سرُّ المغامرة المزدوجة!
عندما انتهى رقم «صفر» من قراءة التقرير الذي أمامه، رفع سماعة التليفون، ثم أجرى حديثًا سريعًا.
كان الحديث مع عميلِه في ألمانيا، بعدها ضغط زرًّا في المكتب، فتردَّد صوتٌ في قاعة البلياردو، حيث يوجد الشياطين، كان الشياطين في هذه اللحظة يلعبون مباراة نهائية في بطولة البلياردو لهذا الشهر، وكانت المباراة بين «أحمد» و«عثمان» … كان «أحمد» يختار الزاوية الصحيحة ليضرب منها الكرة. عندما تردَّد الصوت … توقَّفَت يدُه، ثم نظر إلى الشياطين، وقال: إنه اجتماعٌ عاجل في القاعة الصغرى. ابتسم «عثمان» وقال: إذن فالبطولة معلَّقة … حتى تنتهيَ المباراة.
قال «أحمد» وهو يضحك: لا بأس، وإن كنتُ متقدمًا في عدد النقط.
بسرعة أخذ الشياطين طريقَهم إلى القاعة الصغرى، وعندما جلسوا أُضِيئت الخريطة الإلكترونية، وظهرَت فوقها خريطةٌ ﻟ «ألمانيا» الموحَّدة. بعد لحظة تغيَّرَت الألوان والأسماء وظهر تقسيمٌ للألمانيَّتَين؛ ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية … مرَّت دقائق ثم تغيَّرت الألوان والأسماء مرة أخرى، وعادَت إلى حالتها السابقة ألمانيا الموحدة. ابتسم «أحمد» ابتسامةً لفتَت أنظار الشياطين.
قالت «زبيدة»: يبدو أن «أحمد» لديه معلوماتٌ جديدة.
قال «عثمان»: سوف يقولها سريعًا … قبل أن تُصبحَ قديمة.
ثم ضحك، فضحك «أحمد» وهو يقول: هي ليست معلوماتٍ كما تظنون، إنه مجرد استنتاج، أرجو أن يكون صحيحًا.
قال «فهد»: لا بد أنك ما زلتَ تتذكَّر ما نُشر في صحف الأسبوع الماضي.
ضحك «أحمد» وهو يُردِّد: يبدو أنك وضعتَ يدك على ما أفكِّر فيه يا عزيزي «فهد»!
ابتسم «فهد»، وقال: لقد شغلني ما قرأته فعلًا … لكني لم أكن أتصور حدوثَ شيء آخر … فقد رأيتُها مسألة طبيعية. صمتَ لحظة ثم أضاف: هذا إذا كانت الخريطة لها علاقة بما قرأته.
قالت «ريما»: إنكم تتحدثون بالألغاز وكأنها مغامرة سرية.
ضحك «أحمد» في نفس الوقت الذي جاء فيه صوت رقم «صفر» يقول: هي ليست مغامرةً سرِّية على كل حال، ولكن الشيء الرائع ألَّا تمرَّ هذه المسألة على «أحمد» أو «فهد» ببساطة؛ لأنها قضية كان ينبغي أن تستوقفَكم جميعًا.
نظر الشياطين إلى بعضهم؛ فقد كان صوت الزعيم يحمل نوعًا من العتاب.
قال: لا بأس، سوف أعود بعد لحظات.
ثم اختفى الصوت. نظرَت «إلهام» إلى «أحمد»، ثم «فهد»، وقالت: أصبحنا في موقف لا نُحسَد عليه.
ابتسم «فهد» وقال: ليس إلى هذا الحد، مع ذلك دعونا نستعيد ما قرأناه في الفترة الأخيرة.
نظر إلى «أحمد» ثم أضاف: نعرف جميعًا أن العالم يمرُّ بمرحلة من المتغيرات التاريخية؛ مثل: أوروبا الموحدة … وتوحيد شطرَي ألمانيا، وهذه هي قضيتنا.
صاحَت «ريما»: تذكَّرتُ، تقصد هجرةَ العلماء من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية.
ردَّ «فهد»: بالضبط هذه هي القضية.
قال «خالد»: أعتقد أنها مسألة طبيعية أن تتمَّ هذه الهجرة بعد توحيدِ ألمانيا، وهي ليست هجرةً بالمعنى المفهوم، ما هي إلا الانتقال من مكان إلى مكان داخل بلد واحد …
تدخَّل «أحمد» في الحوار: أعتقد أنَّها مسألة لافتة للنظر … فالهجرة بهذا الشكل أو حتى الانتقال كما يقول «خالد» يتمُّ بطريقة جماعية، بما يعني تصفيةَ ألمانيا الشرقية سابقًا من العلماء، قد ينتقل عالم أو اثنان، لكن أن يكون الانتقال جماعيًّا فهذه حكاية ليست عادية!
أضافَت «إلهام»: إنهم بذلك يحكمون على ألمانيا الشرقية بالتخلُّف.
ردَّ «عثمان»: ما دامت ألمانيا قد توحَّدَت، فإن التقدم الذي سيحدث سوف يشمل الألمانيَّتَين، المسألة إذن ليست مزعجة.
جاء صوت رقم «صفر» يقول: إنَّ القضية ليست ألمانيا، إنها قضية من أهم وأخطر القضايا بالنسبة لنا.
صمتَ لحظة ثم قال: إنني في الطريق إليكم.
أخذ صوتُ أقدامه يقترب حتى توقَّف … مرَّت لحظات ثم تغيَّرت الخريطة، وظهرَت خريطةُ الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. نظر الشياطين إلى بعضهم، واستغرق «أحمد» في تفكير عميق، لقد اكتشف أنه فكَّر في القضية عند حدودها المنشورة في الصحف، وإن كانت تتعدَّى ذلك. استعاد في ذهنه كلماتِ رقم «صفر» الأخيرة التي يقول فيها: إن القضية ليست ألمانيا … إنها قضية من أهم وأخطر القضايا بالنسبة لنا …
قال في نفسه: إذا كان ذلك صحيحًا، فإنها تكون قضيةً خطيرة فعلًا، كما قال رقم «صفر». فجأةً جاء صوت الزعيم يقول: أظنُّ أنَّ الخريطة قد حدَّدَت لكم مدى خطورة القضية!
سكت قليلًا ثم أضاف: إن ما يحدث في ألمانيا الآن يحدث في الوطن العربي أيضًا.
اتسعَت أعينُ الشياطين دهشةً، وأخفى «أحمد» ابتسامةً كادَت تظهر على وجهه؛ فقد فكر فيما يعنيه رقم «صفر». قال الزعيم: أنتم تعرفون أن الوطن العربي يُحاول أن يلحق بركب الحضارة الحديثة خصوصًا في جانبها العلمي … وقد تحقَّقَت أبحاثٌ ممتازة في مجالات كثيرة على يد العلماء العرب.
ومنذ الإعلان عن قيام أوروبا الموحدة ظهرت القضية.
صمتَ رقم «صفر» مرة أخرى في الوقت الذي كان الشياطين يتابعونه باهتمام شديد … أضاف بعد قليل: لقد درستم التاريخ العربي، وتعرفون أنه عندما كان العرب يتقدمون علميًّا … كانت أوروبا تعيش حالةً من التخلُّف، ونقل الأوروبيون العلوم العربية، ثم بدءوا يطورونها ويستفيدون منها في حين توقَّفنا نحن … وهذه هي كارثتنا الحقيقية.
سكت رقم «صفر» لحظة، ثم قال: وفي العصر الحديث بدأت الدول العربية تتجه نحو العلوم، وظهر علماءٌ كبار حققوا شهرة عالمية، وبدأت المؤامرات حول العلماء العرب … وأنتم تعرفون قضيةَ اغتيال الدكتور المصري «يحيى المشد». إنهم لا يريدون لنا أن نتقدم، وأن نأخذ مكاننا … والآن بدأت المؤامرة الجديدة … إن هناك تنظيمًا أجنبيًّا يدفع العلماء العرب إلى الهجرة، ويجعلهم يتركون بلادهم التي تحتاجهم ليعملوا في دول أخرى.
مرَّت دقيقة قبل أن يُكملَ حديثه: إنَّ هجرة العقول العربية العظيمة لا تتمُّ برغبة هؤلاء العلماء، ولكن بإغرائهم. إنهم يقدِّمون لهم إغراءات كثيرة … فإذا لم يخضع العالِمُ لهذا الإغراء … فإنهم يُهددونه بالقضاء عليه!
نظر الشياطين إلى بعضهم في قلق … في الوقت الذي صمتَ فيه رقم «صفر»، إن أفكارًا كثيرة كانت تدور برءوسهم؛ فالقضية الجديدة خطيرة فعلًا، فذلك يعني أن تظلَّ الدول العربية في حاجة دائمة للغرب … إنه نوع من الاستعمار الجديد … خصوصًا وأنَّ الدول العربية قد بدأَت في التفكير في إقامة سوق مشتركة يمكن أن تكون خطوة للوحدة في النهاية … وذلك نفسه يجعل من العرب قوةً يعمل لها الغرب ألف حساب. قطع تفكيرَهم صوتُ رقم «صفر» يقول: إن تقاريرَ عملائنا في الخارج تقول: إن أربعة من العلماء العرب قد هاجروا تحت التهديد إلى بلجيكا، وتبعًا لتحريات العملاء ظهر أن هذه المنظمة التي تُطلق على نفسها «أوروبا أولًا» … هي التي تقوم بهذه التهديدات … إن مغامرتكم سوف يكون لها جانبان … أولًا: إعادة هؤلاء العلماء … ثانيًا: تدمير مقر المنظمة.
اختفى صوتُ رقم «صفر»، وظلَّ الشياطين في انتظار أن يُكمل تكليفه لهم بالمهمة … بعد دقيقتين.
جاء صوتُه يقول: إنَّ هناك دراسةً سوف تكون بين أيديكم قبل انطلاقكم اليوم، وهي تتحدث عن هؤلاء العلماء العرب، وعن مقرِّ المنظمة، وسوف تكون لديكم خريطة بكل التفاصيل التي تُعطيكم الفرصة في الوصول إلى مقر المنظمة.
مرة أخرى سكت رقم «صفر» قليلًا، ثم قال: إن الوصول إلى مقر المنظمة، وإطلاق سراح هؤلاء العلماء سوف يكون ردًّا عليها، وسوف تعرف أنَّ هناك مَن يحمي العقول العربية.
ثم اختتم كلامه: هل هناك أية أسئلة؟
انتظر لحظة، ولم يكن عند الشياطين أية أسئلة … إنهم فقط ينتظرون الإذنَ لهم بالرحيل … جاء صوت الزعيم يقول: الآن … عليكم بالانطلاق!
أخذ صوتُ أقدام رقم «صفر» يتباعد حتى اختفى تمامًا … نظر «أحمد» إلى الشياطين، وقال: إنَّ المؤامرات حول وطننا العربي لا تنتهي … وهذه مهمَّة شباب المستقبل الذي يجب أن يضع قضية الوطن قبل أيِّ اهتمام آخر.
وقف الشياطين في لحظة واحدة وغادروا القاعة، كانت الساعة لحظتها تدقُّ الثانية بعد الظهر. نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: سوف نلتقي بعد أن تَصِلَنا الأبحاث والأسماء.
أخذ كلٌّ من الشياطين طريقَه إلى غرفته حتى يجهِّزَ نفسَه … وحتى يكون مستعدًّا؛ فحتى هذه اللحظة لم يكن أحدٌ يعرف مَن سيكون سعيدَ الحظ بالاشتراك في المغامرة. عندما دخل «أحمد» غرفتَه … عاد بسرعة إلى جرائد الأيام الماضية. جلس إلى مكتبه، ثم ضغط زرًّا في جهاز صغير … فظهرَت جريدةُ أول الأسبوع على شاشة التليفزيون … وفي لقطات سريعة توالَت الصفحات. وعند الصفحة الثامنة ضغط مرة أخرى على الزر … فتوقَّفَت الصفحة وفي جانبها الأيمن بدأ يقرأ عن ظاهرة هجرة العلماء الألمان. شرد يُفكر: إنَّ الصحافة تتعرض لهذه الهجرة الألمانية، لكنها لا تتحدث عن هجرة العقول العربية! …
قال في نفسه: لعلها مسألة عادية … أن تتجاهل صحافتُهم ما يهمنا؛ فما يهمُّ الغرب … هو اهتمامه بذاته … فجأة جاء صوتٌ خافت … تَبِعه اختفاءُ صفحة الجريدة، ثم ظهرَت أسماء المجموعة المشتركة في المغامرة …
كانت تضمُّ: «أحمد»، «عثمان»، «فهد»، «رشيد». في نفس اللحظة رنَّ جرسُ التليفون، وجاء صوتُ «عثمان» سعيدًا، حتى إنَّ «أحمد» ابتسم. قال «عثمان»: أمامنا دقيقة واحدة.
ضحك «أحمد» وهو يردُّ: أرجو أن تجعلَها خمس دقائق فقط! …
ردَّ «عثمان»: لا بأس … وأرجو ألَّا تتأخر! …
ثم انتهَت المكالمة … فأسرع «أحمد» بتجهيز حقيبته السرية … فهذه مغامرة مزدوجة الهدف … عودة العلماء، وتلقين «أوروبا أولًا» درسًا لن تنساه …