميع المواطنين. إن العضوية في المجتمع السياسي عظيمة القيمة في حد ذاتها؛ ولذا، فإن الدولة أبعد ما تكون عن الحياد؛ إنها تجسد وتوصي بدأبٍ بمجموعة من القيم والمُثُل لمواطنيها. وأخيرًا، استنادًا إلى هذا الرأي، فإن أي حقوق فردية يتمتع بها المواطنون تُسْتَقى من قِيَم المجتمع السياسي ومُثُله، وتعوِّل في الوقت نفسه عليها.
- (١)
أن الحقوق تنتمي إلى الأفراد ما قبل المفهوم السياسي.
- (٢)
أن العضوية في المجتمع السياسي ذات قيمة فقط كوسيلة لحماية الحرية الفردية.
- (٣)
أن الدولة ينبغي أن تظل محايدة فيما يتعلق بتبرير سياساتها أو قوانينها؛ حيث يوحي الحياد بتفادي اللجوء إلى القيم والاعتبارات الأخلاقية.
يقول هابرماس إن هذه الفرضيات تعكس التحيز المتأصل تجاه الموضوع الذي يميز فلسفة الوعي. وعلى العكس من ذلك يقول إن الحقوق لا تُكتسب إلا عن طريق الإدماج الاجتماعي، وأن العضوية في المجتمع ليست قَيِّمَة بشكل أداتي وحسب، وأن التبريرات السياسية ينبغي أن تستوعب الاعتبارات الأخلاقية.
- (١)
أن الدولة ينبغي أن تجسد قيم المجتمع السياسي.
- (٢)
أن المشاركة في المجتمع هي تفعيل لهذه القيم.
- (٣)
أن الحقوق الذاتية تُسْتَخلص من الفهم الذاتي الأخلاقي للمجتمع وتعتمد عليه.
استنادًا إلى وجهة نظره، فإن هذه الفرضيات لم تعُد سارية؛ لأن المجتمعات الحداثية تتألف من مجموعة كبيرة من التقاليد المتنافسة والرؤى العالمية؛ ولذا، فإن مسألة أيُّ القيم ينبغي أن توصي بها الدولةُ وتتيحها لأفرادها ستكون في حد ذاتها مسألة مثيرة للجدل. جُل ما يمكننا أن نتوقعه هو أن السياسات والقرارات والقوانين يمكن أن يكون لها صدًى لدى الفهم الذاتي الأخلاقي لكلٍّ من مجتمعاتها المختلفة.
يدعم هابرماس نسخة حداثية من فكرة سيادة الشعب نُزِعَت منها وجهة النظر القديمة القائلة إن الأفراد يشكلون شخصية مُسلطة عليها الأضواء. «سيادة الشعب لا تتجسد في ذات جمعية، أو في كيان سياسي على غرار تجمع لكل المواطنين»، بل تكمن في أشكال «غير موضوعية» من التواصل والخطاب متداولة في المنتديات والهيئات التشريعية (بين الحقائق والمعايير). في المجتمعات الحداثية، يستقر المثال النموذجي في مدى انفتاح الهيئات الرسمية الصانعة للقرار على تأثير المجتمع المدني. عندما تكون المؤسسات السياسية الرسمية منفتحة على الحد الصحيح من المدخلات من أدنى، فستميل قراراتها وسياساتها وقوانينها إلى العقلانية وستحظى بالقبول. وبما أن الدول الديمقراطية يجب أن تكون مدمجة في المجتمع المدني بشكل مناسب، فيتعين على المجتمع المدني أن يحظى بالحماية لأجل الديمقراطية. وهنا يأتي دور نظام الحقوق. يدفع هابرماس بأن «نظام الحقوق ينص على الشروط التي يمكن بموجبها إجراء التأسيس القانوني لأشكال التواصل الضرورية لنشأة القانون الشرعي» (بين الحقائق والمعايير). الفكرة الأساسية مفادها أن نظام الحقوق الراسخ في القانون يمكن أن يساعد على تغذية أشكال المجتمع المدني التي يتعين على هيئات صنع القرار الرسمية استيعابها كي تكون قادرة على سَن قوانين مقبولة عقلانيًّا.
(٢) السياسة وشكل القانون
في عصرنا الحالي، قد يبدو من الحقائق البديهية (وإن كانت حديثة المنشأ) أنه ينبغي تنظيم المجتمع في شكل دولة ذات حكومة ديمقراطية الشكل ونظام لحقوق الإنسان. ظاهريًّا هذا أمر غريب؛ لأن الفكرة الفردية الليبرالية لحقوق الإنسان والفكرة الجمهورية لسيادة الشعب متعارضتان جوهريًّا؛ فإحداهما توصي بأن الحكومة ينبغي عليها احترام حقِّي في الحياة كيفما أشاء (بالطبع بما يتسق وحق الآخرين جميعهم في أن يعيشوا حياتهم كيفما يشاءون)، والأخرى تؤيد حكم الشعب.
لا يحاول هابرماس أن ينكر ذلك. ويجيب بأن هذا التعارض راسخ في مفهوم القانون نفسه، وأن القانون هو الوسيلة التي تساعد في المجتمعات الحداثية على تخفيف عبء الاندماج الاجتماعي الواقع على التواصل والخطاب الأخلاقي. لنتذكرْ أنه بحسب رواية هابرماس، فإن الوظيفة الاجتماعية للخلقية هي تسوية تضاربات المصالح، وتنسيق الأفعال، وإقامة النظام الاجتماعي. تدعم السياسةُ الخلقيةَ وترسخها؛ إذ تضعها في شكل القانون. وهذا لا يعني أن القانون والخلقية لا يمكن أن ينفصلا. فمن الممكن أن ينفصلا فعلًا، على سبيل المثال في حالات العصيان المدني والاستنكاف الضميري. لكن هذه حالات هامشية. بصفة عامة، تعمل المعايير القانونية والمعايير الأخلاقية جنبًا إلى جنب من أجل تسوية النزاعات، وتنسيق الأفعال، وإقامة نظام اجتماعي على أساس المعايير الصحيحة. ولكنها تحقق ذلك بطرق مختلفة.
(٢-١) البنية المزدوجة للقانون
لنفترض أنه ذات ليلة أردتَ أن تركب دراجتك وتذهب إلى حفلٍ ما في الجانب الآخر من المدينة، لكنك اكتشفت أن مصباح الدراجة تالف. وهناك قانون يحظر ركوب الدراجات في الظلام دون مصابيح، وثمة سبب لسَنِّ هذا القانون: فركوب الدراجات دون مصابيح يعرض حياة الراكب وغيره من المشاة في الطرقات للخطر. وهو أيضًا مخالفة يعاقب عليها القانون؛ إذا ضبطتك الشرطة على دراجتك بدون إضاءة المصابيح، فإنها مخولة باعتقالك وتغريمك. مثل هذه المعايير القانونية لا تتطلب سوى الامتثال. إنها تقتضي أن تُطاع، لكنها لا تقتضي أن تُطاع للسبب الوجيه. ومن هذا المنطلق فهي تخالف المعايير الأخلاقية التي تقتضي أن تطاع للأسباب الوجيهة. فالخوف من الاعتقال أو العقاب ليس سببًا أخلاقيًّا وجيهًا للتصرف؛ ولذا، فمن الممكن للفاعل الملتزم بالقانون إما أن يذهب للحفل سيرًا على الأقدام؛ لأنه يدرك أن ركوب دراجته دون إضاءة المصابيح يعرض حياته وحياة الآخرين في الطرقات للخطر، أو لأن الأمر لا يستحق المخاطرة بالاعتقال أو التعرض للعقاب. إن دوافعه عمليًّا غيرُ ذات صلة بالمسألة ما دام، بطاعته للقانون، يتصرف استنادًا لدواعي السلامة المرورية التي تنطبق عليه على أية حال. تعمل المعايير الأخلاقية والقانونية جنبًا إلى جنب.
يزعم هابرماس أن القوانين التي تسنها المؤسسات القانونية المنفتحة على مدخلات المجتمع المدني ستميل إلى العقلانية. وأفراد المجتمع القانوني سيمتثلون عمومًا لمثل هذه القوانين؛ لأنهم سيستطيعون أن يدركوا مغزاها، فالقوانين تقتضي أن يفعلوا ما لديهم أسباب مستقلة لأنْ يفعلوه. ولكن أحيانًا، لن يكفي مغزى القوانين للحث على السلوك القانوني. وفي هذه الحالات، قد يفي الخوف من الاعتقال أو التعرض للعقاب بالغرض.
يقول هابرماس إن المعيار القانوني أو القانون له جانب معياري وآخر وقائعي: فهو من ناحية شرعيٌّ، ومن ناحية أخرى واقعيٌّ. ومن ثم جاء العنوان «بين الحقائق والمعايير» الذي إذا تُرجِمَ حرفيًّا كان «الوقائعية والصحة». لا يكون القانون «شرعيًّا» إلا عندما يكون له مغزًى، أو عند وجود أسباب مستحسنة للامتثال له (بخلاف كونه القانون المعمول به، وأن عصيانه مخالفة تقتضي العقاب). وتتضح حقيقة أن شرعية القانون ضرورة لكنها ليست شرطًا وافيًا لصحته عندما نبحث سِمَتين أخريين للقوانين الصحيحة. القانون «واقعي» عندما تضعه أو تفرضه هيئةٌ معترف بها. وللقوانين سمة ثالثة أيضًا؛ فهي يجب أن تكون قابلة لأن تُفرض على الآخرين. ولا يصح المعيار القانوني إلا عند توافر هذه المكونات جميعًا. يجب أن يكون للقانون جانب جدير بالتقدير، وأن تصدره هيئة معترف بها، وأن يكون قابلًا لأن يُفرض على الآخرين؛ ولذا، فإن صحة القانون تفرض مسبقًا سلطة سياسية. وتفترض مسبقًا أيضًا، من بين أشياء أخرى، وجود سلطة قضائية ودولة تحتكر القوة الشرعية والقدرة على إنفاذ القوانين بواسطة التنظيم الشرطي للعمل بها ومعاقبة مخالفيها.
(٢-٢) شرعية القانون
رغم أن هابرماس يقر بواقعية القانون وقابلية فرضه بالقوة، فهو دومًا يشدد على شرعيته. فالقوانين الشرعية، أي القوانين ذات المغزى، تحث المواطنين على أن يمتثلوا امتثالًا عقلانيًّا طوعيًّا. لاحظ أن الامتثال العقلاني يختلف عن الولاء العاطفي، مع أن كليهما يمكن أن يتبناه المرء بإرادته. فالولاء العاطفي قد يكون نتيجة دوافع لا عقلانية ولا تداولية؛ كالقيم والاحتياجات والعواطف المحددة المرتبطة بالانتماء إلى جماعة ثقافية بعينها. أما الامتثال العقلاني فهو يترتب على «القوة المُحَفِّزَة» للأسباب الوجيهة العامة (على حد قول هابرماس، الأسباب العامة بطبيعتها) التي تسري مستقلة عن المؤسسات القانونية والقضائية والعقابية. ينشأ النظام الاجتماعي بسلاسة دون تفعيل التهديد بالعقاب على أرض الواقع. وهذا أمر ضروري ما دام أنه لا يمكن في المجتمعات الكبرى الحداثية الإجبار على جميع السلوكيات القانونية، أو الحث على الالتزام بها بالتهديد بالعقوبات. يجب أن ينبع السلوك القانوني إلى حد بعيد إراديًّا استجابةً إلى الشرعية الملموسة للقانون.
القوانين التي تعتبر شرعية هي تلك التي يتوافق عليها جميع أعضاء المجتمع القانوني في عملية تشريع تداولية مشكَّلة بدورها قانونيًّا.
وهذا شكل آخر من أشكال فكرة هابرماس الأساسية القائلة إنه إذا أمكن تبرير شيء ما، فلا بد أن يستطيع الجميع الموافقة عليه في خطاب متواصل بشكل سليم. وفقًا لهابرماس، ينشأ المبدأ الديمقراطي من «التداخل» بين مبدأ الخطاب والشكل القانوني. وتفاصيل عملية «التداخل» هذه معقدة جدًّا بما يحول دون الخوض فيها هنا، لكن المحصلة من المفترض أن تتمثل في أن الميثاق القانوني ومبدأ الديمقراطية يخلق كل منهما الآخر.
والأهم أن الشكل القانوني يثري مبدأ الخطاب عن طريق استحداث أوجه اختلاف من حيث النطاق والتبرير. فالمبدأ الديمقراطي ينص على أن القوانين الشرعية يجب أن تكون قابلة لقبول جميع أفراد المجتمع القانوني، لا لقبول كل من يتأثر بالمعيار، كما في مبدأ الخطاب. ويتألف المجتمع القانوني من أي شخص قادر على إتيان السلوك القانوني، ويُحْكم أفعاله للقانون موضع النقاش. وبحسب مبدأ الخطاب، فإن القابلية للإجماع علامة على صحة المعيار. وعلامةُ شرعيةِ أي قانون بحسب المبدأ الديمقراطي أكثر تعقيدًا بكثير. يجب أن تكون القوانين الشرعية قادرة على كسب موافقة جميع أعضاء المجتمع القانوني. وهذه الموافقة يجب أن تكون نتاج عملية تشريع مشكَّلة تشكيلًا قانونيًّا. وبتعبير آخر، لا يكون المعيار شرعيًّا إلا إذا استطاع جميع أفراد المجتمع القانوني الموافقة عليه، وبإمكانهم الموافقة عليه؛ لأنه صدر عن هيئة صانعة للقرار تعتمد المداولة والخطاب، ومنفتحة على مدخلات المجتمع المدني، وتمتثل لمنظومة الحقوق الموضوعة قانونًا. لاحظ أن المبدأ الديمقراطي يوحي بأن القوانين الشرعية يجب أن تحظى بموافقة جميع أعضاء المجتمع القانوني؛ لا أنه يتعين عليهم الْتماسها عمليًّا، بل يجب على الجميع فعليًا أن يوافقوا على كل قانون. في إنجلترا، سيصدر قريبًا قانون يحظر صيد الثعالب، بغض النظر عن وجهات نظر صائدي الثعالب الساخطين. وتمت الموافقة على القانون بطريقة سليمة بمعرفة هيئة صنع قرار معترف بها كانت منفتحة على مدخلات المجتمع المدني، وبحثت احتجاجات صائدي الثعالب. ومن ثم، فهو قانون شرعي. وعند إنفاذ القانون، لن تكون حقيقةُ أن صائدي الثعالب لا يوافقون عليه ويعارضون الأسباب الداعية لوجوده ذاتَ أهمية. وعلى فرض أنه يمكن، إضافة إلى ذلك، إنفاذه ومراقبته شُرطيًّا بشكل مناسب، فسيكون القانون صحيحًا. وتستند نظرية هابرماس للقانون، شأنها شأن نظريته عن الخلقية، بقدر كبير على تمييزه بين ما هو قابل للموافقة في الأساس وما يلتمس هذه الموافقة عمليًّا.
(٢-٣) الحداثة والقانون والخلقية
وعلاوة على أن القوانين الشرعية تتسق والمطالب الأخلاقية، فإنها تتمتع، شأنها شأن المعايير الخلقية، بتوجه داخلي نحو الصالح العام؛ ففكرة أن أي قانون يخدم بوضوحٍ المصلحة العامة هي جزء من الغاية من هذا القانون. مالَ هابرماس في عمل سابق له إلى افتراض أن القوانين الشرعية مناظِرة للمعايير الخلقية، ما دامت المعايير الصحيحة «صالحة للجميع بالقدر نفسه»؛ ومن ثم فهي أيضًا تخدم الصالح العام. لكن البرنامج المُعَدَّل يعترض سبيل هذه الفرضية. فهو يوحي بأن الصالح العام يمكن أن يعني عدة أشياء مختلفة في سياقات متباينة. الفارق هو أن المعايير الخلقية صالحة للجميع «بالطريقة نفسها» (لأنها تتضمن مصالح قابلة للتعميم)، في حين أن المعايير القانونية على أفضل الفروض صالحة «بطريقة ما» لجميع أفراد المجتمع القانوني. لم يعد المفهوم الجامع للصالح العام للمجتمع القانوني مكافئًا بعدُ لمفهوم الصواب الخلقي.
يبدو أن حجة هابرماس الكلية هي أن القانون الشرعي يتيح مسارًا موازيًا يمكن من خلاله إدماج الفاعلين اجتماعيًّا في خلقيةٍ ما بعد تقليدية. ويعود هذا في جزء منه إلى أن القانون الشرعي يتسق مع الخلقية، ولأنه أيضًا يقدم للفاعلين الفرصة كي يشهدوا المصلحة العامة القانونية ويعملوا على خدمتها. إن الأفعال التي تتسق مع المعايير القانونية، والتي يتم الإتيان بها لأن هذه المعايير تخدم الصالح العام بوضوح، مناظِرة للأفعال الخلقية ما بعد التقليدية. علاوة على ذلك، فإن المواطنين الذين يعيشون في الدول الديمقراطية الغربية يمكنهم النظر بشكل مبرَّر إلى قوانينهم باعتبارها مختارة من قِبَلهم؛ لأن مؤسسات صنع القرار الخاصة بهم منفتحة على الخطاب ومدخلات المجتمع المدني. وإلى هذا الحد، فإن طاعة القوانين الشرعية هي توجُّه مرهون بمبادئ ذاتية الاختيار، مرة أخرى شأنها شأن خلقية ما بعد التقليدية. ومن ثم، ففي المجتمعات الحداثية شديدة التعقيد، التي فقدت آصرة روح الجماعة المشتركة، يدعم القانون نطاق الخلقية الهش، ويتيح قنوات قانونية «يمكن أن ينتشر المحتوى الخلقي في المجتمع» من خلالها بصورة قد تشبه حتى ما يحدث مع أنظمة المال والسلطة (بين الحقائق والمعايير).
(٣) الاعتراضات على نظرية هابرماس الديمقراطية والقانونية
رغم ثراء وأصالة عمل هابرماس «بين الحقائق والمعايير»، واجه الكتاب بعض الاعتراضات الجادة؛ أولًا: يزعم هابرماس أن الدول الديمقراطية يجب أن تسعى إلى تحقيق التوازن السليم بين مدخلات المجتمع المدني ومخرجات هيئات صنع القرار الرسمية، لكنه لا يُصَرِّح بماهية هذا التوازن السليم. هل ينبغي للمدخلات القادمة مباشرة من أدنى أن تحدد العملية التشريعية؟ هل من الأفضل أن يدلي أعضاء البرلمان بأصواتهم على أساس التفضيلات الفعلية لناخبيهم، أم أن يعتمدوا على حكمهم الشخصي في البرلمان؟ على أية حال، يقر هابرماس بأن المجتمع المدني فوضوي وتلقائي وغير مُقَيَّد وغير مستقر أصلًا. الكثير من المدخلات من أدنى يمكن أن تقحم عناصر الفوضوية والتلقائية وعدم الاستقرار في النظام الديمقراطي، وهي المشكلة نفسها التي شابت الأشكال القديمة من الديمقراطية المباشرة.
ثانيًا: لا يوضح هابرماس إلى أي حد يوصي بمثال نموذجي معياري للديمقراطية التشاورية أو التداولية، وإلى أي حد يقدم لنا نظرية تجريبية. فهو يقول بطبيعة الحال إن نظريته مثال نموذجي معياري ووصف للديمقراطية. وهذا أمر مفهوم ما دام مصطلح «الديمقراطية» على أية حال له محتوًى معياري ووصفي يكاد يستحيل الفصل بينهما. ولكن، بينما نرى هابرماس حريصًا على الترويج للإثباتات التجريبية لنظريته (على سبيل المثال، بين الحقائق والمعايير)، فإنه يبدو أقل عناية بأن يُعَادِل بين نظريته والبيانات التجريبية ذات الصلة من أن يجعلها متوافقة مع برامجه النظرية الأخرى السابقة.
وثالثًا: بالنظر إلى ولع هابرماس بعلم العمارة في الفلسفة، فمن الغريب أن نظريته الاجتماعية تمثل مشكلة للنظرية السياسية. يحدد عمله «بين الحقائق والمعايير» بُعْدين للسلطة السياسية: السلطة التواصلية والسلطة الإدارية. وتكمن السلطة التواصلية في المجتمع المدني، وفي منتديات التشاور والخطاب المدمجة في هيئات صنع القرار. أما السلطة الإدارية فتكمن في بيروقراطية الدولة والحكومة. تقوم أطروحة هابرماس الأساسية على أن المؤسسات السياسية (الديمقراطية) السليمة تترجِم بنجاحٍ، وحَرِيٌّ بها ذلك، السلطةَ التواصلية إلى سلطة إدارية. ولكن، بحسب النظرية الاجتماعية لهابرماس، إدارة الدولة جزء من النظام الذي توجهه معايير الكفاءة الأداتية، في حين أن المجتمع المدني جزء من العالم المَعيش. إن الساحات المؤسسية للخطاب والتشاور امتدادات سياسية للعالم المَعيش. والآن، إذا كان التمايز بين العقلانية التواصلية والأداتية، والعالم المَعيش، والنظام محددًا تحديدًا واضحًا، كما تزعم النظرية الاجتماعية لهابرماس، وإذا كان تكامل العالم المَعيش ينهار بفعل تدخل النظام، فكيف يمكن الحصول على الترجمة المنشودة للسلطة التواصلية إلى سلطة إدارية؟ لِمَ لا يُطْمَس الأثر التحضريُّ للخطاب الأخلاقي والخطاب الخلقي بفعل آليات العمل الجامدة للإدارة؟
(٤) الديمقراطية والنظرية الاجتماعية النقدية
علاوة على الرد على السؤال التوجيهي لمشروع هابرماس الاجتماعي، يمكن النظر إلى نظريته الديمقراطية والقانونية لهابرماس باعتبارها امتدادًا لمشروع النظرية الاجتماعية النقدية. وهي امتداد للنظرية الاجتماعية النقدية؛ إذ تشخِّص في المقام الأول نقاط القوة والضعف للدول الديمقراطية الغربية والأخطار التي تواجهها تلك الدول. وهناك خطران أساسيان؛ الأول: إذا لم تتمكن حقوق الإنسان المكفولة قانونًا من حماية المجتمع المدني من التآكل بفعل الأسواق والأجهزة الإدارية، فإن مصادر التواصل والخطاب التي تعوِّل عليها المؤسسات السياسية ستجف وتنضب. وإذا حدث ذلك، فستكون القرارات السياسية أكثر عرضة إلى التشويه الأيديولوجي والتحيز لجماعات المصالح القوية. وعندما تُحرم فئات بعينها من الإدلاء بدلوها في العملية التشريعية، فمن الأرجح أن تبدو القوانين التي تعيش تلك الفئات تحت مظلتها غيرَ مراعية لهم أو عدائية تجاههم، وستتفاقم مشاعر التهميش والتغريب والتشاؤم لديهم، وربما يشرعون تدريجيًّا في أن يمثلوا خطرًا على النظام الاجتماعي.
ثانيًا: الأسلوب الحالي الذي تتبناه الحكومة في بريطانيا والولايات المتحدة يقضي بتفويض صنع القرار إلى النخبة البيروقراطية «المطلعة» من قِبَل الخبراء وجماعات المصالح. جرى العرف على أن يوافق البرلمان ومجلس الوزراء روتينيًّا على السياسات، لا أن يكُونا ساحتين لمناقشة تلك السياسات ودراستها. وفي نهاية المطاف، اعتاد المسئولون ذوو الخبرة الإعلامية أو المتحدثون الإعلاميون على استمالة الجمهور إلى هذه السياسات. وصناعة القبول الشعبي هي الخطوة الأخيرة في سلسلة القرارات التي لا توصف إلا بالبيروقراطية. والاتجاه هنا ليس تعزيز مؤسسات صنع القرار المنفتحة والشفافة، بل تجاهُل واستبعاد إجراءات التواصل والخطاب من العملية السياسية بالكامل لأجل الملاءمة أو «الوضوح» الأخلاقي أو غير ذلك من المنافع المفترضة. إن القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة البريطانية لدعم التدخل العسكري الأمريكي في العراق بإرسالها قوات للعراق؛ حالةٌ تستدعي الدراسة. ففي بريطانيا، كانت هناك احتجاجات جماهيرية واسعة النطاق لا مثيل لها على سياسة الحكومة البريطانية. وبدا أن التصويت البرلماني كان مجرد «تحصيل حاصل» للقرار الذي اتخذه طوني بلير ومستشاروه. الخطر الثاني يكمن في أن الأثر التحضريَّ للمجتمع المدني على الهيئات القانونية وهيئات صنع القرار ينحسر، وأن دور المواطنين يُختزل بالكامل فيصبحون مستهلكين سلبيين.
رغم هذا التقييم السديد للأخطار التي تواجهها الديمقراطيات الليبرالية الغربية، يتمسك هابرماس ببصيص أمل ممثلٍ في قدرة المؤسسات الديمقراطية على التكيف مع المشكلات التي تواجه المجتمعات الحداثية. رغم كل التوترات الكامنة بداخل الديمقراطيات الليبرالية، فهي لا تزال تحتفظ بصلة وطيدة مع المثال النموذجي للحرية باعتباره تقريرًا للمصير. يقول هابرماس إن السياسة هي التعبير عن الحرية الإنسانية التي لا تُفهم كحقيقة مثبتة بالفعل، بل كمهمة متواصلة يفرضها الإقرار بأن «لا أحد حرٌّ حتى نحصل جميعًا على حريتنا» (الدين والعقلانية: مقالات حول العقل والرب والحداثة).