الموسيقى تُحدث فارقًا

الفصل الأول

عاشت «لا» في بلدة صغيرة بالقُرب من ساحل سافك. لم تكن أولدبره، لكنها كانت قريبة بما فيه الكفاية، بلدة كانت تحتوي ذات يوم على سوق، لكنها الآن ليس لديها أي من النشاط الذي يكون في بلدة السوق. كانت تحتوي على كنيسة قديمة، بُنيت في العصور النورماندية، قبل ألف سنة تقريبًا، وعِدة مبانٍ جميلة أخرى، منها منزل صوف قديم يجذب الزوار. وكانت هناك مزارع قريبة، بعضها كان غنيًّا، وبعضها كان يكسب عيشه بصعوبة.

جاءت «لا» إلى هناك في عام ١٩٣٨، وبدأت تشكيل أوركسترا. كانت في ذلك الوقت في منتصف الثلاثينيات، امرأة طويلة، جذابة، تتحدث بطريقة حذِرة وموزونة. كانت قد تزوجت في سن مبكرة، في العشرينيات تقريبًا، ثم تُوفي عنها زوجها عندما كانت في الثانية والثلاثين. ترك لها زوجها ثروة مناسبة جدًّا، لكن لا شيء يمكن أن يعوِّض حزنها. كانت تفكر في أنها تُحبه كثيرًا، كثيرًا. قالت في نفسها: «لا أستطيع أن أحب رجلًا آخر؛ لن يكون هناك رجل مثله. لا أحد.»

اشترت منزلًا خارج البلدة، على بُعد نصف ميل تقريبًا على طول أحد تلك الطرق الهادئة التي تخترق ريف سافك. كان منزلًا قديمًا كبيرًا، بجُدران من الجص والطين، مدعَّمة بأعمدة من خشب البلوط، ومطلية من الخارج بلونٍ وردي هادئ مميز يُرى في أجزاء من ريف سافك. كان لديها حدائق كبيرة، على مساحة خمسة أفدِنة أو أكثر، بها مروج وبركة ماء تطغى عليها النباتات. دمَّرت الأغنام جزءًا من الحديقة قبل أن تشتريها، لكنها أصلحت السياج وأبقتها خارجًا. كانت الأغنام تتطلع إلى الداخل، وعلى وجهها تعبير غاضب.

بدأت «لا» تشكيل أوركسترا بعد أن اقترحت صديقة عليها أن يستضيفوا أوركسترا من لندن لتُرفه عنهم بحفل موسيقي. كانت «لا» تشعر بالغضب تجاه لندن؛ لأن صديقة أخرى قد أدلت بتعليق محتقر عن الأشخاص الذين يعيشون في الريف.

فقالت بكل ازدراء: «لا حاجة لدعوة أي شخص من لندن هنا. نحن قادرون تمامًا على تشكيل أوركسترا خاصة بنا.»

قالت واحدة من صديقاتها: «أنحن حقًّا قادرون على ذلك؟» بدت متشككة.

ردَّت «لا» بسرعة، مقتنعة تمامًا بأن هذا ما يجب القيام به: «بالطبع نحن قادرون!»

«هناك الكثير من المواهب هنا. وفرة منها.» وأشارت بيدها بتكلُّف في اتجاه النافذة.

نظرت صديقتها إلى الخارج. كانت المروج التي كانت تغرب عليها الشمس مصبوغة بلون الذهب. وكانت هناك حمامتان تهدلان في مكانٍ ما. لكن لم يبدُ أن هناك أي مواهب موسيقية في هذا المكان. ومع ذلك، لم تتأثر «لا»، وتحدثت إلى محرر الصحيفة المحلية. واستمع إليها بجدية. وفكَّر كم أن هؤلاء الناس يأتون ببعض الاقتراحات الغريبة جدًّا، ولكن هذا كان بالتأكيد واحدًا من أغربها. وكتب في دفتره في السر، دون أن تراه «لا»: أوركسترا «لا».

الفصل الثاني

على الأقل، كان لدى محرِّر الصحيفة من اللطف ليعترفَ بأنه كان مُخطِئًا. اتضح أنه لم تكن في المنطقة مواهبُ موسيقية كثيرة فحسب، بل كانت مواهبَ على مستوًى رفيع. عرض عددٌ من العازفين المتقاعدين من الأوركسترات الكبرى في لندن خدماتهم، وكثيرون آخرون، بعضهم جاء من أماكنَ بعيدة مثل كامبريدج، أرادوا العزف. كانت هذه الفترة، كما بدا، فترةَ ركود في العالم الأوركسترالي، وكانت إمكانية الحجز العرضي في مقابل العشاء في منزل «لا» وتذكرة قطار ذهابًا وإيابًا إلى الحفل كافيةً للعديد من الموسيقيين. بأسلوب المدير البارع، كانت «لا» تعرف كيف تقنع وتشجِّع، ووجد الناس أنفسهم ملتزمين بدرجةٍ أكبر بكثير مما كانوا يتوقَّعون في البداية.

كان معظم العازفين غير محترفين، رغم أنهم كانوا هواة ماهرين. كان هناك اثنان، في الواقع، قضَيا وقتًا في دراسة الموسيقى دراسةً أكاديمية؛ وبعضهم كان يمكن أن يفعل ذلك، لو كانت حياتهم سارت بطريقة مختلفة. ثم كان هناك حَفنة ممن يُعرفون ﺑ «الإخوة الأضعف». وهؤلاء، مثلهم مثل جماعات الكنيسة الذين يكونون أكثرَ عُرضة للارتداد، يُشرف عليهم، عن قرب، زملاؤهم الأكثر موهبة. كانت المقاطع الموسيقية الصعبة تُشرح بلطف، وأحيانًا، تُقدَّم المساعدة بصوتٍ خافت: «سأؤديها أنا. فقط اتبعني إذا استطعت.»

ومع ذلك، على العموم، لم يكن هذا ضروريًّا، وكان أداء الأوركسترا، بأي معايير، جيدًا ومتمكنًا. في الذكرى السنوية الأولى للأوركسترا، في مايو ١٩٣٩، أقامت حفلًا خاصًّا. استمتعت «لا» بالمجد — بتواضع، بالطبع — ودعت عددًا كبيرًا من الأصدقاء، وأقامت سلسلة من الحفلات للاحتفال بالحدث.

لم يمانع أحدٌ احتفالها بهذا الانتصار على الإطلاق.

لكن كان عام ١٩٣٩. وسأل الناس: «ماذا عن الأوركسترا يا «لا»؟ في ظل الظروف الحالية …؟»

فقالت: «سنستمر. أليس هذا ما نوينا فعله؟»

لذا استمرت الأوركسترا خلال الحرب، ورحَّبت بمواهب العديد من الموسيقيين من القوات المسلحة التي كانت متمركزة في المنطقة. أثرى جندي أمريكي في سلاح الطيران قسم الآلات الإيقاعية فترةً قصيرة ومجيدة، وأضاف عازفُ كمان كَنَدي ماهر تميزًا حقيقيًّا إلى قسم الآلات الوترية مدة ستة أشهر تقريبًا.

أدَّت الأوركسترا حفلاتٍ موسيقية للقوات المسلحة. وقالت «لا» لصديقة لها: «ليس إسهامًا كبيرًا، لكن الموسيقى تُحدث فرقًا بسيطًا، على ما أعتقد.»

جاء الرد: «بالطبع تفعل. كل شيء يُحدث فارقًا.»

تأمَّلت هذه الكلمات. «كل شيء يحدِث فارقًا.» كانت قد رأت رجلًا يذرف الدموع من التأثُّر في إحدى الحفلات الموسيقية عندما عزفوا مقطوعةً للمؤلف الموسيقي دفورجاك، وعلِمت أنها، حقًّا، تُحدث فارقًا. الموسيقى تُحدث فارقًا.

كانت هذه الفترة تقريبًا هي الأروع لأوركسترا «لا». كان يُعقد مؤتمر في منزل ريفي. كان كل شيء سِرِّيًّا جدًّا ودُعي أعضاء الأوركسترا للعزف في إحدى الأُمسِيات لتسلية الحاضرين في هذا الاجتماع، وقد نُقِلوا إلى المكان دون أي فكرة عن مكانه. وعندما رأوا من كان في الجمهور، عرفوا السبب.

كان الشخص المهم متعَبًا، ونام قليلًا خلال إحدى المقطوعات الموسيقية. لكن بعد ذلك، عندما جاء لتهنئة المايسترو والقائد، ابتسم وأكَّد لهم أن وجودهم كان مُهمًّا.

وقال: «الموسيقى تُحدث فارقًا.» ثم أخرج سيجارًا من جيبه، ولوَّح للعازفين، وذهب.

الفصل الثالث

«لا» نفسها لم تستطِع العزف على آلة. في سياق تعليمها الفوضوي نوعًا ما، كانت قد تعلَّمت أساسيات الموسيقى، وكان والدها ماهرًا في عزف التشيلو. كان قد شجَّعها على تعلُّم آلة الفلوت. ولكن، لأسباب متنوعة، لم يحدث ذلك قط. وظلَّت فكرة أنها قد تعزف يومًا ما غير مستكشفة. كانت تقول: «الفلوت هو الآلة التي لا أعزف عليها.»

كان إسهامها الرئيس في الأوركسترا — بعيدًا عن عملها سكرتيرةً، وداعمةً مالية، ومنظِّمةَ مكان، وصانعةَ شاي — هو نسخ الأجزاء التي يصعب العثور عليها، باليد. تمكَّنت «لا» بطريقةٍ ما من استعارة النوتات الموسيقية، ولكن بعض أجزاء هذه النوتات غالبًا ما يكون مفقودًا، وكانت تذهب إلى كامبريدج، وتلجأ إلى مكتبة وتنسخ الجزء المفقود بيدها. كانت تقضي ساعات في هذا، حتى تتلطخ أصابعها بالحبر الأسود. ولكن نَسخها للنوتات كان واضحًا، وكان الناس يحبون أن يعزفوا الأجزاء التي تنسخها «لا»، والتي تُوقِّع على كل صفحة منها باسمها في الأسفل: «لا».

كان لديها الوقت للقيام بذلك لأنها ليس لديها وظيفة. بالطبع، خلال سنوات الحرب كان أمامها الكثير للقيام به. فقد كانت تقود سيارةَ إسعافٍ أربعة أيام في الأسبوع، بما يتيح لسائقها المعتاد القيام بواجبات أخرى، وكانت تؤدي نوباتِ عملٍ في مركز رعاية صغير؛ حيث يُعتنى بالجنود المصابين. ولكن الأوركسترا هي التي استهلكت بقيةَ وقتها وطاقتها.

أحيانًا، في الساعات الأولى من الصباح، كانت «لا» تستيقظ قلِقةً بشأن الأوركسترا. ماذا سيحدث إذا لم يتمكَّن المايسترو من قيادة الأوركسترا؟ كان يكبر في السن إلى حدٍّ ما، وكان يشتكي من قلبه. كانت قيادة الأوركسترا أحيانًا عملًا شاقًّا، وكانت تتخيل أنه قد يشكل ضغطًا على القلب. ربما كان عليها أن تطَّلع على النوتات الموسيقية مُسبقًا وتحدِّد إن كانت ستكون مرهِقة جسديًّا إلى حدٍّ ما أم لا؟

ماذا سيحدث إذا وقع الأمر الذي لا يمكن تصوُّره؟ ماذا لو سقطت البلاد في أيدي النازيين؟ ماذا سيحدث للأوركسترا؟ هل سيُبعَد الجميع، أو سيُكتفى بمنعهم من العزف؟ ماذا لو حُظِرت الموسيقى، واعتُبرت نوعًا من التهديد؟ قد تُضطر الأوركسترا إلى العزف سرًّا في منازل الناس، يسابقون الوقت في الأداء بينما يقف أحدهم خارجًا، مستعدًّا لإنذارهم.

هذه الأفكار — السخيفة — جعلت «لا» تُضيء الغرفة. النور يُبعد هذه الأوهام، هذه الأفكار الانهزامية؛ النور يضع لها حدًّا. فالبلد لن تُهزم أبدًا؛ ستصمد بريطانيا. كان من المستحيل تصوُّر الهزيمة، ليس لأنه لا يمكن تصوُّر ما سيكون عليه الأمر إذا هُزمنا، ولكن لأن الهزيمة كانت نتيجةً غير محتملة.

قالت لنفسها إن كل الناس يعتقدون ذلك. لم تعرف أحدًا يعتقد خلاف ذلك. في الواقع، قال لها أحد أعضاء الأوركسترا، وهو لاجئ بولندي حديث التجنيد: «سنفوز بهذا، كما تعلمين. سنفوز.» كان ينظر إليها كما لو كان يتحداها لتُعارضَ ما قاله. لكنها لم تفعل ذلك، بالطبع، وقال البولندي بعد ذلك: «أتعلمين لماذا سنفوز؟ لأن الموسيقى إلى جانبنا.»

الفصل الرابع

هذا اللاجئ البولندي، الذي يُدعى فليكس، كان يعمل في مزرعة. كان قد أصيب، وكان يعرج نتيجةً لذلك. جعله ذلك غير صالح للجيش، ولكنه كان صالحًا بما فيه الكفاية لقيادة الجرَّار. كان يعيش في كوخ على حافة مزرعة كبيرة للمحاصيل الحقلية. كانت المزرعة ملكًا لرجلٍ مُسِن كان يعيش منعزلًا عن العالم. كان يرى فليكس مرةً واحدة في اليوم، يعطيه أوامره ثم يختفي مرةً أخرى داخل منزله في المزرعة.

مثل «لا»، كان فليكس في الثلاثينيات من عمره، رجلًا هادئ الطباع فقدَ الثقة في نفسه بعد إصابته. لم يتحدث قط عمَّا حدث له، وكانت «لا» ذكية بما يكفي لئلَّا تتطفل عليه. كان هناك الكثير من الناس حولها حدثت لهم أمور فظيعة، وكان من الأفضل الانتظار حتى يختاروا أن يخبروك، إذا اختاروا.

كان قد حضر إحدى الحفلات الموسيقية، وهكذا التقت به ووظَّفته. كانت الحفلة في قاعة مدرسة، وفي الاستراحة كانوا يقدِّمون الشاي من إحدى الغلايات الكبيرة في المدرسة. كانت «لا» تقدِّم الشاي، بالإضافة إلى امرأتين أُخريين كانتا تساعدانها في هذه المهام. لم تلاحظ فليكس في الطابور، ولكن فجأة وجدته أمامها، يمد يده بالبنسَين اللذين كانوا يطلبونهما مقابل الشاي وبسكويت صغير غير لذيذ بعض الشيء.

كانت قد صبَّت له الشاي وناولته إياه. وأخذ منها الفنجان، وحينها لاحظت أن يده ترتجف. وكان الفنجان يهتز في صحنه.

رأى أنها تنظر إلى يده، وتوقَّفت الرجفة. ابتعد، ولكن عندما انتهت «لا» من تقديم الشاي، بحثت عنه فرأته واقفًا بمفرده في نهاية الغرفة.

طوت مئزرها وذهبت إليه. قالت: «لم أرَك في حفلاتنا الموسيقية من قبل.»

قال: «نعم، هذه هي المرة الأولى.»

ابتسم لها أثناء الكلام، وابتسمت له. كان أجنبيًّا بالتأكيد، على الرغم من أن إنجليزيَّته كانت جيدة جدًّا. سألته عن المكان الذي أتى منه. فأخبرها.

فكَّرت: كنت سأقول إنه فرنسي، من شكله، ولكن لا، كان ذلك سيكون خطأ. فالفرنسيون أكثر ثقةً بالنفس من هذا الرجل؛ إنه خجول ومتحفِّظ في تصرفاته.

قالت: «من الواضح أنك تستمتع بالموسيقى.»

مدَّ يده ليضع فنجانه على طاولة في جانب الغرفة. مرَّ شخص بجانبه واصطدم به قليلًا، فاحمرَّ وجهه، كما لو كان محرجًا من كونه وقف في طريقه.

قال: «بالطبع. أستمتع بها فعلًا.»

قالت «لا»: «قد نعزف بعض أعمال شوبان مرةً أخرى، لقد عزفنا مقطوعةً له في الحفل الأخير.»

قال: «سيكون ذلك رائعًا.»

لاحظت أنه يعتمد على قدمه اليمنى تارةً واليسرى تارةً وكأنه قد تعِب من الوقوف. يا له من رجل مسكين.

ثم قال: «أنا أعزف الفلوت، أو على الأحرى كنت أفعل. لم أعزف منذ عام تقريبًا. لا، ربما منذ مدة أطول من ذلك.»

أثار هذا اهتمام «لا». فقالت: «لا بد أن تخبرني باسمك.»

الفصل الخامس

ذهبت «لا» إلى كامبريدج بالقطار في صباح أحد الأيام، وغادرت بعد العاشرة تقريبًا، كان الوقت صيفًا ولكن اليوم، الذي بدأ مُشمسًا دافئًا، أصبح ممطرًا. تراكمت الغيوم الرمادية الضخمة في الغرب، وكانت ترى المطر عن بُعد، فوق حقول سافك وكامبريدجشير، يتساقط زخَّاتٍ زخَّاتٍ، وكأنه أستارٌ تحجُب ما وراءها. وكانت تشاهد من نافذة قطارها، عبر قطرات المطر المتساقطة على الزجاج، طائرةً تُحلق دائريًّا، بكسلٍ. رأتها امرأة تجلس قُبالتها وهي تراقب المشهد من النافذة فقالت: «لا بد أنهم في التدريب. إنهم صبية، كما تعرفين. مجرد صبية. ربما في الثامنة عشرة من عمرهم، أو نحو ذلك.» وهزَّت رأسها فيما يمكن أن يكون استنكارًا، أو ندمًا؛ لم تستطِع «لا» أن تحدِّد.

قالت «لا»: «حفظهم الله.»

واصل القطار رحلته. الآن أصبحت كامبريدج في مرمى البصر، بأبراجها المألوفة؛ وحقولها المقسَّمة بعناية، بحيث تُنتج كل بوصة منها طعامًا؛ وغابة الدراجات في محطة القطار. كان عليها أن تمشي إلى المتجر، واستغرق الأمر منها أكثرَ من أربعين دقيقة؛ وتوقَّف المطر، ولكنها كانت تشعر أنه ما زال عالقًا في الهواء، وليس بعيدًا.

قال الرجل: «أنتِ مَن اتصلتِ بي عبر التليفون. أنتِ من اتصلتِ، أليس كذلك؟»

فأومأت برأسها مؤكدة: «بلى، أنا مَن اتصلت بك.»

كان يقف خلف منضدة البيع. ونظر إلى ما وراءها عبْر النافذة وقال: «المطر.»

فأجابته: «نعم.»

ثم قال: «حسنًا. الفلوت.»

التفت للوراء وفتح خِزانةً خلفه. ومدَّ يده داخلها وأخرج صندوقًا ضيقًا مغطًّى بالجلد، ثم فتحه وقال: «ها هو ذا. إنه آلة موسيقية جميلة جدًّا. هل تودين تجربته؟»

مدَّ لها يده بالفلوت. وكان المعدن المصنوع منه الفلوت باردَ الملمس. للحظة، رأت صورتها المنعكسة على آلة الفلوت الفضية مقطَّعة. وقالت: «تجربته؟ لا، أخشى أنني لا أستطيع العزف. أود لو أستطيع، لكني لا أفعل.»

قال: «إذن، فهو لشخص آخر؟ ربما لطفل؟»

هزَّت رأسها. وقالت: «إنه لرجل؛ رجل كان يعزف ولكنه لا يملك فلوتًا حاليًّا.»

قال: «إذن، فسيكون سعيدًا جدًّا بهذه الآلة.»

غادرت المتجر، تحمل الفلوت في كيس تسوُّق قديم أعطاها إياه الرجل. لم يستغرق الشراء وقتًا طويلًا — أقل بكثير مما كانت تتخيل — وهذا سيُعطيها الفرصة للقيام بالمزيد من الأشياء التي كانت في قائمتها. لكن أولًا، أرادت الاحتماءَ من زخَّة المطر الخفيفة التي بدأت. كان هناك مقهًى في نهاية الشارع؛ هذا سيفي بالغرض.

احتلت الطاولة الأخيرة الشاغرة في المقهى وطلبت الشاي والكعك. ثم أخرجت الفلوت من صندوقه وفحصته ممسكةً به برفق. سيندهش بالطبع، ولكنه سيُحدث فرقًا كبيرًا معه.

كانت تعرف الكوخ الذي يعيش فيه؛ لأنها كانت تسير في ذلك الطريق كثيرًا. وفكَّرت أن المكان مظلم للغاية، ومنزل المزرعة نفسه يبدو فوضويًّا، حتى من الخارج. ليس مكانًا مُبهِجًا للإقامة فيه، حتى في الصيف. امتلاك الفلوت سيجعل أموره أسهلَ كثيرًا.

الفصل السادس

قرَّرت «لا» ألا تخبر فليكس بأنها ستُحضر له الفلوت. وفي المساء التالي بعد عودتها من كامبريدج، ركبت دراجتها متوجهةً إلى كُوخِه. كان المطر قد توقف، أو انتقل إلى مكان آخر، وكان الهواء مُشبَّعًا بالدفء. وفي الحقل المجاور لكوخه، كانت الأبقار تقف بالقرب من البوابة، تجترُّ الطعام، وتحدِّق في الطريق بلا مبالاة. كان الذباب يحوم حول عيونها. شاهدتها وهي تسير على المسار الضيق الذي يؤدي إلى بابه الأمامي. ظنَّت أنه ربما يكون في العمل؛ حيث كانت هناك ساعاتٌ من الضوء متبقية، في هذه الحالة يمكنها ترْك الفلوت على عتبة بابه، وربما تترك إلى جانبه ملحوظة مكتوبة. وحتى لو لم تترك ملحوظة، سيعرف أن الفلوت من أجله، على الرغم من أنه قد لا يُخمِّن مَن تركه في هذا المكان هديةً له.

لكن فليكس كان في المنزل، وأجاب من فوره بعد طرقِها البابَ. بدا مُفاجأً لرؤيتها، وظل لحظةً واقفًا هناك، يرمش، وكأنه يحاول تذكُّر مَن هي.

قالت: «هذا لكَ»، وهي تسلِّمه الصندوق المغطَّى بالجلد.

أخذه منها بحذر. ونظر إليها، وهو يقلب الصندوق في يديه. ثم رفع نظره إليها، مُتحيرًا إلى حدٍّ ما.

فقالت: «افتحه. تفضَّل. فقط افتحه.»

عندما رأى الفلوت، انتفض. وقال: «هذا لي؟»

أعطته ابتسامةً تشجيعية. وقالت: «أخبرتني أنك تعزف. وقلت إنك لا تملِك فلُوتًا. حسنًا، الآن لديك واحد.» أخرجَ الفلوت من صندوقه وفحصه بعناية. وقال: «إنه رائع جدًّا. رائع جدًّا.» وتوقَّف لحظة عن الحديث. ثم قال: «لكني لا أستطيع دفْع ثمنه. ليس الآن. ربما لاحقًا.»

قالت: «هراء. هذه هدية. اعتبرها … اعتبرها هدية شُكر على كلِّ ما تقوم به هنا من عمل. العمل الذي لولاه لكان هذا المكان خرابًا.»

أومأ برأسه مُبديًا أنه فهم. ثم رفع الفلوت إلى شفتيه، ودون أن ينفخ، تحرَّكت أصابعه إلى سلسلة من الأوضاع. كان سريعًا، خفيفًا في لمساته.

نظرت إلى ما وراءه عبر الباب، إلى الغرفة في الخلف. كان الأثاث متناثرًا في أرجائها: طاولة، كرسي واحد، راديو حصل عليه فليكس من مكانٍ ما. كان صاحب المزرعة بخيلًا — أو هكذا قال الجميع — ولم يقدِّم أيَّ وسيلةِ راحةٍ لهذا الرجل الذي يعمل لديه. فتجهَّمت «لا».

قال: «هل يمكنني أن أعزف عليه؟» وتحسَّس الفلوت. «إنه جميل جدًّا.»

قالت: «بالطبع. إنه مِلكك الآن. مِلكك لتعزف عليه.»

استمعت إليه وهو يعزف لحنًا لم تعرفه. كان عزفه رائعًا؛ كان يتقن العزف على آلته. قرَّرت أن تدعوه للانضمام إلى الأوركسترا؛ كان بالتأكيد ماهرًا بما فيه الكفاية. عندما انتهى من العزف سألته إذا كان يود الانضمام.

قال: «الآن بعد أن أعطيتِني هذا، كيف يمكنني أن أرفض؟»

قالت: «لا يمكنك، أو بالأحرى، يمكنك، لكن سيكون ذلك غاية في الفظاظة من جانبك.»

قال: «في هذه الحالة، نعم.»

الفصل السابع

في الأسبوع التالي، حضر فليكس تمرينه الأول على الأوركسترا. وقدَّمته «لا» للمايسترو ولعازف الفلوت الآخر، ثم ذهبت إلى الجزء الخلفي من القاعة حيث كانت تجلس أثناء التمارين. وقالت: «تجاهلوني فحسب»، وكانوا عادةً ما يفعلون. لكنها كانت تشاهد وتستمع، وتعرف نقاط القوة ونقاط الضَّعف لدى كل لاعب. كان لاعب الباسون يعاني ضَعفًا في إحساسه بالتوقيت، وكان يتأخَّر أحيانًا في الدخول، أو يدخل مبكرًا عن الوقت المحدَّد له، أو أحيانًا لا يدخل على الإطلاق. أما عازفو التشيلُّو، فكانوا ممتازين؛ ولم يرتكبوا أي خطأ. كان عازفو قسم الآلات النحاسية يميلون إلى الضوضاء، وكان لا بد أن يُطلَب منهم من وقت لآخر أن يسكتوا بينما يشرح المايسترو شيئًا. وكان واحد أو اثنان من عازفي الكمان مترددَين في عزفهما، وكان المايسترو يميل نحوهم بطريقة مُبالغ فيها، بينما يضع يده على أذنه إشارةً إلى أنه لا يسمع عزفهما.

أثناء الاستراحة، عندما كان العازفون يتجوَّلون في نهاية القاعة، رأت أن فليكس كان يقف بمفرده، وحيدًا خجولًا. كانت تتحدَّث مع أحد عازفي الآلات النحاسية، لكنها استأذنت ومشت نحو فليكس. لكن قبل أن تصل إليه، اقتربت منه واحدة من عازفات الكمان، امرأة شابة لم تكن تعرف عنها الكثير، واحدة من السكان المتنقِّلين في زمن الحرب. فوقفت «لا» دون حركة. رأت هذه الشابة تبتسم، وتشاركه في مزحة، فملأها هذا المشهد بالقلق.

كانت تتظاهر بأنها تنظر في دفتر ملاحظاتها، لكنها كانت تراقبهما. مدَّت الشابة يدها إلى الأمام ووضعتها على ساعده في إيماءة طمأنة، كما يبدو، أو ربما كانت تؤكد على نقطةٍ ما في حديثهما. ولاحظت أنه يبتسم مُستجيبًا للفتاة؛ يبتسم ويومئ برأسه.

أشاحت «لا» بوجهها. وشعرت بالارتباك. فلمَ تشعر بالغيرة من حديثه مع هذه الشابة؟ إنه لا يمثل لها شيئًا؛ ومع ذلك، ذهبت إلى كامبريدج لشراء فلوت له، وهي هدية باهظة الثمن بكل المعايير، ووجدت نفسها متحمِّسة بشدة لفكرة إعطائه الآلةَ الموسيقية. كان الأمر كما لو أن الهدية ربطتهما معًا بطريقةٍ ما، وهذا لا يجب أن يحدث؛ لأنها لا ترغب في الارتباط بأي شخص، ليس الآن.

في نهاية التمرين، شغَلت «لا» نفسها بالمهام الإدارية: التشاور مع المايسترو حول جدول أعماله، وتدوين المواعيد، وتوزيع النوتات الموسيقية. ثم فجأة أدركت أن فليكس كان هناك، يقف بالقرب منها، حاملًا صندوقَ الفلوت تحت ذراعه. لاحظت أن ملابسه، كانت متواضعة. كان قد غيَّر ملابس العمل الخاصة به للتمرين، لكن حاشية قميصه كانت غير مضبوطة، وظنَّت أنه قد قلبها لإخفاء قِدَمها.

نظر إليها، وثبَّت عينيه عليها بمنتهى الجدية وكأنه يُؤنِّبها.

قال: «أنتِ غاضبة مني لسببٍ ما. وتتظاهرين بأنك لا تلاحظينني.»

نظرت إليه نظرةً تُعبِّر عن دهشتها. وقالت: «بالطبع أنا لست غاضبة منك.»

واصل الحديث. قال: «هذا لأنني كنت أتحدَّث مع تلك المرأة، أليس كذلك؟»

أرادت «لا» أن تشيح بوجهها. بأي حق يتخيَّل أنني مُهتمَّة به؟ سألت نفسها. ثم قال لها: «كنت أتحدث عن الموسيقى التي كنا نعزفها. هذا كل شيء.»

فحدقت فيه.

الفصل الثامن

جاء إلى منزلها. كان ذلك في المساء، بعد بضعة أيام من التمرين الذي تبادلا فيه هذه المحادثة المربِكة. كانت تجلس في غرفة الاستقبال الخاصة بها، في مؤخرة المنزل. ولا تزال خيوط الشمس الأخيرة تتخلل الأشجار، وكان للضوء ذلك اللون الخافت الهادئ الذي يراه المرء، أو يكاد يشعر به، في أمسية صيفية. كانت تشعر بالنعاس؛ نعم كانت ناعسة. وكان صوت الراديو يصدح بأخبار تلك الأماكن البعيدة، التي أصبحت مألوفة الآن، حتى إن بعض الناس كانوا يضعون علامات عليها على خرائط صغيرة ملصَقة على جدرانهم.

فجأةً، أدركت أن هناك شخصًا في الحديقة، يقترب من المنزل. سمِعته أولًا، سمِعت وقْع خطواته على الحصى، صوت طقطقة، فانتبهت حواسُّها. لم يأتِ أحدٌ من هذا الطريق، على الأقل ليس في المساء. في بعض الأحيان كان يأتي صبي الجزَّار ويترك طردَه عند باب المطبخ إذا لم يرُدَّ أحدٌ على الجرس، ولكن خلاف ذلك لم يأتِ أحد من هذا الطريق.

في حالة ارتباكها البسيطة، فكَّرت: هذا له علاقة بما يحدث، هذا له علاقة بالحرب. ولكن سرعان ما أدركت أن هذا سخيف. وقفت على قدميها عندما سمِعت وقْع الخطوات مرةً أخرى، وقد أصبحت أقرب الآن. عندما رأته من خلال النوافذ الفرنسية، استغرق الأمر منها لحظة لتعرف مَن هو؛ إذ لم تكن تتوقَّع حضوره على الإطلاق. كانت الفكرة الأولى التي راودتها هي: كيف عرف أنني أعيش هنا؟ فهي لم تخبره.

التقت عينا فليكس بعينيها من خلال الزجاج، ثم ابتسم وأشار إليها. كان يرتدي قبعة، قبعة رمادية، فخلعها. وكان هناك شيء في يده الأخرى.

توجَّهت نحو الباب وفتحته له. هبَّ هواء المساء عليها، دافئًا على بشرتها.

«آمُل أنني لم أُخِفْكِ.» كان صوته هادئًا.

«لا. على الإطلاق. لكنك فاجأتني. الباب الأمامي …» قطعت كلامها. رأت أن ما يحمله هو الفلوت في صندوقه المغطَّى بالجلد.

«لقد قرعتُ الباب الأمامي. لكن بعد ذلك سمِعتُ الراديو من الداخل وعرفتُ أنكِ لا بد أن تكوني هنا.»

أشارت إليه بالدخول إلى الغرفة، فدخل، وراح يمسح حذاءه على السجادة الصغيرة بعناية، آخذًا الوقت الكافي. نظر إليها نظرةً لم تعرف كيف تفسِّرها، رغم أنها بدت لها كاعتذار. ثم سلَّمها الفلوت.

قال: «لقد أحضرتُ لك هذا ثانية. لا يمكنني قبولُه. لا يمكنني أخذُه منكِ، ولا أستطيع دفع ثَمنه. أرجوكِ أن تتفهمي.»

كان الفلوت في يديها وقتها، وحدقت فيه، غير متأكدة مما يجب أن تفعله. بالطبع كان يتمتع بالكبرياء؛ هذا هو الأمر؛ لقد سمعت الناس يقولون إن البولنديين لديهم إحساس بالكبرياء. ويمكنها أن تتفهَّم. فعندما يُحتل بلدك، ويَستولي عليها بلد آخر، يجب أن تتمسَّك بكبريائك، أو على الأقل ما يتبقى منها.

فكَّرت بسرعة. أرادت أن يحصل على الفلوت. وأرادت أن يعزف في الأوركسترا. وفجأةً بدا لها ذلك مُهمًّا للغاية.

خطرت ببالها فكرة. يمكنه العمل في حديقتها. وعندئذٍ سيستطيع الحصول على الفلوت من عَرق جبينه؛ وستكون هذه مقايضة عادلة.

الفصل التاسع

اعتادت وجودَه. كان يأتي ثلاثة أيام في الأسبوع، في المساء، ويبدأ العمل في الحديقة. اكتشفت أنه على دراية بما يفعله؛ كان يعرف الأسماء اللاتينية للنباتات، وهو ما يفوق معرفتها بكثير، وبدا أنه يفهم احتياجات كل نبات. كان يحصد نبات اللافَندر من أجلها ويربطه في حِزَم، ويعلِّقه مقلوبًا رأسًا على عقِب، حتى يجف. وفي نهاية المسار، حيث كانت تنمو الحشائش، أصبح الآن مرتبًا للغاية. وزرع نباتات جديدة ونقل أخرى إلى أماكنَ أفضل. قال: «يجب أن تكوني حذِرة بشأنِ ما تزرعينه في الظل.»

بعد ذلك، عندما ينتهي من عمله، كانت تراقبه وهو يسير على الطريق بخطواته المتعثرة، وتشعر بالوَحدة. لكنها كانت تقول لنفسها: «لا يمكنني أبدًا السماح لنفسي بالوقوع في حُبه. لقد انتهيت من مسألة الحُب هذه.»

كانت الأوركسترا تمر بفترة من النشاط والحماس المميزين. كانوا يعملون على برنامج لحفل موسيقي سيقدمونه في ديسمبر، وهو برنامج طموح ووجده بعض الأعضاء صعبًا. حضرت «لا» كل التمارين وشاهدت فليكس يعزف على الفلوت الخاص به. وكان يبتسم لها، وكأنهما متآمِران.

قال أحد عازفي التشيلُّو: «علاقتكِ تزداد قربًا بعازفكِ البولندي. إنه اكتشاف جيد، من جميع النواحي.»

لم تقل «لا» شيئًا، لكنها ابتسمت. لطالما أحب أعضاء الأوركسترا الثرثرة؛ لطالما أحب الناس عمومًا الثرثرة.

قال لها قائد الأوركسترا، على انفراد، في نهاية إحدى الجلسات: «كانت فكرة جيدة يا «لا» إحضار ذلك الرجل. لديه أسلوب عزف جميل، أليس كذلك؟ الفلوت أصبح مُبهِجًا الآن.»

شعرت بالفخر باكتشافها. وعندما جاء ديسمبر، بعد الحفل الذي أثبت شعبيته بحيث تم ترتيب عرضين، دعت فليكس إلى المنزل لتناول الطعام معها. فقبِل فليكس دعوتها، وجلسا في غرفة الطعام، وكان فليكس يشعر بعدم الارتياح إلى حدٍّ ما في بذلة لم ترَها من قبل، بذلة رمادية ذات طيَّات صدر عريضة.

قالت: «عندما ينتهي كل هذا، ماذا ستفعل يا فليكس؟ عندما تستعيدون بولندا؟»

قال: «تقصدين «إن» استعدنا بولندا. هناك الكثير من الناس الذين قد لا يريدون ذلك.»

ظلَّت صامتة. ثم قالت: «لكن الأمور تسير في صالحنا. هذه حقيقة. انظر إلى صقلِّية. انظر إلى إيطاليا.»

بدا عليه التفكير. ثم قال: «يمكننا عزف الموسيقى الإيطالية ثانية، دون أن نشعر بعدم الارتياح لذلك.»

ضحكت. وقالت: «أنا لم أشعر يومًا بعدم الارتياح لذلك. موسوليني وعصابته لا ينتمون إلى هناك. إنهم لا يمثلون إيطاليا.»

ابتسم. وقال: «أنتِ بريطانية. تؤمنين بأن الجميع طيبون. أما أنا فبولندي. نحن نرى الأشياء بطريقة مختلفة.»

أمالت رأسها. لم تكن متأكدة إن كان يمدحها بهذه الجملة أم العكس. لكنه لم يُجب عن سؤالها، لذلك أعادت طرحه مرة أخرى.

هزَّ كتفيه. وقال: «سأرى كيف تسير الأمور. أنا مُرتاح هنا، في هذا البلد. أحب عدم الخوف من الناس الذين يرتدون الزي الرسمي. أحب البيرة الدافئة ذات المذاق …» وأظهر تعبيرًا على وجهه. ثم استأنف: «أحب الأوركسترا الصغيرة الخاصة بك.»

أصغت إليه «لا».

الفصل العاشر

كانوا يعلمون قبل حدوث الأمر. كان الأمر واضحًا بما يكفي، على الرغم من وجود انتكاسات، عندما واجه الحلفاء مقاومةً وتباطأت الأمور. لكن كان من الواضح الآن كيف ستنتهي الأمور، وشعر الناس برضًا هادئ؛ نعم الرضا فحسب. يكن هناك شعور بالنصر؛ فالناس كانوا مُتعَبين للغاية، ومستنزَفين للغاية. لكن سرعان ما سينتهي كل شيء، وينتهي هذا الكابوس.

كان فليكس قد دفع ثمن الفلوت منذ فترة طويلة من خلال عمله في الحديقة، لكنه أصرَّ على الاستمرار في المجيء، خاصة الآن وقد جاء الربيع، أو أوشك على الأقل، وكانت الحديقة بحاجة إلى الكثير من العمل. كانت «لا» تراقبه من غرفة جلوسها، وتقدِّم له أكوابًا من الشاي.

قالت له في يوم من الأيام: «كنت أفكر في شيء. هل تعتقد أنه من سوء الطالع أن تخطط لشيء مُقدَّمًا؟ قبل أن يحدث؟»

بدا أنه يقرأ أفكارها. ثم قال: «مثل النصر؟»

«نعم. بالتحديد، حفلة موسيقية للنصر. إنه قد يحدث في أي وقت، كما تعلم، ويجب أن تكون الأوركسترا جاهزة.»

نفض بعض التراب عن أصابعه ومسح يديه في بنطاله. وقال: «فكرة جيدة جدًّا. يجب أن نخطط لها. لكن لدي طلب واحد. هل يمكننا أن نعزف شيئًا بولنديًّا؟ أرجوكِ. أعرف أنه نصركم، لكننا أيضًا، قد عانينا …»

قبِلت اقتراحه ببساطة. وبدءوا في التمرين، على الرغم من أن أحدًا لم يقُل علامَ يتمرنون. رغم ذلك، كانوا يعرفون جميعًا أن هذه الحفلة ستكون مميزة. عندما جاء اليوم الموعود، فجأة، وبطريقة درامية، صنعوا مُلصَقات وعلَّقوها في غضون ساعات. كانت الأوركسترا جاهزة.

كان البرنامج طويلًا، لأن «لا» كانت تعرف أن أحدًا لن يرغب في أن ينتهي. وكانت القاعة مكتظَّة؛ وكان الناس يقفون في الخلف، أذرعهم على أكتاف بعضهم. كانوا يحتضن أحدهم الآخر، وفي النهاية وضع أعضاء الأوركسترا الآلات وصافح أحدهم الآخر. وابتسم بعضهم لبعض.

سار فليكس مع «لا» إلى منزلها. توقفت خارج الباب. فابتسم لها ومدَّ يده. وقال: «لقد كنتِ غاية في اللطف معي.»

صافح أحدهما الآخر.

قال: «ماذا سيحدث للأوركسترا؟ الآن بعد أن … بعد أن انتهى كل شيء؟»

لم يكونوا قد تحدثوا عن هذا من قبل. كانت تعرف، على أي حال، أن الأمر سيكون صعبًا. سيغادر الناس، وسيمضون قُدمًا في حياتهم. ربما لن تستمر الأوركسترا. كان المايسترو كبيرًا في السن حينها ولن يرغب في الاستمرار، الآن، بعد أن أصبحت البلاد في سلام، أو تقريبًا في سلام.

قالت: «أخشى أنها ستَنفَضُّ على الأرجح. لقد انقضى وقتها. أمرٌ محزن، ولكن هذا هو الواقع.»

قال: «يمكن أن تستمرَّ. الحياة ستستمر.»

ابتسمت له. وقالت: «نعم، الحياة ستستمر. لكن عليَّ أن أكون واقعية بشأن الأوركسترا. لقد قضينا وقتًا ممتعًا. حقًّا فعلنا.»

أطلق تنهيدة. وقال: «حسنًا.» ثم التفت ومشى في الطريق. لم يرَ التعبير الذي اكتسى به وجهها.

الفصل الحادي عشر

كان السَّفر صعبًا جدًّا، لكنها الآن تستطيع أن تُسافر. قرَّرت أن تذهب إلى كورنوول، حيث تعيش ابنة عمها. لم ترَ إحداهما الأخرى منذ سنين، وفي تلك الفترة تزوجت ابنة عمِّها. أرادت أن تلتقي بالرجل الذي رأته في الصور فقط.

أمضت ثلاثة أسابيع في كورنوول، تقيم في البيت الذي تعيش فيه ابنة عمها وزوجها على أطراف القرية. كانت ابنة عمها تزرع الخضراوات وتُربي الدجاج؛ تناولت «لا» أومليت عيش الغُراب الكبير على الإفطار، تعويضًا عن السنوات التي كان من الصعب فيها شراء البيض. في كل صباح، عندما تستيقظ، كان زوج ابنة عمها يحضِر صينية الشاي ويضعها بجانب سريرها.

قالت: «أنت تُدلِّلني.»

أجاب: «تستحقين ذلك. لقد كنتِ تعملين بجد.»

هل فعلتُ؟ سألت نفسها. بصعوبة تستطيع أن تقول هذا. لم تكن تعمل بجدٍّ مقارنة بالآخرين، مقارنة بالناس في الأساطيل، وفي المناجم، وفي المصانع. كان زوج ابنة عمها نفسه طبيبًا. كان يعمل في مستشفًى قريب، وقد فعل ذلك طوال فترة الحرب.

قالت ابنة عمها: «ماذا عن الأوركسترا يا «لا»؟ أخبرينا عن الأوركسترا.»

فردَّت: «في خيرِ حال. بعض العازفين جيد جدًّا. وبعضهم، حسنًا، متحمس.» وتوقفت هنيهة. ثم استدركت: «أعتقد أننا ربما لن نستمر. الناس يغادرون. يستسلمون. أعتقد أنهم قد تعِبوا.»

بدت ابنة العم متعاطفةً. وقالت: «أستطيع فهم ذلك.»

في طريق عودتها، في القطار، وجدت نفسها تُفكر فيه، في فليكس، وتتطلع إلى رؤيته مرة أخرى. كانت قد أحضرت له بعض الجبن من كورنوول؛ لأنها كانت تعرف أنه يحب الجبن.

دخلت البيت. كانت هناك كومة من الرسائل على الأرض، ورأت خطَّ يده على أحد الأظرف. عرفت على الفور ما سيقوله؛ إنها رسالة وداع. فتحتها بسرعة، ممزِّقةً أعلى الورقة الرخيصة من الداخل. كتب: «كان عليَّ أن أذهب فورًا. ليس هناك الكثير من الوظائف لنا الآن، لكني حصلت على واحدة في جلاسكو. هناك بولندي يشغَل منصبًا كبيرًا في شركة أسمدة. عرض عليَّ وظيفة. إنها فرصة جيدة جدًّا لا يمكن تفويتها، وعليَّ أن أستغلها فورًا. لذا غادرت دون أن أقول وداعًا، وجهًا لوجه، دون أن أشكركِ على كل شيء؛ على صداقتكِ لغريب، على الفلُوت، على الأوركسترا. نعم، شكرًا لكِ على الأوركسترا. ربما لا يقول الناس شكرًا على الأوركسترا، ولكني أقول. شكرًا لك.»

وضعت الرسالة على الطاولة ومشت إلى غرفة المعيشة. كان الهواء وَخِمًا، هواء منزل مغلق منذ فترة. توجَّهت نحو النوافذ الفرنسية وفتحتها. وتذكَّرت المساء الذي فتحت له فيه الباب، وكيف تدفَّق الهواء إلى الغرفة في تلك اللحظة، كان دافئًا جدًّا.

الفصل الثاني عشر

كانت «لا» على حق بشأن الأوركسترا. ألغى المايسترو التمرين التالي؛ أراد فترة راحة، وتفهَّمت ذلك. قال إنهم ربما سيبدءون مرةً أخرى في الخريف، أو حتى في الشتاء، ولكنها كانت تعلم أن هذا لن يحدث.

بدايةً كانت تشعر بالشوق إلى فليكس؛ وعلى نحوٍ غريب كانت تشتاق إلى الحرب. لقد أعطتها الحرب هدفًا، شيئًا للقيام به. الآن لم يكن هناك سيارة إسعاف لقيادتها ولا حاجة للمتطوعين. كما لم يكن هناك عملٌ لها. بدأت تساعد في إسطبل للخيول بالقرب من منزلها، مع أنها لم تكن تحب الخيول كثيرًا. فقد منحها هذا شيئًا للقيام به، وأصبحت تشارك في شئون الإسطبل.

مرَّت السنوات. وذهبت إلى الحفلات الموسيقية، في كامبريدج وأحيانًا في لندن. لكنها لم تكن تحب تلوُّث المدينة، وهواءها العطِن، ومن ثَم قلَّت رحلاتها إلى لندن شيئًا فشيئًا. نظرت في المرآة. كانت الآن في الخمسينيات من عمرها، على الرغم من أنها تبدو أصغر. قالت في نفسها إنه لا يزال بإمكانها الزواج، ولكن لم يكن هناك رجال، ولم تكن مستعدة للبحث عن أحدهم. إنَّ قدرها أن تعيش حياتها في هذا المكان، في هذه الزاوية الهادئة من العالم، دون أن تفعل شيئًا محددًا. إذا كان لكلٍّ منا لحظة في حياته، وقتٌ يشعر فيه بالأهمية، فقد كانت لحظتها عندما كان لديها الأوركسترا. أوركسترا «لا». كم من الناس يمكنهم الادعاء بأن لديهم أوركسترا باسمهم؟ كان هذا إنجازًا؛ كان شيئًا مهمًّا.

ثم، في عام ١٩٥٩، قرَّرت أن تكافئ نفسها برحلة إلى مهرجان إدنبرة. كان أكثر المهرجانات تألقًا، وقد رأت برنامجه. اشترت أفضلَ التذاكر للحفلات الموسيقية الكبيرة؛ وحجزت غرفةً في فندق «نورث بريتيش»، غرفة بها حمَّام خاص.

ذهبت إلى الحفلة الافتتاحية في قاعة «أشر». كانت تجلس في الصف الخامس من الأمام، بين الناس الذين يرتدون ملابس رسمية: سترات عشاء، وفساتين طويلة. كانوا أناسًا أنيقين من نيويورك، ولندن، وجنيف. شعرت بأنها لا تنتمي إلى هذا المكان؛ كانت قد بقيت في سافك الريفية طويلًا. خلال الاستراحة خرجت للحصول على بعض الهواء الطَّلق، وعندئذٍ رأت فليكس. كان يقف تحت مصباح على الدَّرج، يقرأ البرنامج.

أرادت أن تعانقه، لكنها لم تفعل. نظر أحدهما للآخر، بتحفُّظ، وقيَّموا تأثير السنين عليهما. بدا هو نفسه: أكثرَ أناقة، بالطبع، لكنه، بخلاف ذلك، لم يتغيَّر.

كان هناك الكثير ليقال. أخبرها أنه ما زال في نفس الوظيفة، لكنه أصبح أكثرَ أقدمية. أصبح مديرًا الآن، ولديه حصة في الشركة. كان ناجحًا.

سألت بتردُّد: «هل لديك عائلة؟»

قال: «أنا مُطلِّق. كانت كاثوليكية، لكن هذه هي الحياة. لقد تركتني. ولديَّ ابن. عمره ست سنوات. وهو يُقيم معي.»

قالت: «يجب أن تأتي لزيارتي. تعالَ في أي وقت. وأحضر ابنك الصغير معك.»

أعطاها عنوانه ورقم تليفونه.

وقال: «ماذا عنكِ؟ أما زلتِ في نفس المكان؟ نفس البيت؟»

أجابت: «نعم. نفسه.»

الفصل الثالث عشر

كانت تأمل في أن يتواصل معها، أن يتصل بها تليفونيًّا على الأقل، لكنه لم يفعل. كادت أن تتصل به في عدة مناسبات، لكنها منعت نفسها. إذا كان يريد الاتصال، كان سيفعل. لا يجب أن تُزعجه.

في عام ١٩٦٠، ذهبت إلى إيطاليا لشهر. سافرت إلى أقصى الجنوب حتى نابولي، حيث تعرَّضت للسرقة. سُرِق منها كل شيء: جواز سفرها، وأموالها، وكاميرتها. لم تشعر بالحزن؛ في الواقع، كانت متفاجئة من هدوئها. قالت لنفسها إن هذا ربما يكون لأنه لا شيء يحدث في حياتها. هذا هو أكثر الأمور التي حدثت في السنوات الأخيرة إثارةً، ولذا فإنها لم تمانع حقًّا. قالت لها صديقة: «أنتِ رابطة الجأش حقًّا يا «لا». إذا حدث هذا لي، فسأغضب بشدة. في الواقع سأستعِر غضبًا.» فابتسمت «لا»؛ جعلتها الكلمة تفكر في فيزوف، البركان المستعِر في نابولي.

ثم، في العام التالي، حدث شيء. حدث في مكان بعيد جدًّا، على بُعد آلاف الأميال من المحيط، لكنه بدا لها كما لو كان يحدث في البيت المجاور، كما لو كان، بطريقة غريبة، أمرًا شخصيًّا. التقطت طائرة تجسُّس أمريكية، تُحلِّق عاليًا فوق البحر الكاريبي، صُوَرًا لمُنشأة تصنيع صواريخ في كوبا. وفجأة كان هذا في الأخبار؛ وقيلت كلماتٌ خطيرة. قرأت مقالة على الصفحة الأولى في صحيفة كانت تقول: «هذا خطير جدًّا، جدًّا. هذه قد تكون النهاية.»

قرأت «لا» هذا وفكَّرت فيما تعنيه كلمة «النهاية». كانت تعني نهاية الأشجار في حديقتها، نهاية منزلها القديم، نهاية الطرق التي تؤدي إلى الريف، نهاية الشجيرات التي تحفُّها من الجانبين، نهاية الهواء النقي، نهاية السماء العالية الصافية في هذا الجزء من إنجلترا. كانت تعني نهاية الحانة في القرية، نهاية صبي الجزَّار ودرَّاجته، نهاية لندن، نهاية الراديو، ونهاية الموسيقى.

في الليلة الأولى من الأزمة، لم تستطِع «لا» النوم. كانت ترقد هناك في الظلام وتنظر إلى السقف. قالوا إنها ستأتي بسرعة. متى ستحدث؟ ربما سيُصدرون تحذيرًا قبلها بأربع دقائق. أربع دقائق. ماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟ فكَّرت في حقيقة أنك لا تستطيع القيام بأي شيء بمجرد بدء التصعيد؛ لا يمكنك أن تتحدث وجهًا لوجه مع الأشخاص المعنيين وتقول لهم توقفوا؛ أو تنحني على ركبتيك وتتوسل إليهم ألا يستمروا. لا يمكنك؛ لأن الأشخاص المعنيين كانوا مختبئين خلف الأبواب والجدران؛ كانوا في أعماق المخابئ، خلف الخرسانات، بعيدًا. لا يمكنك التحدث إليهم.

استيقظت في الساعة الرابعة صباحًا، دون أن تَحظى بأي قدرٍ من النوم على الإطلاق. كانت قد قرَّرت، ولم يتغير قرارها حتى بعد أن أضاءت المكان. قررت أن تقيم حفلًا موسيقيًّا عاجلًا من أجل السلام، في غضون أيام قليلة. ستجمع أعضاء الأوركسترا. ستدفع لهم أجرة قطاراتهم. ستجمعهم معًا — للمرة الأخيرة — في حفل موسيقي من أجل السلام. لم يكن مهمًّا إذا لم يكن أيهم قد سمع شيئًا أو لاحظ شيئًا. سيحدث شيء بالتأكيد. سيفعلون شيئًا.

الفصل الرابع عشر

لم تُضِع وقتًا واتصلت بأعضاء الأوركسترا على الفور. لم تتمكن من العثور على بعضهم، بالطبع؛ وبعضهم مات، أو لم يُسمع عنه منذ سنوات. ولكن الخبر انتشر، وكان أحدهم يتصل بالآخر. وبالتدريج، تجمَّعت الأقسام ووافقوا؛ نعم، يمكنهم الحضور والعزف في الحفل الموسيقي. قالت «لا»: «سيكون الأداء تقريبًا عشوائيًّا، ربما علينا أن نُجري تجربة أداء واحدة على الأقل.» لم يعترض أحدٌ على ذلك. سيحضرون للتمرين.

كان فليكس آخِرَ مَن اتصلت بهم؛ لأنها على الأقل كانت تعرف بالضبط كيف تتواصل معه، ولأنها كانت قلِقة بشأن هذا الاتصال. كان صامتًا لبضع لحظات بعد أن شرحت له الموضوع.

قال: «تريدينني أن أحضُر، أليس كذلك؟»

قالت: «بلى. أنا أطلب منك الحضور.» شعرت كأنها تطلب معروفًا، ولكنها أرادته أن يكون هناك، أرادته هو تحديدًا هناك. قالت: «أحضِر ولدك الصغير معك.»

قال: «سأفعل.»

وصل الجميع. راقبت الأصدقاء القدامى يلتقون ويتبادلون العناوين. وفكَّرت أنه إذا لم ينجح الأمر، وإذا لم يكن هناك سلام هذه المرة، فإن هذه العناوين لن تصبح موجودةً على أرض الواقع. فالأمور مختلفة هذه المرة.

تمكَّنوا من إجراء تجربة أداء واحدة، وجيزة، ثم أقيم الحفل. انتشر الخبر، وجاء الناس؛ كانوا كثيرين، في الواقع، بحيث اضطُرُّوا إلى فتح أبواب القاعة والسماح للناس بالاستماع من الخارج. جلست «لا» في الجزء الخلفي من القاعة، كما كانت تفعل دائمًا، وبجانبها كان ولد فليكس الصغير، الذي بلغ حينها الثامنة. كان سلوكه لطيفًا ومقبولًا، كان يحمل سيارة لعبة صغيرة يلعب بها بهدوء على ركبته، ويقودها صعودًا وهبوطًا. ألقت عليه نظرة وابتسمت. فردَّ لها الابتسامة.

كانت قد نسيت العروض المتنوعة لأوركستراها، ولذا لم تستطِع الحُكم إن كانت أفضل الآن مما كانت عليه من قبل أم لا، لكنها بدت جميلة لها، جميلة جدًّا، بالضبط كما كانت تتمناها. في نهاية الحفل الموسيقي، عندما توقف صوت النغمات الأخيرة، ساد في القاعة صمتٌ تام. ثم، نهض أعضاء الأوركسترا، واحدًا تلو الآخر، وكذلك الجمهور. نهضوا في صمتٍ تام. لم يقل أحد كلمة، لم يَسعل أحد أو يبدِّل ما بين قدميه؛ كان الصمت هو سيد الموقف. ثم خرجوا. بدا أن الجميع شعروا بأنه من الخطأ كسر جو اللحظة بالتصفيق، ولذا لم يكن هناك تصفيق. فقط الصمت.

خرجت «لا» إلى الخارج ونظرت إلى السماء، حيث ما زال هناك شعاع من الضوء. كان ابن فليكس الصغير معها، لكنها كادت تنساه. فكَّرت أنه لا يفهم ما يحدث، وهذا شيءٌ جيد.

الفصل الخامس عشر

دعت فليكس وابنه إلى المبيت في الغرفة الخالية في نهاية الممر في الطابق السفلي. وعندما استيقظت في الصباح التالي وذهبت إلى المطبخ، رأت أن الاثنين قد استيقظا بالفعل وخرجا إلى الحديقة. كان فليكس يُري ابنه الشجيرات الصغيرة، مما ذكَّرها أنه كان قد زرع بعضها، وما زالت هناك بعد كل تلك السنوات.

أراد أن يُري ابنه المكانَ الذي عاش فيه، ولذا اصطحبه بعد الإفطار، في سيارته. وبقيت هي في المنزل. كانت تقدم القهوة لعدد من أعضاء الأوركسترا الذين جاءوا للحفل الموسيقي من أماكنَ بعيدة وسيغادرون في وقت لاحق من ذلك الصباح.

قال أحدهم: «أتمنى أن يكون ما قدَّمناه مفيدًا. ولكني أشُك في ذلك على أي حال. أليس هذا فظيعًا؟»

قالت: «الموسيقى تُحدث فارقًا. حتى لو … حتى لو …» لكنها لم تستطِع أن تكمل الجملة.

ثم سمِعوا الأخبار. صدح بها الراديو، في المطبخ. قال أحدهم، ببساطة، «السلام». فجلست لأنها ظنت أنها ستفقد الوعي. أمسكت رأسها بيديها. وقالت: «عجبًا!» كان هذا كلَّ ما قالته: «عجبًا!»

أرادت أن تجد فليكس على الفور وتخبره، لكنها أجبرت نفسها على الانتظار حتى يعود. ثم خرجت إلى الطريق المؤدي إلى المنزل. ورآها من خلال نافذة سيارته، وعندئذٍ أدركت أنها لا بد أن تبتسم وإلا سيعتقد أن الأخبار سيئة. فابتسمت. ثم، لتوضيح الفكرة، لوَّحت بيديها في الهواء.

قال: «أخبار جيدة؟ أهي أخبار جيدة؟»

فأجابت: «نعم. نعم.»

التفَت وعانق ابنه الصغير وقبَّله. بدا الصبي مُفَاجأً، بل حتى مُحرَجًا. ثم أخذ فليكس يدي «لا» في يديه. لم يُقبِّلهما، ولكنه ضغط على يديها، كأنه يشاركها بعضَ الأخبار الجيدة السريَّة.

قال: «إنها الأوركسترا يا «لا». أوركسترا «لا» أنقذت العالم. مرة أخرى.»

فكَّرت في هذا لاحقًا. قال «مرة أخرى»، وعندها عرفت ما يعنيه.

دخلوا إلى المنزل، حيث كانت قد صنعت القهوة. في المرة الأخيرة التي كانوا معًا، لم تكن هناك قهوة حقيقية؛ أما الآن، فيا لها من رفاهية. ستظل هناك قهوة، وماء لصنعها، وناس لاحتسائها. كان كل هذا مُهدَّدًا، ولكن الآن انتهى التهديد.

سألت: «متى يجب أن تغادر إلى جلاسكو؟»

تردَّد، وأدركت أن هناك أوقاتًا يجب فيها قول شيء ما، شيء جامح غير لائق؛ وصريح للغاية.

قالت: «لا تغادر. ابقَ هنا. ابقَ فحسب. يمكننا أن نعيد تشغيل الأوركسترا.»

نظر إلى ابنه، ثم نظر إليها. ونهضت على قدميها وحملت الصبي الصغير وقبَّلته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤