القسم الأول
(لا توجد مناظر في هذه المسرحية، ولا توجد فواصل بين الأزمنة والأمكنة …
فالماضي والحاضر والمستقبل أحيانًا توجد كلها في نفس الوقت … والشخص الواحد يوجد أحيانًا
في
مكانين على المسرح، ويتكلَّم بنفس صوته مرتين في نفس الوقت. كل شيء هنا مُتداخل في كل
شيء … ولا
يوجد أثاث ثابت. كل شخص في المسرحية يظهر حاملًا بيده أثاثه ولوازمه ويخرج بها بعد الانتهاء
منها
… وهكذا يظهر ضابط المباحث أو الشرطة «المُحقِّق» حاملًا بيمينه كرسيه وملفه … وتظهر
خلفه «الخادم
العجوز» تحمل منضدة خفيفة تضعها أمامه فينشر عليها أوراقه.)
المُحقِّق
:
متى اختفت سيدتك بالضبط؟
الخادمة
:
ساعة عودة السحلية إلى جحرها.
المحقق
:
تقصدين المغرب؟
الخادمة
:
لم أبصر الشمس تغرب.
المحقق
:
ومتى تعود السحلية إلى جحرها؟
الخادمة
:
عندما يظهر سيدي من تحت الشجرة.
المحقق
:
ومتى يظهر سيدك من تحت الشجرة؟
الخادمة
:
عندما تُنادي عليه سيدتي.
المحقق
:
ومتى تنادي عليه سيدتك!
الخادمة
:
عندما يرطب الجو في الجنينة.
المحقق
:
ومتى يرطب الجو في الجنينة؟
الخادمة
:
عندما تقول له سيدتي ذلك.
المحقق
:
ومتى تقول له سيدتك ذلك؟
الخادمة
:
عندما أفرغ من عملي هنا وأتأهَّب للعودة إلى منزلي.
المحقق
:
ولماذا تعودين إلى منزلك؟
الخادمة
:
لأنِّي أبيت فيه دائمًا مع زوجي العاجز الكفيف الذي أجري عليه.
المحقق
:
وعندما تأهَّبت للعودة إلى منزلك يوم الحادث كانت سيدتك هنا؟
الخادمة
:
لم تكن هنا.
المحقق
:
أين كانت إذن؟
الخادمة
:
كانت قد خرجت.
المحقق
:
قبل أن تنادي زوجها كالمعتاد؟
الخادمة
:
نعم … قبل أن تناديه … تركته في الجنينة.
المحقق
:
لماذا؟
الخادمة
:
قالت إنَّها لن تتأخَّر أكثر من نصف ساعة … مسافة الطريق … تشتري بكرة جديدة من خيط الغزل
… تنسج به ثوبًا صغيرًا لبنتها.
المحقق
:
بنتها؟
الخادمة
:
نعم … بنتها بهية.
المحقق
:
وأين هي بنتها بهية؟
الخادمة
:
لم تولد.
المحقق
:
لم تولد؟! … ومتى ستُولَد؟
الخادمة
:
لن تولد.
المحقق
:
وكيف تعرفين أنَّها لن تُولَد؟
الخادمة
:
هذا شيء معروف.
المحقق
:
ولكنِّي أنا لا أعرف … أخبريني!
الخادمة
:
كانت ستُولَد من أربعين سنة … ولكنَّها لم تُولد.
المحقق
:
ولماذا لم تولد؟
الخادمة
:
أسقطتها في شهرها الرابع … عملًا بكلام زوجها.
المحقق
:
زوجها هذا الذي في الحديقة؟
الخادمة
:
زوجها الأول المُتوفَّى.
المحقق
:
وزوجها الحاضر غير المُتوفى لم ينجب منها أولادًا؟
الخادمة
:
زوجها الحاضر هذا تزوجها وقد جاوزت الخمسين … منذ تسع سنوات كانت قد قطعت الخلف.
المحقق
:
وما دامت قطعت الخلف … ولم تلِد … ولن تلِد … فلماذا تنسج ثوبًا لبنتها التي لم تُولَد
ولن تُولَد؟
الخادمة
:
إنَّها تراها وُلِدَت كل يوم، وتُولد كل يوم.
المحقق
:
وهل هي تخرج من البيت كثيرًا؟
الخادمة
:
قليلًا … في النادر … لشراء حاجة من الحاجات.
المحقق
:
وتعود دائمًا … دون تأخير؟
الخادمة
:
دون تأخير … مسافة الطريق.
المحقق
:
وهذه المرة خرجت ولم تعد؟
الخادمة
:
لم تعد.
المحقق
:
منذ ثلاثة أيام … قبيل المغرب تقريبًا؟
الخادمة
:
نعم … قبيل المغرب.
المحقق
(ينظر في ساعته)
:
بعد ساعة يكون قد مضى على اختفائها نحو ثلاث ليال ونهار.
الخادمة
:
لم يحدث لها هذا من قبل.
المحقق
:
لم يحدث أن باتت ليلة في الخارج؟
الخادمة
:
أبدًا … ولا نصف ليلة؟
المحقق
:
أأنتِ في الخدمة هنا منذ زمن طويل؟
الخادمة
:
منذ تسع سنوات … منذ زواجها من بهادر أفندي هذا … وكان يومئذٍ في الوظيفة.
المحقق
:
وماذا تعرفين عن أحوال المختفية؟
الخادمة
:
الست بهانة معروفة في الناحية، ومنزلها الصغير هذا من أوائل المنازل المبنية في ضاحية
الزيتون كلها … ورثته عن زوجها الأول السمسار.
المحقق
:
أريد معلوماتك الشخصية عنها.
الخادمة
:
معلوماتي الشخصية؟
المحقق
:
نعم … ما تلاحظينه أنتِ شخصيًّا عليها.
الخادمة
:
كل عقلها في بنتها.
المحقق
:
وسيدك؟ … بهادر أفندي … ما رأيكِ فيه؟
الخادمة
:
كل عقله في شجرته.
المحقق
(ناظرًا جهة الحديقة)
:
شجرته؟ … هذه؟
الخادمة
:
وهل توجد غيرها؟
المحقق
:
حقًّا لا توجد غيرها … في هذا الشبر من الأرض الذي تُسمُّونه الحديقة! … أظنها شجرة
برتقال؟!
الخادمة
:
نعم شجرة برتقال … وفي أسفل جذعها المسكن العامر.
المحقق
:
المسكن العامر؟
الخادمة
:
نعم … مسكن الشيخة خضرة!
المحقق
:
الشيخة خضرة مَنْ؟!
الخادمة
:
السحلية إيَّاها … هكذا يسميها هو … لم أرها أنا قط … ولكنَّه هو يراها كل يوم.
المحقق
:
وخلاف الشجرة والسحلية ماذا يعمل؟
الخادمة
:
لا شيء … إنَّه الآن في المعاش … ترك السكة الحديد من خمس سنين.
المحقق
:
وسيدتكِ؟ ليس لها أقارب يُمكن أن تذهب إليهم؟
الخادمة
:
لا … أبدًا … مقطوعة من شجرة!
المحقق
:
ولا معارف؟
الخادمة
:
ولا معارف.
المحقق
:
أنتِ مُتأكِّدة؟
الخادمة
:
كل التأكُّد … طول مدة وجودي هنا لم أبصر زائرًا يزورهم ولا هم زاروا أحدًا.
(جرس التليفون يدق.)
المحقق
:
هذه إشارة تليفونية أنتظرها.
الخادمة
(وهي تتحرَّك مسرعة)
:
لحظة واحدة! … سأحضر التليفون!
(تعود بعد قليلٍ بجهاز ذي حبلٍ طويل.)
المحقق
(في التليفون)
:
ألو … ألو! … نعم … أنا … هذا غريب! … لا شيء على الإطلاق! … في جميع أقسام البوليس؟
…
أنتم واثقون؟ … كل المستشفيات؟ … والإسعاف؟ … بحث دقيق؟ لا أثر؟! … شكرًا.
(يضع السماعة والجهاز فوق المنضدة.)
الخادمة
:
لم يجدوا أي أثر؟!
المحقق
:
لا.
الخادمة
:
مسكينة … الست بهانة.
المحقق
:
ألم يتصل بها أحد قبل اختفائها بهذا التليفون؟
الخادمة
:
أبدًا.
المحقق
:
وهي؟ … ألم تتصل بأحد؟
الخادمة
:
أبدًا … هذا التليفون من النادر استعماله منذ أن أُحيل بهادر أفندي إلى المعاش … طلب
من
المصلحة إدخاله وهو في الخدمة، عندما كانوا يستدعونه ليلًا للورديات، أو نهارًا وهو في
الراحة
لعمل مفاجئ، ومن يومها قلَّما أسمع جرسه يدق.
المحقق
:
والعلاقة بين الزوجين؟
الخادمة
:
العلاقة؟
المحقق
:
نعم … هل كانت بينهما مشاجرات مثلًا أو مشاحنات أو خلافات.
الخادمة
:
أبدًا … أبدًا … منذ وجودي هنا لم أرهما قط اختلفا على شيء.
المحقق
:
لم يختلفا قط؟
الخادمة
:
ولا مرة.
المحقق
:
ولكن الحال بين الزوجين لا يخلو من …
الخادمة
:
إلَّا الحال بين هذين الزوجين!
المحقق
:
أهما إلى هذه الدرجة …
الخادمة
:
نعم … في غاية الوفاق … أتُريد أن ترى بعينك كيف يعيشان؟
المحقق
:
بالطبع أُريد … لكن كيف يتسنَّى لي ذلك؟
الخادمة
:
الأمر بسيط … انظر هناك وأنت تراهما.
المحقق
:
أين؟
الخادمة
(تُشير بيدها)
:
هناك … في هذا الركن … قرب النافذة المُطلة على الحديقة … ها هي ستي بهانة في ثوبها
الأخضر الذي لا تُغيِّره … تجلس على كرسيها المعتاد!
(تظهر بالفعل عندئذٍ الزوجة … وهي في نحو الستين، شعرها أشيب، وثوبها
أخضر، تحمل كرسيها وتجلس عليه … وتأخذ في شغل الإبرة تنسج ثوبًا.)
الزوجة
(تلتفت إلى حيث يُفْتَرَض وجود النافذة)
:
اطلع يا بهادر! … اترك شجرتك الآن وادخل! … الجو رطب!
الزوج
(وهو يدخل حاملًا أدوات الحديقة)
:
أعرف … عندما تبدأ الرطوبة في الجو تدخل الشيخة خضرة مسكنها … لكن الذي لا أعرفه هو أنَّ
الرياح اليوم ساكنة، ومع ذلك تسقط بعض ثمار البرتقال! … ما الذي أسقطها؟!
الزوجة
(وهي مشغولة بأعمال إبرتها)
:
أنا التي أسقطتها … كانت أول ثمرة … وأنا التي أسقطتها بيدي … لم يكن وقتئذٍ يُريدها
…
بسبب الفقر … لم يكن يملك شيئًا بعد … سوى دُكَّان البقالة الصغير … لم يكن بعد قد اشتغل
بسمسرة الأراضي في هذه الناحية المقفرة يومذاك … قال لي: اصبري! … لا تربكيني الآن
بالخلف.
الزوج
(وهو يُنظِّف أدوات الحديقة)
:
وهذا هو الذي يربكني حقًّا: أن تكون الرياح اليوم ساكنة ومع ذلك …
الزوجة
:
ومع ذلك سمعت كلامه وفعلتها … فعلتها بنفسي … وفي نفسي … وهبَّت رياح السعد بعد ذلك …
وجاء المال … وأنشأنا هذا المنزل الصغير وهذه الحديقة.
الزوج
:
هذه الحديقة لا تتعرَّض لمساقط الرياح … ومع ذلك عندما أزهرت شجرة البرتقال خفت على الزهر
… لكن الله سلَّم ولطف.
الزوجة
:
نعم … الله سلَّم ولطف … واجتزنا أيام الفقر … وعندما جاء الفرج طلبنا الخلف … لكن هيهات!
… إنَّه السقط الأول ولا شكَّ … كان قد أثَّر في رحمي … نعم هو السقط الأول!
الزوج
:
نعم … هذا السقط الذي حدث، ليس على كل حال، بشيء ذي بال … إنَّه لا يعدو أن يكون ثلاث
أو
أربع ثمرات من البرتقال الأخضر الصغير في حجم البندقة.
الزوجة
:
كان السقط في الشهر الرابع … كانت البنت قد تكوَّنت وصارت في حجم الكف … إنِّي واثقة
من
ذلك.
الزوج
:
نعم … إنِّي واثق من ذلك … لأنَّ الأغصان كانت تتحرَّك ببطء شديد.
الزوجة
:
نعم … إنَّها كانت تتحرَّك في بطني … شعرت بحركتها حركة بنت … لأنَّ حركة البنت يُمكن
أن
تُعْرَف، ولأنِّي كنت أيضًا أُريدها بنتًا.
الزوج
:
أنا أيضًا كنت أُريد هذه الحركة البطيئة … أو عدم الحركة على الإطلاق … لأنَّ الأغصان
الساكنة تمنع الضرر عن الزهر أو الثمر في المرحلة الأولى.
الزوجة
:
نعم … في المرحلة الأولى من الحمل كنت أعرف الاسم الذي سأُطلقه عليها: «بهية»، وكنت أعرف
أنَّها ستكون رائعة المنظر قوية البنية … هذا شيء يُمكن أن يُعْرَف … أليس كذلك؟
الزوج
:
بالطبع … هذا شيء يُمكن أن يُعْرَف من منظر الثمار وهي معقودة كالعناقيد فوق غصنها …
قوية
مُتماسكة كأنَّها مُصمِّمة على البقاء والنمو.
الزوجة
:
النمو … نعم … يا ليتني تركتها للنمو … هل تعرف يا عزيزي لو كنتُ تركتها للنمو ما الذي
كان سيحدث؟
الزوج
:
أعرف ما يحدث جيِّدًا … كلما ازداد النمو اشتدت الحاجة إلى التغذية الجيِّدة.
الزوجة
:
نعم … التغذية الجيدة … وهذا ما كان يشغل بالنا في ذلك الوقت.
الزوج
:
وهذا ما يشغل بالي الآن … لكي تنمو الثمار نموًّا عظيمًا لا بُدَّ من تسميد الشجرة
بالسماد الجيِّد … وأين لي بثمن السماد الجيِّد؟ … معاشي كما تعلمين يكاد يكفي نفقاتنا
… مفتش
قطار أربعين سنة وأخرج بما يقينا شر الحاجة لا أكثر … ولولا منزلُكِ هذا الصغير الذي
يئوينا …
وهذه الحديقة الجميلة التي لا تتسع لأكثر من شجرة لما عرفنا للحياة طعمًا … ومع ذلك فبحمد
الله وبركته ما من برتقال في أي شجرة أُخرى يُمكن أن ينمو مثل هذا النمو العظيم.
الزوجة
:
إنِّي واثقة من هذا النمو العظيم!
الزوج
:
أليس كذلك؟ … انظري! … انظري! (يُشير إلى الشجرة.)
الزوجة
:
أعرف … أعرف … إنِّي واثقة من نموها العظيم … لو أنِّي فقط تركتها … انظر … انظر! … ها
هي
في يومها السابع … وكأنَّها طفلة عمرها سنة … ها هو الاحتفال «بسبوعها»! … انظر … انظر
…
الشموع! … الشموع! … اسمع! … اسمع! … دق الهون! … دق الهون! … أتسمع ترديدهم؟
«برجلاتك … برجلاتك
حلق دهب في وداناتك»
«يا رب يا ربنا تكبر وتبقى قدنا
برجلاتك … برجلاتك»
(يُسمَع بالفعل صدى حفلة «سبوع» بكلماتها وصخبها ودق الهون.)
الزوج
(بعد انتهاء أصوات الحفلة)
:
جرس المحطات … وجلبة الرُّكَّاب … وضجيج القطارات! … دائمًا في أذني!
الزوجة
:
نعم في أذنها … رأيت الحلق الذهب في أذنها؟
الزوج
:
في أذني … نعم … دائمًا هذا الضجيج! … وأنا الذي حسبت أنِّي استرحت بعد المعاش.
الزوجة
:
لقد استرحت الآن حقًّا وأنا أشهد حفلة «سبوعها»، ما رأيك في ثوبها الأخضر … هذا الذي
نسجته لها بيدي؟ … ألم يكن بديعًا على جسمها الصغير؟!
الزوج
:
جسمها الصغير يكسوه دائمًا هذا الثوب الأخضر … صيفًا وشتاءً … حتَّى عندما تتجرَّد الشجرة
من ورقها الأخضر تظل هي مُتألِّقة في اخضرارها، وهي تهبط إلى مسكنها في أسفل الشجرة.
الزوجة
:
نعم … نعم يا عزيزي … ما أجمل بهية في ثوبها الأخضر على جسمها الصغير!
الزوج
:
إنِّي أراها دائمًا جميلة في جسمها الصغير المكسو بالاخضرار الدائم … وفي عينيها
اللامعتين بهذا البريق … العجيب! … إنَّها رائعة حقًّا الشيخة خضرة!
الزوجة
:
نعم … إنَّها رائعة حقًّا بنتي بهية!
الزوج
:
نعم … نعم.
الزوجة
:
نعم … نعم.
(صمت عميق بين الزوجين.)
المحقق
(للخادمة)
:
أهما يتحادثان هكذا دائمًا؟!
الخادمة
:
نعم … نعم.
المحقق
:
نعم … نعم … (للخادمة) شكرًا … شكرًا!
الخادمة
:
أنصرف؟!
المحقق
:
انصرفي!
(الخادمة تنصرف … والمُحقِّق يلتفت نحو الحديقة.)
المحقق
(مناديًا)
:
يا سيد بهادر!
الزوج
(من الخارج)
:
أفندم!
المحقق
:
تسمح لحظة؟!
الزوج
(يظهر وهو ينفض يديه من تراب الحديقة)
:
مرة أخرى.
المحقق
:
نعم … بضعة أسئلة أخرى.
الزوج
:
قبل كل شيء عندي شيء أقوله … شيء عجيب غريب … في غاية الغرابة.
المحقق
:
شيء يتعلَّق طبعًا بحادث الاختفاء؟
الزوج
:
نعم الاختفاء.
المحقق
:
تفضَّل! … تكلَّم!
الزوج
:
لقد اختفت … أيُمكن تصوُّر هذا؟!
المحقق
:
هذا شيء معروف منذ أيام.
الزوج
:
ولكنِّي لم ألاحظ ذلك إلَّا اليوم.
المحقق
:
لم تلاحظ اختفاء زوجتك إلَّا اليوم؟!
الزوج
:
لا أتكلَّم عن زوجتي.
المحقق
:
عمَّن إذن؟!
الزوج
:
عن الشيخة خضرة!
المحقق
:
آه … السحلية!
الزوج
:
اختفت هي الأخرى! … اختفت!
المحقق
:
كيف عرفت؟
الزوج
:
ليست موجودة في الحديقة.
المحقق
:
هل أنت واثق؟
الزوج
:
كل الثقة.
المحقق
:
كيف يمكنك التأكُّد؟
الزوج
:
لم أبصرها طول اليوم … راقبت مسكنها … لم تخرج ولم تدخل … قطعًا هي ليست موجودة في مسكنها
… ولا في الحديقة كلها، هذه أول مرة يحدث فيها ذلك لها … منذ … منذ تسع سنوات.
المحقق
:
وهل أنت تعرف هذه السحلية منذ تسع سنوات؟!
الزوج
:
نعم … منذ تسع سنوات … منذ وضعت قدمي في هذا المنزل … في هذه الحديقة!
المحقق
:
هي بذاتها؟
الزوج
:
نعم … هي بذاتها.
المحقق
:
وهل يمكن لسحلية صغيرة كهذه أن تعيش تسع سنوات؟
الزوج
:
لقد عاشت … وإني أعرفها وأراها كل يوم منذ سنوات.
المُحقِّق: ربما كانت سحلية أخرى.
الزوج
:
لا توجد سحلية أخرى … إنَّها هي نفسها … لم أبصر قط هنا سحلية أخرى.
المحقق
:
ولكن من الممكن أن تُبْصِر هنا سحلية أخرى.
الزوج
:
لم يحدث قط … لم أُبْصِر غير هذه السحلية … لم أُبْصِر معها قط سحلية أخرى … لم أبصر
قط
اثنتين معًا … إنَّها دائمًا واحدة … هي ذاتها … لم تتغيَّر … إنِّي واثق من ذلك … إنَّها
هي
هي … إنِّي أعرف حركاتها ونظراتها ولفتاتها … وملامحها أيضًا.
المحقق
:
ملامحها؟!
الزوج
:
نعم … ملامحها … منذ تسع سنوات وأنا أتأمَّلها كل يوم … كيف إذن لا أعرف ملامحها … كيف
لا
أصادقها … لقد اعتدت وجودها … اعتدت قربها … إنِّي أحبها.
المحقق
:
تحبها؟!
الزوج
:
الآن نعم … عندما ترى شيئًا بقربك كل يوم … على مدى تسع سنوات … لا بُدَّ أن تعرفه وأن
تُحبه … أليس كذلك؟ … لست أنكر: لم يكن الأمر كذلك عندما وقع نظري عليها أول مرة … يومذاك
رأيتها قبيحة المنظر، مرعبة تثير في النفس التقزُّز … هممت بقتلها … ثمَّ طرحت هذه الفكرة
مؤقتًا … تركتها مؤقتًا تعيش … ثمَّ صرت أراها كل يوم … تخرج من مسكنها وتعود إليه في
أوقات
منتظمة لم ألبث أن اعتدتها … وهكذا ارتبطت بها … ورتَّبت حياتي في الحديقة على حياتها
ونظامها
وعاداتها.
المحقق
:
هذا حقًّا عجيب.
الزوج
:
نعم … إنَّها أصبحت مخلوقًا يمت إليَّ بصلة القرابة … لا تعجب إذن أن يكون اختفاؤها
مؤلمًا لي.
المحقق
:
نعم … نعم.
الزوج
:
نعم … كلما تذكرت اليوم أنِّي كنت سأقتلها يومًا ما … ولكن هذا طبيعي أن أقتلها يومذاك
…
لأنِّي كنت أجهلها.
المحقق
:
فكرة القتل إذن خطرت لك؟!
الزوج
:
فعلًا.
المحقق
:
وبأي شيء كنت ستنفِّذ القتل؟
الزوج
:
قتل مَنْ؟ … زوجتي؟
المحقق
:
زوجتك؟! … أأنا ذكرت زوجتك؟! … آه … فليكن! … زوجتك إذن … نعم زوجتك؟
الزوج
:
ولكن الحديث كان عن السحلية.
المحقق
:
كفى الآن حديثًا عن السحالي … لنتحدَّث عن زوجتك … هل شعرت يومًا برغبة في قتلها؟
الزوج
:
طبيعي.
المحقق
:
ماذا تقول؟!
الزوج
:
أقول إنَّ هذا شعور طبيعي … ألم تُفكِّر أنت يومًا في قتل زوجتك؟
المحقق
:
وأنت؟ … هل فكَّرت؟
الزوج
:
إنِّي أسألك أنت.
المحقق
:
بل أنا الذي يسألك.
الزوج
:
أجبني أنت أولًا.
المحقق
:
أنا الذي يسأل وأنت الذي تُجيب … أرجوك! … لا تقلب الأوضاع!
الزوج
:
يهمني أن أعرف شعورك.
المحقق
:
وأنا يهمني أكثر منك — وبحكم وظيفتي الرسمية — أن أعرف شعورك أنت … أرجوك … أجبني … ألم
تُفكِّر يومًا في قتل زوجتك؟
الزوج
:
لماذا تُريدني أن أقتل زوجتي؟
المحقق
:
أنا لا أُريد … أنت الذي قلت.
الزوج
:
ماذا قلت؟
المحقق
:
قلت إنَّه من الطبيعي أن تُفكِّر في قتل زوجتك.
الزوج
:
نعم … طبيعي بالنسبة لي ولك.
المحقق
:
دعك مني الآن … تحدَّث عن نفسك!
الزوج
:
رأيي إذن أنَّ هذا التفكير طبيعي عندما يُضايقني من زوجتي شيء.
المحقق
:
وطبعًا ضايقك منها شيء؟
الزوج
:
لا.
المحقق
:
إنِّي أشك.
الزوج
:
ولماذا تشك؟
المحقق
:
لأنِّي رأيتكما الآن بعيني … وسمعتكما تتحادثان.
الزوج
:
ألا تُريد من زوجين أن يتحادثا؟!
المحقق
:
ليس هذا الطراز من الحديث!
الزوج
:
وما المانع؟
المحقق
:
المانع أنَّ هذا شيء لا يُمكن أن يحدث.
الزوج
:
بالعكس … هذا شيء يحدث دائمًا بين كل زوجين … في كل بيت … عند الجميع … عندك مثلًا
…
المحقق
:
عندي؟! … لا يا سيدي!
الزوج
:
ألا يحدث هذا عندك؟!
المحقق
:
لو كان هذا يحدث عندي لكنت …
الزوج
:
لكنت قتلت زوجتك؟
المحقق
:
لم أقل هذا.
الزوج
:
بل قل! … قلها بصراحة … كنت تقتلها؟!
المحقق
:
أقتل من؟
الزوج
:
زوجتك طبعًا.
المحقق
:
من فضلك … نحن الآن في زوجتك أنت.
الزوج
:
وزوجتك؟
المحقق
:
يا سيدي أرجوك … لا شأن لك بزوجتي … زوجتي لم تزل في منزلها بخير!
الزوج
:
فليكن! … أنت إذن تعذرني … على الأقل!
المحقق
:
أعذرك؟
الزوج
:
هذا هو مفهوم الكلام.
المحقق
:
إذن أنت قتلتها بالفعل.
الزوج
:
هل أنت متأكد؟
المحقق
:
تقريبًا.
الزوج
:
وهل تعرف أين جثتها؟
المحقق
:
هذه أنت بها أدرى بالطبع.
الزوج
:
ليس من الصعب عليك أن تعرف.
المحقق
:
أفضِّل أن تقول لي أنت.
الزوج
:
المكان سهل وطبيعي جدًّا … ويدهشني أنَّك لم تعرفه!
المحقق
:
أين؟
الزوج
:
خمِّن؟
المحقق
:
كيف أستطيع؟
الزوج
:
ألا تستطيع أن تعرف مكانًا يصلح لوضع جثتها؟!
المحقق
(ينظر حواليه)
:
أين؟ … قل لي أنت؟!
الزوج
:
قُل شيئًا على سبيل التخمين!
المحقق
:
التخمين؟!
الزوج
:
نعم … ألا يُمكنك أن تُخمِّن؟!
المحقق
:
أرجوك! … لسنا الآن في مجال الفوازير!
الزوج
:
غلب حمارك؟!
المحقق
:
نعم.
الزوج
(مشيرًا إلى الحديقة)
:
تحت الشجرة.
المحقق
(ملتفتًا إلى جهة الشجرة)
:
شجرة البرتقال؟!
الزوج
:
ما من شك أنَّ هذا يَسُرُّها … أن يتحوَّل جسدها كله إلى سماد … سماد من نوع جيِّد …
يُغذِّي هذه الشجرة، فتنتج برتقالًا عظيم النمو … وهي التي تهتم اهتمامًا بالغًا بالنمو
العظيم.
المحقق
:
حقًّا … كان يجب أن أهتدي إلى هذا.
الزوج
:
قلت لك خمِّن وابحث قليلًا وأنت تهتدي من تلقاء نفسك!
المحقق
:
إذن أنت مُعترف؟
الزوج
:
معترف بماذا؟
المحقق
:
بأنَّ جثَّتها مدفونة تحت هذه الشجرة؟
الزوج
:
ألست ترى معي أنَّ هذا خير مكان لوضعها فيه؟!
المحقق
:
من حيث المكان هو بدون شكٍّ مكان جميل.
الزوج
:
وسوف تتحوَّل فيه إلى زهر يانع وثمر رائع … أيُمكن لجسد آدمي أن يطمع في أحسن وأنفع من
هذا؟
المحقق
:
من هذه الجهة صحيح.
الزوج
:
إذن أنت من رأيي؟
المحقق
:
من حيث هذا التصوُّر الشاعري لا بأس.
الزوج
:
اتفقنا إذن!
المحقق
:
من حسن الحظ!
الزوج
:
حقًّا إنَّه لمن حسن الحظ أن نكون متفاهمين هكذا في النظر إلى الأشياء.
المحقق
:
وبفضل هذا التفاهم استطعنا أن نصل إلى نتائج سريعة، ما كان يحتمل الوصول إليها قبل أسابيع
وربما شهور.
الزوج
:
الحمد لله!
المحقق
:
على أنَّ هذا النجاح يرجع الفضل في معظمه إلى معاونتك!
الزوج
:
معاونتي؟
المحقق
:
بدون شك … وهل كان في مقدور أحد أن يعرف مكان الجثة بهذه السرعة؟! (ينهض.)
الزوج
:
أتنصرف؟!
المحقق
:
أريد فأسًا! … عليَّ بفأس!
الزوج
:
فأس؟! … تصنع بها ماذا؟!
المحقق
:
نحفر بها طبعًا.
الزوج
:
تحفر؟!
المحقق
:
نعم … تحت هذه الشجرة.
الزوج
:
تحفر تحت شجرة برتقالي؟! … أجننت يا حضرة المحقق؟!
المحقق
:
إني آسف … ولكن هذا ضروري.
الزوج
:
وما وجه الضرورة؟
المحقق
:
لا يُمكن مباشرة عملنا إلَّا بالحفر … هذا بديهي!
الزوج
:
أتريد أن تتلف شجرتي؟! … هل تعرف ماذا تعني هذه الشجرة بالنسبة إليَّ؟
المحقق
:
أعرف.
الزوج
:
بل بالنسبة إلى حياتي كلها؟!
المحقق
:
أعرف … ولكن المسألة تتعلَّق بجثة وجريمة قتل!
الزوج
:
هي جثتي … جثتي أنا … والفأس التي تُصيب جذع الشجرة ستصيب رقبتي … أتفهم ذلك؟ …
أتفهم؟!
المحقق
(بعنفٍ)
:
الفأس! … أين الفأس؟!
الزوج
(يُحاول أن يُجْلِسَهُ)
:
إنَّك تقتلني … إنَّك ستقتلني … إنَّك ترتكب جريمة قتل!
المحقق
:
أنت المُرتكب لجريمة قتل! … قتل زوجتك!
الزوج
:
قتل زوجتي؟! … ما هذا الجنون يا حضرة المحقق؟!
المحقق
:
ألم تعترف بذلك الآن؟
الزوج
:
أنا اعترفت؟!
المحقق
:
ألم تقل الآن إنَّك دفنتها تحت هذه الشجرة بعد أن قتلتها؟!
الزوج
:
لقد تحدَّثت عن الدفن … ولكنِّي لم أتحدَّث عن القتل.
المحقق
:
تقصد أنَّك دفنتها ولكنَّك لم تقتلها؟
الزوج
:
لم أقتلها.
المحقق
:
ولكنَّك دفنتها.
الزوج
:
هذه مسألة أخرى بيني وبينها … ولكني لم أقتلها.
المحقق
:
ومن الذي قتلها؟!
الزوج
:
أهي قُتِلت؟
المحقق
:
أنت أدرى ما دامت قد دُفِنَت!
المحقق
:
أهي حقًّا دُفِنَت؟
المحقق
:
اسمع! … كنت صبورًا معك أكثر مِمَّا ينبغي … وأفسحت صدري أكثر مِمَّا ينبغي! … ولكنِّي
الآن لم أعد أحتمل هذا العبث بي إلى هذا الحد … أفاهم؟
الزوج
:
عُد إلى هدوئك يا حضرة المحقق … وثِقْ كل الثقة في حسن نيتي! … لنتحادث كما كنَّا نتحادث
منذ لحظة بروح التفاهم … وأنا على استعداد لمصارحتك بكل شيء.
المحقق
:
وهو كذلك … صارحني بكل شيء.
الزوج
:
قل لي أولًا: لماذا تتهمني بقتل زوجتي؟!
المحقق
:
أحوالك كلها تدل على ذلك.
الزوج
:
ولماذا أقتلها؟
المحقق
:
لسببٍ واضحٍ جدًّا: حياتك معها لا تُطاق.
الزوج
:
حياتي معها لا تُطاق؟
المحقق
:
بدون شك … لا يُمكن أن تطاق حياة مع امرأة كهذه.
الزوج
:
هذا رأيك أنت …
المحقق
:
ورأي كل إنسان! … ما من شخص يستطيع احتمال الحياة مع مثل هذه المرأة.
الزوج
:
ولكنِّي أنا أعيش معها في راحة وهناء منذ تسع سنوات … لم يحدث بيننا خلاف على شيء.
المحقق
:
ولم يحدث كذلك بينكما اتفاق على شيء.
الزوج
:
لم أُلاحظ ذلك.
المحقق
:
ولكنِّي أنا لاحظت.
الزوج
:
ولكنِّي أنا لا أشكو من شيء.
المحقق
:
عدم شكواك ليست دليلًا على الرضا.
الزوج
:
دليل على ماذا إذن؟
المحقق
:
على اليأس.
الزوج
:
بالعكس … أنا لا أعيش إلَّا بالأمل.
المحقق
:
بأمل الخلاص من زوجتك.
الزوج
:
ثق أنِّي لم أُفكِّر في الخلاص منها.
المحقق
:
ليس من الضروري أن تكون قد فكَّرت تفكيرًا مباشرًا صريحًا … يكفي أن تمرَّ بخاطرك الفكرة
في لحظة من اللحظات.
الزوج
:
ربما … ولكنِّي سريع النسيان لخواطري.
المحقق
:
يُخيَّل إليك ذلك … ولكن الفكرة تبقى دائمًا … كالبذرة تعمل عملها في الخفاء.
الزوج
:
وما هو هذا العمل الذي في الخفاء؟
المحقق
:
البحث عن طريقة للخلاص.
الزوج
:
الخلاص من زوجتي؟ … ولكنِّي لا أريد ذلك.
المحقق
:
إنَّك تريد … وتسعى لما تريد دون أن تشعر أو تجهر.
الزوج
:
ولماذا أفعل ذلك؟!
المحقق
:
لأنَّك زوج غير سعيد.
الزوج
:
بل إنِّي زوج سعيد.
المحقق
:
هذا غير صحيح.
الزوج
:
أؤكد لك أنِّي سعيد.
المحقق
:
وأنا أؤكد لك أنَّك غير سعيد.
الزوج
:
كيف تُؤكِّد لي؟ … هل الزوج أنت أو أنا؟!
المحقق
:
لا يهم … هناك مقياس للسعادة الزوجية لا يكذب.
الزوج
:
ما هو؟
المحقق
:
التفاهم.
الزوج
:
ونحن متفاهمان؟
المحقق
:
هل هذا الذي رأيته وسمعته بينكما منذ لحظة يُمكن أن يُسمَّى تفاهمًا؟!
الزوج
:
وماذا تُسمِّيه إذن؟
المحقق
:
أُسميه ببساطة عدم تفاهم.
الزوج
:
وأنا أسميه التفاهم.
المحقق
:
لا يُمكن أن يكون هذا هو التفاهم.
الزوج
:
أنا وأنت إذن غير متفاهمين على التفاهم.
المحقق
:
لأنَّك تسمي الأشياء بغير أسمائها.
الزوج
:
لا تهمني الأسماء … أنا وزوجتي متفاهمان وبيتنا قائم على التفاهم.
المحقق
:
هذا تزييف لمعاني الأشياء.
الزوج
:
معاني الأشياء؟! … ما هي هذه المعاني؟ … أنت تريدني أن أرى التفاهم أو السعادة كما تفهمها
أنت لا كما أفهمها أنا.
المحقق
:
كما يفهمها كل الناس.
الزوج
:
وما شأني أنا بكل الناس؟ … أنا أتكلَّم عن نفسي … ليس كل الناس أزواجًا لزوجتي … أنا
وحدي
الزوج!
المحقق
:
أنت إذن زوج سعيد؟!
الزوج
:
جدًّا.
المحقق
:
وهي! … أهي زوجة سعيدة؟!
الزوج
:
جدًّا.
المحقق
:
إذن لماذا تركت بيت الزوجية واختفت؟!
الزوج
:
هذا ما لا أعرفه.
المحقق
:
أنا أقول لك … هناك احتمالات كثيرة: إمَّا أن تكون أصيبت في حادث … وهذا ثبت عدم وقوعه
من
إفادات المستشفيات وأقسام البوليس … وإمَّا أن تكون اختطفت … وهذا غير محتمل … إذن مَنْ
المجنون الذي يختطف امرأة عجوزًا فقيرة لا تصلح لشيء؟! … وإمَّا أن تكون قد ذهبت إلى
أحد
الأقارب أو المعارف … وهذا أيضًا غير محتمل … إذ ثبت عدم اتصالها بمعارف ولا أقرباء …
وإمَّا
أن تكون هناك جريمة قتل … وأنت تنكر ذلك الآن.
الزوج
:
طبعًا أنكر.
المحقق
:
طبعًا … إذن ما هو تعليلك لهذا الاختفاء؟
الزوج
:
لا أدري له من تعليل.
المحقق
:
لا بُدَّ أن يكون هناك تعليل.
الزوج
:
وما هو التعليل لاختفاء الشيخة خضرة؟
المحقق
:
دعنا الآن من هذه السحلية.
الزوج
:
هذا مهم جدًّا … إذا وجدنا التعليل لاختفائها وجدنا التعليل لاختفاء زوجتي؟
المحقق
:
وما هي العلاقة؟
الزوج
:
هذا شيء يطول شرحه.
المحقق
:
اشرح.
الزوج
:
وما جدوى ذلك … إنَّك لن تفهمني … إنَّك تفهم فقط ما تراه مفهومًا لك … ومهمتك أن تُلقي
أسئلة مُحدَّدة المعنى … وتُريد أن تتلقَّى عنها أجوبة مُحدَّدة المعنى … وأنا منذ زمن
طويل
لم أُوجِّه أسئلة إلى أحد … ولم أنتظر إجابات من أحد.
المحقق
:
حقًّا … لم أرك وجَّهت سؤالًا واحدًا مباشرًا إلى زوجتك، ولا طالبتها بإجابة عن
سؤال!
الزوج
:
من هنا تدرك الصداع الذي يعتريني وأنا الآن في موضع السؤال والجواب.
المحقق
:
يُؤسفني أن أضعك هذا الموضع … ولكن كيف تريد مِنْ مُحقِّق أن يُحقِّق ويبحث بدون إلقاء
أسئلة وانتظار أجوبة؟
الزوج
:
حقًّا … إنِّي أرثي لك ولمهنتك!
المحقق
:
هل هناك وسيلة أخرى للوصول إلى الحقيقة؟
الزوج
:
أي حقيقة؟!
المحقق
:
حقيقة هذا الاختفاء مثلًا.
الزوج
:
عليك أنت الوصول إلى هذه الحقيقة … أنت المحقق … وأنا مجرد الزوج.
المحقق
:
زوج المختفية … نعم … لكن أليس من الطبيعي أن يهتم زوج المختفية بمعرفة حقيقة اختفاء
زوجته!
الزوج
:
إنِّي مهتم.
المحقق
:
لا يبدو عليك.
الزوج
:
ماذا تُريد أن يبدو عليَّ!
المحقق
:
القلق … الاضطراب.
الزوج
:
فقدت هذه العادة منذ زمن طويل.
المحقق
:
أيُمكن لإنسان أن يفقد عادة القلق والاضطراب!
الزوج
:
نعم … عندما يكون مفتش سكة حديد ثلاثين أو أربعين سنة.
المحقق
:
ماذا تقصد!
الزوج
:
أقصد أنَّ مفتش القطار هو الوحيد بين الركاب الذي لا يعرف القلق والاضطراب لتأخُّر القطار
أو وصوله أو عدم وصوله!
المحقق
:
لكن لا بُدَّ أن يوجد شيء يُثير قلقك واضطرابك؟
الزوج
:
أحيانًا يزعجني قليلًا جرس المحطة وصفير القطار … خصوصًا عندما أكون نائمًا أو شبه
نائم.
المحقق
:
فقط جرس المحطة وصفير القطار؟
الزوج
:
وخصوصًا صفير القطار.
المحقق
:
هذا غريب!
الزوج
(يتسمَّع بأذنه)
:
اسمع! … ها هو صفير القطار! … أسمعت؟
المحقق
:
لا.
الزوج
:
كيف لم تسمع … القطار قادم … هناك … ألا تراه!
المحقق
:
أين؟
الزوج
(يُشير إلى جهة من المسرح)
:
هناك! … انظر! … انظر!
المحقق
(ينظر حيث أشار له)
:
نعم … نعم.
الزوج
:
رأيته!
المحقق
(ناظرًا)
:
نعم … ها هو القطار حقًّا …
(يسمع صوت صفير قطار وضجيج حركته.)
الزوج
:
سأبدأ بعد قليلٍ في التفتيش على التذاكر.
المحقق
(ناظرًا إلى حيث أشار له)
:
لست أراك.
الزوج
:
لم أظهر بعد … ستراني بعد لحظة.
(يظهر في تلك الجهة من المسرح موظف بردائه الرسمي، يحمل جزءًا من نافذة
قطار يقيمه، ثمَّ يأتي بكرسي يجلس عليه إلى تلك النافذة، ويأخذ في التثاؤب.)
المحقق
(ناظرًا إليه)
:
من هذا؟
الزوج
:
هذا مساعد المفتش … مساعدي … إنَّه موظف كسول كما ترى … يحلو له الجلوس والنوم قرب
النافذة … ولولا رقابتي الشديدة لتهاون في واجبه أكثر من ذلك!
المحقق
:
وأين أنت إذن؟
الزوج
:
أؤدي واجبي بالطبع.
المحقق
:
أين؟!
الزوج
:
في القطار نفسه … في عربة أخرى ولا شكَّ … مسئولياتي جسيمة وتحتاج مني إلى يقظة دائمة!
المحقق
:
طبعًا.
الزوج
(مشيرًا بيده إلى القطار)
:
ها أنا ذا أظهر لأفاجئ حضرة المساعد يغط في النوم!
المحقق
(ناظرًا)
:
حقًّا … هذا أنت بردائك الرسمي!
(يظهر المفتش وهو بهادر أفندي بردائه المصلحي … يبدو منه ظهره فقط …
أمَّا صوته فمن الضروري أن يكون هو نفس الصوت ينبعث من المكانين المختلفين فوق
المسرح.)
المفتش
(يدق بكماشة على ظهر الكرسي)
:
نائم؟ … يا حضرة المساعد؟!
المساعد
(ينهض مباغتًا)
:
حضرة المفتش؟
المفتش
:
هل أيقظتك من أحلامك الجميلة؟!
المساعد
:
لم أكن أحلم!
المفتش
:
هذا شأنك … الحلم أو عدم الحلم … هو أنَّك كنت نائمًا!
المساعد
:
لم أكن نائمًا … جلست أستريح فقط منذ لحظة!
المفتش
:
ما علينا … دعنا من هذا الآن … تمَّمت على كل عربات القطار؟!
المساعد
:
نعم … تمام يا أفندم!
المفتش
:
وبلَّغتني بالنتيجة؟!
المساعد
:
بلَّغت يا أفندم!
المفتش
:
في أي وقت حصل هذا؟
المساعد
:
من ربع ساعة.
المفتش
:
وأين كنت أنا؟
المساعد
:
في ديوان خالٍ بالدرجة الأولى.
المفتش
:
وهل أشرت لك بإمضائي؟
المساعد
:
لا يا أفندم!
المفتش
:
والسبب؟
المساعد
:
خفت أوقظ حضرتك؟
المفتش
:
توقظني! … وهل أنا كنت … نائمًا؟
المساعد
:
كنتَ تنظر من النافذة.
المفتش
:
إذن لم أكن نائمًا.
المساعد
:
كنت تعد الشجر الذي يهرب من القطار؟
المفتش
:
هل سمعتني؟
المساعد
:
نعم … كنت تقول: أريد هذه الشجرة … وهذه وهذه … وهذه … أمسكوا لي شجرة من هذه الأشجار
الهاربة من القطار … هذه واحدة … وهذه الثانية … وهذه الثالثة … وهذه الرابعة … وهذه
الخامسة
… وهذه … وهذه، وهكذا وهكذا.
المفتش
:
سمعت كل هذا؟
المساعد
:
ليس اليوم فقط يا حضرة المفتش!
المفتش
:
تقصد أنِّي أفعل ذلك كل يوم.
المساعد
:
نعم … كل يوم.
المفتش
:
أنت إذن تتجسَّس عليَّ؟!
المساعد
:
لم أفعل ذلك عن قصدٍ.
المفتش
:
ولماذا لم تنبِّهني؟
المساعد
:
حاولت ولكن حضرتك كنت في حالة …
المفتش
:
حالة ماذا؟
المساعد
:
انسجام … أقصد استغراق!
المفتش
:
ما علينا! … هات تقريرك!
(المساعد يُقدِّم تقريره إلى المفتش … وعندئذٍ يعلو صوت من بعيد لمجموعة
من الصبية تُنْشِد.)
صوت الصبيان
(عن بُعد)
:
يا طالع الشجرة هات لي معك بقرة تحلب وتسقيني بالمعلقة الصيني … إلخ، إلخ.
المفتش
(للمساعد)
:
ما هذا؟!
المساعد
:
رحلة مدرسية في الدرجة الثانية.
المفتش
:
كم العدد؟
المساعد
:
مائة تلميذ … العدد مُوضَّح بالضبط هنا في الورق.
المفتش
(يُراجع الورق)
:
أهذا الرقم الأخير هو كل الركاب؟
المساعد
:
نعم … كل ركاب القطار.
المفتش
:
جميعهم بتذاكر؟
المساعد
:
نعم.
المفتش
:
لم تضبط راكبًا بدون تذكرة؟
المساعد
:
لا … ما عدا …
المفتش
:
ما عدا؟!
المساعد
:
ماعدا ذلك الدرويش.
المفتش
:
درويش؟
المساعد
:
نعم … رجل من الدراويش لم أجد معه تذكرة.
المفتش
:
واتخذت ضده الإجراءات؟
المساعد
:
لا …
المفتش
:
والسبب؟
المساعد
:
تكلَّم بكلام لم أفهمه.
المفتش
:
وهل هذا سبب لعدم اتخاذ الإجراءات؟
المساعد
:
انتظرت لحين عرض أمره على حضرتك.
المفتش
:
ولماذا لم تعرض أمره؟
المساعد
:
كنت على وشك أن أفعل.
المفتش
:
متى؟ بعد قيامك من النوم؟
المساعد
:
ليس قيامي أنا.
المفتش
:
أرجوك … كلِّف خاطرك ورح أحضره إلى هنا بسرعة!
المساعد
:
بسرعة … (يذهب)
المفتش
:
وقاحة! (يجلس على الكرسي وينظر من نافذة القطار وينشد.)
يا طالع الشجرة
هات لي معك بقرة
يا طالع البقرة
هات لي معك شجرة
هات لي معك شجرة
هات لي معك شجرة
(المحقق يهمس للزوج.)
المحقق
:
إنَّك تقلب الكلمات على هواك.
الزوج
:
الكلمات تخرج من فمي على هواها.
المحقق
:
عن غير وعي منك؟
الزوج
:
إنِّي كما ترى أنظر من النافذة ولا أُفكِّر في شيء.
المحقق
:
ولكنَّك تنظر إلى الشجر.
الزوج
:
حقًّا.
المحقق
:
ها هو المُساعد يعود إليك بالرجل.
الزوج
:
نعم.
(المساعد يظهر ومعه الدرويش.)
المساعد
:
أحضرته يا حضرة المفتش؟!
المفتش
(للدرويش)
:
أنت راكب من أي محطة يا سي الشيخ؟
الدرويش
:
لم أركب من محطة.
المفتش
:
تقصد أنَّك ركبت أثناء الطريق؟
الدرويش
:
طبعًا.
المفتش
:
كان القطار واقفًا أو متمهلًا.
الدرويش
:
بل كان سائرًا كالعادة.
المفتش
:
عجبًا! … واستطعت أن تركب أثناء السير؟
الدرويش
:
طبعًا مثل كل الناس.
المفتش
:
مثل كل الناس؟ … وهل كل الناس يركبون أثناء السير؟
الدرويش
:
وينزلون أيضًا أثناء السير.
المفتش
:
أي نوع من الناس هذا؟
الدرويش
:
كل الناس.
المفتش
:
وأين تذكرتك؟
الدرويش
:
موجودة.
المفتش
(يمد يده)
:
من فضلك؟
الدرويش
(يخرج ورقة)
:
تفضَّل!
المفتش
(يطَّلع عليها)
:
هذه شهادة ميلاد.
الدرويش
:
شهادة ميلادي.
المفتش
:
ولكنِّي أُريد تذكرة ركوبك.
الدرويش
:
هذه تذكرة ركوبي.
المفتش
:
أريد تذكرتك التي تركب بها القطار.
الدرويش
:
هي تذكرتي التي أركب بها القطار.
المفتش
:
أي قطار؟
الدرويش
:
القطار الأصلي.
المفتش
:
أي قطار أصلي؟
الدرويش
:
القطار الأصلي … الذي قام قبل هذا القطار الفرعي … ألا تعرف ذلك؟!
المفتش
:
اسمع … أنا لا أفهم هذا الكلام … أعطني تذكرتك التي تركب بها قطاري هذا.
الدرويش
:
وإذا لم أعطك التذكرة.
المفتش
:
نتخذ ضدك الإجراءات.
الدرويش
:
وما هي الإجراءات!
المفتش
:
دفع ثمن التذكرة مع الغرامة.
الدرويش
:
وإذا لم يكن معي نقود.
المفتش
:
أنزلك من القطار في أول محطة وأُسلِّمك إلى ناظرها.
الدرويش
:
وماذا سيصنع بي ناظرها.
المفتش
:
يُسلِّمك للبوليس.
الدرويش
:
وماذا يصنع بي البوليس؟
المفتش
:
يُحرِّر لك محضر مخالفة ويُقدِّمك للمحاكمة.
الدرويش
:
وبماذا تنتهي المحاكمة؟
المفتش
:
بالحكم عليك بغرامة.
الدرويش
:
وإذا لم أدفع الغرامة؟
المفتش
:
توضع في الحبس.
الدرويش
:
وماذا أفعل في الحبس؟
المفتش
:
لا تفعل شيئًا.
الدرويش
:
أنا الآن لا أفعل شيئًا.
المفتش
:
تريد إذن أن أتخذ ضدك الإجراءات؟
الدرويش
:
ولماذا تتخذ ضدي الإجراءات؟
المفتش
:
لأنك راكب بدون تذكرة؟
الدرويش
:
هل تريد تذكرة!
المفتش
:
نعم.
الدرويش
:
تذكرة واحدة؟
المفتش
:
بالطبع واحدة … لأنَّك راكب واحد.
الدرويش
:
إليك عشر تذاكر!
(يمد يده خارج النافذة في الهواء ويقبض على عشر تذاكر يُقدِّمها إلى
المفتش.)
المفتش
(في دهشة)
:
ما كل هذا؟
الدرويش
:
انظر فيها جيِّدًا … أليست تذاكر حقيقية؟
المفتش
(يفحص التذاكر العشر متعجِّبًا)
:
حقًّا … حقًّا … إنَّها كلها حقيقية … لكن … من أين أتيت بها؟
الدرويش
:
هذا شأني.
المفتش
:
و… ماذا أفعل بكل هذه التذاكر؟
الدرويش
:
ألم تطلب تذكرة؟ … ها هي تذاكر.
المفتش
(وهو يرد تسعًا منها)
:
تكفي واحدة فقط … أمَّا الباقي؟
الدرويش
:
الباقي وزِّعه على من لم يحمل واحدة من رُكَّاب القطار.
المفتش
:
لم يكن يوجد غيرك لا يحمل تذكرة.
الدرويش
:
إذن أنت لست في حاجة إلى التسع الباقية؟
المفتش
:
لا.
الدرويش
:
ردَّها إليَّ إذن!
(المفتش يردَّها إليه مأخوذًا!)
الدرويش
(يُلقي بها من النافذة)
:
ها أنا ذا أرجعها إلى حيث جاءت.
المفتش
:
ومن أين جاءت؟
الدرويش
:
هذا شأني.
المفتش
:
ولكن هذا عجيب؟
الدرويش
:
هذا في غاية البساطة … الإتيان بتذاكر قطارك هذا هو من أبسط الأمور … (يضحك) تذاكر قطارك
هذا … بسيطة … بسيطة!
المفتش
:
أنت رجل مبارك … مكشوف عنك الحجاب … هل تسمح لي بالجلوس قليلًا إلى جوارك؟
الدرويش
:
لا تُلقِ عليَّ أسئلة! ولكن اطلب مني ما تشاء!
المفتش
:
هل تعرف ماذا أطلب من حياتي؟
الدرويش
(ينشد)
:
يا طالع الشجرة
هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني
بالمعلقة الصيني
المفتش
:
يظهر أنَّك عرفت.
الدرويش
:
العارف لا يُعرَّف.
المفتش
:
إذن لا حاجة بي إلى الشرح.
الدرويش
:
هناك في ضاحية الزيتون.
المفتش
:
ضاحية الزيتون؟
الدرويش
:
هناك سوف تجد …
المفتش
:
أجد ماذا؟
الدرويش
:
الشجرة … في الشتاء تطرح البرتقال … وفي الربيع المشمش … وفي الصيف التين … وفي الخريف
الرمان.
المفتش
:
شجرة واحدة؟
الدرويش
:
واحدة كل شيء واحد … هناك: الشجرة، والبقرة، والشيخة خضرة.
المفتش
:
الشيخة خضرة؟!
الدرويش
:
كل شيء أخضر … كل شيء أخضر.
المفتش
:
كل شيء أخضر؟! هذا كلام مطمئن.
الدرويش
:
إلى حين …
المفتش
:
أوَترى شيئًا مكدرًا؟
الدرويش
:
لا تُلْقِ عليَّ أسئلة! … قلت لك: لا تُلْقِ عليَّ أسئلة!
المفتش
:
هناك سؤال لا بُدَّ لي من أن ألقيه عليك: هل تسمح أن أكون من مُريديك؟
الدرويش
:
لماذا؟
المفتش
:
لأنِّي أشعر وأنا في جوارك بالطمأنينة.
الدرويش
:
أنت لست في حاجة إلى الطمأنينة … مَنْ يركب القطار دون انتظار لمحطة وصول … هو دائمًا
مطمئن.
المفتش
:
هذا صحيح … ولكن!
الدرويش
:
ولكنَّك تكثر النظر من النافذة … فترى الأشجار عندئذٍ تفر.
المفتش
:
هذا صحيح أيضًا ولكن!
(القطار يصفر.)
الدرويش
:
عملك يدعوك يا حضرة المفتش.
المفتش
:
بدأت أسأم هذا العمل … خمسة وثلاثون عامًا في القطار … أليس لي الحق أن أسأم؟!
الدرويش
:
ولكن القطار لا يسأم!
المفتش
:
لأنَّه لا يعرف ما هو السأم.
الدرويش
:
إنَّه يعرف فقط السير … السير … السير … السير … السير … السير … أليس من الخير لك أن
تكون قطارًا؟!
المفتش
:
لقد كنت قطارًا.
الدرويش
:
عندما كنت طفلًا.
المفتش
:
نعم.
الدرويش
:
ولم تشعر بالسأم؟
المفتش
:
لا.
الدرويش
:
نعم … ما أحلى تلك الأيام التي كنَّا فيها قطارات!
المفتش
:
كان يمسك بعضنا بأذيال بعض … ونظل طول اليوم نسير في الطرقات … نصفر وننفث الدخان من
أفواه صغيرة … ولكنَّها لا تتعب.
الدرويش
:
القطار لا يتعب … ولكن الرُّكَّاب هم الذين يتعبون.
المفتش
:
وعندما كبرنا لم نعُد نصلح لأن نكون قطارات.
الدرويش
:
وبدأ التعب وبدأ السأم!
المفتش
:
نعم.
الدرويش
:
انهض إلى عملك يا حضرة المفتش.
المفتش
:
ألا تُريد أن أبقى معك وأتحدَّث؟
الدرويش
:
إلى عملك يا حضرة المفتش … إلى عملك!
(الزوج للمحقق.)
الزوج
:
لماذا يضيق بي هذا الرجل؟
المحقق
:
اسكت أنت … حتَّى أسمع ردك عليه!
الزوج
:
ولكنِّي لن أرد … إنِّي أتأهَّب للقيام إلى عملي.
المحقق
:
بالعكس … إنَّك تتأهَّب للكلام … انظر!
الزوج
:
حقًّا … ولكن ماذا يُمكن أن أقول الآن؟
المحقق
:
هذا شيء لا تعرفه أنت … ولكنَّه هو يعرفه … أقصد أنت …
الزوج
:
أنا لا أعرفه … وأنا أعرفه؟!
المحقق
:
ها أنت ذا تتكلَّم.
الزوج
:
أنا لم أتكلم … ليس عندي ما أقول.
المحقق
:
هناك … انظر … انظر … إنَّك تتكلَّم!
(المفتش يتكلَّم.)
المفتش
:
يا سيدنا الشيخ … أنقذني … أنقذني بربك!
الدرويش
:
أنقذك؟
المفتش
:
نعم … أنقذني من شخص يزعجني.
الدرويش
:
إنَّه معك دائمًا.
المفتش
:
نعم.
الدرويش
:
لا تفهم ما يُريد أحيانًا.
المفتش
:
لا أفهم ما يُريد.
الدرويش
:
ولكنَّه يزعجك.
المفتش
:
يُزعجني ويُخيفني وأخشى أن يضلني يومًا.
الدرويش
:
أعرف … أعرف.
(المحقق للزوج.)
المحقق
:
من هذا الشخص الذي يزعجك وتخشى أن يضلك يومًا؟
الزوج
:
لا أدري.
المحقق
:
ولكنَّك أنت الذي تقول ذلك؟
الزوج
:
لست أدري لماذا أقول ذلك.
المحقق
:
ولكن الدرويش يعرف فيما أرى.
الزوج
:
لا شكَّ أنَّه يعرف.
المحقق
:
ما السبيل إلى التحقُّق من هذه النقطة؟!
الزوج
:
لست أدري ما هو السبيل.
المحقق
:
لو أمكننا سؤال هذا الدرويش.
الزوج
:
أتُريد سؤاله؟
المحقق
:
لا شك في استطاعته أن يُلقي ضوءًا.
الزوج
:
إنَّه يستطيع … ما في هذا شك.
المحقق
:
وأين هو الآن؟
الزوج
(مُشيرًا إلى جهة القطار)
:
أمامك … في القطار!
المحقق
:
وكيف تأتي به؟
الزوج
:
إذا شئت استدعيناه … ولكن القطار يسير الآن كما ترى.
المحقق
:
والحل؟
الزوج
:
ننتظر قليلًا حتَّى يقف القطار في أول محطة!
(الدرويش للمفتش في القطار.)
الدرويش
:
لماذا تُريد استدعائي أمام البوليس؟
المفتش
:
أنا أريد ذلك؟ … لم تعد هناك حاجة … تذكرتك معك.
الدرويش
:
أنت تريد ذلك.
المفتش
:
لماذا؟
الدرويش
:
لست أدري بالضبط … ربما من أجل شهادة.
المفتش
:
شهادة.
الدرويش
:
شهادة في قضية.
المفتش
:
تخصني أنا؟
الدرويش
:
نعم … تخصك.
المفتش
:
متى ذلك؟
الدرويش
:
لا أعرف بعد.
المفتش
:
ولكنِّي أنا الآن معك هنا.
الدرويش
:
ليس هنا.
المفتش
:
أين إذن!
الدرويش
:
هناك … في ضاحية الزيتون.
المفتش
:
ضاحية الزيتون؟
الدرويش
:
في منزلك … منزل زوجتك.
المفتش
:
زوجتي … ولكنِّي لم أتزوَّج بعد؟!
الدرويش
:
لا داعي لانتظار وقوف القطار في أول محطة … يحسن أن أذهب إليك … هناك.
(الدرويش ينهض من مكانه، ويُغادر القطار تاركًا المفتش متعجبًا
لاختفائه.)
المفتش
:
يا سيدنا الشيخ … يا سيدنا الشيخ … أين ذهب؟! … أين اختفى؟!
(يطل من نافذة القطار باحثًا عنه … ولكنَّه يكون في طريقه بخطى المُتردِّد
المتلمس إلى ناحية المحقق والزوج … في حين يسمع صفير القطار المُنصرف وضجيجه … ثمَّ اختفاء
المفتش والنافذة والكرسي … ولا يبقى في المكان كله إلَّا المحقق أمام منضدته والزوج …
ثمَّ
الدرويش وهو يقترب منهما في خطى بطيئة.)
الدرويش
:
سلام عليكم!
المحقق
:
وعليكم السلام ورحمة الله!
الدرويش
:
طلبتم استدعائي.
المحقق
:
نعم.
الزوج
:
جئت بغاية السرعة يا سيدنا الشيخ!
الدرويش
:
لم أر داعيًا لإطالة انتظارك!
الزوج
(تاركًا مقعده للدرويش)
:
تفضَّل هنا يا سيدنا الشيخ!
الدرويش
(ناظرًا حوله)
:
أهذا هو المنزل؟
الزوج
:
نعم.
الدرويش
(يلتفت جهة الحديقة)
:
والشجرة هناك؟!
الزوج
:
نعم.
الدرويش
(مُشيرًا إلى المحقق)
:
وحضرته من رجال البوليس؟
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
تشرَّفنا!
المحقق
:
نحن في حاجة إلى معاونتك.
الدرويش
:
أنا في الخدمة.
المحقق
:
هل لديك معلومات في الموضوع؟
الدرويش
:
أي موضوع؟
المحقق
:
اختفاء زوجته؟
الدرويش
(للزوج)
:
فعلتها إذن؟!
الزوج
:
ماذا تقصد؟
الدرويش
:
أنت فاهم قصدي.
الزوج
:
لا … أرجوك يا سيدنا الشيخ نحن الآن أمام محقق … وكل كلمة منك يُمكن أن تُفسَّر تفسيرًا
قد لا تقصده.
الدرويش
:
صدقت.
المحقق
:
فعل ماذا؟
الدرويش
:
هل قلت إنَّه فعل شيئًا؟!
المحقق
:
قلت له «فعلتها إذن؟» … فعل ماذا؟
الدرويش
:
لا تُلْقِ عليَّ أسئلة … اطلب ما تريد ولا تُلْقِ عليَّ أسئلة!
المحقق
:
إنِّي مُحقِّق … ولكي أحقِّق لا بُدَّ من أن أُلقي أسئلة!
الدرويش
:
لا شأن لي بتحقيقك … إذا أردت مني شيئًا اطلبه ولا تُلْقِ أسئلة!
المحقق
:
أريد إذن رأيك في اختفاء زوجته … هذا طلب وليس سؤالًا.
الدرويش
:
زوجته.
المحقق
:
نعم … أطلب رأيك في اختفائها.
الدرويش
:
زوجته … إمَّا أنَّه قتلها … وإمَّا أنَّه لم يقتلها بعد.
الزوج
(صائحًا)
:
ما هذا الذي تقول يا سيدنا الشيخ؟
الدرويش
:
هل قتلتها؟
الزوج
:
أنا؟! … حاشا لله يا شيخ!
الدرويش
:
إذن لم تقتلها بعد؟
الزوج
:
ما هذا الكلام يا رجل؟!
المحقق
:
رأيك إذن يا سيدنا الشيخ أنَّه قتلها؟
الدرويش
:
إمَّا أنَّه قتلها وإمَّا أنَّه لم يقتلها بعد.
المحقق
:
مصيرها القتل على كل حال إذن؟
الدرويش
:
نعم.
المحقق
:
بيد زوجها هذا؟
الدرويش
:
نعم.
المحقق
(للزوج)
:
ما قولك الآن؟
الزوج
(صائحًا)
:
هذا رجل دجَّال، كذَّاب، عابث، مخرف.
المحقق
:
ولكنَّك كنت حتَّى هذه اللحظة تثق فيه … وتود أن تكون من مريديه.
الزوج
:
إنَّه يتهمني زورًا … بدون مُبرِّر.
المحقق
:
لا بُدَّ أنَّ لديه المُبرِّر.
الزوج
:
لا مُبرِّر سوى أنَّه يحقد عليَّ لأنِّي كنت قد طالبته بالتذكرة!
المحقق
:
ليست هذه ضغينة جدية … ومع ذلك فقد أبرز لك بدل التذكرة عشر تذاكر.
الدرويش
:
قل له يا حضرة المحقق … قل له!
الزوج
:
لماذا تتهمني بقتل زوجتي؟
الدرويش
:
لست أتهم … إنِّي أرى …
الزوج
:
ترى أنِّي قتلتها!
الدرويش
:
إن لم تكن قد قتلتها … فستقتلها.
الزوج
:
ترى ذلك؟
الدرويش
:
نعم.
الزوج
:
ولماذا لم تخطرني برؤياك هذه عندما تقابلنا في القطار؟
الدرويش
:
لم أكن قد رأيت ذلك بعد.
الزوج
:
ولكنَّك رأيت لي ضاحية الزيتون والشجرة والزوجة؟!
الدرويش
:
نعم رأيت ذلك.
الزوج
:
ولم تر القتل؟
الدرويش
:
لم يكن القطار قد وصل بي إلى حيث أرى أبعد مِمَّا رأيت.
الزوج
:
أي قطار؟
الدرويش
:
قطاري.
الزوج
:
إنَّك تخلط يا سيدنا الشيخ.
الدرويش
:
إنِّي لا أقول إلَّا ما أرى … وإذا رأيت فإنِّي أقول.
الزوج
:
ولماذا أقتل زوجتي؟
المحقق
:
اسمح لي … هذا ما لا شأن للشاهد بالإجابة عنه … إنَّ الأسباب الدافعة إلى ارتكاب الجريمة
يُمكن أن توجد في كل وقت … وعلى كل صورة.
الزوج
:
إنِّي أحب زوجتي.
المحقق
:
وتحب الشجرة أكثر منها.
الزوج
:
إنَّها لم تكن تشكو من ذلك.
المحقق
:
ولكن الشجرة كانت تشكو من قلة الغذاء.
الزوج
:
ماذا تعني؟
المحقق
:
أنت الذي كان يقول ذلك منذ حين.
الزوج
:
لست أفهم ما ترمي إليه؟
المحقق
:
دعنا الآن من كل هذا … ولنتحدَّث في خصائص الشجر … ولنشرك سيدنا الشيخ في الموضوع … إنَّه
لا شكَّ يعرف عنه الكثير.
الدرويش
:
بل القليل.
المحقق
:
يكفينا قليلك يا سيدنا الشيخ … إذا طلبت إليك رأيك في طريقة تنمو بها شجرة البرتقال مثلًا
… نموًّا عظيمًا.
الدرويش
:
يُقال إنَّ هنالك شجرة تطرح البرتقال في الشتاء والمشمش في الربيع، والتين في الصيف،
والرمان في الخريف.
الزوج
:
شجرة واحدة تطرح كل ذلك؟!
الدرويش
:
نعم … شجرة واحدة.
الزوج
:
شجرة واحدة تجمع بين كل هذه المتناقضات؟ … أهذا معقول؟ … أيمكن أن يحدث هذا؟! … اشهد
يا
حضرة المُحقِّق … هذا الرجل يعبث … وأين توجد هذه الشجرة؟
الدرويش
:
في أي مكان شئت … ربما كانت شجرتك هذه؟
الزوج
:
شجرتي هذه … شجرة البرتقال هذه يمكن أن تفعل هذا؟!
الدرويش
:
ألا تعرف هذا؟ … ألم أُحدِّثك عن هذا في القطار؟!
الزوج
:
حسبتك تمزح وتعبث.
الدرويش
:
إنِّي لا أعرف المزاح والعبث.
الزوج
:
شجرتي هذه يمكن أن تطرح كل هذه الفاكهة المختلفة في الفصول المختلفة؟
الدرويش
:
إذا تغذَّت بالسماد الذي تعرفه.
الزوج
:
أي سماد تعني؟
الدرويش
:
إذا دُفِنَ تحتها جسد كامل لإنسان … فإنَّها تتغذَّى بكل ما فيه من متناقضات.
الزوج
:
لم أكن أعرف ذلك.
المحقق
:
بل كنت تعرف.
الزوج
:
ربما سمعت منه أو من غيره شيئًا كهذا … ولكنِّي لم ألق إليه بالًا.
المحقق
:
يكفي أن يتسرَّب إلى نفسك شيء منه.
الزوج
:
فليكن … ما النتيجة التي تُريد الوصول إليها؟
المحقق
:
أظن سبب الجريمة بدأ يتضح.
الزوج
:
أفصح من فضلك يا حضرة المحقق؟!
المحقق
:
الأمر لم يعُد يحتاج إلى إفصاح … اعترف … هذا خير لك.
الزوج
:
أعترف بماذا؟
المحقق
:
بأنَّك قتلت زوجتك ودفنتها تحت هذه الشجرة؟!
الزوج
:
لكي تتغذَّى بها الشجرة، وتطرح في الشتاء البرتقال، وفي الربيع المشمش، وفي الصيف التين،
وفي الخريف الرمان؟!
المحقق
:
إنَّه هدف لا بأس به على كل حال.
الزوج
:
هل تظنني لو فعلت ذلك أُعْتَبر حافظًا لكامل قواي العقلية؟
المحقق
:
مسألة قواك العقلية من اختصاص المحكمة … هي التي تفحصها … أمَّا مهمتي فهي التحقيق في
الجريمة … والحصول على اعترافك … وخير لك أن تعترف … خصوصًا بعد شهادة الشاهد.
الزوج
:
أي شاهد؟
المحقق
:
هذا الشيخ المحترم.
الزوج
:
هذا الرجل الذي جاءنا من الهواء.
المحقق
:
من الهواء … من الفضاء … إنَّه أدلى بشهادة يُمكن الاعتماد عليها.
الزوج
:
قتلت زوجتي لأُغذي الشجرة؟! … هذا السبب الخرافي غير المعقول، هل يُمكن أن يخطر على بال
إنسان في عصرنا الحاضر؟!
المحقق
:
أعندك سبب آخر جدير بعصرنا الحاضر؟! … إنِّي مستعد لسماعه والأخذ به!
الزوج
:
بل أنا المستعد لسماع أي سبب معقول … أو على الأقل غير خرافي يمكن أن يدفع إنسانًا
عصريًّا لقتل زوجته ولا بأس عندئذٍ من إسناده إليَّ.
المحقق
:
تريد أن تعرف لماذا يقتل الإنسان العصري زوجته؟
الزوج
:
نعم … اذكر لي أهم الأسباب … وأنا أختار منها ما يحلو لي.
المحقق
:
خذ عندك يا سيدي: أولًا الخيانة الزوجية.
الزوج
:
هذه مستبعدة … أنا في الخامسة والستين وامرأتي في الستين … وليس في أحدنا مطمع.
المحقق
:
ثانيًا: الطمع في الثروة.
الزوج
:
هذه أيضًا مستبعدة … إنَّها فقيرة … لا تملك غير هذا المنزل الصغير جدًّا كما ترى … ومن
السخف أن أقتلها من أجله … ولا ضرورة لذلك على الإطلاق.
المحقق
:
ثالثًا: عدم توافق الطباع.
الزوج
:
هذا ليس سببًا يدعو إلى القتل.
المحقق
:
بالعكس … هذا من أهم الأسباب للقتل العصري … ألم تسمع عن قضية قتل فيها الزوج زوجته خنقًا
لأنَّها تحب دائمًا إلقاء الأسئلة؟ … وزوجة دسَّت السم لزوجها لأنَّه يرفض دائمًا إبداء
رأيه
في تسريحة شعرها؟
الزوج
:
زوجتي لا تسألني ولا أسألها في شيء … وقد رأيت بعينك … وليس لي أو لها شعر يستحق التسريح
أو إبداء الرأي فيه!
الدرويش
(للزوج)
:
اطمئن! … إنَّ القتل عندك هو لسبب عصري جدًّا.
الزوج
:
وبعدها لك يا سيدنا الشيخ!
الدرويش
:
كل غرضي هو إدخال الاطمئنان إلى قلبك … السبب عندك يتمشَّى مع فلسفة العصر!
الزوج
:
فلسفة العصر؟!
الدرويش
:
إنَّ القتل لأسباب فلسفية شيء مألوف في عصرنا الحديث.
الزوج
:
أنا قتلت زوجتي لأسباب فلسفية؟! … هذا هو الشيء الذي كان ناقصًا حقًّا يا سيدنا
الشيخ!
الدرويش
:
اطمئن! … اطمئن!
الزوج
:
إنِّي مطمئن جدًّا … ولكن أحب أن ألفت نظرك إلى أنِّي لا أعرف من كلمة الفلسفة إلَّا
ما
يتداوله عامة الناس … لا تنس أنِّي لست أكثر من مفتش قطار! … ولم أقرأ في حياتي كتابًا
غير
جدول السكة الحديد … وبعض القصص البوليسية!
المحقق
:
القصص البوليسية؟!
الزوج
:
تقع في يدي أحيانًا … أجدها متروكة سهوًا على بعض المقاعد بعد أن يكون قد فرغ من قراءتها
أحد المسافرين.
المحقق
:
إذن أنت تقرأ القصص البوليسية؟
الزوج
:
وما الضرر؟
المحقق
:
لا … لا شيء … كل شيء بدأ يتضح.
الزوج
:
ما هو الذي بدأ يتضح؟! … إنِّي لست أنكر.
المحقق
:
لست تنكر؟
الزوج
:
نعم … لست أنكر أنِّي أقرأ القصص البوليسية، ولكنِّي لم أقرأ الكتب الفلسفية.
المحقق
:
لا تهمني الكتب الفلسفية.
الزوج
:
ولكن سيدنا الشيخ يزعم أنِّي قتلت بسبب الفلسفة.
الدرويش
:
فلسفة العصر.
الزوج
(للمحقق)
:
أسمعت؟ … ها هو ذا يُكرِّرها.
الدرويش
:
فلسفة العصر موجودة فيك … وفلسفة الشجرة موجودة فيها.
الزوج
:
فلسفة الشجرة؟
الدرويش
:
نعم.
الزوج
:
وما هي فلسفة الشجرة؟
الدرويش
:
تنتج ولا تسأل … تنتج زهرًا لا تشمه، وثمرًا لا تأكله … ولا تسأل لماذا … لا يُعذِّبها
السؤال عن جواب لن تتلقَّاه أبدًا.
الزوج
:
حقًّا … هذا شيء جميل من الشجرة … ولكن … ما دخلي أنا في هذا؟
الدرويش
:
إنَّك لست شجرة.
الزوج
:
هذا بديهي.
الدرويش
:
ولذلك ستقتل زوجتك إن لم تكن قتلتها؟
الزوج
:
هل فهمت شيئًا يا سيدي المحقق؟
المحقق
:
لم أفهم بالضبط … ولكن المهم على كل حال هو أنَّ فضيلة الشاهد يُقرِّر ويُكرِّر أنَّك
قتلت زوجتك.
الزوج
:
إنَّكم تُضيِّقون الخناق على رقبتي لإثبات التهمة عليَّ!
المحقق
:
التهمة ثابتة من نفسها … وخير لك أن تعترف.
الزوج
:
أنِّي قتلت زوجتي؟
المحقق
:
على فكرة … قتلتها بأي شيء … كيف تمَّ القتل؟ … بآلة حادة؟ … أو بالسم أو ﺑ…
الزوج
:
كله إلَّا السم.
المحقق
:
لا بأس! … لا بأس … هدِّئ نفسك … وسيلة القتل سيكشفها الطبيب الشرعي عند تشريح الجثة
… لا
داعي أن تذكرها … إنِّي مُراعٍ لشعورك.
الزوج
:
لو أنَّكم فقط ذكرتم لي سببًا معقولًا يُبرِّر قتلها؟
المحقق
:
دعك من السبب المعقول … كل جرائم القتل لها ما يُبرِّرها في أعين مرتكبيها … سواء كان
الدافع معقولًا أو غير معقول.
الزوج
(ضاحكًا فجأة)
:
كله إلَّا السبب الفلسفي؟!
المحقق
:
وأنا غير مُتمسِّك بهذا السبب.
الزوج
:
ولكن سيدنا الشيخ فيما يظهر مُتمسِّك به؟
المحقق
:
مع احترامي لآراء سيدنا الشيخ فأنا أعدك بعدم ذكر أي أسباب لا تُعْجِبُكَ في محضر التحقيق
… اتفقنا؟
الزوج
:
اتفقنا.
المحقق
(ينهض)
:
هلم بنا إذن!
الزوج
:
إلى أين؟
المحقق
:
إلى الحبس.
الزوج
:
الحبس؟! … لماذا؟
المحقق
:
لأنَّك بالطبع مقبوض عليك.
الزوج
:
ستقبض عليَّ؟!
المحقق
:
يُؤسفني أن أفعل … ولكن هذا إجراء لا بُدَّ منه!
الزوج
:
أنت جاد حقًّا؟!
المحقق
:
بالطبع جاد … أتظن أنِّي جئت هنا لأمزح معك أم لأقوم بأعمال وظيفتي؟
الزوج
:
ولكنِّي لم أرتكب شيئًا يستحق الحبس!
المحقق
:
إذا كنت ترى أنَّ قتل الزوج لزوجته شيء لا يستحق الحبس فهو رأي قد يكون له احترامه،
ولكنَّه على كل حال ليس رأي القانون.
الزوج
:
ولكنِّي يا حضرة المحقق.
المحقق
:
كفى! … التحقيق طال أكثر مِمَّا ينبغي … ويحسن أن تضع نفسك تحت تصرف العدالة بكل هدوء
…
هذه خير نصيحة أقدمها إليك!
الزوج
:
خير نصيحة تُقدِّمها إليَّ؟
المحقق
:
نعم … وأرجوك أن تسمع نصيحتي! … سلِّم نفسك!
الزوج
:
أُسلِّم نفسي!
المحقق
:
وبدون تردد … هذا خير لك! … اسمع نصيحتي!
الزوج
(يلتفت إلى الدرويش)
:
أيُرضيك هذا يا سيدنا الشيخ؟!
الدرويش
:
لا تسألني! … قلت لك أن لا تُلْقي عليَّ أسئلة!
الزوج
:
ولكن هذا ظلم!
الدرويش
:
هل أنصرف يا حضرة المحقق؟
المحقق
:
إذا شئت … مع جزيل الشكر!
الدرويش
(للزوج منصرفًا)
:
إلى اللقاء يا حضرة المفتش … إنِّي عائد إلى القطار.
الزوج
:
لعنة الله عليك وعلى من دعاك!
المحقق
:
ما دُمْتَ مُصرًّا على موقفك فلأتخذ إذن إجراءاتي … (يتجه إلى جهة الباب ويُنادي) يا
عسكري!
(العسكري: يُسمع صوت دق حذائه بالتحية في الخارج دون أن يُرى.)
المحقق
:
احجز هذا المتهم في قسم البوليس … وأحضر من يحفر تحت هذه الشجرة لاستخراج الجثة!
الزوج
(صائحًا)
:
ستحفرون تحت شجرتي! … ستقتلون الشجرة! … يا قتلة! … يا قتلة!