النوادر الثانية
النعمان وحاتم طيء وأوس بن جارحة
كان بين حاتم طيء وبين أوس بن جارحة ألطف ما كان بين اثنين، فقال النعمان لجلسائه: لأفسدن ما بينهما! فدخل على أوس، فقال: إن حاتمًا يزعم أنه أفضل منك! فقال: أبيت اللعن صدق! ولو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لوهبنا في يوم واحد! وخرج فدخل على حاتم فقال له مثل ذلك، فقال: صدق، وأين أقع من أوس وله عشرة ذكور دونهم أفضل مني؟! فقال النعمان: ما رأيت أفضل منكما.
النعمان والمحكوم عليه بالقتل
قيل: إن النعمان جعل له يومين؛ يوم بؤس من صادفه فيه قتله، ويوم نعيم من لقيه أحسن إليه، وكان رجل يدعى الطائي، قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، وأبلاه القدر من قرب عسره، وبعد يسره بما أنساه جميل صبره، وأعاره شكوى ضره، فأحوجته الحاجة إلى مزايلة قراره، وأخرجته الفاقة من محل استقراره، فخرج يرتاد نجعة لعياله؛ إذ أوقفه القدر في منزل النعمان في يوم بؤسٍ، فلما بصر به الطائي علم أنه مقتول، وأن دمه مطلول، فقال: حيَّا الله الملك، إنَّ لي صبية صغارًا، وأهلًا جياعًا، وقد أرقت ماء وجهي في طلب هذه البلغة الحقيرة لهم، وأعلم أن سوء الحظ أقدمني على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقر الصبية والأهل، وهم على شفا تلف من الطوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت، وأوصي بهم أهل المروءة من الحي؛ لئلا يهلكوا جميعًا، وعليَّ عهد الله أني إذا أوصيت بهم أرجع إلى الملك مساءً، وأسلم نفسي بين يديه لنفاذ أمره. فلما علم النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهفه من ضياع أطفاله رقَّ له، وقال: لا آذن لك إلَّا أن يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان في مجلسه شريك بن عدي بن شرحبيل — نديم النعمان — فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:
فقال شريك بن عدي: أصلح الله الملك، عليﱠ ضمانه. فمرَّ الطائي مسرعًا والنعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع! وشريك يقول: ليس للملك عليﱠ سبيل حتى يأتي المساء. فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: جاء وقتك فتأهب للقتل! فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلًا وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل، فبينما هم كذلك وإذا الطائي قد أقبل يشتد في عدوه مسرعًا، فقدم، وقال: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي فعدوت. ثم وقف قائمًا، وقال: أيها الملك، مر بأمرك. فأطرق النعمان ثم رفع رأسه، وقال: والله ما رأيت أعجب منكما! أما أنت يا طائي؛ فما تركت لأحد في الوفاء مقامًا يقوم فيه ولا ذكرًا يفخر به، وأما أنت يا شريك؛ فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأمُ الثلاثة، ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضت يوم عادتي كرامة؛ لوفاء الطائي وكرم شريك. فقال الطائي:
فقال النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه تلف نفسك؟! قال: ديني؛ فمن لا دين له لا وفاء له. فأحسن إليه النعمان ووصله، وأعاده إلى أهله.
عدي بن زيد والنعمان
خرج النعمان بن المنذر متصيدًا ومعه عدي بن زيد، فمرا بشجرة، فقال عدي بن زيد: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا! قال: إنها تقول:
ثم جاوزا الشجرة فمروا بمقبرة، فقال له عدي: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا! قال: إنها تقول:
فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لا يتكلمان، وأنك إنما أردت أن تعظني، فجزاك الله عني خيرًا، فما السبيل الذي تدرك به النجاة؟ قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وحده. قال: أفي هذا النجاة؟ قال: نعم. فترك عبادة الأوثان، وعبد الواحد القهار.