النوادر الرابعة
أبو جعفر البغدادي وأبو عيسى
قال أبو جعفر البغدادي: خرجت يومًا إلى المسجد الجامع ومعي قرطاس؛ لأكتب فيه بعض ما أستفيده من العلماء، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا ببابه المشدودُ — وكان من أحذق الناس بالغناء — فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: المسجد الجامع لعلِّي أستفيد فيه حكمة أكتبها. فقال: ادخل بنا على أبي عيسى. فقلت له: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يُدخل عليه بغير إذن؟! فقال للحاجب: أَعْلِمِ الأمير بمكان أبي عكرمة.
قال: فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان فحملوني حملًا، فدخلت إلى دار لا والله ما رأيت أحسن منها بناءً، ولا أظرف فرشًا، ولا صباحة وجوه، فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى، فلما أبصرني قال لي: يا بغيض، متى تحتشم؟ اجلس. فجلست، قال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي، حملته لأستفيد منه شيئًا، وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس. فمكثنا حينًا ثم أُتينا بالطعام، ما رأيت أكثر منه ولا أحسن، فأكلنا، وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس — وهما من أحذق الناس بالغناء — فقلت: هذا المجلس قد جمع الله فيه كل شيء مليح، ثم رفع الطعام وجيء بالشراب، وقامت جارية تسقينا شرابًا ما رأيت أحسن منه، في كل كأس لا أقدر على وصفها، فقلت: أعزك الله ما أشبه هذا بقول إبراهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر:
وقد جلس المشدود وزنين ودبيس ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المشدود فغنى:
ثم سكت فغنى زنين:
وقال:
ثم سكت فغنى دبيس:
قالت: فعجبت كيف أنهم غنوا بلحن واحد وقافية واحدة؟! قال أبو عيسى: يعجبك من هذا شيء يا أبا عكرمة؟ فقلت: يا سيدي، المنى دون هذا. ثم إن القوم غنوا على هذا إلى انقضاء المجلس.
عبد الله بن طاهر وابن خليد
لما ولي عبد الله بن طاهر خراسان بعد موت أبيه من قبل الواثق دخل عليه عبد الله بن خليد بن سعد المعروف بأبي العميل بقصيدة يمدحه فيها ويهنئه بالولاية فقال:
حسانة النميرية وعبد الرحمن بن الحكم
وفدت حسانة النميرية بنت أبي الحسين الشاعر الأندلسي على عبد الرحمن بن الحكم متشكيةً من عامله جابر بن لبيد والي إلبيرة، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى أوصلها إليه وهو في حال طرب وسرور، فانتسبت إليه فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدت:
ولما فرغت رفعت إليه خط والده وحكت جميع أمرها، فرقَّ لها، وأخذ خط أبيه فقبله، ووضعه على عينيه، وقال: تعدى ابن لبيد طوره؛ حتى رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده، ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي فقد عزلته لك. ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم؛ فقبلت يده، وأمر لها بجائزة، فانصرفت.
كافور وأبو إسحاق والفضل بن عباس
جلس أبو إسحاق عند كافور الإخشيدي، فدخل عليه أبو الفضل بن عباس فقال: أدام الله أيام مولانا (وكسر ميم أيام) فتبسم كافور إلى أبي إسحاق، ففطن لذلك وقال بديهًا:
فاستحسن قوله وأحسن إليهم.
فضل الحبر والمداد
كتب إبراهيم بن العباس كتابًا؛ فأراد محو حرف، فلم يجد منديلًا، فمحاه بكفه، فقيل له في ذلك، فقال: المال فرع، والعلم أصل، وإنما بلغنا هذه الحال وحصلنا على هذه الأموال بهذا العلم والمداد، ثم أنشد:
الأحنف والرجل
سمع الأحنف بن قيس رجلًا يقول: العلم في الصغر كالنقش في الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكثر عقلًا، ولكنه أشغل قلبًا.
الشعبي والأعربيان والعلم
قال الشعبى: العلم ثلاثة أشبار، من نال منه شبرًا شمخ بأنفه وظن أنه ناله، ومن نال الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما من نال الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد أبدًا، ومما أنذرك به في حالي أني صنعت في البيوع كتابًا، جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، حضرني وأنا في مجلس أعرابيان، فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منها جوابًا، فأطرقت وبحالي وحالها معتبرًا، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة؟! فقلت: لا. فقالا: واهًا لك! وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين العلم، فبقيت مرتبكًا وبأمري معتبرًا، وإني لعلى ما كنت عليه من المسائل إلى وقتي هذا، فكان ذلك زاجرَ نصيحةٍ ونذيرَ عظةٍ، تذلل بها قياد النفس، وانخفض لها جناح العجب توفيقًا منحته ورشدًا أوتيته.
حكمة مالك بن دينار
قيل لمالك بن دينار: ادع الله لفلان المحبوس. فقال: مثل محبوسك مثل شاة غدت إلى عجين فقير فأكلته فأتخمت، فصاحبها يقول: اللهم سلمها. وصاحب العجين يقول: اللهم أهلكها! ولا ينفع دعاءُ صاحبها مع دعاء المظلوم، فقولوا لصاحبكم يرد إلى كل ذي حق حقه؛ فإنه لا يحتاج إلى دعائي حينئذ.
أبو أيوب وعبد الله بن الأعرابي
قال أحمد بن عمران: كنا عند أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع يومًا في منزله، فبعث غلامًا من غلمانه إلى أبي عبد الله بن الأعرابي، وسأله المجيء إليه، فعاد الغلام، فقال: قد سألته، فقال: «عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت وطري منهم أتيت»، قال الغلام: وما رأيت عنده أحدًا إلَّا أن بين يديه كتبًا ينظر فيها؛ فينظر في هذا مرة وفي هذا مرةً! ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أبو أيوب: يا أبا عبد الله، سبحان الله العظيم! تخلفت وحرمتنا الأنس بك، ولقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحدًا، وقد قلت له: أنا مع قوم من الأعراب إذا قضيت إربي منهم أتيت، فقال:
نباهة والٍ
أحضر عند بعض الولاة رجلان اتهما بسرقة، فأقامها بين يديه ثم دعا بشربة ماء، فجيء بكوز، فقال لهما: ضعا يديكما عليه. فمد أحدهما فارتاع، وثبت الآخر، فقال لمن خاف: اذهب إلى حال سبيلك، وقال للآخر: أنت الذي أخذت المال. وتهدده، فأقر، وسئل عن ذلك؛ فقال: إن اللص قوي القلب، والبريء يُخدع، ولو تحرك عصفور لفزع منه.
الرازي والرجل
قال رجل ليحيى بن معاذ الرازي: إنك تحب الدنيا. فقال يحيى للرجل: أخبرني عن الآخرة؛ بالطاعة تنال أم بالمعصية؟ قال: لا، بل بالطاعة. قال: فأخبرني عن الطاعة؛ بالحياة تنال أم بالممات؟ قال: لا، بالحياة. قال: فأخبرني عن الحياة؛ أبالقوت تنال أم بغير القوت؟ قال: لا، بل بالقوت. قال: فأخبرني عن القوت؛ أمن الدنيا هو أم من الآخرة؟ قال: لا، بل من الدنيا. قال: كيف لا أحب الدنيا قدر لي فيها قوت أكتسب به حياة أدرك بها طاعة أنال بها الآخرة؟! فقال الرجل: إن من البيان لسحرًا!
نصر الدين والسراج بن الوراق
كتب نصر الدين المحامي إلى السراج بن الوراق، وكان السراج يسكن بالروضة:
فكتب الجواب إليه:
أبو حنيفة وشريكه التاجر
كان بين أبي حنيفة وبين رجل من البصرة شركة في تجارة، فبعث إليه أبو حنيفة سبعين ثوبًا ثمينًا، وكتب إليه: إن في واحد منها عيبًا وهو ثوب كذا، فإذا بعته فبيِّن العيب. فباعها بثلاثين ألف درهم، وجاءَ بها إلى أبي حنيفة، فقال له: هل بينت العيب؟ فقال: لقد نسيت! فتصدق أبو حنيفة بجميع ثمنها.
رثاء لعلي بن أبي طالب
لما ماتت فاطمة كان علي بن أبي طالب يزور قبرها كل يوم، فأقبل ذات يوم، فانكب على القبر وبكى بكاءً مرًّا، وأنشد يقول:
فسمع كأن هاتفًا يقول:
شهاب الدين وفاطمة بنت الخشاب
أرسل شهاب الدين بن فضل الله إلى فاطمة بنت الخشاب قصيدة طويلة مطلعها:
فأجابته المترجمة بقصيدة منها:
فلما وصلت القصيدة إلى شهاب الدين القاضي وجدها كلها ألفاظ دُرِّيَّة ومعانٍ عبقرية؛ فأكبر مخاطبتها، وأخذها بعين الكمال، ولم يعد يراسلها إلَّا مراسلة العلماء الأعلام.
يحيى بن خالد وصاحب الخريطتين
يروى أن يحيى بن خالد بن برمك عزم على زفاف حسان ولده؛ فأهدى إليه وجوه الدولة كل منهم بحسب حاله وقدرته، فصنع بعض المتجملين العاجزين بطتين، وملأ إحداهما ملحًا مطيبًا، وملأ الأخرى سعدًا معطرًا، وكتب معهما رقعة فيها: «لو تمت الإرادة لأسعفت الحاجة، ولو ساعدت القدرة على بلوغ النعمة لتقدمت السابقين إلى خدمتك وأتعبت المجتهدين في كرامتك، لكن قعدت بي القدرة عن مساواة أهل النعمة، وقعدت بي الجدة عن مباهاة أهل المكنة، وخشيت أن تُطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المصلح بيمنه وبركته — وهو الملح — والمختتم بطيبه ونظافته — وهو السعد — باسطًا يده المعذرة، صابرًا على ألم التقصير، متجرعًا غصص الاقتصار على اليسير، والقائم بعذري في ذلك: أنه ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج، والخادم ضارع في الامتنان عليه بقبول خدمته ومعذرته والإحسان إليه بالإعراض من جراءته والرأي أسمى»، ثم دخل دار يحيى ووضع الخريطتين والرقعة بين يديه، فلما قرأ الرقعة أمر أن تفرغا، وتملأ إحداهما دنانير، والأخرى دراهم.
محمد بن واسع وقتيبة بن مسلم
دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان في مدرعة صوف، فقال له: ما يدعوك إلى لباس هذه؟! فسكت، فقال قتيبة: أكلمك لا تجيبني؟! قال: أكره أن أقول: زهدًا؛ فأزكي نفسي، أو أقول فقرًا فأشكو ربي، فما جوابك إلا السكوت، قال ابن سماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقًا لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفًا لقد هلكتم.
أبو العلاء وكتاب الفصوص
ألّف أبو العلاء صاعد كتبًا، منها كتاب الفصوص، واتفق لهذا الكتاب أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه وقطع نهر قرطبة، فخانت الغلام رجله فسقط في النهر هو والكتاب، فعلم العريف الشاعر به، فأنشد بحضرة المنصور:
فضحك المنصور والحاضرون، وأردف العريف قائلًا:
الحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك
توالى نزول المطر وقتًا من الأوقات؛ فقطع الحسن بن وهب عن لقاء محمد بن عبد الملك بن الزيات، فكتب إلى الحسن:
عمرو بن العاص حين الوفاة
لما احتضر عمرو بن العاص الوفاة جمع بنيه فقال: يا بني، ما تغنون عني من أمر الله شيئًا؟! قالوا: يا أبت، إنه الموت ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا. فقال: أسندوني. فأسندوه، ثم قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريءٌ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلَّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلم يزل يكررها حتى مات.