فابريزيا

لم تتمكَّن فابريزيا من تذكُّر والدتها جيدًا. في الواقع، كانت قلِقة من أنَّ تلك الذكريات الضبابية والمشوَّشة التي تحملها كانت عن شخص آخر، وأن المرأة التي كانت تفكِّر فيها كانت في الواقع عمَّةً لها تركت إيطاليا للعيش في الولايات المتحدة ولم تعُد قط.

قال والدها أليسيو: «ليس من الصعب تذكُّر الأحداث التي حدثت في عُمر الرابعة. فالكثير من الناس يتذكرون بوضوح تجاربهم في ذلك العمر. وأنا منهم. فما زلت أتذكَّر ذلك اليوم الذي سافرت فيه بالقطار من ريجيو إميليا إلى ميلان ورأيت رجلًا مبتور الساق يتسوَّل بالقرب من المدخل. أتذكَّر ذلك. وأعتقد أنكِ ستتمكنين من تذكُّر والدتك إذا حاولتِ ذلك.»

حاولت فابريزيا وأخبرت والدها أنها تذكَّرت شيئًا؛ تذكَّرت امرأة جميلة رائحتها صابون زَهري، فقال لها: «نعم! هذا صحيح! هذه هي والدتك يا حبيبتي.»

لكنها رأت صورة للعمَّة، وبدا لها أن الوجه الذي في الصورة والوجه الذي تراه عندما تحاول التذكُّر هما الشخص نفسه. لم تذكر هذا لوالدها؛ لأنه أراد بشدة أن تحمل ذكرى لوالدتها، زوجته، التي ماتت فجأة وتركته ليُربي ابنتهما بمفرده. كوَّن الأب والابنة عائلة صغيرة، لكن هذا لم يُهم. لقد عاش من أجلها، وأخبر أصدقاءه أنه على استعداد تام لأن يضحي بحياته، عدة مرات إذا لزم الأمر، لحمايتها من شرور العالم.

قال: «انظري ماذا حدث لإيطاليا. كل هذه الفوضى. أتذكَّر عندما كان هذا أكثرَ مكان آمن في العالم. لم يحدث وقتها أي جرائم. لم يحدث أي شيء.»

كان ثريًّا بمقاييس ريجيو إميليا، المدينة التي كانا يعيشان فيها. وبطبيعة الحال، تمتَّعت ميلان وبولونيا بثروات كبيرة، وكذلك بارما، مع كل رقيها. كانت ريجيو إميليا أبسطَ بكثير من المدن المجاورة المعروفة، ولكن وُجدت فرص للثراء هناك أيضًا، وقد حقَّق نجاحًا من خلال المتجرين اللذين كان يمتلكهما في وسط المدينة، في شارع متفرع من بياتسا كافور. كان أحد هذين المحلَّين متخصصًا في بيع الأثاث والسجاد، والآخر متخصصًا في بيع ملابس السيدات القصيرات القامة والممتلئات الجسم.

قال أليسيو لأحد أصدقائه: «الآن بما أننا لدينا الكثير من الجنوبيين هنا، سيكون هناك طلبٌ كبير على الفساتين التي تناسب السيدات الممتلئات الجسم القصيرات القامة. هذه بنية هؤلاء النساء من نابولي وصقلِّية. انظر إليهن.»

فكَّر صديقه في هذا الكلام. ربما كان على حق؛ فالناس من جنوب إيطاليا كانوا أقصر من أولئك القادمين من الشمال، ولكن هذا كان بسبب نظامهم الغذائي، أليس كذلك؟ وبمجرد انتقالهم إلى الشمال، لتولي وظائفَ في المدن المزدهرة مثل ريجيو أو مودينا، سينمو أطفالهم ليصبحوا أطول بكثير. فالنظام الغذائي الجيد من شأنه أن يُحدِث فرقًا كبيرًا. الأمر يتعلق بالنظام الغذائي، وليس الجينات.

لم يكن أليسيو يؤمن بهذا. فقد كان لديه تحيُّز عميق ضد أهل الجنوب، الذين كان يعتقد أنهم مسئولون عن جميع مشكلات إيطاليا.

قال: «انظر إلى نابولي. انظر إلى النسبة المئوية للسكان الذين يشاركون في الأنشطة الإجرامية هناك. هل تعرف هذه النسبة؟ سأخبرك: ثلاثون في المائة.»

قال صديقه: «حقًّا؟ بالتأكيد ليس واحدًا من كل ثلاثة أشخاص.»

قال أليسيو: «شيء مدهش، أليس كذلك؟ فقط فكِّر في الأمر. فشخص واحد من بين ثلاثة أشخاص في نابولي يكسب رزقه من الجريمة.»

أيًّا كانت تحيزاته ضد الجنوبيين، كان أليسيو يتواصل جيدًا مع الزبائن الذين يأتون إلى متجر الملابس الخاص به. كانت السيدات القصيرات القامة اللاتي يأتين لشراء ملابس لحفلات الزفاف وحفلات التعميد أيضًا مَرِحات ومُهذَّبات، حتى إنه وجد نفسه يستمتع برفقة المساعِدات الجنوبيات اللاتي وظَّفهن. كانت هؤلاء الفتيات جميعهن على علاقة مع شباب، وكن يتحدثن عنهم طوال الوقت. كان للشباب أسماء مثل سالفاتوري أو باسكوالي، وتمتم أليسيو: «الأسماء المعتادة في نابولي. انظر إلى الأسماء في تقارير الصحف عن المحاكمات في المحاكم الجنائية. سالفاتوري هذا، سالفاتوري ذاك. إنهم مَن يرتكبون جميع الجرائم في هذا البلد. هذه أسماء شائعة!»

كانت فابريزيا معتادة هذه الآراءَ من والدها. فقد سمِعتها طوال حياتها، ولكنها لم تقتنع بها. كانت تحب الجنوبيين؛ وتحب الطريقة التي يتكلمون بها، وتحب المطبخ الجنوبي. سمِعت فابريزيا بالفعل عن الفساد والمافيا والمشكلات الاقتصادية المستمرَّة في ميتسوجورنو، كما يطلق الإيطاليون على الجنوب، ولكن هذه المشكلات لم تكن تُهمها كثيرًا. قالت لوالدها: «لا يوجد شخص كامل. فالفساد موجود حتى في الفاتيكان، أليس كذلك؟ لا، لا تهز رأسك بهذه الطريقة. وماذا عن الديمقراطيين المسيحيين الذين تحبهم؟ ماذا رأينا خلال فترة وجودهم في السلطة؟ الصدق؟ هاه!»

لم يكن أليسيو يمانع في سماع هذه الآراء التي أعربت عنها ابنته. فهز كتفيه. وقال: «لا تُهمني آراؤك السياسية، ما دمتِ لن تتزوجي أحد هؤلاء الناس. هذا كل شيء. لا أريدك في النهاية أن تتزوجي من رجل من نابولي. فأنا لا أستطيع تحمُّل ذلك. حقًّا لا أستطيع.»

عندما أكملت فابريزيا دراستها في جامعة بارما في سن الثالثة والعشرين، عادت إلى مدينتها لمساعدة أليسيو في متجرَيه. وقد أظهرت فِطنة في عالم الأعمال، وفي غضون سنتين أصبح لديهما ثلاثة متاجر أخرى. كانت هذه المتاجر تبيع أيضًا الملابس: أحدها متخصص في بيع ملابس المراهقين، ويُمكنك سماع الموسيقى العالية عند مدخله، وآخر لبيع ملابس الأطفال، والثالث يبيع ملابس العمل؛ مثل ملابس النوادل، وتنانير الخادمات، وما إلى ذلك. ازدهرت جميع هذه المتاجر، وازداد أليسيو وفابريزيا ثراءً.

ثم في إحدى الأُمسيات، رأى أليسيو ابنته جالسة في أحد المطاعم. لم يكن هذا المطعم من الأماكن التي اعتاد دخولها، ففوجئ كلٌّ منهما برؤية الآخر هناك. وفوجئ هو بالتحديد برؤيتها جالسة مع شاب.

وقف الشاب بأدب عندما اقترب أليسيو من الطاولة، فعرف الرجل الأكبر شيئًا على الفور. عرف أن الشاب من الجنوب، من نابولي، بلا شك. كان يستطيع أن يُميز ذلك. فلم يحدث أن أخطأ في مثل هذه الأمور.

نظر أليسيو إلى السلسلة الذهبية حول عنق الشاب، والتميمة الصغيرة الموجودة في السلسلة، التي كان يُفترض أنها لدرء العين الشريرة، وهي على شكل قرن ذهبي صغير، أو كورنيتشيللو. لا يرتدي أحدٌ من الشمال مثل هذه الأشياء؛ إذ يُنظر إلى الإيمان بمثل هذه الأشياء في الشمال نظرةَ استنكار؛ فالشماليون، في رأيه، ليس لديهم الوقت لمثل هذه الخرافات؛ وهم على حق في ذلك تمامًا.

تبادل الرجلان الحديثَ على نحوٍ متوتر، في موضوعات شتى. كان الشاب يُدعى سالفاتوري، وكان يركز عينيه الخضراوين الحادتين على أليسيو. ومع ذلك، لم يتمكن الرجل الأكبر سنًّا من مبادلته تلك النظرات الجريئة. ونظر إلى ابنته بدلًا من ذلك، تقريبًا كأنه يتوسَّل، كأنه يقول لها: «أرجوكِ أخبريني أن هذا الشاب ليس له علاقة بك، وهو مجرد صديق عابر.» ولكن بالطبع، كانت النظرة التي وجَّهتها الفتاة لأبيها تعني العكس، وعرف آنذاك، بكل تأكيد، أن هذا الشاب سيكون زوج ابنته.

لذا، لم يكن مندهشًا عندما جاءته فابريزيا بعد ثلاثة أسابيع وأعلنت أنها ترغب في الزواج من سالفاتوري. قالت: «أعرف رأيك في الأشخاص مثله. لا، لا تحاول نفي ذلك يا أبي. أنت لا تحب الجنوبيين. أنت فقط لا تحبهم. وهذا ظلم للأشخاص مثل سالفاتوري.»

نظر أليسيو إلى الأرض. كان بصعوبة يستطيع نفي صحة كلماتها؛ فهو لم يتردَّد يومًا في التعبير عن آرائه لها، حتى عندما كانت طفلة. وغرس في ذهنها، مرارًا وتكرارًا، الحاجةَ إلى عدم الثقة في الجنوبيين. بل إنه حاول، بلا خجل، تشكيل آرائها؛ والآن كان ردُّ فِعلها هو اختيار الزواج من شخص من الجنوب. كان هذا خطأً فادحًا من جانبه. فقد قرأ ذات مرة أنه لا يمكن للمرء أن يُخبِر أطفاله بما يجب أن يفكروا فيه؛ لأنه لو حاول القيام بذلك، فسوف يخسرهم لا محالة. وسيفعلون العكس — العكس تمامًا — مما يريدهم أن يفعلوا. لذا ينبغي للمرء أن يكون حذِرًا. لكنه لم يُولِ هذه النصيحة اهتمامًا، وكانت هذه هي النتيجة.

رفع نظره نحو ابنته. وقال في نفسه: «أنتِ عزيزة جدًّا عليَّ؛ فأنتِ عالَمي. أنتِ ومتاجري؛ هذا عالمنا الصغير.»

نظرت إليه مرةً أخرى. وقالت في نفسها: «أنا لم أختره فقط لأنه من الجنوب. أنت تظن أنني فعلت ذلك، ولكن الأمر ليس كذلك. أنا أحب هذا الرجل. وليس لمسقط رأسه علاقة بالموضوع. لا علاقة له على الإطلاق.»

لم ينبِسا ببنت شَفة. بعد بضع دقائق، أطلقت تنهيدةً ونهضت على قدميها. وعندما غادرت الغرفة، ألقت نظرةً سريعة على والدها وهزَّت رأسها، كأنها تُصدِر حُكمًا عليه. للحظة، توقَّف قلبه من الخوف من فكرة فقدانها، ولكنه قال لنفسه بعد ذلك: «سأقاوم؛ لأنه إذا لم تقاتل من أجلِ ما لديك، من أجلِ ما عملت من أجله، فسيأتي شخص من الجنوب ويأخذه منك.» أراحته الفكرة، ونظر إليها بتحدٍّ وهي تغادر الغرفة. «حسنًا! تزوجي منه، ولترَي كيف ستكون الحياة.»

بذل الأب والابنة جهدًا في الزفاف. استأجر أليسيو فندقًا في الجبال، ودفع ثمن وجبة فخمة للمدعوِّين. ورسم على شفتيه خلال الحفلة ابتسامةً ثابتة، وأبقى هذه الابتسامة على شفتيه طوال حفلة الاستقبال. كان يجلس بين عمَّتين لسالفاتوري، كلتاهما تتوافق مع رؤيته للنساء الجنوبيات في منتصف العمر. كانتا أرملتين تزوَّجتا من رجلين لا شك أنهما كانا يرتديان بذلات داكنة غير ملائمة وقبَّعات سوداء قديمة الطراز من الصوف. فكَّر أنه كان هناك الكثير من هؤلاء الأرامل في الجنوب؛ لأن الرجال يموتون شبابًا. لماذا يموتون؟ كان ذلك بسبب العنف والقيادة السيئة والعجلة.

في نهاية حفل الاستقبال، عندما كان من المفترَض أن يغادر الزوجان، وقف محرَجًا عند باب الفندق بينما كانت العمَّتان تثرثران وكانت الصديقات تودعن فابريزيا، هؤلاء الفتيات اللاتي كان يعرفهن صديقات الطفولة لابنته، الآن هن بالغات، متزوجات أو مُقدَّر لهن الزواج. نظر إلى هؤلاء الشابات بعينٍ حنونة وتذكَّرهن فتياتٍ منذ سنوات طويلة، عندما كن يأتين إلى البيت لرؤية فابريزيا. كانت فترة الطفولة قصيرة جدًّا، عابرة؛ فأطفالنا يبقون معنا مدةً قصيرة جدًّا. شعر بالدموع في عينيه وقاومها. وعادت ابتسامته الثابتة.

ثم، قبل أن يغادرا، تقدَّم صهر أليسيو الجديد، سالفاتوري، إليه ووقف أمامه، مادًّا يده. صافح أليسيو الرجل الأصغر سنًّا، لكنه تجنَّب النظر إليه. فقال سالفاتوري له بصوت منخفض: «أعرف أنك لا توافق على زواجي من ابنتك. أستطيع أن أرى ذلك. ولكنني أعدُك أنني سأعتني بابنتك. أعطيك كلمتي ﮐ…» وتوقَّف عن الحديث، ومع أن أليسيو انتظره أن يكمل الجملة، لم يفعل ذلك.

نظر إلى الشاب. وقال: «شكرًا لك. يمكنك أن تعرف كيف يشعر الأب في مثل هذه المواقف، أليس كذلك؟»

قال سالفاتوري: «بلى، ولهذا السبب أطلب منك أن تثِق بي.»

أغلق أليسيو عينيه. وقال: «سأحاول.»

ضغط سالفاتوري على يده، ثم أفلتها. كان هناك ضحكٌ من مجموعة من أصدقاء فابريزيا؛ مزحة أخيرة قبل أن يمرَّ الزوجان من الباب، تحت وميض الكاميرات، ودخلا السيارة التي جُلِبت إلى مقدمة الفندق، والتي كان إخوة سالفاتوري يرشُّونها بقصاصات الورق الملونة التي تُنثر في الاحتفالات.

لم يناقشوا رسميًّا مشاركةَ سالفاتوري في العمل، ولكن فابريزيا أشركته على أي حال، ولم يتحدَّ أليسيو قرارها. بعد فترة، كان أليسيو سيوافق، لو سألته ابنته، عما إذا كان صهره الجديد بائعًا متميزًا. فقد ارتفعت مبيعات المتجر الذي كان يشرف عليه ارتفاعًا ملحوظًا، وطلب أليسيو نفسه من سالفاتوري أن يأتي ويطبِّق مهاراته في المتاجر الأخرى، التي شهدت تحسُّنًا أيضًا.

دخل الدفء الذي نشأ في علاقتهما العملية حينها إلى حياتهما الشخصية. ذهب أليسيو لتناول العشاء مع فابريزيا وسالفاتوري واشترى لهما هدايا ثمينة للمنزل. ورد سالفاتوري هذه اللفتات الطيبة، ودعا حماه للانضمام إليهما في مطعم يحبه؛ حيث قدَّمه لمالك المطعم — جنوبي من نابولي — بفخر. واشترى لأليسيو حقيبةً جديدة، مصنوعة من الجلد الناعم من فلورنسا، ونقش عليها الأحرف الأولى من اسمه بلون ذهبي أنيق.

كانت فابريزيا سعيدة بازدهار الصداقة بينهما، وعلى مدى الأشهر التي تلت الزفاف، عادت هي ووالدها إلى سابق عهدهما من القرب. بل إن أليسيو سمح لنفسه بالتعليق على مسألة الأحفاد، وكيف أنه شعر بأنه «جاهز تقريبًا» لأن يكون له حفيد. عندما قال هذا، فكَّر حتى في أنه ربما سيطلق عليه في نهاية الأمر «باسكوالي»، لكنه لم يقل هذا، بالطبع؛ وابتسم فقط للفكرة.

ثم لاحظ في صباح أحد الأيام أن فابريزيا تبدو منزعجة من شيءٍ ما. كانت سيئة المزاج وانفعلت على زبون، وهو شيء كان عادةً ما يوبخها عليه. ولكنه تراجع وقتها. كان هناك خطبٌ ما.

بدا أن هذا المزاج السيئ قد مضى وانتهى الأمر، ولكن بعد أيام قليلة وجدها جالسة في مكتبها، ورأسها بين يديها.

قال واضعًا يده على كتفها: «هناك خطبٌ ما. أستطيع أن أرى ذلك. هناك خطبٌ ما.»

لم تنظر إليه. كانت صامتة.

قال: «يمكنك أن تثِقي في أبيك وتُسِرِّي إليه بالأمر، أليس كذلك؟» ثم خطرت له فكرة أصابته بالرعب فجأة، وهي أنها تواجه صعوبة في الحَمل. ربما لن يكون هناك حفيد رغم كل شيء؟

أراد أن يقول لها شيئًا مطمئنًا ولكنه لم يجد الكلمات، ومن ثَم ظل صامتًا، كما فعلت هي. لكنه شعر، من خلال يده على كتفها، أنها تبكي، بهدوء وخصوصية.

بدا سالفاتوري كما هو. فكَّر أليسيو أنه ربما يكون من الأسهل للرجل أن يتقبَّل هذا. أو ربما يكون هو أشجع فحسب؛ وزاد إعجابه بصهره. أصبح الآن يشعر بالحرج من ذكرى معارضته السابقة لسالفاتوري، وتعجَّب من قدرة الشاب على السمو فوقها، وأن يغفر له عداءه الذي كاد ألا يكون مخفيًّا.

ثم في إحدى الأمسيات، جاءت فابريزيا إلى منزل أليسيو. ودخلت بمفتاحها ووجدت والدها في غرفة المعيشة، قدماه على مقعد القدمين الجلدي على شكل خنزير الذي أحضرته زوجته له وكانت واحدة من أفضل ذكرياته معها.

نظرت فابريزيا إليه، لكن عقلها بدا في مكان آخر.

بدأت حديثها قائلة: «سالفاتوري …»

«ماذا عنه؟»

فقالت: «إنه يقابل نساء أُخرَيات»، ثم بدأت في النحيب.

وقف واحتضنها بين ذراعيه.

وقال: «بالتأكيد لا. بالتأكيد أنت تتخيلين هذا، أليس كذلك؟»

فهزَّت رأسها وقالت: «إنه يفعل. إنه يفعل. فالزوجة تعرف هذه الأمور.»

ربَّت على شعرها بلطف. وقال: «ولكن هل لديك أي دليل؟ هل لديك؟»

كان من الواضح أنها لا تملك الدليل، فقال لها، بنبرة مطمئنة، إنها يجب ألا تفترض أنه لمجرد أن بعض الرجال الجنوبيين يقيمون علاقات غرامية مع نساء أخريات فسيفعل سالفاتوري الشيء نفسه. ثم قال: «إنه شاب رائع. أستطيع أن أرى ذلك. أستطيع أن أحكم على شخصية الرجال. أعرف أنه زوج مخلص لك.»

حدَّقت فيه. ثم قالت: «ولكن أنت …»

قال لها: «يجب ألا تحكُمي على الرجال على أساس مسقط رأسهم. انسَي هذا. الزوجة المتشككة يمكن أن تدفع الرجل إلى أحضان امرأة أخرى. لقد رأيت ذلك يحدث.»

على مدى الأسابيع القليلة التالية، لم يتحدثا في الموضوع على الإطلاق. بدأ أليسيو برفق في إثارة الموضوع مع ابنته ذات مرة، لكنَّ نظرتها أوضحت أنها لا ترغب في مناقشته. ثم، في صباح يوم سبت، عندما كانا يعملان في أحد المحلات، وقف سالفاتوري عند الباب الأمامي في سيارة جديدة غالية. كانت مفاجأة لكليهما، وخرجا لتفقُّدها. فابتسم سالفاتوري وأشار بفخر إلى السيارة الفارهة.

فكَّر أليسيو، فيما بعد، في تكلفة مثل هذه السيارة. ربما كانت أموال العائلة؛ كان قد سمِع أن له عمًّا ثريًّا في مكانٍ ما هناك. لكن كان لدى فابريزيا رأي مختلف.

قالت لوالدها: «ألا تستطيع أن ترى؟ إنه يسرق الأموال من العمل. إنه يسرق الأموال منك!»

كان مصدومًا من الفكرة وانقلب عليها، مُتَّهمًا إياها بأنها غير عادلة تجاه زوجها، خائنة له. وقال ثائرًا: «لا تظني أن كل شخص من الجنوب غير أمين. لا ترتكبي هذا الخطأ.»

نظرت إليه فاغرةً فاها. وقالت: «أنا مَن يجب ألا يرتكب هذا الخطأ؟ أنا؟»

لكن أليسيو كان قد ابتعد، وانصرف عن ابنته ملوحًا بيده. بقيت فابريزيا ثابتة في مكانها، ثم هزَّت كتفيها. وتمتمت بشيءٍ ما، لكنه لم يسمع ما قالت، ولم يكن مُهتمًّا.

بعد يومين، غادر سالفاتوري بالسيارة الفارهة، وكانت امرأة شابة بجانبه في المقعد الأمامي. كان مُتجهًا إلى الجنوب. رآه زوج إحدى صديقات فابريزيا، وهو ضابط شرطة، وهو يغادر المدينة، وأخبرهم عن ذلك. فراجعت فابريزيا فورًا الحسابَ البنكي الرئيسي للأعمال؛ حسابًا كان سالفاتوري يتمتع بالحق في الوصول إليه. كان قد سُحِب كلُّ ما فيه من أموال.

ذهبت إلى مكتب والدها.

فقال لها مُتنهِّدًا: «عزيزتي. أنا آسف جدًّا! حاولتُ تحذيرك، أليس كذلك؟ حاولت حقًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤