القسم الثاني
(نفس المكان … المحقق واقف حيث يطل على الحديقة، ويُشرف على عملية الحفر،
ويُحادث حفَّارًا غير ظاهر … وفي الجانب الآخر الخادم العجوز تُحادث لبَّانًا غير ظاهر،
كما لو
كان ذلك من نافذة تطل على الطريق.)
(للحفار الذي في الحديقة): طبعًا تحت الشجرة!
نعم … نعم.
الحفار
:
… (يُسمَع صوته دون تبين كلامه.)
المحقق
:
الاتجاه؟! … حقًّا هذا ما لا أستطيع أن أدُلَّك عليه … إنِّي مثلك لا أعرف!
الحفار
:
… (صوت غير مفهوم.)
المحقق
:
صدقت … ربما كان رأيك صائبًا … احفر حول الشجرة كلها … لا تتعمَّق كثيرًا في مبدأ الأمر
…
ربما تعثر على شيء يُحدِّد لك الاتجاه … وعندئذٍ … ماذا تقول؟
الحفار
:
… (كلام غير مفهوم.)
المحقق
:
فعلًا … فعلًا … بالجاروف أولًا … وكن حذرًا عند استخدام الفأس حتَّى لا تُهشِّم شيئًا
من
الجثة!
الحفار
:
… (صوت غير مفهوم.)
المحقق
:
لا … لا … بالطبع … إنِّي واثق من خبرتك.
الحفار
:
… (كلام غير مفهوم.)
المحقق
:
نعم! … هكذا … استمر … استمر … استمر.
(المحقق يُتابع عملية الحفر بحركة من رأسه تُساير الجاروف في
حركته.)
الخادمة
(للبَّان)
:
لا … لا تحضر اللبن بعد اليوم … لمن تحضره؟
اللبان
:
… (صوت في الخارج غير مفهوم.)
الخادمة
:
أليس كذلك؟! … ها أنت قد عرفت كل شيء من الجيران.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
لا يوجد غير البوليس … يستخرجون الجثة من الحديقة.
اللبَّان
:
…؟
الخادمة
:
نعم في الحبس.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
لا يدري أحد لماذا قتلها؟
اللبان
:
…
الخادمة
:
ولا أنا … ربما كان يكرهها … الناس أسرار … وما في القلب في القلب.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
ماذا تقول؟
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
آه … هذا شيء بسيط … البيت فيه آلات كثيرة من فأس وجاروف ومقص حدائق … ضربة على الرأس
من
واحدة منها تكفي.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
والله كان طيب القلب … وهي أيضًا … لكن الناس أسرار!
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
من قال لك هذا؟ … لا … كذب … لم يكن عندها مال حتَّى يطمع فيها.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
لا … ولا مصاغ.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
امرأة أخرى؟ … لا … هذا الكهل ليس في سن الطيش … وإن كان هناك حب فهو لا يُحب إلَّا
شجرته.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
اعترف؟ … نعم … قال في التحقيق إنَّه قتلها ودفنها تحت الشجرة.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
مصير المنزل؟ … سمعت حضرة الضابط يقول إنَّه سيُغلَق ويختم عليه بالشمع الأحمر.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
أنا؟ … مصيري؟ … لا أدري والله ما مصيري … كرهت خدمة البيوت … هذا البيت كان فلتة من
الفلتات … لا أطفال ولا ضجيج … وسيدة البيت تقوم بنفسها بأكثر العمل ولا تحتاج إليَّ
إلَّا في
الغسيل ومسح البلاط … وتتركني بعد انتهاء عملي أعود إلى منزلي … لذلك مكثت فيه عدة سنوات
في
أتم راحة … لكن ليست كل البيوت كهذا البيت … وها هو أخيرًا هذا البيت ينتهي بجريمة ويُغلَق
ويختم عليه بالشمع الأحمر!
اللبان
:
…
الخادمة
:
ماذا تقول؟ … عندك لي عمل؟ … أين؟
اللبان
:
…
الخادمة
:
لا … لا أحب الشغل في المستشفيات … غسالة في مستشفى المبرة؟ … أعوذ بالله! … أظل طول
النهار أغسل ملابس مقرفة ملوثة بكافة الأمراض.
اللبان
:
…
الخادمة
:
صدقت … لنا رب في السماء! … ربنا يتولانا جميعًا بعنايته … ماذا؟
اللبان
:
…
الخادمة
:
كم بالضبط؟
اللبان
:
…
الخادمة
:
هذا حساب مُتأخِّر؟
اللبان
:
…
الخادمة
:
لا علم لي … لم تقل لي الست … أقصد المرحومة.
اللبان
:
…
الخادمة
:
لا من فضلك … قبل مقتلها بيوم قالت لي إنَّ حساب اللبن خالص.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
متأكدة ألف مرة … سمعتها بأذني … قالت لي بعظمة لسانها: يكون في معلومك إنَّ حساب اللبن
خالص … وليس علينا متأخرات.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
وماذا أعمل بورقة حسابك؟ … احفظها معك … ومن الذي يطلع عليها الآن ويناقشك فيها!
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
علمي علمك.
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
أجرك على الله!
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
الحال من بعضه … أنا أيضًا لم أقبض بقية الشهر … لكن ما باليد حيلة! … أُطالب مَنْ؟ …
سيدي الذي في الحبس؟ … أو سيدتي المدفونة تحت الشجرة؟
اللبان
:
…؟
الخادمة
:
البوليس؟ الحكومة؟ … يوم الحكومة بسنة وأنت سيد العارفين … خليها على الله! مسألتنا بسيطة
على كل حال وقضا أخف من قضا.
اللبان
:
…
الخادمة
:
مع السلامة.
(الخادمة تتجه إلى حيث المحقق … وهو لا يُلقي بالًا إليها ويستمر في
متابعة عملية الحفر في الحديقة.)
المحقق
(للحفار)
:
ألم تعثر بعد على شيء؟
الحفار
:
…؟
المحقق
:
ماذا تقول؟ … على وشك أن تصل؟ … هل أنت على عمق كاف؟
الحفار
:
…
المحقق
:
استمر إذن! … وبحذر.
الخادمة
(وهي تتابع الحفر)
:
على مهلك من فضلك … حتَّى لا تشوِّه بفأسك وجهها! … للأموات حرمة!
المحقق
(يلتفت إلى الخادمة)
:
كُنْتِ تُحادثين شخصًا من النافذة؟
الخادمة
:
اللبَّان … كان في الشارع.
المحقق
:
كنت تقولين له إنَّ المتهم قتل زوجته بضربة فأس أو جاروف أو مقص! كيف عرفت ذلك؟
الخادمة
:
وهل أنا أعرف شيئًا أو رأيت بعيني شيئًا … هذا مجرد تخمين.
المحقق
:
ولماذا اتجه فكرك وتخمينك إلى هذا بالذات؟
الخادمة
:
وكيف يقتلها إذن؟
المحقق
:
هل سبق أن هدَّدها أمامك بآلة من هذه الآلات؟
الخادمة
:
أبدًا … ولا حتَّى بالكلام.
المحقق
:
إذن أنتِ ترين أنَّ الطريقة الطبيعية لقتلها هي استخدام آلة من هذه الآلات.
الخادمة
:
لأنَّها تحت يده دائمًا … ويعمل بها في الحديقة كل يوم ويُنظِّفها بنفسه كما رأيت!
المحقق
(يلتفت إلى الحفر)
:
سنرى بعد قليل على كل حال … طريقة القتل ستظهر في الجثة بكل وضوحٍ.
(طرق على الباب الخارجي.)
الخادمة
:
هذا طرق على الباب الخارجي.
المحقق
:
من يُمكن أن يكون؟
الخادمة
:
ربما الجزار أو البقال … هل أذهب لأرى؟
المحقق
:
اذهبي!
الخادمة
(تُجيب الطارق وهي تُسرع إلى الباب)
:
مهلًا … ها أنا قادمة!
المحقق
(مُلتفتًا إلى الحفار)
:
احفر … احفر … استمر.
(الخادمة في الخارج تُطلق صيحة رعب هائلة.)
الخادمة
(تظهر مهرولة نحو المحقق)
:
عفريتها … انجدوني!
المحقق
(للخادمة)
:
ماذا جرى لكِ؟!
الخادمة
:
هي … هي … المقتولة … سيدتي.
(الزوجة تظهر بملابس الخروج مندهشة.)
الزوجة
(للخادمة)
:
ما هذا الجنون؟! … ماذا جرى لكِ؟! … لماذا تصيحين هكذا؟
المحقق
(في دهشة وذهول)
:
أهي؟
الخادمة
(للمحقق)
:
نعم … هي … هي بعينها.
الزوجة
(للخادمة)
:
ماذا جرى؟ … مَنْ حضرته؟
الخادمة
(لسيدتها)
:
ألستِ مقتولة؟
الزوجة
:
هل جننت؟ … إنَّها بدون شك مجنونة؟
المحقق
:
حضرتك؟ … (يتفرَّس في وجهها) نعم! … أنتِ … حقًّا؟
الزوجة
:
أنا صاحبة البيت … وحضرتك؟
المحقق
:
أنا … بوليس.
الزوجة
:
بوليس … خيرًا؟ … هل حصل شيء؟
المحقق
:
حصل أنَّنا … أنَّكِ …
الزوجة
:
أنِّي ماذا؟ … ما هو الموجب لحضور البوليس في بيتنا؟ … أين زوجي؟
المحقق
:
زوجك يا سيدتي في … في الحبس.
الزوجة
:
في الحبس؟
المحقق
:
ظننا أنَّكِ مقتولة.
الزوجة
:
مقتولة؟
المحقق
:
اختفاؤك جعل الظنون …
الزوجة
:
اختفائي؟ … إنِّي حقًّا كنت متغيبة … لكن … هل كل من يتغيَّب عن بيته تظنون أنَّه
…
المحقق
:
إذن … كان مُجرَّد تغيب؟
الزوجة
:
طبعًا.
المحقق
:
لكن زوجك …
الزوجة
:
زوجي … أين زوجي … قلت في الحبس؟
المحقق
:
نعم … لكن اسمحي لي أُصحِّح الخطأ في الحال … فورًا.
الزوجة
:
هذا أمر في غاية العجب! … بأي حق يوضع في الحبس؟! … إنَّه رجل طيب … ولم يرتكب خطأ قط
في
حياته.
المحقق
:
أرجوكِ … أرجوكِ … لحظة واحدة! … أين التليفون؟
(يتجه بسرعة إلى حيث يُوجد التليفون.)
الزوجة
:
هذا غريب! … كل هذا غريب!
المحقق
(في التليفون)
:
ألو … ألو … اسمع … إنِّي أتكلَّم من بيت الجريمة … نعم … نعم … ضاحية الزيتون … اسمع
ما
أقوله لك … لا توجد جريمة … يجب إطلاق سراح المتهم فورًا … بالطبع … لم يكن هناك قتل
…
مُتأكِّد طبعًا … مائة في المائة … يا سيدي الفاضل لا يوجد قتل … أتسمعني؟ … كيف أتأكَّد؟
…
لأنَّ القتيلة موجودة أمامي حيَّة … أقصد المجني عليها … قصدي التي كنَّا نظنها … نعم
… نعم …
كانت مُتغيِّبة فقط … المهم … يجب الإفراج فورًا عن الزوج … بأسرع ما يمكن … وهو كذلك
… إنِّي
هنا في الانتظار.
(يضع السماعة.)
الزوجة
(للخادمة)
:
ماذا بكِ؟ … أخبريني … لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ … أمرك عجيب … لم أرك بهذه الحالة من
قبل
… ما هذا الوجه الأصفر؟!
الخادمة
:
لا تؤاخذيني يا ستي … إنِّي كنت … كنت …
الزوجة
:
إنِّي لا أفهم … لست أفهم بعد شيئًا مِمَّا يجري هنا.
المحقق
:
سأفهمك يا سيدتي … استريحي لحظة! … سأفهمك.
الحفار
(يُنادي من الحديقة)
:
يا حضرة الضابط.
المحقق
:
ماذا؟ … وجدتها؟
الحفار
(في الخارج)
:
لم أجدها بعد … هل أستمر؟
المحقق
:
بل قف … إنَّها موجودة هنا الآن.
الحفار
:
الجثة؟
المحقق
:
هس! … اسكت … اترك كل شيء الآن وانصرف! … لا لزوم الآن لذلك … انصرف … أرجوك …
بسرعة!
الزوجة
(ناظرة إلى الحديقة)
:
مَنْ هذا الرجل؟ … وماذا كان يفعل في الحديقة … عجبًا؟! … مَنْ الذي حفر هكذا تحت شجرة
البرتقال؟ … إنَّ زوجي سيغضب غضبًا شديدًا.
المحقق
:
نحن في شدة الأسف يا سيدتي … لكن …
الزوجة
:
لكن لماذا هذا الحفر تحت شجرة البرتقال؟
المحقق
:
كنَّا نُحاول البحث!
الزوجة
:
البحث؟ … عن أي شيء؟
المحقق
:
عنكِ … لا تُؤاخذينا!
الزوجة
:
عني؟ … تبحثون عني تحت هذه الشجرة؟!
المحقق
:
كنَّا نحسبك مدفونة تحتها … غيابك بدون إخطار جعل الشكوك تحوم حول هذا الأمر.
الزوجة
:
مدفونة تحت هذه الشجرة؟
المحقق
:
حسبنا أنَّكِ قُتلتِ ودُفنتِ هنا.
الزوجة
:
ومن الذي يقتلني ويدفنني هكذا؟
المحقق
:
اتجه الظن إلى زوجك.
الزوجة
:
زوجي؟ … زوجي يفعل هذا بي؟ … لماذا؟
المحقق
:
القرائن والشبهات … ثم … اعترافه.
الزوجة
:
اعترافه؟ … اعترافه بماذا؟
المحقق
:
لم يعترف صراحة … ولكن تفوَّه بكلام يُمكن أن يُؤخذ على أنَّه شبه اعتراف.
الزوجة
:
اعتراف بماذا؟
المحقق
:
بأنَّه قتلكِ ودفنكِ تحت هذه الشجرة؟
الزوجة
:
أهو قال إنَّه قتلني ودفنني؟ … لماذا يكذب؟ لماذا يقول ما لم يحدث؟
المحقق
:
الحقيقة أنَّ هذا شيء غير مفهوم.
الزوجة
:
وما هو السبب الذي يُمكن أن يدفعه إلى التفكير في قتلي؟
المحقق
:
الواقع أنَّنا لم نتوصَّل إلى سبب مقنع.
الزوجة
:
إنَّنا زوجان متحابان.
المحقق
:
أعرف.
الزوجة
:
لم يقع بيننا خلاف قط.
المحقق
:
أعرف هذا أيضًا.
الزوجة
:
وكيف عرفت؟
المحقق
:
هو الذي قال لي.
الزوجة
:
قال لك إنَّنا مُتحابان ولم يقع بيننا قط خلاف؟
المحقق
:
نعم … قال ذلك.
الزوجة
:
وبرغم هذا قال إنَّه قتلني؟
المحقق
:
لم يقلها صراحة … ولكنِّي كدت أفهم من أقواله أنَّه ارتكب جريمة.
الزوجة
:
أما كان يُمكن أن تفهم من أقواله شيئًا آخر؟
المحقق
:
شيئًا آخر؟
الزوجة
:
إنِّي أفهم دائمًا من أقواله شيئًا آخر.
المحقق
:
الواقع أني …
الزوجة
:
لم تفهم إذن جيِّدًا ما يقول.
المحقق
:
يجوز.
الزوجة
:
لعلك فهمت شيئًا آخر غير ما قال؟
المحقق
:
يجوز.
الزوجة
:
إذن هو لم يقل شيئًا عن القتل والدفن.
المحقق
:
يجوز.
الزوجة
:
إذن كيف قُبِضَ عليه وَوُضِعَ في الحبس؟
المحقق
:
حقًّا … كيف تمَّ ذلك؟ … لكن انتظري … انتظري … كان هناك الشاهد.
الزوجة
:
أي شاهد؟
المحقق
:
الدرويش.
الزوجة
:
درويش؟ … مَنْ هذا؟
المحقق
:
رجل يعرف كل شيء ويرى كل شيء … شهد أنَّ زوجك قتل زوجته ودفنها تحت هذه الشجرة.
الزوجة
:
شهد بذلك؟ … شهد بأنَّه قتلني ودفنني؟ … ومن أين جاء هذا الرجل؟
المحقق
:
جاء من القطار؟
الزوجة
:
من أي قطار؟
المحقق
:
من الهواء … أقصد … كان في القطار … مع زوجك في القطار … ثمَّ ناديناه فترك زوجك في
القطار يُفتِّش، وجاءنا هنا وجلس معنا أنا وزوجك في هذا المكان!
الزوجة
:
ما هذا الخلط! … هل تفهم ما تقول؟!
المحقق
:
لا.
الزوجة
:
ولا أنا … لا أفهم.
المحقق
:
الواقع أنِّي لا أفهم ما كنت أقول … يبدو أنَّه كلام لا معنى له.
الزوجة
:
طبعًا.
المحقق
:
ومع ذلك حصل … كل هذا حصل … جاءنا الدرويش وقال كلامًا كثيرًا ووافق عليه زوجك … لم
يُوافق عليه كله بالطبع … ولكن القرائن والشبهات كانت قوية ضده!
الزوجة
:
إنَّكَ اعترفت الآن بأنَّ كلامك لا معنى له، فكيف تكون القرائن والشبهات قوية؟
المحقق
:
الواقع أنَّ كل شيء وقتئذٍ بدا وكأنَّ له معنى … ولست أدري لماذا انهار كل هذا
الآن.
الزوجة
:
إذن لو لم أعد في الوقت المناسب لما انهار شيء في نظرك؟
المحقق
:
بالطبع.
الزوجة
:
ولكان زوجي قد بقي في الحبس؟
المحقق
:
بالطبع.
الزوجة
:
وقُدِّم إلى المحكمة وحُكِمَ عليه.
المحقق
:
بالطبع.
الزوجة
:
وربما كان حُكِمَ عليه بالإعدام من أجلي وأنا على قيد الحياة؟!
المحقق
:
يجوز.
الزوجة
:
وكنت أنت تظل طول حياتك مستريح البال تعتقد أنَّ قرائنك وشبهاتك ودرويشك وشهادته وكل
هذا
الخلط ولا تؤاخذني … أشياء حقيقية لها معنى … أليس كذلك؟
المحقق
:
حقًّا.
الزوجة
:
أتعجبك هذه النتيجة؟
المحقق
:
إنِّي معذور يا سيدتي … معذور … زوجك مسئول معي … نعم زوجك نفسه ساعدني على إقامة هذه
الصورة غير الحقيقية للحادث.
الزوجة
:
زوجي نفسه ساعدك؟
المحقق
:
مساعدة عجيبة! … لقد كان بيننا في بعض الأحيان شبه تعاون … تعاون وثيق على البحث … وهل
كنت أعرف هذا الدرويش؟ … إنَّه هو الذي أتى به إلى هنا.
الزوجة
:
إنَّ زوجي لم يُقابل أحدًا منذ خمس سنوات … منذ أن ترك الخدمة وتقاعد.
المحقق
:
أعرف ذلك … لكنَّه كان التقى بالدرويش في القطار عندما كان لا يزال في الخدمة.
الزوجة
:
وكيف أتى به إليك هنا الآن؟
المحقق
:
ناداه من هنا، وهو في القطار فلبَّى النداء.
الزوجة
:
لبَّى النداء؟!
المحقق
:
يظهر أنَّه سمع نداء زوجك من هنا، فترك زوجك في قطاره يُفتِّش هناك، وجاء يُحادثنا أنا
وزوجك هنا.
الزوجة
:
معقول!
المحقق
:
أليس كذلك؟ … إذن أنت ترين ذلك معقولًا؟
الزوجة
:
بدون شك … هل أنت عندك شك؟!
المحقق
:
لا ولكن … أخشى أن تكوني … غير مصدقة!
الزوجة
:
وما الداعي إلى عدم التصديق؟
المحقق
:
ربما مثلًا … ترين في هذا الكلام …
الزوجة
:
شيئًا من الخلط؟!
المحقق
:
مثلًا!
الزوجة
:
ما دمت مُصِرًّا على أنَّ هذا حصل.
المحقق
:
أقسم لكِ إنَّه حصل … أقسم بشرف وظيفتي!
الزوجة
:
لا تُقْسِم! … إنَّ هذا قد حصل فعلًا.
المحقق
:
حصل فعلًا؟! … إذن أنتِ مُصدِّقة؟!
الزوجة
:
كل التصديق.
المحقق
:
ولكنَّكِ كنتِ تُكذِّبين منذ لحظة، وترمينني بالخلط؟!
الزوجة
:
لأنِّي كنت أتكلَّم حسب عقلي!
المحقق
:
والآن؟
الزوجة
:
حسب ما حصل.
المحقق
:
ثقي كل الثقة أنَّ هذا حصل.
الزوجة
:
إنِّي واثقة … بل إنِّي مستعدة الآن أن أرى كل ما تراه … كل ما كنت تراه أنت وزوجي …
كان
القطار هناك! … ألم يكن القطار يمر من هذه الناحية؟ (تُشير إلى مكان القطار.)
المحقق
:
بالضبط!
الزوجة
:
نعم … وكنتَ أنت وزوجي في الناحية الأخرى؟ (تُشير إلى المكان.)
المحقق
:
بالضبط!
الزوجة
:
وجاءكما الدرويش من هنا (تُشير إلى الجهة).
المحقق
:
بالضبط … بالضبط!
الزوجة
:
إنِّي أرى كل هذا الآن!
المحقق
:
إذن كل شيء كان حقيقيًّا؟!
الزوجة
:
طبعًا.
المحقق
:
وكان له معنى!
الزوجة
:
طبعًا.
المحقق
:
إذن ما من شيء انهار … كل ما أقمناه صحيح.
الزوجة
:
طبعًا صحيح … كل هذا صحيح … لأنَّ كل هذا حصل … ولكن يوجد شيء آخر أيضًا قد حصل.
المحقق
:
ما هو؟
الزوجة
:
إنِّي عدت … حصل أنِّي الآن قد عدت.
المحقق
:
حقًّا … هذا حصل … إنَّكِ عدتِ … بالسلامة! وعندئذٍ يجب أن يتغيَّر كل هذا … وأن نصنع
شيئًا آخر، وهذا هو ما فعلته دون إبطاء … ألم أتصل فعلًا بالتليفون لإطلاق سراح زوجك
فورًا؟!
وعمَّا قليل نراه هنا؟
الزوجة
:
أهو في الطريق الآن إلى هنا؟
المحقق
:
يجوز.
الزوجة
:
أخشى أن يكون الحبس قد أثَّر في صحته.
المحقق
:
إنَّه لم يقض فيه وقتًا طويلًا.
الزوجة
:
لم يسبق للمسكين أن حُبِسَ.
المحقق
:
إنَّ الحبس لدينا على كل حال ليس متعبًا إلى هذا الحد … ومَنْ كان مثله يُراعى عادة ويوضع
في مكان مريح.
الزوجة
:
إنَّه اعتاد الهواء الطلق.
المحقق
:
يوجد نوافذ في الحبس.
الزوجة
:
النوافذ التي اعتاد النظر منها تُطل على أشياء تتحرَّك.
المحقق
:
ولكنَّه منذ أن ترك الخدمة، وتقاعد هنا لم يعُد يرى شيئًا يتحرَّك.
الزوجة
:
إنَّه يرى الشجرة تتحرَّك.
المحقق
:
نعم … الشجرة.
الزوجة
(ناظرة إليها)
:
لماذا فعلتم بها هذا؟ … إنَّه سيحزن حزنًا شديدًا.
المحقق
:
لم يكن من هذا بُد … ومع ذلك أعتقد أنَّها لم تُصب بسوء … جذورها سليمة.
الزوجة
:
أرجو ذلك … إنَّها حياته.
المحقق
:
أعرف … رأيت ذلك بعيني.
الزوجة
:
ماذا رأيت؟
المحقق
:
رأيته هنا وهو يُحادثك … إنَّه لم يكن يُحادثك … إنَّه كان يتحدَّث عن الشجرة.
الزوجة
:
هو؟ إنَّه ما تحدَّث قط عن الشجرة.
المحقق
:
ولكنِّي سمعته بأذني.
الزوجة
:
ربما سمعت خطأ يا سيدي … أنا التي كنت أحادثه عن الشجرة … وأحادثه دائمًا عنها … لأنِّي
أعرف أنَّه يُحبها.
المحقق
:
بل كنتِ أنتِ تتحدثين عن … ابنتك.
الزوجة
:
ابنتي … حقًّا … ولكنَّه هو الذي كان يُحدِّثني عن ابنتي … وهو الذي دائمًا يُحدِّثني
عنها.
المحقق
:
هذا عجيب … ولكنِّي واثق مِمَّا أقول … لا يُمكن أن أكون قد خلطت إلى هذا الحد.
الزوجة
:
لا يُمكن أن يكون هذا الذي تقول … إنَّه دائمًا يحدثني عمَّا أحب … وأنا أحدثه عما يُحب
…
لذلك نحن متحابان ومتفاهمان.
المحقق
:
هذا هو الطبيعي … ولكن هذا ما لم يحدث … إنِّي واثق … إنِّي لا يُمكن أن أكون قد خلطت
إلى
هذا الحد … إنِّي سأُجَن … سأُجَن في هذا البيت.
الزوجة
:
راجع ذاكرتك يا سيدي.
المحقق
:
ذاكرتي سليمة … راجعي أنتِ يا سيدتي نفسك … إنَّك كنتِ جالسة ها هنا تشتغلين بالإبرة
وتتحدثين عن ابنتك التي لم تُولَد … أمَّا هو فكان واقفًا أمامك هناك يُنظِّف مقصه وجاروفه
…
وكان يتحدَّث عن الشجرة وثمرها ونموها.
الزوجة
:
بل كان يتحدَّث عن الثمرة التي كانت قد تحرَّكت في أحشائي … وما كان يقدر لها من
نمو.
المحقق
:
بل أنتِ يا سيدتي …
الزوجة
:
بل هو …
المحقق
:
أتريدين دليلًا … لقد كنت تذكرين «السبوع» وسمعت بأذني حفلة السبوع وصوت دقات الهون ثمَّ
أغنية «برجلاتك … برجلاتك!»
الزوجة
:
أسمعت هذا؟
المحقق
:
كما سمعت صفارة القطار وضجيج عجلاته وأصوات التلاميذ في الرحلة المدرسية ينشدون «يا طالع
الشجرة هات لي معك بقرة!»
الزوجة
:
وأين كنتَ أنتَ؟
المحقق
:
كنت أجلس ها هنا … في هذا المكان بالذات.
الزوجة
:
إنِّي لم أركَ.
المحقق
:
أعتقد أنَّك لم تريني.
الزوجة
:
وماذا كنت تفعل في هذا المكان؟!
المحقق
:
كنت أُباشر التحقيق.
الزوجة
:
التحقيق؟
المحقق
:
نعم … في مسألة اختفائك.
الزوجة
:
ولكني لم أكن تغيَّبت بعد … لم أكن قد خرجت من المنزل.
المحقق
:
ولكنِّي جئت هنا لأنَّكِ خرجت من المنزل وتغيَّبت واختفيت.
الزوجة
:
ولكنك رأيتني هنا أُحادث زوجي ويُحادثني.
المحقق
:
نعم … هذا رأيته بعيني وسمعته بأذني.
الزوجة
:
لا بُدَّ أنَّ هذا حدث … ما دمت تُؤكِّد أنَّك رأيته بعينك وسمعته بأذنك.
المحقق
:
إني مُتأكِّد وواثق.
الزوجة
:
لكن … ما دمت قد رأيتني هنا بعينك وسمعتني بأذنك أحادث زوجي ويُحادثني فلماذا مضيت تُباشر
التحقيق في أمر تغيُّبي واختفائي؟
المحقق
:
لأني قبل ذلك كنت قد بُلِّغت بأمر تغيبك واختفائك؟
الزوجة
:
من الذي بلَّغك؟
المحقق
:
لا أدري بالضبط … إنَّها إشارة تليفونية إلى قسم البوليس من المنزل … من هذا المنزل …
من
الخادمة أو من زوجك … لم أحقِّق بعد في هذه النقطة … ولم يعد هنالك داعٍ إلى التحقيق
فيها …
طبعًا … أليس كذلك؟
الزوجة
:
بل هنالك داعٍ إلى التحقيق فيها … يهمني أن أعرف من الذي أبلغ البوليس؟
المحقق
:
ما دمت قد حضرت ولم تقع جريمة فلا يحق لي الاستمرار في التحقيق.
الزوجة
:
أتسمح لي أسأل الخادمة؟!
المحقق
:
تفضلي!
الزوجة
(تُشير إلى الخادمة القريبة من المدخل)
:
اقتربي! إنَّك تصغين إلى كل شيء … أجيبي إذن عن السؤال؟
الخادمة
:
لست أنا التي اتصلت بالبوليس.
الزوجة
:
إذن هو زوجي.
الخادمة
:
لم أره يفعل … كنت مشغولة في المطبخ.
المحقق
:
ألم يقل لك إنَّه ينوي الاتصال بالبوليس؟
الخادمة
:
لا … قال لي فقط: كم يستغرق من الوقت الذهاب لشراء بكرة خيط والعودة … فأجبته بأنَّ سيدتي
قالت: مقدار نصف ساعة … فقال: عندما تنتهي نصف الساعة أخبريني، وتركني وذهب بفأسه إلى
الحديقة
… كان ذلك في اليوم التالي.
المحقق
:
اليوم التالي؟
الخادمة
:
نعم … كان قد مضت ليلة على خروج سيدتي.
المحقق
:
ولم يبد عليه القلق؟
الخادمة
:
في اليوم الأول لا … قال لي: ما دامت سيدتك لم تعُد بعد، فنصف الساعة لم ينته … إنَّها
دقيقة في حسابها … وإنِّي أثق في هذا الحساب أكثر من ثقتي في دوران الأرض … وفي اليوم
التالي
بعد الليلة الثانية …
المحقق
:
ماذا قال في اليوم الثاني؟
الخادمة
:
قال إنَّ من الممكن للأرض أن تكون قد توقَّفت يومًا عن الدوران لحين حضور سيدتك في
موعدها.
المحقق
:
وفي اليوم الثالث؟
الخادمة
:
في اليوم الثالث بدأ يقلق.
الزوجة
:
المسكين!
المحقق
:
وماذا قال؟
الخادمة
:
قال إنَّ بكرة الخيط التي اشترتها سيدتك قد لفَّت بها ولا شكَّ الكرة الأرضية لفَّتين
…
ولكن أن تلفَّها ثلاث لفات ببكرة خيط واحدة … هذا كثير.
الزوجة
:
حقًّا … إنَّه على حق.
المحقق
:
وماذا فعل؟
الخادمة
:
عندئذٍ فقط فهمت أنَّه سيفعل شيئًا.
الزوجة
:
هو إذن الذي اتصل بالبوليس.
الخادمة
:
لا يوجد غيره.
الزوجة
:
يا للأسف! … إنَّها علامة سيئة.
المحقق
:
أيسوءكِ أن يقلق عليكِ؟!
الزوجة
:
لا أُحِبُّ أن يُصاب بالقلق.
المحقق
:
في مثل هذه الحالة القلق واجب.
الزوجة
:
إنَّه لم يعرف القلق قط … وما كان يجب أن يعرفه.
المحقق
:
هذا دليل على مكانتك من نفسه.
(طرق على الباب الخارجي.)
الزوجة
:
هذا هو …
الخادمة
(تُسرع لتفتح)
:
نعم هو.
المحقق
:
إنِّي بقيت هنا خصيصى لأعتذر إليه بنفسي!
الخادمة
(من الخارج)
:
سيدي! … سيدي!
(يظهر الزوج عليه أمارات التعب.)
الزوجة
:
زوجي العزيز!
الزوج
:
زوجتي العزيزة!
(يتعانقان.)
الزوجة
(تتفحص زوجها)
:
هل أنت بخير؟
الزوج
(يتفحَّصها)
:
وأنتِ؟
الزوجة
:
إنِّي بخير كما ترى.
الزوج
:
وأنا أيضًا.
المحقق
:
اسمحوا لي الآن بالانصراف … لقد انتظرت خصيصى حتَّى أُقدِّم إليك الاعتذار بنفسي.
الزوج
:
الاعتذار؟ لماذا؟
المحقق
:
لهذا الإزعاج.
الزوج
:
تقصد الحبس؟
المحقق
:
إنِّي في شدة الأسف.
الزوج
:
لا تأسف … إنِّي شخصيًّا لست بآسف … إنَّ الحبس لم يُسبِّب لي أي إزعاج … بالعكس.
المحقق
:
حقًّا؟!
الزوج
:
ثق من ذلك … ما كنت أتصوَّر أنَّ الحبس له هذه المزايا.
المحقق
(في دهشة)
:
أي مزايا؟
الزوج
:
ألم تُجرِّب الحبس؟
المحقق
:
مَنْ؟ أنا؟
الزوج
:
بالطبع لم يسبق لك أن حُبِست.
المحقق
:
بالطبع لا.
الزوج
:
فاتك شيء مهم.
المحقق
:
ما هو؟
الزوج
:
الشعور بأنَّك جنين عاد إلى بطن أمه … يتغذَّى من الداخل … ويتنفَّس من الداخل … وينتظر
يدًا تجذبه إلى الخارج في وقت من الأوقات.
الزوجة
:
حبذا لو عادت إلى البطن وخرجت حية!
الزوج
:
ذلك لأنَّ لساعة الخروج فرحة لا تعدلها فرحة!
المحقق
:
طبعًا … ساعة الإفراج مفرحة دائمًا للسجين.
الزوج
:
ساعة خروج البذرة من بطن الأرض خضراء حية!
الزوجة
(مرددة)
:
حبذا لو عادت إلى البطن وخرجت حية!
المحقق
:
الحمد لله لقد خرجت سالمًا منشرح الصدر … ولم تكن مدة حبسك طويلة … والآن … فلنتصافح!
وأكرر لك اعتذاري وأسفي … وأستأذن.
(يُصافح الزوج ثم الزوجة وينصرف.)
الزوج
(وقد عاد من تشييع المحقق إلى الباب الخارجي)
:
والآن يا زوجتي العزيزة … إلى العمل … أين جاروفي وفأسي؟
الزوجة
:
أتذهب إلى حديقتك توًّا وتُجْهِد نفسك؟!
الزوج
:
أتقولين للمولود ساعة خروجه من بطن أمه يتحرَّك: لا تُجْهِد نفسك!
الزوجة
:
لا … بل أزغرد.
الزوج
:
إذن زغردي! زغردي! (يتجه إلى الحديقة وينظر إليها ويصيح) يا للمصيبة! … يا
للمصيبة!
الزوجة
:
ماذا يا عزيزي؟!
الزوج
:
ما هذا الحفر كله؟ … ما هذا الحفر كله؟! … ما كنت أظنهم سيحفرون بهذا المقدار؟ … الويل
لهم ولي إذا كانوا قد أصابوا الشجرة بسوء.
الزوجة
:
كنت أعرف أنَّك ستغضب وستحزن!
الزوج
(وهو يختفي في الحديقة)
:
الويل لهم ولي! … الويل لهم ولي!
الخادمة
(تظهر)
:
لماذا يصيح سيدي هكذا؟
الزوجة
:
الشجرة!
الزوج
:
كانوا يحفرون كالمجانين!
الزوجة
:
أكنتِ هنا طول الوقت؟
الخادمة
:
نعم.
الزوجة
:
لكِ أن تنصرفي إلى منزلك الآن وتأتي صباح الغد … ما نظن أنَّنا في حاجة إليكِ اليوم …
يكفي أنَّكِ لزمت البيت وحافظتِ عليه في غيبتنا.
الخادمة
:
شكرًا لك يا سيدتي … شكرًا … زوجي الكفيف كان في الحقيقة مريضًا … وهو في حاجة إليَّ
اليوم … تركتك في خير يا سيدتي! (تنصرف.)
الزوج
(يصيح في الحديقة)
:
هذا عجيب! … هذا عجيب.
الزوجة
(مطلة عليه)
:
ماذا حدث؟
الزوج
(يظهر)
:
السحلية … السحلية ظهرت … عادت.
الزوجة
:
عادت؟!
الزوج
:
نعم … عادت الشيخة خضرة … أبصرتها تتهادى في ثوبها الأخضر … وتتجه إلى مسكنها … ثمَّ
تقف
كالمشدوهة … فقد وجدت حفرة هائلة في انتظارها.
الزوجة
:
في انتظارها؟!
الزوج
:
أين كانت يا ترى؟
الزوجة
:
كانت بدون شك في مكان ما.
الزوج
:
ما هو هذا المكان الذي يُمكن أن تكون فيه بعيدًا عن مسكنها طول هذه المدة؟! … بهذه
المناسبة: أين كُنْتِ؟
الزوجة
:
أنا؟
الزوج
:
نعم أنتِ … أين كنتِ طول هذه المدة؟
الزوجة
:
ذهبت كما تعلم … أشتري خيطًا.
الزوج
:
مفهوم … لمدة نصف ساعة؟
الزوجة
:
صحيح.
الزوج
:
ولكنَّكِ لم تعودي بعد نصف ساعة … بل عُدْتِ بعد ثلاثة أيام.
الزوجة
:
ثلاثة أيام؟ … هل أنت مُتأكد؟
الزوج
:
كل التأكيد.
الزوجة
:
صحيح … صحيح … أنت على حق.
الزوج
:
كنتِ في مكان ما بدون شك طول هذه الأيام الثلاثة؟!
الزوجة
:
صحيح … في مكان ما.
الزوج
:
ما هو هذا المكان الذي يُمكن أن تكوني فيه بعيدة عن منزلك طول هذه المدة؟
الزوجة
:
صحيح هذا سؤال يُمكن أن يُسأل.
الزوج
:
بل يجب أن يُسأل.
الزوجة
:
يجب؟! … ولماذا يجب؟
الزوج
:
لأنَّ … لأنَّه … لأنِّي يجب أن أعرف.
الزوجة
:
أضروري أن تعرف؟
الزوج
:
ضروري جدًّا … ألا ترين من الضروري أن أعرف أين كنت مُتغيِّبة كل هذه المدة؟!
الزوجة
:
وإذا لم أقل لك؟!
الزوج
:
ولماذا لا تقولين لي؟ … هناك إذن سبب يدفعك إلى الكتمان.
الزوجة
:
سبب؟!
الزوج
:
سبب مخجل على الأرجح.
الزوجة
:
مخجل؟!
الزوج
:
أقول على الأرجح … لأنَّ الإنسان لا يكتم غالبًا إلَّا الأسباب التي تدعو إلى الخجل …
ولكن هذا ليس شرطًا لازمًا في كل الأحوال.
الزوجة
:
خصوصًا معي.
الزوج
:
خصوصًا معك. لذلك أستبعد حدوث أي شيء مخجل.
الزوجة
:
إنَّك تُضْحِكني.
الزوج
:
سحبت كلامي.
الزوجة
:
أحسنت صنعًا … اتفقنا إذن … فلنتكلَّم في شيء آخر.
الزوج
:
أفهم من ذلك أنَّكِ مُصرَّة على الكتمان؟!
الزوجة
:
إنِّي لم أركَ قط تلح هكذا في السؤال؟!
الزوج
:
لأنَّ الموقف يُغري بالتساؤل … ربما كان الأمر في حقيقته لا يحتاج إلى كتمان … ولكن
كتمانك وحده يدفعني إلى أن أعرف سببه … لماذا تكتمين؟ … لو كان هناك ما يخجل كنت أفهم
… ولكن
ما دمنا استبعدنا هذا السبب، فما هو السبب الآخر؟
الزوجة
:
السبب الآخر؟! … أي سبب آخر؟
الزوج
:
السبب غير المخجل.
الزوجة
:
مخجل مثل ماذا؟
الزوج
:
لا أريد أن أضرب أمثلة … كل سبب تخجلين من ذكره فهو مخجل … هذا ما أقصده … حتَّى وإنْ
كان
في نظر الناس جميعًا لا غبار عليه … لكن ثقي … وأقسم لكِ … وأظن لا داعي إلى هذا القسم
فأنتِ
تعرفين … مهما تكن الأسباب … ومهما يكن المكان الذي تغيَّبتِ فيه … ومهما يكن الفعل الذي
حدث
منك طيلة هذه الأيام الثلاثة، فإنَّ كل هذا لن يُغضبني أو يُغيِّر من صلة أحدنا بالآخر
…
وأنتِ متأكدة من ذلك … أليس كذلك؟!
الزوجة
:
صحيح … إنِّي متأكدة.
الزوج
:
نحن الآن في مرحلة من العمر لا يُمكن أن يُحاكم فيها أحدنا الآخر من أجل شيء على
الإطلاق.
الزوجة
:
صحيح.
الزوج
:
إنَّ السقف الذي يظلنا معًا هو كل ما لنا … وما من شيء تحته بعد ذلك يُمكن أن
يُثيرنا.
الزوجة
:
صحيح.
الزوج
:
لم يعد لدينا وقت في الحياة … ولا جهد ننفقه في محاسبة أحدنا الآخر محاسبة جدية على ما
ينبغي وما لا ينبغي … افرضي أنَّكِ في هذه الأيام الثلاثة ارتكبتِ جرائم خطيرة: زنيتِ
وسرقتِ
وقتلتِ … أو أكثر من ذلك وأفظع.
الزوجة
:
ما هذا الذي تقول؟
الزوج
:
افرضي … افرضي! … ماذا تتوقعين أن أصنع؟ في مثل سني وسنك إذا لم أحاول إنقاذك فعلى الأقل
لن أكون سببًا في القضاء عليكِ … أليس هذا ما تتوقعين مني؟!
الزوجة
:
طبعًا.
الزوج
:
إذن … الشخص الوحيد الذي يجب أن لا تكتمي عنه … هو أنا.
الزوجة
:
طبعًا.
الزوج
:
هل لكِ أحد الآن في هذه الدنيا غيري؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن … لماذا تكتمين عني؟!
الزوجة
:
إنِّي لم أُفكِّر في الكتمان … ويُدهشني أنَّك تتكلم طول الوقت عن كتماني … إنِّي لست
أحاول أن أكتم شيئًا … لم يخطر على بالي قط أن أكتم شيئًا عنكَ أو لا أكتم … من أين جاءتكَ
هذه الفكرة؟! فكرة الكتمان؟!
الزوج
:
عجبًا! … لا تُريدين الكتمان إذن؟! … هي فكرتي إذن؟!
الزوجة
:
بالطبع … هي فكرتك.
الزوج
:
إذن … المسألة حلت.
الزوجة
:
أنتَ الذي عقَّدت الأمور.
الزوج
:
الظاهر … إذن ما دام الأمر كذلك فكل شيء إذن على ما يُرام؟!
الزوجة
:
طبعًا.
الزوج
:
إذن سأتلقَّى منكِ الجواب عن السؤال؟
الزوجة
:
أسنعود إلى السؤال؟
الزوج
:
عجبًا! … ألم تعدي بالإجابة؟
الزوجة
:
أنا وعدت؟!
الزوج
:
سبحان الله! … ألم تقولي الآن إنَّك لا تُريدين أن تكتمي عني شيئًا؟
الزوجة
:
نعم قلت.
الزوج
:
تكلمي إذن: أين كُنْتِ؟
الزوجة
:
كنت في مكان ما.
الزوج
:
بالطبع … لا بُدَّ أنَّكِ كُنْتِ في مكان ما … لأنَّك لا يُمكن أن تكوني في غير مكان
…
لكن ما هو هذا المكان؟ … بيت أحد أقاربك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
بيت أحد معارفك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إنَّه بيت على كل حال؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فندق؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
مستشفى؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
مصحة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
سجن؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
«بانسيون»؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
ماخور؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
مرقص؟ … ملهى؟
الزوجة
:
لا … لا.
الزوج
:
محل خياطة؟ … محل أزياء؟
الزوجة
:
لا … لا.
الزوج
:
محل بقالة … عطارة … خردوات؟
الزوجة
:
لا … لا … لا.
الزوج
:
ملجأ أيتام؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
روضة أطفال؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
مدرسة بنات؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند مُنجِّمة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند «كودية»؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في مسجد؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند أولياء الله الصالحين؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند القوادين والنشالين؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في ذهبية في النيل؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في عوَّامة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في قطار!
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في سيارة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في طائرة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في باخرة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في غوَّاصة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في عزبة في الريف؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في خيمة في الصحراء؟!
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في هودج على جمل؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فوق حصان؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فوق حمار؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فوق متوسيكل.
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فوق الهرم؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فوق السطوح؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
فوق الرصيف؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
على الحشائش؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
على الشواطئ؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في إحدى «الكباين»؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
تحت «الشماسي»!
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
تحت «الكباري»!
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند طبيب؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند «داية»؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند حلَّاق؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند عشيق؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
عند «بلطجي»؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في «غرزة» حشيش؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في سوق الخضار؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في سوق السمك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في سوق «الكانتو»؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في سوق السلاح؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في معمل؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في مشغل؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في مغسل؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في مسمط؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في العنابر؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في المقابر؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن أين كنت؟ … أين كنت؟ … أين؟ … أين؟ … أين؟ … رأسي سينفجر … إنِّي، سأجن.
الزوجة
:
لماذا تُعطي كل هذه الأهمية للمكان الذي كنت فيه؟
الزوج
:
لماذا أُعْطِيه كل هذه الأهمية؟ … ألا ترين أهميته الآن؟ … بعد أن طفت بك كل مكان في
الأرض والسماء دون أن أعثر عليه؟
الزوجة
:
لست أرى أهمية لذلك؟
الزوج
:
أنتِ لا ترين لأنَّكِ تعرفين أين هو … أمَّا أنا فالأمر أصبح بالنسبة إليَّ خطيرًا خطورة
هائلة.
الزوجة
:
خطورة هائلة؟!
الزوج
:
بالتأكيد … لا بُدَّ أن أعرف أين هذا المكان … هذا المكان الذي لا سبيل إلى
معرفته.
الزوجة: ولماذا لا تُريح دماغك ودماغي من هذا الموضوع؟! … ألا يكون ذلك أحسن؟
الزوج
:
مستحيل … الآن مستحيل … أتتصوَّرين أنتِ هذا؟ … أتتصوَّرين أنَّ هذا مُمكن؟ … أن أُريح
دماغي وأنام أو أعمل أو آكل أو أشرب دون أن أدير في رأسي هذا السؤال مرات ومرات؟
الزوجة
:
أأنتَ تشك في أمري إلى هذا الحد؟!
الزوج
:
ليس الشك … ليس الشك … المسألة لا علاقة لها بشك في أمرك ولا بنقد لتصرفاتك … ولا لشيء
من
هذه الأشياء … وقد سبق أن أكَّدْت لكِ ذلك؟ … يجب أن تفهميني جيِّدًا … المسألة الآن
أخطر من
ذلك!
الزوجة
:
إنَّك تُبالغ … لست أرى في المسألة أي خطورة؟
الزوج
:
ربما … ربما كان الأمر فعلًا كما تقولين … ربما كان غاية في التفاهة … غاية في البساطة
…
لكن مجرد إخفائه … مجرد الجهل به … أتُدركين قصدي؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إنَّ مجرد تركي بغير إجابة عن سؤالي البسيط لن يدعني أهدأ … هل فهمتِ الآن؟
الزوجة
:
هو إذن الشك في أمري؟
الزوج
:
لا … لا … ليس هذا … هو شيء آخر … لست أدري كيف أشرحه لكِ.
الزوجة
:
إنِّي حقًّا لم أعد أفهمك … إنِّي لم أركَ قط من قبل في مثل هذه الحالة.
الزوج
:
لأنِّي لم أواجه من قبل مثل هذه الحالة! … سؤال بسيط لا أجد عنه جوابًا … ولا سبيل إلى
معرفة الجواب.
الزوجة
:
هذا شيء يحدث كل يوم، ولا يدعو إلى تكدير الخاطر وشغل البال.
الزوج
:
ليس في هذا الوضع … ليس في مثل حالتنا هذه … اسمعي! … وافهمي جيِّدًا! … افرضي أنَّنا
تركنا هذه المسألة، وانصرف كل منَّا إلى عمله ومشاغله … هل من الممكن أن أكف عن التساؤل:
أين
كانت زوجتي خلال تلك الأيام الثلاثة؟ … في أي مكان؟ … لأنَّه لا بُدَّ أنَّكِ كنتِ في
مكان ما
… هذا باعترافك … بل وبالبداهة أيضًا … لا يُمكن إلَّا أن تكوني في مكان … وقد طفنا الآن
معًا
بكل ما يمكن أن يكون مكانًا؛ فأجبت بأنَّكِ لم تكوني فيه … وأنا لا أشك لحظة في صدقك
… إذ ما
من شيء يدعوك إلى الكذب.
الزوجة
:
لا … لم أكذب.
الزوج
:
عندما قلت لا، فهي حقيقة لا.
الزوجة
:
ثق من ذلك.
الزوج
:
إنِّي واثق … بقي إذن إجابتكِ عن السؤال الأصلي: أين هذا المكان؟ … هذا المكان الذي
كُنْتِ فيه؟ … ولكنَّكِ هنا تلزمين الصمت … الصمت القاطع … الصمت المخيف … المفزع …
المرعب!
الزوجة
:
إنَّك تستخدم ألفاظًا غريبة!
الزوج
:
إنَّها أبسط الألفاظ تعبيرًا عمَّا في نفسي الآن … بودِّي لو أقول … الصمت القاتل.
الزوجة
:
القاتل؟!
الزوج
:
نعم … إنَّكِ ستقتلينني قتلًا … لو تُرِكت على ما أنا فيه ساعة أخرى … فقد تُرتَكَب
جريمة!
الزوجة
:
ما هذا الكلام الذي تقوله؟
الزوج
:
إنَّكِ تتكلَّمين هكذا ببرود وفتور … كأنَّ هذه المسألة كلها غاية في البساطة.
الزوجة
:
وهي فعلًا غاية في البساطة.
الزوج
:
عندكِ أنتِ … لأنَّك تُريدين فيما يظهر أن تُعذِّبيني!
الزوجة
:
أنت الذي تُعذِّب نفسك بهذا الحديث الفارغ.
الزوج
:
إنَّه ليس فارغًا … إنَّه شيء خطير … خطير جدًّا.
الزوجة
:
لم أعد أفهمك … منذ عودتك الآن من الحبس وأنا لا أفهم ما تقول.
الزوج
:
وهل كان الحبس إلَّا بسببك؟!
الزوجة
:
لم يكن بسببي.
الزوج
:
بسبب اختفائك؟
الزوجة
:
لم أكن مختفية.
الزوج
:
كُنْتِ في مكان لا يعلمه أحد … حتَّى ولا البوليس.
الزوجة
:
لا شأن لي بالبوليس!
الزوج
:
ولا شأن لكِ بزوجك؟!
الزوجة
:
وما دخلك في الأمر؟!
الزوج
:
اتهموني بقتلك … لأنَّكِ كُنْتِ في مكان لا يعلمه أحد.
الزوجة
:
هذه غلطة من اتهمك.
الزوج
:
وليست غلطتك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
ألم تُحاولي أن تُخطريني عن تغيبك بالتليفون؟!
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
ألم تُفكِّري في الإزعاج الذي يُمكن أن يُسبِّبه هذا التغيُّب ثلاثة أيام متوالية؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
ألم يخطر على بالك أنَّ تصرُّفك هذا ممكن أن يُؤدِّي إلى نتائج سيئة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
أخرجتِ وأنتِ مزمعة أن تغيبي هذه الأيام الثلاثة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن خرجت فصادفتك ظروف جعلتك تتغيَّبين دون …
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن قد فكَّرتِ في التغيُّب قبل الخروج؟ … سابق تفكير.
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
اسمعي وافهمي جيِّدًا لا يُمكن أن يكون الجواب «لا» في الحالتين … إمَّا أنَّكِ فكَّرتِ
في التغيُّب أو لم تُفكِّري … هل فكَّرتِ؟!
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن لم تُفكِّري؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إنَّك تعبثين بي … هذا واضح جدًّا … إنَّك تُريدين العبث بي … أليس هذا ما تقصدين الآن؟
…
هذا العبث بي هو ما ترمين إليه … أليس كذلك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
موقفك هذا لن أحتمله طويلًا … إنِّي أنذرك … هل تُريدين مني أن ألجأ إلى العنف؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إنِّي لم أكن قط عنيفًا معكِ … ولكن الزمام قد يفلت من يدي … وقد أُلْحِق بكِ أذى … أو
أُلْحِق الأذى بنفسي … هل تُريدين أن أُلْحِق بك أذى؟!
الزوجة لا.
الزوج
:
هل تُريدين أن أُلحق الأذى بنفسي؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن تكلَّمي … قولي شيئًا … صدري أخذ يضيق … ما هو غرضك من هذا الصمت؟ … أتخافين أن ينالك
ضرر من الكلام والمصارحة؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
لماذا الصمت إذن؟ … ما حكمته؟ … لعل له عندك ما يُبرِّره … لعل له في نظرك حكمة … ألهذا
الصمت حكمة عندك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
إذن ما دام الصمت ليست له عندك حكمة ولا غرض ولا تبرير فما معناه؟ … أله عندك
معنى؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
تكلَّمي إذن! … ألا تستطيعين الكلام؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
لماذا؟ … إنَّكِ لستِ خرساء … لكِ لسان يستطيع أن يتكلَّم … ولكن الخرس يُصيب لسانك عندما
أسألك أن تُجيبي … لأنَّك لا تُريدين أن تُجيبي … إنك لا تريدين الإجابة … هذا كل ما
في الأمر
… لا تريدين … أليس كذلك؟
الزوجة
:
لا.
الزوج
:
في كل الأحوال «لا»! … ألن تَكُفِّي عن هذا العبث؟! … ألن ينتهي عبثك هذا بي؟ … ما من
إنسان يحتمل هذا! … ما من إنسان … إنِّي صبرت عليكِ أكثر مِمَّا ينبغي … ولكنِّي أعرف
كيف
أُرْغمك على الكلام … سأُرْغِمك إرغامًا … سأجعل لسانك هذا ينطق … سأُرِيكِ كيف ينطق
بالجواب
… (يطبق على عنقها) انطقي الآن!
الزوجة
:
لا … لا.
الزوج
:
قلت لكِ انطقي! … تكلَّمي!
الزوجة
:
لا … لا … لا.
الزوج
:
لا تضطريني إلى الضغط على عنقك أكثر من ذلك! … تكلَّمي! … تكلَّمي! … فلينطق لسانك
بالجواب!
الزوجة
(في حشرجة)
:
لا … لا … لا … لا.
الزوج
:
لا تُريدين! … تكلَّمي قُلْتُ لك … تكلَّمي … قلت لكِ انطقي … انطقي!
(يرى رأسها ينحدر في يده … فيهزها فزعًا وقد رآها فارقت الحياة.)
بهانة! … بهانة! … زوجتي! … عزيزتي! … بهانة … بهانة … لا حول ولا قوة
إلَّا بالله! … أكان الأمر يحتاج إلى هذا إلى … إلى هذا … ما العمل الآن؟ … ما العمل؟
… يجب أن
أفعل شيئًا! … وبسرعة! … بسرعة! … قبل كل شيء يجب أن أُبلغ البوليس … وأُسلِّم نفسي …
هذا هو
الواجب … قتلت زوجتي لأنَّها … لأنِّي … لأنَّها …
(يظل يردد ذلك وهو متجه إلى حيث جهاز التليفون فوق المنضدة، ولكنَّه ينحرف
عنه ويختفي في الداخل لحظة، ثمَّ يعود بغطاء فرش أبيض يغطي به زوجته الميتة ويزحزحها
قليلًا إلى
جهة مستترة … ثمَّ يعود إلى التليفون ويُدير الرقم ويرفع السماعة إلى أذنه، وعندئذٍ يظهر
في
الجانب الآخر من المسرح «المحقق» أمام مكتبه يرفع سماعته، ويدور بينهما الحديث.)
الزوج
:
ألو … حضرة الضابط؟!
المحقق
:
بهادر أفندي؟! … عرفتك من صوتك.
الزوج
:
نعم … أنا هو.
المحقق
:
خيرًا! … أُكرِّر لك أسفي مرة أخرى … أفندم! … أنا في الخدمة!
الزوج
:
شكرًا! … أنا … أنا الآن أتكلَّم من المنزل بخصوص …
المحقق
:
بخصوص …؟
الزوج
:
الواقع أنِّي أردت أن … أُريد أن … أبلِّغ عن …
المحقق
:
تفضَّل! … أنا تحت تصرُّفك … لا تتردَّد … اطلب ما تريد!
الزوج
:
الواقع أنِّي رأيت من واجبي أن أُبلغ …
المحقق
:
تبلغ؟ … هل زوجتك بخيرٍ؟
الزوج
:
لا … إنَّ زوجتي قد …
المحقق
:
لا تقل إنَّها اختفت.
الزوج
:
فعلًا … فعلًا … إنَّها اختفت بالفعل … لكن …
المحقق
:
مرة أخرى؟! … اختفت مرة أخرى؟!
الزوج
:
نعم … ولكن …
المحقق
:
هذا غريب … اسمح لي أقول لكَ إنَّ زوجتك غريبة الأطوار! … هذا الاختفاء المُتكرِّر أصبح
عندها نوعًا من الهواية!
الزوج
:
حقًّا … لكن …
المحقق
:
ألم تقل لك أيضًا هذه المرة إلى أين ذهبت؟
الزوج
:
لا … ولكن …
المحقق
:
لعلَّها ذهبت حيث كانت في المرة السابقة.
الزوج
:
لا … لكن …
المحقق
:
مَنْ أدراك؟ … هل قالت لك ذلك؟
الزوج
:
إنَّها لم تقل لي شيئًا.
المحقق
:
سألتها بالطبع أين كانت في المرة السابقة.
الزوج
:
سألتها … سألتها ولم تُرِدْ أن تقول لي شيئًا.
المحقق
:
إذن أنت تجهل أين كانت؟
الزوج
:
تمام الجهل.
المحقق
:
هذا غريب … وذهبت هذه المرة أيضًا؟
الزوج
:
ذهبت … نعم ذهبت … لكن …
المحقق
:
لم تقل لك أين؟
الزوج
:
لا … لم تقل شيئًا … لكن …
المحقق
:
وما الذي يجعلك تظن أنَّها لم تذهب هذه المرة أيضًا إلى حيث ذهبت في المرة
السابقة؟
الزوج
:
لا أدري … لكن …
المحقق
:
أنت إذن تجهل كل شيء عن أسرارها الخاصة؟
الزوج
:
كل الجهل.
المحقق
:
وهي لا تُريد أن تقول لك شيئًا.
الزوج
:
لا … لا تُريد.
المحقق
:
وذهبت هكذا هذه المرة كما سبق لها أن ذهبت في المرة السابقة؟
الزوج
:
نعم … ذهبت … لكن …
المحقق
:
اسمع إذن! … اسمع نصيحتي لا تُزْعِج نفسك!
الزوج
:
لا أزعج نفسي؟
المحقق
:
على الإطلاق … إنَّها ستعود … كما سبق أن عادت.
الزوج
:
ستعود؟!
المحقق
:
إنِّي على ثقة … لا تقلق عليها.
الزوج
:
لا أقلق عليها؟!
المحقق
:
هذا خير ما أراه لك … هدِّئ نفسك … ولا تشغل بالك وأفلِح حديقتك، دعها لشأنها كما أرادت
…
تعود إلى منزلها وقتما تريد أن تعود.
الزوج
:
أهذا رأيك؟!
المحقق
:
نعم هذا رأيي … وهذه خير نصيحة أُقدِّمها إليكَ … اترك هذا الموضوع … ولا تشغل بالك به
على الإطلاق … الزم الصمت والهدوء … ولا تقلق!
الزوج
:
ألزم الصمت والهدوء ولا أقلق!
المحقق
:
تمامًا.
الزوج
:
ولا أفعل شيئًا على الإطلاق!
المحقق
:
هذا ما أنصحك به … بكل إخلاص!
الزوج
:
شكرًا … شكرًا.
المحقق
:
العفو … إنِّي دائمًا تحت تصرُّفك!
(كلٌّ منهما يضع سماعته … ويختفي المحقق.)
الزوج
:
ما دامت هذه هي نصيحة البوليس! … فلألزم إذن الصمت والهدوء وعدم القلق! … هذا حقًّا خير
ما يجب أن أفعل! … لكن … الجثة؟ … لا بُدَّ لها أن تُدْفَن! … أين؟ … عجبًا! (ينظر إلى
جهة
الحديقة) ها هو قبرها موجود … والذي قام بحفره البوليس أيضًا! … البوليس نفسه! … شكرًا
…
شكرًا … فلتُدْفَن إذن في صمت وهدوء!
(يتجه إلى حيث ترك الجثة ويحملها على كتفه ويخطو بها نحو الحديقة …
وعندئذٍ يسمع طرقًا على الباب فيُخفي الجثة في مكانها ويذهب ليفتح.)
الزوج
(للدرويش الذي ظهر بالباب)
:
هذا أنت؟!
الدرويش
:
نعم … هذا أنا.
الزوج
:
ما الذي ذكَّركَ بي الآن؟!
الدرويش
:
علمت أنَّكَ خرجت من الحبس.
الزوج
:
وهل هذا يهمك؟!
الدرويش
:
بالطبع … إنِّي لا أُريد لك السوء.
الزوج
:
أرجو ذلك … لكن …
الدرويش
:
أتشك في حسن نواياي؟!
(ينظر حوله كالباحث عن شيء.)
الزوج
:
لماذا تنظر هكذا في المكان؟ … عمَّن تبحث؟!
الدرويش
:
قيل إنَّ زوجتك قد عادت.
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
إنَّها هنا إذن؟
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
نائمة؟!
الزوج
:
نعم نائمة.
الدرويش
:
هدوء البيت يدل على ذلك.
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
وملامح وجهك تدل على ذلك.
الزوج
:
ملامح وجهي؟!
الدرويش
:
تدل على أنَّ كل شيء هادئ هنا … أخشى أن يكون حضوري الآن قد أزعجك.
الزوج
:
لا … لا … مطلقًا.
الدرويش
:
نبرات صوتك تدل على أنَّك … منزعج!
الزوج
:
الواقع أنِّي … لم أكن أتوقَّع زيارتك.
الدرويش
:
هذا واضح … زيارتي لك الآن جاءت مفاجئة … لعل المفاجأة لم تكن سيئة؟
الزوج
:
لماذا سيئة؟!
الدرويش
:
مجرد تساؤل … إنَّ ما يخشاه الزائر دائمًا هو أن يحضر في وقت غير مناسب.
الزوج
:
وقت غير مناسب؟! … لماذا؟!
الدرويش
:
مجرد افتراض.
الزوج
:
لا داعي إلى هذا الافتراض.
الدرويش
:
إذن … أنا لم أشغلك عن عمل كنت ستقوم به قبيل حضوري؟!
الزوج
:
لا … على الإطلاق.
الدرويش
:
الحمد لله! … أستطيع إذن أن أمكث معك قليلًا وأنا مستريح البال.
الزوج
:
ولكن …
الدرويش
:
لكن ماذا؟!
الزوج
:
لا … لا … لا شيء … لا شيء.
الدرويش
:
أرجوك … تكلَّم! … كن معي صريحًا!
الزوج
:
كنت أنوي العمل قليلًا في الحديقة.
الدرويش
:
شجرة البرتقال؟!
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
وجدت لها السماد اللازم لنموها العجيب فيما أرى.
الزوج
:
أترى ذلك؟
الدرويش
:
هذا مُؤكَّد.
الزوج
:
كيف عرفت؟
الدرويش
:
إنِّي أعرف … منذ زمن طويل … ولكنَّك ضعيف الذاكرة.
الزوج
:
حقًّا … حقًّا … أنت تعرف أشياء كثيرة.
الدرويش
:
لا تضطرب! … لا داعي إلى اضطرابك!
الزوج
:
وهل أنا اضطربت؟!
الدرويش
:
ثق أنِّي لا أريد بك شرًّا … إنِّي ما جئت الآن إلَّا لمجرد الزيارة … زيارتك أنت والسيدة
زوجتك!
الزوج
:
زوجتي؟!
الدرويش
:
إنَّها نائمة … قلت لي ذلك.
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
وهل سيطول نومها؟!
الزوج
:
ربما.
الدرويش
:
نعم … ربما يطول أكثر مِمَّا نظن.
الزوج
:
ماذا تقصد؟!
الدرويش
:
النوم … أليس من الناس من ينام طويلًا؟!
الزوج
:
ماذا تقصد بالنوم الطويل؟
الدرويش
:
الموت طبعًا.
الزوج
:
الموت؟! … وما هي المناسبة؟!
الدرويش
:
ألا ترى المناسبة؟!
الزوج
:
إذن أنت تعرف؟
الدرويش
:
بالطبع أعرف … وسبق أن قلت لك … ولكنَّك ضعيف الذاكرة.
الزوج
:
حقًّا … قلت لي وها أنا ذا قد فعلتها.
الدرويش
:
نعم … نعم … فعلتها! … الآن!
الزوج
:
لا يوجد ضدي شاهد غيرك … أنت وحدك الآن الذي تستطيع أن تضعني في السجن.
الدرويش
:
ومن قال إنِّي أُريد أن أشهد ضدك … أو أضعك في السجن؟!
الزوج
:
سبق لك أن فعلت!
الدرويش
:
بناء على طلبك أنت … أنت الذي جئت بي من الهواء لأشهد.
الزوج
:
وشهدت ضدي.
الدرويش
:
قلت ما أعرف … وإذا طلبتني مرة أخرى فسوف أقول ما أعرف.
الزوج
:
وإذا لم أطلبك؟
الدرويش
:
لن أقول شيئًا.
الزوج
:
هل أستطيع أن أثق بك؟
الدرويش
:
كل الثقة … إنِّي لا أتحرَّك من تلقاء نفسي … ولا أتطوَّع بالكلام إلَّا إذا أردت
أنت.
الزوج
:
وأنا لن أريد.
الدرويش
:
وأنا لن أتكلَّم.
الزوج
:
وكيف لي أن أطمئن؟!
الدرويش
:
اطمئن! … إنِّي واثق من نفسي … ولكنِّي غير واثق منك.
الزوج
:
لست واثقًا مني؟!
الدرويش
:
من يدريني أنَّك لن تُغيِّر رأيك … وتطلب مني أنت المجيء والكلام يومًا؟!
الزوج
:
أنا أطلب ذلك؟! … أطلب ضرري؟ … أطلب ضياعي؟!
الدرويش
:
أنا لا أضمنك … أنا أضمن نفسي فقط … أنا لن أتكلَّم إلَّا إذا طلبت مني الكلام … وإذا
تكلَّمت فإنِّي أقول ما أعرف.
الزوج
:
ليس يهمني ما تعرف … يهمني أن لا تتكلَّم … هَلُمَّ بنا إذن!
الدرويش
:
إلى أين؟
الزوج
:
تُعاونني قليلًا.
الدرويش
:
على ماذا؟
الزوج
:
على دفنها … قبرها جاهز … حفره البوليس بنفسه!
الدرويش
:
حاشا لله!
الزوج
:
أترفض؟
الدرويش
:
بالطبع أرفض.
الزوج
:
ولكنَّك كنت تعرف أنِّي سأقتلها.
الدرويش
:
المعرفة لا تعني الموافقة.
الزوج
:
إذن أنا في نظرك مجرم؟!
الدرويش
:
وهل في هذا شك؟!
الزوج
:
أنصفني قليلًا أرجوك! … إنَّ قتلها جاء عفوًا … وهي التي اضطرتني إليه … هل كان في
الإمكان أن أعيش مع امرأة كهذه؟!
الدرويش
:
لقد عشت معها من قبل سنوات طويلة.
الزوج
:
ولكنَّها أخيرًا انقلبت إلى شيء مُخيف … إلى جدار من الصمت.
الدرويش
:
مُبرِّر كافٍ للتحطيم!
الزوج
:
لا تسخر … لو كنت في مكاني لفعلت عين الفعل؟
الدرويش
:
إنِّي لن أكون في مكانك.
الزوج
:
إذن لا تظلمني!
الدرويش
:
إنِّي أرثي لك … تُحمِّل نفسك كل هذا العناء من أجل سؤال لم تتلق عنه جوابًا!
الزوج
:
لم أستطع منع نفسي … هذا فوق مقدوري.
الدرويش
:
أعرف.
الزوج
:
هل كان في مقدوري أن أظل طول حياتي أجهل.
الدرويش
:
لا … ليس أنت.
الزوج
:
إذن …
الدرويش
:
لو كنت بلَّغت البوليس لحطمت نفسك أيضًا.
الزوج
:
نعم.
الدرويش
:
وكل هذا يُساوي عندك …
الزوج
:
كان لا بُدَّ أن أفعل ذلك … قلت لك.
الدرويش
:
نعم … كان لا بُدَّ … اذهب وادفنها إذن!
الزوج
:
هل تُساعدني؟
الدرويش
:
لا تنتظر المعونة من أحد … احملها بنفسك!
الزوج
:
فليكن! سأحملها بنفسي!
الدرويش
:
إنِّي واثق من قوة ساعديك!
الزوج
:
سأحملها … وسأدفنها تحت الشجرة … ولست بنادم على شيء … حياتها كانت عبثًا … أسقطت ثمرتها
… ولم تعش إلَّا على وهم الأمومة.
الدرويش
:
إنَّها ليست عبثًا … ما دمت ستُقدِّمها غذاءً شهيًّا لشجرتك.
الزوج
:
صدقت … من هذه الوجهة هي نافعة.
الدرويش
:
إذا كان هناك عبث ففي حياة الشجرة.
الزوج
:
كيف؟ … الشجرة؟!
الدرويش
:
إنَّها تأتي بزهر هي لا تشمُّه، وبألوان هي لا تُشاهدها، وبثمر هي لا تأكله … ومع ذلك
تُكرِّر هذا العمل العابث كل عام.
الزوج
:
هذا ليس عبثًا … هذا عمل نافع.
الدرويش
:
بالنسبة إليك أنت؟
الزوج
:
طبعًا.
الدرويش
:
اعترف إذن أنَّ ما تُسمِّيه بالعبث هو بالنسبة إليك أنت.
الزوج
:
تريد أن تقول إنَّ حياة امرأتي كانت لها معنى؟
الدرويش
:
معنى كل كائن داخل كيانه ذاته … لا داخل رأسك أنت!
الزوج
:
ولكنَّها عندي بلا معنى إلَّا عندما أُقدِّمها الآن غذاءً للشجرة … وتنمو بها الشجرة
نموها العظيم، وتنتج ثمرها العجيب.
الدرويش
:
البرتقال في الشتاء … والمشمش في الربيع … والتين في الصيف … والرُّمَّان في
الخريف.
الزوج
:
نعم … نعم؟
الدرويش
:
اذهب إذن وأعد لشجرتك الوليمة!
الزوج
:
إنِّي ذاهب … لكن …
الدرويش
:
لكن ماذا؟
الزوج
:
هل حقًّا ستطرح الشجرة كل هذه الثمار المختلفة في المواسم الأربعة؟!
الدرويش
:
لا تسألني أنا!
الزوج
:
فلنجرِّب! … أمَّا إذا نجحت التجربة … فأي أعجوبة سوف تظهر!
الدرويش
:
فعلًا! … أي أعجوبة!
الزوج
:
ولكن الشجرة التي ستطرح كل ذلك لن تكون شجرة برتقال!
الدرويش
:
لا … طبعًا لن يكون اسمها شجرة برتقال.
الزوج
:
ماذا يُمكن أن نُسمِّيها إذن؟
الدرويش
:
أجل مسألة الاسم إلى ما بعد.
الزوج
:
صدقت … فلنؤجل ذلك إلى ما بعد … من يدري؟ … ربما سُمِّيَت باسمي … شجرة «بهادر».
الدرويش
:
أو شجرة «البهادر».
الزوج
:
حقًّا «البهادر» بدلًا من «البرتقال» … اسم مناسب «البهادر» أليس كذلك؟
الدرويش
:
مناسب جدًّا.
الزوج
:
وسوف يُوضع في الكُتب والقواميس!
الدرويش
:
بالطبع … وسيُدرَّس في الجامعات!
الزوج
:
وسيقولون إنَّ هذه الشجرة العجيبة من أهم اكتشافات عصر العلم الحديث!
الدرويش
:
بدون شك … سوف يتناول العلماء هذه الشجرة بالبحث.
الزوج
:
البحث؟! إذن سيأتي العلماء إلى هذه الحديقة؟!
الدرويش
:
طبعًا … طبعًا … وسيفحصون كل شبر فيها.
الزوج
:
سيفحصون كل شبر؟!
الدرويش
:
بديهي … لمعرفة أسباب هذه الأعجوبة!
الزوج
:
سيحفرون إذن تحت الشجرة؟!
الدرويش
:
إلى أعمق الجذور.
الزوج
:
ولكنَّهم سوف يعثرون على الجثة؟!
الدرويش
:
أو هيكلها العظمي!
الزوج
:
بقايا بشرية على كل حال!
الدرويش
:
طبعًا.
الزوج
:
وسيكون هناك سؤال وجواب؟!
الدرويش
:
بالتأكيد.
الزوج
:
ويتدخَّل البوليس؟!
الدرويش
:
بدون شك!
الزوج
:
ولكن الشجرة العجيبة والاكتشاف العجيب، وانتفاع العلم والناس بكل هذا.
الدرويش
:
سينتفع العلم والناس بكل هذا.
الزوج
:
ستنتفعون بشجرة «بهادر»!
الدرويش
:
نعم … سينتفعون بشجرة «بهادر» … ولكن «بهادر» نفسه سيوضع في السجن!
الزوج
:
ما هذا الذي تقول؟
الدرويش
:
القانون.
الزوج
:
القانون سيُحاكمني على هذه الجريمة؟!
الدرويش
:
طبعًا … لأنَّ اسمها جريمة قتل!
الزوج
:
ولكنَّها أنتجت اكتشافًا نافعًا.
الدرويش
:
القانون لم يزل يُسمِّيها جريمة قتل!
الزوج
:
ولماذا لا يُغيِّر اسمها؟!
الدرويش
:
يُسمِّيها ماذا؟ «جريمة البهادر»! بدلًا من «جريمة القتل»!
الزوج
:
مثلًا … ولا يُعاقب عليها … بل تُحْفَظ.
الدرويش
:
تحفظ للمنفعة العامة!
الزوج
:
فعلًا … بالضبط!
الدرويش
:
إنَّ الأمر أيضًا سيحتاج إلى علماء قانون وفقه وتشريع!
الزوج
:
ولِمَ لا؟
الدرويش
:
وسيُؤدِّي ذلك إلى تغيير معنى الكثير من الأشياء: القتل مثلًا، والقاتل، والقتيل.
الزوج
:
ولِمَ لا؟ … فليتغيَّر كل ذلك … فليتغيَّر!
الدرويش
:
نعم … فليتغيَّر كل ذلك.
الزوج
:
ما دامت شجرة البرتقال لم تعد شجرة برتقال، فكل شيء إذن يجب أن يُغيَّر اسمه
ومعناه.
الدرويش
:
حقًّا … ولكن …
الزوج
:
ولكن ماذا؟
الدرويش
:
لا بُدَّ من مرور بعض الوقت حتَّى يُسمَّى «السجن» باسم آخر غير «السجن» … وحتَّى يُمكن
إنقاذك من بين قضبانه.
الزوج
:
هل ترى أنِّي سأُحاكم حقًّا؟!
الدرويش
:
وقد يُحْكَم عليك بالإعدام! … ومع ذلك … ماذا يهمك من الإعدام؟
الزوج
:
ماذا يهمني؟!
الدرويش
:
ألم تكن على وشك التبليغ عن الجريمة وتسليم نفسك؟! … إلَّا إذا كنت وقتئذٍ غير
جاد.
الزوج
:
بل كنت جادًّا في مبدأ الأمر … ولكن …
الدرويش
:
غيَّرت رأيك إذن؟!
الزوج
:
خلاصة الأمر أنَّك تريد الآن أن تُخيفني، وأن تجعلني أُحْجِم وأتراجع.
الدرويش
:
أريد أن ترى المسألة بوضوح … وأن تعرف جيِّدًا ما ينتظرك!
الزوج
:
الاكتشاف معناه اكتشاف جريمتي!
الدرويش
:
بالضبط.
الزوج
:
ودفع ثمنها!
الدرويش
:
بالضبط.
الزوج
(مُفكِّرًا)
:
يجب إذن أن أُقرِّر.
الدرويش
:
وأن تتخذ قرارك بعد إمعان.
الزوج
:
لا داعي إلى الإمعان … قراري جاهز … ولا رجوع فيه … ولا شيء يجعلني أخاف وأُحْجِم … ولو
حُكِمَ عليَّ بالإعدام! … لأنَّ حياتي بعد ذلك لن تُساوي شيئًا.
الدرويش
:
ما هو قرارك؟!
الزوج
:
أريد الشجرة العجيبة!
الدرويش
:
إذن اذهب واحمل إليها طعامها!
الزوج
:
إنِّي ذاهب.
(يتحرك متجهًا إلى حيث وضع الجثة … ثم لا يلبث أن يُسْمَع صياحه، ويظهر
مضطربًا مأخوذًا.)
الدرويش
:
ماذا حدث؟!
الزوج
:
الجثة! … زوجتي! … الجثة؟!
الدرويش
:
ماذا بها؟!
الزوج
:
اختفت … الجثة اختفت.
الدرويش
:
اختفت … من موضعها؟!
الزوج
:
اختفت … غير موجودة حيث تركتها.
الدرويش
:
لعلها في الحديقة؟!
الزوج
:
ومن الذي نقلها؟! … إنِّي لم أكن قد نقلتها بعد؟
الدرويش
:
اذهب على كل حال وانظر!
الزوج
(وهو ذاهب)
:
هذا غريب! … غريب!
(يذهب إلى الحديقة، يتبعه الدرويش بنظراته.)
الدرويش
:
وجدتها؟!
الزوج
(صائحًا من الحديقة)
:
لا … لم أجدها … ولكن … الشيخة خضرة …
الدرويش
:
مالها؟ … الشيخة خضرة؟
الزوج
:
ميتة … ومُلقاة في الحفرة!
الدرويش
:
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! إنِّي ذاهب توًّا إلى مكتب التلغراف … أُرسل إليك برقية
تعزية!
(يختفي الدرويش … ويخلو عندئذٍ المسرح … ثمَّ يدوي في أرجائه فجأة صوت خفي
لحفلة «السبوع»: «برجلاتك برجلاتك» ويعقبها فجأة صوت القطار وصفيره ونشيد الرحلة المدرسية:
يا
طالع الشجرة هات لي معك بقرة … ثمَّ يختلط الصوتان؛ حفلة السبوع ونشيد القطار وصفيره،
ويتداخل
أحدهما في الآخر.)