ألمانيا وأوروبا ومواطنة ما بعد القومية
أوضحت الفصول السابقة شيئًا عن عمق التزام هابرماس وإيمانه بآثار الإدماج الاجتماعي المفيدة للخلقية والديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية. وتنبع كراهية هابرماس الأبدية للقومية بكل أشكالها من تقدير حصيف ودقيق للظروف الاجتماعية المسبقة للأخطاء البشرية المتجذرة في تجاربه الشخصية. على ما تقدم، وكما سيُذَكِّرنا، يجب ألَّا نخلط بين أصول المعتقدات والقناعات وصحتها.
(١) الأمة والقومية
(١-١) فكرة الدولة القومية
لِفهم تحفظات هابرماس تجاه القومية، يجب أن ندرس في عجالة مفهومَه عن الأمة. يروي هابرماس روايةً تتغير فيها الأمة الأوروبية كردَّة فعل لمجموعة كبيرة من المشكلات الاجتماعية التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر. إن الأشكال الحديثة الأولى للمجتمع تعلقت بالموقع وتشكلت بِنْيتها بفعل التقاليد الريفية والبناء الهرمي الإقطاعي الطبيعي ظاهريًّا، وتقيدت بعرفها الديني المشترك المؤلَّف من مجموعة متجانسة من القيم الثقافية. وبالتزامن مع مطلع الحداثة، من نهاية القرن الثامن عشر فصاعدًا، حرمت مجموعة متنوعة من العوامل — التحديث والحراك السكاني وتداول البضائع وتراجع تأثير الدين — المجتمع من نقاط الارتكاز هذه. وفي الوقت نفسه، بينما كانت أسس المجتمع الحديث الأول تتداعى، كان هناك مجتمع ضخم من الغرباء حضري إلى حد بعيد بصدد التشكل.
وفقًا لهابرماس، نشأت الأمة كأساس جديد أكثر تجريدًا ونجاحًا للاندماج الاجتماعي. وصيغتْ فكرة الأمة من التقاليد المبتكرة والتاريخ الخيالي لمجتمع وحيد له سلالة ولغة وثقافة مشتركة. وما إن علقت الفكرة بالخيال العام، حتى أثبت الوعي القومي بَراعته في خلق أواصر فعالة من التضامن بين المواطنين الذين كانوا أيضًا غرباء بعضهم عن بعض. في الوقت نفسه، أتاحت النشأة التدريجية للمشاركة الديمقراطية في هياكل صنع القرار مجموعة من العلاقات القانونية القائمة على التماسك بين المواطنين. وبدأت فكرتا الأمة والوعي القومي في العمل معًا إلى جانب البنى السياسية للدولة كي تغرس في مواطنيها حس الانتماء إلى مجتمع سياسي وحيد، وحس هويتهم الثقافية والسياسية الجمعية.
وبينما يقر هابرماس بالإنجازات الاجتماعية للدولة القومية، فهو على دراية بأن الفكرة تنطوي على خطورة أيضًا. إن فكرة الأمة العرقية إقصائية في الأصل. فالمنتمون مميزون دومًا باللغة أو الأصل عن غير المنتمين. وبمجرد أن تصبح الفكرة راسخة في المزاج العام، يكون من الممكن أن تفضي إلى خلق أقليات داخلية واضطهادها. ثانيًا: علاقات الأمة هي علاقات تماهي «عاطفي» أو «انفعالي» مع المجتمع «مستقلة وسابقة على الرأي السياسي للمواطنين وتَكَوُّن إرادتهم» («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). وهذه علاقات ما قبل تداولية، وليست خاضعة لسوق الحجة المنطقية. ومع ذلك، فإن النخبة السياسية تتلاعب بها بسهولة. على سبيل المثال، يمكن للزيادة المهولة في المشاعر الوطنية التي تصاحب الحملات العسكرية الخارجية أن تضع حدًّا للقلاقل السياسية الداخلية، وهو أثر معروف تستغله الحكومات مرارًا وتكرارًا حتى يومنا هذا.
(١-٢) القومية
تتجلى القومية عادة عندما تقع الأمة تحت خطر فعلي. يرى هابرماس أنه في بداية الألفية الثالثة تعرضت الدولة القومية إلى تهديد من الخارج يتمثل في العولمة والضغوط الاقتصادية العالمية، ومن الداخل بفعل التعددية الثقافية.
بصفة عامة، أفضت العولمة إلى موقف تكمن فيه أسباب المشكلات الاجتماعية والسياسية الملحَّة — على سبيل المثال، الهجرة الاقتصادية، والفقر، والبطالة المتفشية، وخطر الكوارث البيئية — فيما هو أبعد من متناول السياسات القومية. ومن ثم، فإن حلول تلك المشكلات ليست في المتناول أيضًا. تتطلب المشكلات السياسية العالمية حلولًا سياسية عبر قومية. وتتفاقم المشكلات لأن قدرات الدول الفردية على التصرف تراجعت وانحسرت.
وفي الوقت نفسه، تجد الأمم نفسها مهددة من الداخل بفعل نشأة التعددية الثقافية. فقد ساعدت الهجرة والحراك المتزايد للناس على تبديد الأسطورة القومية للمجتمع الواحد المتجانس ثقافيًّا. تكافح الجماعات والأقليات المهمشة لتحقيق الاعتراف المتساوي، وتتحدى فرضيات ثقافة الأغلبية وقَناعاتها.
في هذا السياق، تمثل القومية ردة فعل قوية، مع أنها شديدة الخطورة. فهي تهدف إلى تجديد التماسك الاجتماعي، وبث إحساس بالانتماء عن طريق إحياء الوعي القومي. إن النزعة القومية، في رأي هابرماس، ليست وسيلة للسيطرة على الموارد الملازمة لعملية التحديث — الخطاب الأخلاقي والقانون الشرعي — بل هي محاولة يائسة لعكس العملية. وهي أيضًا رجعية، بحسب تقدير هابرماس. لنتذكر أنه، بحسب كولبرج، ينمو الأطفال الطبيعيون مرورًا بست مراحل؛ فهم لا ينتكسون رجوعًا في تلك المراحل. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كان باستطاعتهم «عدم تعلم» ما تعلَّموه. فكرْ كيف سيكون من غير المعتاد وغير الطبيعي لشخص تعلم بالفعل السباحة أو تحدث إحدى اللغات «ألا يتعلم» هاتين المهارتين. وبالمثل، فإن الأشكال المعاصرة للقومية تشير إلى انتكاس من الأشكال ما بعد التقليدية إلى الأشكال التقليدية من الارتباط. فالقومية نوع من الانحراف الاجتماعي عن المألوف.
- (١)
لاستبدال الأشكال الحداثية من الاندماج الاجتماعي — التواصل والخطاب والقانون الشرعي — بِصلات القرابة العاطفية.
- (٢)
للبحث عن معيار ما قبل سياسي وطبيعي لعضوية المجتمع السياسي.
- (٣)
لتخليص العملية السياسية من أثر الخطاب والتواصل.
قد يبدو العَدَاء الذي يُكنه هابرماس للقومية مبالَغًا فيه. ولكن، لنضعْ في الاعتبار أنه على دراية كاملة، لا من واقع تجربته طفلًا بل ومن واقع أحداث سياسية أحدث في يوغوسلافيا السابقة وغيرها من الدول، بالأخطار التي تمثلها القومية. نار القومية أسهل في إضرامها من إخمادها. وبمجرد أن تضرم ثانية، فمن الممكن أن تفضي إلى اضطهاد الأقليات الداخلية والتمييز العِرقي، وفي نهاية المطاف تؤدي إلى تطهير عرقي وإبادة جماعية.
(٢) الوطنية الدستورية
يقول هابرماس إن الشكل الوحيد الملائم في ظل الظروف الحداثية لتماهي المرء مع تقاليده هو الوطنية الدستورية. استخدم هابرماس هذا المصطلح لأول مرة خلال سِجال عام حامي الوطيس في منتصف الثمانينيات فيما عُرف لاحقًا باسم «سجال المؤرخين». بالمغالاة في التبسيط، أنتج مؤرخون بعينهم يرتبطون بصلات بحكومة هيلموت كول قراءاتٍ جديدة للتاريخ الألماني الحديث، أعطت بعدًا نسبيًّا لجرائم الحقبة النازية، وقللت من شأن «الحل النهائي»، وشددت بقدر أكبر على بطولة الجنود الألمان الذين صمدوا على الجبهة الشرقية للسماح للمواطنين الألمان بالفرار من الجيش الأحمر.
وفقًا لهابرماس، لم يكن النزاع حول الأطروحة التاريخية، بل حول إساءة استخدام التاريخ الأكاديمي لتلبية غايات سياسية. لم تكن هذه الروايات التاريخية المنقحة استراتيجيًّا تطرح ادعاءات بصحة حقيقتها وحسب، بل كانت أيضًا جزءًا من محاولة واعية ومنظمة سياسيًّا ﻟ «تطبيع» التاريخ الألماني، والتخلص من «الماضي الذي ما برح يلازمنا». ومن بين الغايات المتوسطةِ الأجل لهذه الحملة الرغبةُ في المساعدة في خلق هوية قومية ألمانية؛ ومن ثم تعزيز شعبية هيلموت كول داخليًّا. ولعل الغاية النهائية المتصورة كانت تمهيد الدرب السياسي لألمانيا الغربية كي تكف عن دفع تعويضات مالية إلى إسرائيل، وتشرع في لعب دور جيوسياسي من شأنه أن يعكس قوتها الاقتصادية. وحتى الآن، المفترض أن السبيل إلى «التطبيع» تعرقله عقبة كئود: معسكر اعتقال أوشفيتس. لقد وصمت الكارثةُ الأخلاقيةُ التي وقعت بين عامي ١٩٣٣–١٩٤٥ الوعيَ القوميَّ الألماني إلى الأبد.
بالنسبة لنا في الجمهورية الفدرالية، تعني الوطنية الدستورية، من بين معانٍ أخرى، الفخرَ بحقيقة نجاحنا في القضاء على الفاشية إلى الأبد، وإقامة نظام سياسي عادل، وإرساء ذلك النظام في ثقافة سياسية ليبرالية إلى حد بعيد.
تتبلور الثقافة السياسية لدولة ما حول دستورها. وتطوِّر كل ثقافة قومية تفسيرًا مميزًا لتلك المبادئ الدستورية … كسيادة الشعب وحقوق الإنسان في ضوء تاريخها القومي الخاص. و«الوطنية الدستورية» القائمة على هذه التفسيرات يمكن أن تستحوذ على المكانة التي كانت تحتلها أصلًا النزعة القومية.
في هذا التصور، نجد أن الهوية السياسية الألمانية تنطوي على مفارقة. فلأن ماضيهم القاسي كان يأبى إلا أن يكون حاضرًا، اضطُر الألمان الغربيون إلى اختلاق هوية سياسية تدور حول فلك «المحتوى العمومي للدولة الدستورية الديمقراطية»، والنأْي عن أشكال أكثر سذاجة تاريخيًّا وأقل تأملًا نقديًّا من الوطنية. وبإخلاصهم لتقاليدهم الألمانية الخاصة (وإن كانت شديدة التناقض)، اضطروا إلى التماهي بقدر أقل لا بقدر أكبر معها.
عندما شرع هابرماس في بداية الأمر في الدفاع عن فكرة الوطنية الدستورية في الثمانينيات، لم يكن قد بلور بالكامل أفكاره عن الحيثية السياسية للخطاب الأخلاقي. ومالَ إلى ضم المبادئ الديمقراطية مع المبادئ الأخلاقية. وكما أن الذات الأخلاقية ما بعد التقليدية ملتزمة، لا نحو القيم الجوهرية للمجتمع، بل تجاه الإجراء الذي يتم به ترسيخ المعايير الصحيحة، كذلك فإن الوطني الدستوري يتماهى مع الإجراءات الديمقراطية لا مع نتائج محددة بعينها. وكلاهما تنمو لديه هوية لامركزية ومجردة إلى الحد الذي تنطوي فيه الخلقية والديمقراطية على الإقرار بالجدارة المساوية للآخرين. علاوة على ذلك، يقول هابرماس إن المواطنين يتماهون مباشرة مع المبادئ الديمقراطية والأخلاقية العالمية.
في عمله اللاحق، غيَّر هابرماس رأيه. فنراه يقول إنه لكي يضرب الدستور الديمقراطي بجذوره، يجب أن تدعمه ثقافة سياسية تلبي مجموعة مختلفة من الشروط؛ أولًا: يجب أن يتسق والخلقية ما بعد التقليدية. وثانيًا: يجب أن يكون له صدًى لدى الفهم الأخلاقي لجميع المجموعات الثقافية في المجتمع السياسي. لا يمكن أن تُرى الثقافة السياسية باعتبارها تعبيرًا عن القيم الجوهرية والخاصة لثقافة الأغلبية. وأخيرًا: فإن الثقافة السياسية بحاجة لأن تدعمها الحقوق الاجتماعية وحقوق الرفاهة لكي يستشعر المواطنون «القيمة المُنصفة لحقوقهم»؛ أي أنْ يشعروا بفائدة مشاركتهم في الثقافة السياسية العامة.
(٣) توحيد ألمانيا
مَثَّلَ التاسع من نوفمبر عام ١٩٨٩ نقطة تحوُّل في حياة الألمان جميعًا؛ ففي ذلك اليوم سقط جدار برلين، وانهارت جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وحينئذٍ أعلن هابرماس عن بعض الملاحظات النقدية الهامة حول الطريقة التي تم بها تنفيذ الوحدة وتوقيتها والأساس المنطقي السياسي وراء طريقة وتوقيت التنفيذ.
توجهت انتقاداته في أول الأمر إلى المسألة الإجرائية المتعلقة بما إذا كان ينبغي إنجاز الوحدة على أساس المادة ٢٣ من القانون الأساسي أم المادة ١٤٦. تنص المادة ١٤٦ على أن القانون الأساسي دستور مؤقت وليس نهائيًّا. وجاء في نصها أن: «يتوقف العمل بالقانون الأساسي يوم سَرَيَان دستور جديد يضعه الشعب الألماني بقرار حر.» وبموجب المادة ٢٣ يسري القانون الأساسي على مناطق أخرى من ألمانيا. فهي تنص على آلية لمنح الولايات الجديدة حق الانضمام إلى الاتحاد الفدرالي. ولقد وضعت هذه المادة أساسًا لولاية سارلاند على الحدود مع فرنسا.
وفَضَّلَ كول ومستشاروه إسناد التوحيد إلى المادة ٢٣ بما أنها لم تقتضِ أي تعديل في القانون الأساسي لألمانيا الغربية. سارع هابرماس بمعارضة ذلك. ففي رأيه الوحدة على أساس المادة ٢٣ ما هي إلا مناورة إدارية محضة يمكن بواسطتها ضم ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية فعليًّا. والأدهى أن هذه الاستراتيجية اختِيرت بحيث يمكن إدارة العملية بأسرها بما يخدم مصالح السياسة الداخلية والخارجية للديمقراطيين المسيحيين التابعين للمستشار كول. كان استخدام المادة ٢٣ يعني أن العملية يمكن أن تُستكمل بسرعة نسبيًّا لتعزيز الشعبية الداخلية لكول قبل الانتخابات القادمة.
ونتيجة لذلك، حُرِمَ الألمان الشرقيون والغربيون من فرصة إقامة خطاب أخلاقي-سياسي حول أنواع البنى السياسية التي يفضلون العيش تحت مظلتها. وكان هابرماس واحدًا من بين كثيرين من المفكرين آنذاك ممن أيدوا معدل إصلاح أبطأ وعملية أكثر شمولًا. كان يجب أن يكون التوحيد «فعلًا عامًّا استنادًا لقرار ديمقراطي يُتَّخَذ بروية وتفكر في الألمانيتين الشرقية والغربية» (الهوية الألمانية مجددًا). كان يمكن للألمان الشرقيين المشاركة في العملية، بدلًا من أن يتولى عنهم البيروقراطيون في الغرب كل شيء، وكان يمكن للألمان الغربيين التصويت على دستورهم الخاص. اعترض هابرماس على «العيب المعياري» في التوحيد؛ لأن الاتحاد افتقر إلى التبرير السياسي والأخلاقي والخلقي الكافي؛ أي المدخلات من أدنى التي يراها شرطًا ضروريًّا للشرعية الديمقراطية.
وفي سياق مماثل، اعترض هابرماس على «التصفية» الإدارية لجميع المؤسسات القديمة التي تُؤْوِي بقايا المجتمع المدني الألماني الشرقي — كالجامعات والكليات والمتاحف والمسارح وما إلى ذلك. وحذر من أن المجتمع المدني، ويريد به شبكات التواصل والخطاب العام غير الرسمية، مورد سياسي هش وثمين، تدميره أسهل بكثير من إعادة بنائه. زعم هابرماس أن الوحدة ليست حقيقة إدارية واقتصادية فحسب، لكنها أيضًا مهمة سياسية؛ ومن ثم فلا بد من السماح بنشأة ثقافة سياسية يمكن أن تجد صدًى لدى فهم الألمان الشرقيين لذواتهم.
وأخيرًا، اعتقد هابرماس أن الحكومة الديمقراطية المسيحية القائمة آنذاك قد تجنح إلى تشريع سياساتها بتأجيج المشاعر القومية الداعية للوحدة الألمانية. في بداية الأمر، رَضُوا بالاحتكام إلى القومية الاقتصادية. فمن ناحية، ذَكَّروا مواطني الجمهورية الفدرالية بحجم الإنجازات التي حققوها حتى ذلك الحين، وقطعوا على أنفسهم عهدًا لا سبيل إلى الوفاء به؛ ألا وهو أنه لن يتعين عليهم (الألمان الغربيين) أن يتكفلوا بثمن الوحدة بدفع ضرائب أعلى. ومن ناحية أخرى، فقد قدموا للألمان الشرقيين رؤية لازدهار اقتصادي شبيه. كان فكر هابرماس، الملخص في عمله «الهوية الألمانية مجددًا»، يفيد بأنه عندما اتضح له في نهاية المطاف أن إعادة البناء الاقتصادي لألمانيا الشرقية سيكون بطيئًا وشاقًّا ومكلفًا، ولن يحظى بالتمويل الكامل من النمو الاقتصادي، سيشعر المواطنون الألمان الشرقيون والغربيون على حد سواء بالخيانة. السبيل السهل للخروج من هذا المأزق هو تأجيج مشاعر القومية الألمانية بما يلازمها من أخطار. ولقد سلط اندلاع أعمال العنف الطائفي ضد العاملين الزائرين الأجانب في روستوك وهويرزفيردا بألمانيا الشرقية إثر النشوة الأولى بالوحدة، سلط الضوء على هذه الأخطار بجلاء ووضوح.
حذر هابرماس المحافظين من تعريض الثقافة السياسية الهشة التي تحققت بشِق الأنفس لألمانيا الغربية للخطر؛ تلك الثقافة السياسية المتمثلة في هوية جمعية لا قومية، واعية للذات، ما بعد قومية؛ ووطنية دستورية. وبدلًا من الاحتكام المحض إلى الوطنية الاقتصادية، دعا هابرماس إلى عملية «إعادة توحيد تعطي أولوية لحق المواطنين الحر في تحديد مستقبلهم بالتصويت المباشر في إطار فضاء عام لا يزاحمهم فيه أحد …» (الهوية الألمانية مجددًا). ستكفل عملية أبطأ، حسب المادة ١٤٦، وقتًا ومجالًا للخطابات الأخلاقية والخلقية والسياسية الضرورية التي يمكنها أن تسمح بنمو علاقات التضامن المشترك بين مواطني ألمانيا الشرقية والغربية. وسيشجع ذلك بدوره المواطنين الألمان على تقييم المسألة من منظور أكثر اتساعًا من منظور مصلحتهم الشخصية الفردية.
(٤) الاندماج الأوروبي
تتسق وجهات نظر هابرماس بشأن مسألة الاندماج الأوروبي وملاحظاته حول تقادم فكرة الأمة وعدائه السياسي والأخلاقي للقومية. وهو يورد عدة مجموعات مختلفة من الاعتبارات المؤيدة للاتحاد الاقتصادي والسياسي للدول الأوروبية.
(٤-١) ألمانيا والمسألة الأوروبية
أولًا؛ هناك مجموعة من الأسباب التاريخية والأخلاقية بصفة عامة تندرج تحت فكرة هابرماس عن «التعلم من الكارثة». ليس علينا سوى الرجوع إلى تاريخ القرن العشرين الحديث، ورؤية الكوارث التي أفضت إليها الحربان العالميتان إن أردنا أن نقيِّم أخطار وجود دول قومية ذات سيادة مستقلة في أوروبا في حالة تنافس اقتصادي وسياسي بعضها مع بعض. يقول هابرماس إن الأوروبيين «يجب أن يتخلوا عن العقليات التي تتغذى عليها الآليات القومية والإقصائية» («تضمين الآخر»، النسخة الإنجليزية). سيكفل الاتحاد السياسي إطارًا يمكن فيه تحقيق الاندماج الاجتماعي ما بعد القومي على أساس «الشبكة التواصلية من فضاء عام سياسي شامل لأوروبا مدمج في ثقافة سياسية مشتركة.»
أقترح أنه حتى هذا المشروع يمكن أن يُفهم باعتباره وسيلة سياسية واقعية جدًّا للرد على الأمر القطعي الجديد لأدورنو؛ الحيلولة دون تكرار حادثة أوشفيتس أو ما شابهها من حوادث. وبالنظر إلى الخصائص الدقيقة لماضي الاندماج الأوروبي الحديث، فإنه تتجلى أهميته أكثر فأكثر بالنسبة لألمانيا. وجهر هابرماس بمعارضته لما اعتبره اقتراحات قميئة وخطيرة في بعض دوائر المحافظين مفادها أن على ألمانيا أن توقف اندماجها في الاتحاد الأوروبي للحفاظ على المارك الألماني، ولإقامة صلات سياسية واقتصادية مع دول أوروبا الوسطى التي تحررت الآن من الشيوعية السوفييتية.
وتُعنى مجموعة أخرى من الحجج المؤيدة للاندماج الأوروبي بآثار تبنِّي اقتصاد عولميٍّ على الدولة القومية وحدها. بصفة عامة، تدرك حكومات الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة فنيًّا أن النمو الاقتصادي يأتي على حساب الجانبين الاجتماعي والسياسي بقدر معين؛ ومن أمثلة ذلك الزيادات في نسب البطالة والفقر وتفاوتات الدخل. إذا تُركت هذه الآثار دون احتواء، فستكون أسبابًا محتملة للتفسخ الاجتماعي وزعزعة الاستقرار السياسي الداخلي. لكن الدول الغنية استطاعت — إلى حد ما — احتواء هذه الآثار السلبية بواسطة برامج الرفاهة وتنظيم سوق العمل وسياسات إعادة توزيع الثروات وغيرها من التدابير.
لقد بدَّلَت عولمة الأسواق الاقتصادية والمالية التوازن الدقيق بين النمو الاقتصادي والرفاهة الاجتماعية. وكان للعولمة أثرٌ؛ إذ قيَّدت حكومات الدول القومية فرادى. فالشركات الكبرى يمكنها بسهولة التهرب من قوانين العمل بتغيير مقرها إلى بلدانٍ تفتقر أسواقها للقوانين وذاتِ عمالة رخيصة. إن خطر «هروب رءوس الأموال» هذا يجبر الحكومات، أيًّا كانت طبيعتها، على خفض الضرائب (ولا سيما ضرائب الأعمال والشركات). أصبح رفع الإيرادات مشكلة تواجهها الحكومات. فثمة حد لمقدار الأموال التي يمكن جَنْيُهَا عبر وُفورات زيادة الكفاءة. خلاصة القول، أصبح من الصعب على حكومات الدول الوحيدة تمويل وتنفيذ سياسات من شأنها احتواء الآثار الجانبية الاجتماعية والسياسية المكروهة للنمو الاقتصادي الرأسمالي.
في رأي هابرماس، هناك ردَّان محتملان لهذه المشكلات. إن البديل الليبرالي الجديد يقضي بالتكيف مع الضغوط الاقتصادية العالمية على النحو التالي: خفْض التكاليف، والحفاظ على «مرونة» أسواق العمل (أي عدم تقيدها بالقوانين)، وتحميل الأفراد عبء تأمين أنفسهم ضد احتمالات البطالة، وتدهور الحالة الصحية، وما إلى ذلك من أخطار. الدرس المرير المستفاد أن الفائزين اقتصاديًّا من المنافسة على رفع القيود التنظيمية هم الخاسرون على المستويين الاجتماعي والسياسي.
والبديل الآخر هو أنه يجب عولمة السياسة أيضًا كي تكبح جماح الاقتصاد. وتحديدًا، يعني ذلك إنشاء مؤسسات سياسية فوق وطنية تتمتع بسلطة ونفوذ وسبل تنفيذ قراراتها. لأول وهلة، قد يبدو هذا البديل مثاليًّا بشكل مُغالًى فيه. يرد هابرماس على ذلك قائلًا إنه بمجرد أن يتقبل المرء التقادم الوشيك للدولة القومية ككيان سياسي، لا يجد أمامه سوى بديل سانح واحد، وسيكتشف أن التوسع السياساتي إلى ما وراء الدولة القومية جارٍ بالفعل. إن الاتحاد الأوروبي مثال طموح نسبيًّا لما يمكن إنجازه.
بالطبع الاتحاد الأوروبي سيوفر ثقلًا مقابلًا فاعلًا للضغوط الاقتصادية العالمية إذا تمكن من إيجاد نظائر عملية على المستوى ما فوق القومي لاحتواء وظائف دولة الرَّفاه. لقد استطاعت سياسات الاتحاد الأوروبي، عبر تقديم الدعم وغير ذلك من سياسات إعادة التوزيع المتواضعة، الحدَّ من بعض الآثار الضارة للمنافسة الإقليمية بين الدول الأعضاء فيه. علاوة على ذلك، قد أصدرت محكمة العدل الأوروبية مئات القرارات المتعلقة مباشرة بمسائل العدالة الاجتماعية (مما أثار حفيظة نقادها من الليبراليين الجدد والمحافظين في بريطانيا) تؤثر تأثيرًا قويًّا على السوق الداخلية المشتركة. ولا يقلل هابرماس من شأن الصعوبات التي تعترض مشروع الاندماج الاقتصادي والسياسي الأوروبي. فالاتحاد الأوروبي ما زال بحاجة إلى التعامل مع الغايات المتضاربة المتمثلة في التوظيف والمنافسة والنمو الاقتصادي، ويتفاوض للوصول إلى حلول وسط بشأن مطالب الدول الأعضاء الغنية المساهِمة مساهَمة صافية والدول الأعضاء الفقيرة المنتفعة منفعة صافية. بالنسبة لهابرماس، لم يتحدد حتى الآن إن كان الاتحاد الأوروبي قادرًا على صياغة وتنفيذ سياسات قادرة على تصحيح أوضاع الأسواق بحيث يجعلها تتسق مع مُثُل العدالة الاجتماعية.
يقر هابرماس بأن السياسة الأوروبية، من منظور عام، ليست سوى امتداد، لا تحول، لسياسة المصلحة الذاتية القومية. إن المنافسة الإقليمية بين الدول القومية وما يلازمها من مشكلات تَحدُث مجددًا على المستوى العابر للقوميات. وتتحدى أوروبا منافسيها الممثَّلين في الولايات المتحدة ودول الحزام الباسيفيكي والصين والهند الناشئتين اقتصاديًّا؛ ولذا، فهناك أسباب داعية للاعتقاد بأن أوروبا لن تستطيع أن تجد حلولًا دائمة وشاملة للمشكلات السياسية والاجتماعية العالمية، وأنها في أفضل الظروف ستطرح حلولًا مؤقتة أو جزئية. يعي هابرماس منطق الحجة التي يطرحها. إذا كان لنا أن نعثر على حلول سياسية دائمة وفاعلية للمشكلات العالمية، فلا بد أن نبحث عنها في نهاية المطاف على مستوى السياسات العالمية الكوزموبوليتانية. وإذا كان للمؤسسات السياسية فوق القومية أن تكبح جماح الأسواق العالمية، فلا بد أن تكون شمولية على النحو الصحيح. الغاية النهائية هي خلْق سوق داخلية عالمية، وكيان سياسي يتمتع بالسلطة والنفوذ لتنظيم تلك السوق. الغاية النهائية هي خلق أمم متحدة سياسية لا تتمتع بسلطة صنع القرارات وحسب، بل وبتنفيذها أيضًا.
(٤-٢) عجز الشرعنة
المشكلة أن المؤسسات السياسية الأوروبية تعاني مما يُعرف باسم «العجز الديمقراطي». يقول المتشككون في جدوى الاتحاد الأوروبي إن الاتحاد السياسي لا يمكن أن يُكلَّل بالنجاح؛ لأنه لا يوجد «شعب» أوروبي لتمثله المؤسسات. لا يوجد شيءٌ ملموس — تاريخ أو لغة أو تقاليد أو عِرق مشترك — يدعو لخلق أواصر الاندماج بين المواطنين؛ التي تعوِّل عليها الديمقراطية.
بالتزامن مع نشأة منظمات جديدة بمنأًى أكثر عن القاعدة السياسية، مثل بيروقراطية بروكسل، تتسع باستمرار الفجوة بين الإدارات الذاتية البرمجة والشبكات النظامية من ناحية، والعمليات الديمقراطية من ناحية أخرى.
لكن يزعم هابرماس أنه ما من سبب في الأساس يعلل ضرورة سد هذه الفجوة. فالمجتمعات الديمقراطية الحديثة متكاملة عبر نطاقات التواصل العام غير الرسمي والساحات المؤسسية للخطاب وصنع القرار.
لا يمكن أن تكون هناك دولة فدرالية أوروبية جديرة بأن توصف بأنها ديمقراطية أوروبية ما لم يوجد فضاء عام متكامل على اتساع أوروبا في نطاق ثقافة سياسية مشتركة؛ مجتمع مدني يشمل اتحادات المصالح والمنظمات غير الحكومية والحركات المدنية وما إلى ذلك، وبطبيعة الحال نظام حزبي مناسب لإقامة ساحة أوروبية.
وسيساهم في تحقيق هذه الغاية كلٌّ من برامج التبادل التعليمي، وزيادة التعاون الاقتصادي، وتيسير السفر بين الدول الأعضاء، وتطوير نظام حزبي أوروبي.
ثمة مشكلة أخرى عملية ومؤسسية تتمثل في التفكير في سبل لربط البيروقراطية الأوروبية والبرلمان الأوروبي بهذه الثقافة السياسية الناشئة. وقد يكون ذلك صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. لكن التعلق بالإيمان بالفاعلية السياسية للدولة القومية، مع التجاهل الكامل للدليل على ذلك، أمر لا طائل من ورائه؛ ومن غير المعقول اجتماعيًّا وسياسيًّا تركُ الحبل على الغارب للأسواق الاقتصادية العالمية.
لو كنت قد استبقيت النَّزْر اليسير من بقايا اليوتوبيا، فهي بالتأكيد فكرة أن الديمقراطية — وكفاحها العام للوصول إلى أفضل شكل لها — قادرة على اختراق المشكلات وحل المعضلات التي قد يتعذر حلها لولا الديمقراطية. ولا أزعم أننا سننجح في ذلك؛ فنحن لا نعلم حتى إن كان النجاح ممكنًا. لكن لأننا لا نعلم، يجب علينا أن نستمر في المحاولة.
رغم أننا لا نعلم إن كانت فكرة الاتحاد الأوروبي ستنجح في طرحها لحلول جزئية لمشكلات ما بعد القومية، أو ربما حتى تمثِّل منبرًا لنظام عالمي كوزموبوليتاني محتوم، فإننا لا نستطيع الجزم بفشله أيضًا. يجب أن تستمر التجربة على أية حال حسبما يرى هابرماس؛ لأننا نعلم أن البديل أسوأ بكثير؛ وهو أن نودع فكرة السياسة الديمقراطية باعتبارها محاولة من المواطنين الأحرار السواسية لتشكيل عالمهم الاجتماعي جمعيًّا.